اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [49 - 56] للشيخ : أحمد حطيبة
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:48-52].
لما أخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات وما قبلها كيف أنه يهلك القرى، وكم من قرية أهلكها الله سبحانه تبارك وتعالى بسبب ظلم أهلها، أهلكها فلا يرى لهذه القرية أثراً من حياة إلا آثار موت وآثار خراب وآثار تعطيل فقال: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ [الحج:45]، وهنا قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا [الحج:48] يعني كم من القرى أملينا لها وتركناها، وأمهلناها، واستدرجناها حتى أخذناها أخذاً عظيماً شديداً، ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48] إلى الله عز وجل ترجع الأمور، فيصير كل الخلق إليه ليجازيهم على أعمالهم.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الحج:49] مبين: يعني: واضح بين الحجة والبرهان.
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الحج:50] هذا وعد من الله سبحانه وبشارة للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، وقيده هنا بالإيمان والعمل الصالح، فالمؤمن فرض عليه أن يطيع الله سبحانه، وأن يطيع النبي صلوات الله وسلامه عليه فيعمل صالحاً، فإذا آمن وصدق وعمل الصالحات فله المغفرة، فيستر الله عز وجل عليه ذنوبه، ويمحوها سبحانه، وقد يبدلها حسنات بفضله وكرمه سبحانه، وله رزق كريم، فمدح رزق الآخرة بأنه رزق كريم، رزق لا شائبة فيه، ولا كدر فيه، ولا تعب فيه ولا نصب، ولا شيء فيه يزعج الإنسان، بل هو رزق كريم من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى في الجنة.
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحج:51] ظنوا أنهم يفوتوننا مسرعون ليطفئوا نور الله، فالله عز وجل متم نوره ولو كره الكافرون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فمهما ظنوا أنهم أقوياء، فالله أقوى منهم، والله يعجزهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا يقدرون على شيء، وهو يقدر عليهم سبحانه، فهم أصحاب النار.
قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى [الحج:52] أي: رسول وأي نبي عليهم الصلاة والسلام يتمنون، والتمني يأتي بعدة معان: فمن معانيه: التلاوة، فيتلو ما أنزل الله عز وجل عليه، ومن معانيه: التحدث والإخبار بما أوحى الله عز وجل إليه من وحي، والتمني حديث النفس ورجاء الخير، فالنبي يرجو الخير فيحدث نفسه فيقول: لو أن قومي أسلموا لدخلوا الجنة، لو أن قومي أسلموا لكانوا قوة وجاهدنا الكفار، فيحدث نفسه ويتمنى الخير من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام تمنوا بمعنى: تلوا أو بمعنى حدثوا، ألقى الشيطان في تلاوتهم وألقى في أحاديثهم، والمعنى: أن القوم يستمعون لآيات الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم ما يمنعهم من الإيمان بهذا الكلام العظيم من عند رب العالمين سبحانه.
فالله يقول لنبينا صلى الله عليه وسلم: لست أنت أول من يعرض عنه الناس مع ظهور الحجة والبينة، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، فهؤلاء الكفار يسمعون كما يسمع المؤمنون، ويفهمون ما يفهمه المؤمنون، لكن قلوبهم تصدهم عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، يعرف الكافر الحق ويحيد عنه، يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من عند رب العالمين فإذا به يعاند ويجحد ما جاء به، وهو مستيقن في نفسه أن هذا الحق من عند رب العالمين!
فيلقي الشيطان في أمنية الأنبياء وأمنية المرسلين عليهم الصلاة والسلام بمعنى: في تلاوتهم وفي حديثهم فيما تمنوه من إيمان قومهم، فالشيطان يصد عن سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، ويلقي في قلوب الكفار أن هذا سحر، وأن هذا كاهن، وأن هذا شاعر، وأن هذا أساطير الأولين، فالنبي يحدث ويعتقد أن هؤلاء سيفهمونه ويستوعبونه، ويعون ما يقوله؛ وإذا بهم يصدون عنه، ويقولون: كذاب، النبي صلى الله عليه وسلم جاء لقومه وهو يقول: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، اسمعوا وأعينوني أبلغ كلام رب العالمين، فظن أنهم يعينونه صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بالشيطان يحول بينه وبين قومه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا بالشيطان يلقي في قلوبهم حتى قالوا عنه: كذاب، وكانوا قبل ذلك يقولون عنه: الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا عنه: ساحر، وهم يعلمون أنه ليس ساحراً صلوات الله وسلامه عليه.
فهذا ما يلقيه الشيطان في قلوب هؤلاء، يتلو النبي فإذا بهذا الشيطان لعنة الله عليه يحول بين هؤلاء وبين فهمهم لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.
(إلا إذا تمنى) أي: إذا قرأ أو حدث بالوحي، إذا بالشيطان يلقي في هذه التلاوة ما يحول بين القوم وبين فهم ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، بل يكذبونه ويعاندونه.
معنى آخر وهو أنه إذا تمنى النبي والأنبياء من قبله إيمان أقوامهم إذا بهم يوم القيامة يأتي النبي ومعه الأمة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الاثنان، والنبي ومعه الواحد، والنبي وليس معه أحد عليهم الصلاة والسلام، فالنبي الذي يأتