اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح ألفية ابن مالك [38] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين
الحال وصف فضلة منتصب مفهم في حال كفرداً أذهب
وكونه منتقلاً مشتقــاً يغلب لكن ليس مستحقـا
ويكثر الجمود في سعر وفي مبدي تأول بلا تكلف
كبعه مدا بكذا يداً بيد وكر زيدٌ أسداً أي كأسد]
الحال في اللغة: هي الهيئة التي عليها الشيء، وهي مذكر لفظاً مؤنث معنى، فتقول مثلاً: الحال الأولى، وتقول: هذا له حالان، وهذا على حالين، ولا تقول: الحالة الأولى أو هذا له حالتان، أو هذا على حالتين.
أما تعريف الحال في الاصطلاح فقال المؤلف: (الحال وصف) والوصف بمعنى الهيئة، فهو وصف وليس بجامد، (فضلة) وليس عمدة.
فخرج بقولنا (وصف) ما ليس بوصف، كما لو قلت: (زيد أخوك)، فأخوك ليس وصفاً.
وخرج بقولنا (فضلة) ما كان عمدة، كما في قولك: (كان زيد قائماً)، فإن (قائماً) وصف لزيد لكنه عمدة فهو خبر المبتدأ.
وخرج بقولنا: (منتصب)، ما ليس بمنتصب، مثل: (جاء زيد الفاضل)، فإن الفاضل في الحقيقة صفة لكنه مرفوع، والصفة فضلة أيضاً إذ إن النعت ليس عمدة في الجملة، ومع ذلك هو مرفوع فلا يكون حالاً.
قوله: (مفهم في حال كفرداً) معناه أنه يفهم منه هذا التقدير: (وهو في حال)، احترازاً من التمييز، لأن التمييز قد يكون فضله منتصباً لكن ليس مفهماً في حال، مثل قولهم: (لله دره فارساً)، فإن فارساً هذه ليست حالاً، بل هي تمييز، مع أنها فضلة منتصبة لكنها ليست مفهمة (في حال)، إذ إنك تتعجب من فروسيته ولست تريد أن تقيده أنه في حال فروسيته.
ومثال الحال أن تقول: (نزل المطر قوياً)، أي: في حال كونه قوياً وهكذا تقدر (في حال) مع الجملة.
(أتى زيد والشمس طالعة)، أي في حال طلوع الشمس، وعلى هذا فقس.
قوله: (كفرداً أذهب) فرداً: وصف فضلة منتصب مفهم في حال، لأنك تقول: أذهب في حال انفرادي، هذه هي الحال.
ومعنى (منتقلاً) أنه لا يوصف بها صاحبها دائماً.
وهل يشترط أن يكون الحال منتقلاً، يعني أن الإنسان الذي هو صاحب الحال يكون أحياناً على هذا الوصف وأحياناً يكون على غيره أو ليس ذلك بشرط؟
يقول بعض النحويين إنه شرط، ولا بد أن تكون الحال متنقلة، مثاله: جاء زيد راكباً، هذه حال منتقلة يعني: يمكن أن يأتي ماشياً.
والمؤلف يقول: كون الحال منتقلة هو الغالب فمثلاً: خلق الله زيداً طويلاً، حال غير متنقلة ولكنه جائز، لأن المؤلف يقول (يغلب) وليس بلازم.
ومثّل النحويون: (خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها)، (خلق الله اليربوع رجليه أطول من يديه) فالحال هنا لازمة.
ومعنى المشتق أنه اسم فاعل أو اسم مفعول، أي: مشتق من المصدر، مثل: راكب، مركوب، فاهم، مفهوم، وما أشبه ذلك؛ هذا هو الأكثر، وهو أن يكون مشتقاً، (لكن ليس مستحقاً)، يعني ليس واجباً، وهذا الذي ذكره ابن مالك صحيح، لأنه لا يحتاج إلى تأويل وإلى تكلف.
فإذاً نقول: القاعدة من هذا البيت: الغالب في الحال أن يكون منتقلاً لا لازماً، مشتقاً لا جامداً.
قوله: (ويكثر الجمود في سعر) عكس الحكم السابق في قوله (يغلب)، يعني كأنه قال: يغلب إلا في السعر فالأكثر الجمود، وكذلك (في مبدي تأول)، أي: مظهر تأويل، وهذا في كلام يسهل تأويله، ولهذا قال: (بلا تكلف).
والحاصل أن الجمود يكثر في موضعين:
أحدهما: السعر.
والثاني: الجامد الذي في معنى المشتق.
مثاله: (فبعه مداً بكذا).
بع: فعل أمر، والهاء: ضمير مبني على الضم في محل نصب مفعول به .
مداً: حال من الهاء في قوله (بعه)، وكلمة (مد) غير مشتقة.
إذاً هي اسم جامد لكنه لسعر، إذ إن المعنى: بعه مسعراً المد بكذا.
وإذا قلت: بعه رطلاً بكذا، فهو مثله؛ لكن هذا للوزن وذاك للحجم، ومثله أيضاً بعه طناً، بعه ذراعاً، بعه باعاً، وما أشبه ذلك، كلها جامدة لكنها مؤولة بالمشتق لأنها سعر.
قوله: (بعه مداً بكذا يداً بيد)، ومثله: بع الذهب بالفضة يداً بيد، كلمة (يداً بيد) حال رغم أن كلمة (يد) جامدة لكنها مؤولة من المشتق، إذ إن معنى (يداً بيد) مقابضة.
إذاً نقول: هذه ليست سعراً لكنها فيها تأويل قريب.
قوله: (وكر زيد أسداً) كر بمعنى رجع أو انطلق عليهم. وأسداً: حال من زيد، والأسد اسم نوع من السباع، فهو جامد، لكنه مؤول بمشتق ولهذا قال المؤلف: (أي كأسد) والكاف للتشبيه، أي مشابهاً الأسد، والمعنى: كر زيد مشابهاً الأسد، ولهذا أتى المؤلف بكاف التشبيه لأن التشبيه اشتقت منه (مشابهاً) فصار مشتقاً.
خلاصة القاعدة: الغالب في الحال أن يكون منتقلاً لا لازماً، مشتقاً لا جامداً.
القاعدة الثانية: يكثر الجمود في موضعين: فيما دل على سعر، وفيما كان بمعنى المشتق، فالأول كقولك: بعه مداً بكذا والثاني كقولك: يداً بيد وكر زيد أسداً، أي كأسد.
لو قلت: أتاني بالقلب حجراً، أي: مشابهاً للحجر.
[ والحال إن عرف لفظاً فاعتقد تنكيره معنى كـ (وحدك اجتهد) ]
قوله: (الحال إن عرف لفظاً) كأن المؤلف يقول: الحال لا يكون إلا نكرة، تقول: جاء زيد راكباً، نزل المطر كثيراً، اشتريت الثوب مرقعاً، لكن أحياناً تأتي الحال معرفة فماذا نصنع؟
يقول المؤلف: (والحال إن عرف لفظاً فاعتقد تنكيره معنىً) أي: أوّله على نكرة كوحدك اجتهد.
اجتهد: فعل أمر. والفاعل: ضمير مستتر وجوباً تقديره أنت.
وحد: حال من فاعل اجتهد، ووحد: مضاف، والكاف مضاف إليه وهو معرفة، والمضاف إلى المعرفة معرفة، فكيف قلنا في مثل هذا إن حاله مع أنه يشترط في الحال أن تكون نكرة؟
والجواب: أن تأول بمعنى (منفرداً) أي: اجتهد منفرداً، فإذا أولت بمعنى (منفرداً) صارت نكرة.
إذاً القاعدة: أن الحال لا تكون إلا نكرة فإن ورد ما هو معرفة أُوِّل بنكرة.
مثال النكرة: جاء زيد راكباً، دخلت المسجد طاهراً، قال النبي عليه الصلاة والسلام (أدخلتهما طاهرتين).
ومثال ما هو معرفة: اجتهد وحدك، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (وحده) بمعنى: منفرداً بالألوهية.
ويقولون: ادخلوا الأول فالأول، (الأول) حال ولكنها معرفة، أي: مرتبين.
ومرتبين أحسن من تأويله بأنه (واحداً واحداً) لأنه ليس مشتقاً.
[ ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
ولم ينكر غالباً ذو الحال إن لم يتأخر أو يخصص أو يبن
من بعد نفي أو مضاهيه كلا يبغ امرؤ على امرئ مستسهلا
وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد ]
سبق أن الحال وصف، والوصف ما دل على حدث وفاعله، مثل قائم ومضروب، يعني اسم الفاعل واسم المفعول، وتقدم أنه قد يخرج عن كونه وصفاً إلى أن يكون جامداً لكنه مؤول بالوصف.
ثم ذكر المؤلف أيضاً أنه يستثنى من ذلك المصدر، فالمصدر ليس وصفاً ولا مشتقاً، بل المصدر مشتق منه، فالفعل (ضَرَب) من مشتق من الضرب، وأكل من الأكل، ونام من النوم.
فالمصدر مشتق منه وليس مشتقاً، فلا يصح أن يجيء حالاً، لأن القاعدة أن الحال لا بد أن يكون وصفاً؛ لكن المؤلف يقول: (ومصدر منكر حالاً يقع).
مصدر: مبتدأ، وصح أن يكون مبتدأً وهو نكرة -ولا يصح الابتداء بالنكرة- لأنه موصوف وصفه (منكر).
حالاً: حال.
يقع: الجملة خبر (مصدر).
والمعنى أن المصدر المنكر يقع حالاً بكثرة، مثاله: (بغتة زيد طلع)، أصل هذا التركيب: زيد طلع بغتة، لكن قدم الحال من أجل الروي فقال: بغتة زيد طلع، وإعرابها: بغتة: حال من فاعل طلع، لا من زيد.
زيد: مبتدأ.
طلع: فعل ماض والفاعل ضمير مستتر، والجملة من الفعل والفاعل المستتر خبر المبتدأ.
قاعدة هذا البيت: يقع المصدر المنكر حالاً كثيراً مثاله: طلع زيد بغتة لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [الأعراف:187] أي: لا تأتيكم إلا مفاجأة.
هذا ما ذهب إليه المؤلف، أعني: أن بغتة حال، وقيل: إن بغتة ليس بحال وإنما هو مصدر، والحال هو الفعل الذي هذا مصدره، ويكون المعنى: زيد طلع يبغت بغتة، ويصير الحال جملة (يبغت)، ولم يعربوا (بغتة) حالاً لأنها مصدر، وهؤلاء هم المتعصبون المتشددون.
ثم على القول بأن المصدر نفسه هو الحال هل ينقاس أم يقتصر فيه على السماع؟
قال بعضهم: يقتصر فيه على السماع، وحكي إجماع النحويين عليه، ولكنه غير صحيح.
وقال بعضهم: بل ينقاس ولا يقتصر فيه على السماع، وهذا القول هو الراجح عندنا، وذلك لأن المصدر يقع خبراً كثيراً، تقول: زيد عدل، وعمرو رضا، وخالد ثبت، وما أشبه ذلك، فإذا كان المصدر يكون خبراً ويكون صفة فلماذا لا يكون حالاً؟ فالصحيح أنه يأتي حالاً قياساً.
فعندنا الآن ثلاثة آراء: الرأي الأول: لا يكون المصدر حالاً أبداً، وما أتى من كلام العرب يوهم ذلك فيجب أن يؤول، وذلك بأن يجعل المصدر مصدراً، والفعل الذي انتصب به هذا المصدر هو الحال.
والقول الثاني: يصح أن يكون المصدر حالاً ولكنه مقصور على السماع ولا يقاس عليه.
والقول الثالث: يصح أن يكون المصدر حالاً وهو مقيس لكنه قليل، وابن مالك كما سيأتي في النعت إن شاء الله يقول:
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
[ ولم ينكر غالباً ذو الحال إن لم يتأخر أو يخصص أو يبن
من بعد نفي أو مضاهيه ].
ذو: بمعنى صاحب، والنكرة ضد المعرفة، أي: يشترط في صاحب الحال يكون معرفة كما يؤخذ من قوله: (ولم ينكر غالباً ذو الحال)، وهذا في الغالب، فلو قلت: جاء رجل راكباً، فهذا من غير الغالب.
والغالب في مثل هذا المثال أن تقول: جاء رجل راكب، فتجعله صفة لرجل، فالوصف بعد النكرة صفة يتبعها في الإعراب، ولا يكون حالاً منها، وقد روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام: (صلى وراءه قوم قياماً) ما قال: قوم قيامٌ، ولكن هذا المثال وإن مثل به الشارح لا يصلح؛ لأن (قوم) وصفت بقوله: (وراءه) فصح مجيء الحال منها، لكن لو قلت: جاء قومٌ قياماً، فهذا هو المثال الصحيح.
إذاً: القاعدة في هذا البيت: الغالب أن يكون صاحب الحال معرفة، ولا يكون نكرة إلا في هذه المسائل:
أولاً: إن لم يتأخر، فإذا تأخر جاز فيه النكرة، تقول: جاء راكباً رجلٌ، ولهذا قالوا: إن الجمل قبل النكرات أحوال وبعدها نعوت.
ومنه: جاء ماشياً ولد، جاءت راكبةً امرأةٌ، أسرع قاصداً جواد، وعلى هذا فقس.
ثانياً: (أو يخصص): فإذا خصص صاحب الحال وهو نكرة جاز مجيء الحال منه، تقول: جاءني رجل ثقيل راكباً.
والتخصيص سواء كان بالصفة كما مر، أو بالإضافة، مثل: اشتريت كتابَ طالبٍ ثالثاً.
ثالثاً: (أو يبن من بعد نفي أو مضاهيه).
يبن: يتبين ويظهر، (من بعد نفيٍ): تقول: ما في الدار رجلٌ جالساً.
ما: نافية.
في الدار: جار ومجرور في محل خبر مقدم.
رجل: مبتدأ مؤخر.
جالساً: حال من رجل، ورجل نكرة؛ لكن سوغ مجيء الحال منها أنها بعد نفي.
ومثاله أيضاً: ما أتاني رجل راكضاً، راكضاً: حال من رجل، ورجل نكرة.
وقول المؤلف: (أو مضاهيه)، الذي يضاهيه في النفي النهي، والاستفهام الإنكاري، فالنهي مثل له المؤلف بقوله: (لا يبغ امرؤٌ على امرئ مستهلاً).
امرؤٌ: فاعل.
على امرئ: جار ومجرور متعلق بالفعل (يبغي) في محل نصب مفعول به.
مستسهلاً: حال من فاعل يبغي (امرؤ) الأولى، وصح مجيء الحال منه وهو نكرة؛ لأنه في سياق النهي.
ومثاله في سياق الاستفهام الإنكاري: هل من أحدٍ في البيت قائماً؟
قائماً: حال من أحد، وجاءت منه حال مع أنه نكرة؛ لأنه في سياق الاستفهام الإنكاري.
حاصل هذه القاعدة: لا يكون صاحب الحال إلا معرفة إلا في ثلاثة مواضع، وهي:
إذا كان متأخراً.
إذا وقع بعد نفي أو شبهه.
إذا خصص بإضافة أو وصف.
الإعراب:
سبق: مفعول مقدم لأبوا.
وسبق مضاف وحال مضاف إليه.
ما: اسم موصول مبتدأ.
بحرف: جار ومجرور متعلق بجر.
جر: فعل ماض وهو صلة الموصول.
قد أبوا: الجملة خبر ما، وتقدير البيت بالترتيب:
والذي جر بحرفٍ قد أبوا أن يسبق الحال.
والمعنى: لا يمكن أن تسبق الحال صاحبها المجرور بحرف جر، وتقدم أن صاحب الحال قد يتأخر عنها في قوله: (إن لم يتأخر أو يخصص)، أي أنه يجوز أن يتأخر صاحب الحال عنه في بعض الحالات.
أما إذا كان صاحب الحال مجروراً بحرف الجر فإنه عند النحويين لا يتقدم، لكن ابن مالك خالفهم، قال: (ولا أمنعه فقد ورد) أي: عن العرب.
فالحاصل: أن الحال يجوز تقدمها على صاحبها إذا كان فاعلاً مثل: جاءني راكباً زيدٌ، ويجوز تقدمها على صاحبها إذا كان مفعولاً به مثل: ضربت قائماً زيداً، ولا يجوز أن تتقدم على صاحبها إذا كان مجروراً بحرف جر عند النحويين، وعند ابن مالك يجوز، فالنحويون يقولون: لأن حرف الجر لا يعمل ما بعده فيما قبله، وابن مالك يقول: قد ورد ذلك عن العرب فيجوز.
مثاله: مر نائماً بي زيد.
فهذا المثال عند ابن مالك يجوز، وعند النحويين لا يجوز، وحجة ابن مالك أنه قد ورد عن العرب كما في قول الشاعر:
لئن كان برد الماء هيمان صادياً إليَّ حبيباً إنها لحبيبُ
حبيباً: خبر كان منصوب؛ لأن كان فعل ماض، وبردُ: اسمها، وبرد مضاف والماء مضاف إليه.
هيمان: هذه حال.
صادياً: حال ثانية.
إليّ: هذه الياء هي صاحبة الحال.
والهيمان معناه: شديد العطش، كما قال تعالى: فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55].
وقوله: (إنها) أي: محبوبته. (لحبيب)، ومعلوم عند كل أحد أن برد الماء للهيمان الصادي حبيب.
فهذا شاهد على أنه ورد في لسان العرب جواز مجيء الحال من صاحبها المجرور متقدمة عليه، وكلام العرب هو الدليل في باب النحو، ولا نقول في النحو: ائت بدليل من الكتاب والسنة، لكن نقول: ائت بدليل من كلام العرب، وإذا كان من القرآن فهو أفصح كلام العرب، بل أفصح كلام في الوجود، وكذلك إذا كان من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
[ ولا تجز حالاً من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله ]
قوله: (لا تجز) نهي، فلا نقول النهي يقتضي التحريم، بل نقول: الأصل المنع.
(ولا تجز حالاً من المضاف له): إذا قلت: كتاب زيد، فالمضاف إليه هو الثاني، أي: (كتاب) مضاف، و(زيد) مضاف إليه، إذاً: المضاف له هو الاسم الثاني من المتضايفين.
يقول: إنه لا يجوز وقوع الحال من المضاف إليه؛ لأن الأصل وقوعها من المضاف إذ إنه المتحدث به، فتقول مثلاً: جاء عبد الله راكباً.
فـ(راكباً) حال من عبد، ولا تقول: حال من الله، حتى لو فرض أنه تجوز الصفة لله مثل: جاء عبد الله سميعاً، فالله سميع والعبد أيضاً سميع: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:2].
إذاً نقول: سميعاً: حال من عبد.
فإذا جاءنا حال بعد المضاف والمضاف إليه، فهي لا تخلو إما أن تصلح لهما أو لأحدهما، فإن صلحت لأحدهما دون الثاني فهي له، وإن صلحت لهما جميعاً فهي للأول.
فتقول مثلاً: جاء غلام هندٍ راكباً.
فيتعين أن الحال من الأول؛ لأن (راكباً) مذكر، و(هند) مؤنث.
وتقول: ضرب غلام هندٍ راكبةً بعيرها.
بعير: مفعول ضرب، وراكبة: حال من هند، لأنها مؤنثة.
يقول المؤلف: (إلا إذا اقتضى المضاف عمله)، أي: لا يجوز أن تأتي الحال من المضاف إليه إلا إذا اقتضى المضاف -وهو الجزء الأول- عمله، أي: عمل الحال.
ومعنى (اقتضى عمله) أي: صح أن يكون عاملاً في الحال، بأن يكون وصفاً مشتقاً، مثل اسم الفاعل، تقول: هذا ضارب زيدٍ راكباً، فيجوز أن تكون (راكباً) حالاً لزيد، لأن المضاف وهو ضارب يصح أن يكون عاملاً، وما صح أن يكون عاملاً صح أن يكون عاملاً فيما يليه، فهو عامل فيما يليه الجر، وفي الحال النصب.
ومنه: هذا آكل الطعام نيئاً، وهذا آكل اللحم مشوياً.
هذه الحال الأولى.
الحال الثانية: (أو كان جزء ما له أضيفا)، يعني أن يكون بعضاً مما أضيف إليه، مثاله: قطعت يد السارق جانياً، فالسارق مضاف إليه، لكن صح مجيء الحال منه لأن اليد بعض منه.
الحال الثالثة: (أو مثل جزئه فلا تحيفا).
أي: مثل جزء المضاف إليه وليس هو جزءاً منه، فإذا كان مثل جزئه في تعلقه به بحيث لو حذف استغني عنه جاز إتيان الحال منه، أي من المضاف إليه، مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النحل:123]، حنيفاً: حال من إبراهيم (المضاف إليه)؛ لأن ملة ليست جزءاً من إبراهيم، لكنها شبه جزئه؛ لأنك لو حذفت (ملة) وقلت: أن اتبع إبراهيم، لجاز ذلك واستقام المعنى، قال الله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ [آل عمران:68] وما قال: اتبعوا ملته.
خلاصة البيتين:
القاعدة الأولى: يمتنع أن تأتي الحال من المضاف إليه إلا في ثلاث حالات، هي:
الأولى: أن يكون المضاف صالحاً للعمل في الحال.
الثانية: أن يكون المضاف بعضاً من المضاف إليه.
الثالثة: أن يكون المضاف شبه بعضه؛ وذلك بأن يستغنى عن ذكره إذا حذف ويتم الكلام بدونه.
بل ذهب سيبويه رحمه الله إلى أنه يجوز مجيء الحال من المضاف إليه مطلقاً متى صح الكلام، وهذا القول هو الراجح بناء على القاعدة المعروفة عندنا، وهي أننا نأخذ بالأسهل في باب النحو؛ لأنه لا دليل على النهي إذا جاءت الحال من المضاف إليه في هذه الأحوال الثلاثة، فما الذي يمنعها في غيرها؟
[ والحال إن ينصب بفعل صرفا أو صفة أشبهت المصرفا
فجائز تقديمه كمسرعاً ذا راحل ومخلصاً زيدٌ دعا
وعامل ضمن معنى الفعل لا حروفه مؤخراً لن يعملا
كتلك ليت وكأن وندر نحو سعيد مستقراً في هجر ]
انتقل المؤلف رحمه الله إلى بحث جديد، وهو: هل يجوز تقديم الحال على عاملها أو لا يجوز؟
مثلاً: جاء الرجل راكباً، الترتيب هنا طبيعي، فـ(جاء) فعل وهو العامل، ثم (الرجل) هو الفاعل، ثم (راكباً) وهو الحال، فهل يجوز أن أقول: (راكباً جاء الراجلُ) أو لا يجوز؟
يقول المؤلف:
(والحال إن ينصب بفعل صرفا أو صفة أشبهت المصرفا
فجائز تقديمه).
الحال: مبتدأ، وخبره قوله: (فجائز تقديمه).
جائز: خبر المبتدأ.
تقديمه: تقديمُ: فاعل جائز، والهاء مضاف إليه، ويجوز أن نجعل (جائز) خبراً مقدماً، و(تقديمه) مبتدأ مؤخراً، والجملة: خبر المبتدأ الأول.
إذاً: يجوز أن تتقدم الحال بشرط أن يكون الناصب لها فعلاً متصرفاً، أو صفة تشبه الفعل المتصرف، مثاله: مسرعاً ذا راحلٌ، أصلها: هذا راحلٌ مسرعاً.
ذا: مبتدأ. راحلٌ: خبر المبتدأ.
ومسرعاً: حال من فاعل (راحل).
وراحل صفة، لأنها اسم فاعل، فيجوز أن أقول: مسرعاً هذا راحل.
مثال آخر: راكباً زيدٌ آتٍ.
فجاز تقدم الحال؛ لأن عاملها صفة متصرفة.
القاعدة: يجوز تقديم الحال على عامله إن كان فعلاً متصرفاً، أو صفة تشبهه.
وما هي الصفة التي تشبه الفعل؟
نقول: هي كل وصف تضمن معنى الفعل وحروفه، كاسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة.
أما اسم التفضيل فهو إن كان وصفاً لكنه لا يتصرف؛ لأنه ملازم للإفراد، تقول: زيد أفضل من عمرو، الرجال أفضل من النساء، ولا تقول: أفضلون، ولا يجوز أن تتقدم الحال إذا كان عاملها اسم تفضيل.
وقيل: بل يجوز، وهو الراجح، وعلى هذا فيجوز أن تتقدم الحال على عاملها مطلقاً، سواء كان فعلاً متصرفاً، أو صفة متصرفة، أو فعلاً غير متصرف، أو صفة غير متصرفة؛ لأنه لا يوجد دليل على المنع مثلما قال بعض المحشين.
صحيح أنه قد يكون قليلاً في كلام العرب، لكن فرق بين قولنا: إنه قليل، وبين قولنا: إنه ممنوع.
مثال آخر: ومخلصاً زيد دعا.
الترتيب الطبيعي: زيدٌ دعا مخلصاً.
وإعرابها:
مخلصاً: حال من فاعل (دعا).
زيدٌ: مبتدأ.
دعا: فعل ماض، وفاعله مستتر جوازاً تقديره هو، والجملة من الفعل والفاعل في محل رفع خبر المبتدأ زيد.
وإذا جاز تقديم الحال على العامل، فهل يجوز أن تفصل الحال بين عاملها وصاحبها، أي أن تقدم على صاحبها دون عاملها؟
والجواب: نعم؛ لأنه إذا جاز أن تتقدم على العامل فمن باب أولى أن تتقدم على صاحبها، فعليه يجوز: هذا مسرعاً راحل، زيدٌ مخلصاً دعا؛ والمؤلف إنما بحث في تقديم الحال على عاملها لأنها إذا تقدمت عليه قد يضعف عمله، أما إذا جاءت بعد العامل فلا إشكال في أن العامل يتسلط عليها.
(وعامل ضمن معنى الفعل لا حروفه مؤخراً لن يعملا)
ذكر المؤلف أنه يجوز تقديم الحال على عامله، في واحد من أمرين:
أن يكون العامل فعلاً متصرفاً، أو صفة تشبهه، وهي ما اشتمل على حروفه ومعناه، فإذا وجد أداة تتضمن معنى الفعل دون حروفه، فإنه لا يجوز تقديم الحال عليها، ولهذا قال:
(وعاملٌ ضمن معنى الفعل لا حروفه مؤخراً لن يعملا)
عاملٌ: مبتدأ.
ضمن معنى الفعل: الجملة صفة لعامل.
مؤخراً: حال مقدم من فاعل (يعمل).
وجملة (لن يعمل)، في محل رفع خبر عامل.
ومعنى البيت: أن العامل إذا ضمن معنى الفعل دون حروفه فإنه لن يعمل متأخراً.
إذاً القاعدة: لا يجوز تقديم الحال إذا كان عاملها متضمناً لمعنى الفعل دون حروفه، مثل (ليت) فهي تتضمن معنى (أتمنى) دون حروفه، ولهذا لا يجوز أن تقول: راكباً ليت زيداً حاضرٌ.
ولا يجوز أن أقول: وافداً كأن زيداً أسد.
وذلك لأن (كأن) تتضمن معنى الفعل (يشبه) دون حروفه.
قوله: (وندر
نحو سعيد مستقراً في هجر)
ندر: بمعنى: قل.
سعيد: مبتدأ.
مستقراً: حال.
وفي هجر: جار ومجرور خبر المبتدأ، لأن (في هجر) وإن كان متعلقاً بمحذوف تقديره: كائن، لكن العامل في الحال لم يبرز، فكأنه ضمن معنى الفعل دون حروفه، فيقول ابن مالك رحمه الله: إن هذا جاز تقديمه لكنه نادر.
وقال بعض النحويين: بل هذا ليس بنادر، وإنه يجوز، ولا حرج على الإنسان أن يقول: زيد مستقراً في هجر، زيد مجتهداً في بيته، وما أشبه ذلك.
[ ونحو زيد مفرداً أنفع من عمرو معاناً مستجازٌ لن يهن ]
ابن مالك رحمه الله يأتي بالمثال أحياناً لتستنبط منه القاعدة.
قوله: (مفرداً) حال العامل فيها كلمة (أنفع)، إذاً: هي حال مقدمة على العامل، والعامل اسم تفضيل فهو ليس فعلاً متصرفاً ولا صفة أشبهت الفعل المتصرف، وتقدم أن ابن مالك يقول:
والحال إن ينصب بفعل صرفا أو صفةٍ أشبهت المصرفا
فجائز تقديمه..
فاشترط لجواز تقديمه على عامله أن يكون العامل فعلاً متصرفاً أو صفة تشبهه، إذاً: فهذا البيت مستثنى منه.
أما قوله: (أنفع من عمرو معاناً)، فليس فيها شاهد؛ لأن (معاناً) عاملها (أنفع)، وهي متأخرة عليه.
فالشاهد قوله: (مفرداً أنفع من عمرو)، وهذا المثال إذا تأملناه وجدنا أن فيه مفضلاً ومفضلاً عليه باعتبار حالين، فالمفضل هو زيد، والمفضل عليه هو عمرو، فزيد في حال إفراده، أفضل من عمرو في حال كونه معاناً، هذا هو المعنى.
فإذا وجدنا اسم تفضيل فيه مفضل ومفضل عليه باعتبار حالين جاز أن تتقدم الحال من الأول على اسم التفضيل، وسواءٌ كانت المفاضلة بين شخصين، أو بين شخص واحدٍ في حالين، فإذا قلت: زيدٌ محدِّثاً أجود منه فقيهاً، جاز ذلك.
قوله: (مستجازٌ): أي: قد أجازه العلماء.
و(لن يهن) يعني: ليس فيه ضعف، بل هو كلام فصيح وصحيح.
وقال بعض النحويين: هذا ممنوع وليس مستجازاً، وإن مفرداً في (زيد مفرداً) خبر لكان المحذوفة، وتقدير الكلام عند هذا القائل: زيد إذا كان مفرداً أنفع من عمرو إذا كان معاناً. وهذا القول: ليس له حظ من النظر لكثرة التقديرات فيه، فقد حذف منه ستة أشياء على هذا الرأي وهي: إذا وكان واسمها، ومثلها من الشطر الثاني (عمرو إذا كان معاناً)، وعلى قول ابن مالك لا نحتاج إلى تقدير.
وغاية ما فيه أنا استبحنا تقديم الحال على عاملها وهو ليس فعلاً متصرفاً ولا شبيهاً به.
القاعدة: يجوز أن تتقدم الحال على عاملها إذا كان اسم تفضيل بين مفضل ومفضل عليه باعتبار حالين، يعني: أن هذه الحال مفضلة على هذه الحال بقطع النظر عن الشخص، وقد يكون الشخص واحداً، وقد يكونان اثنين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح ألفية ابن مالك [38] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين
https://audio.islamweb.net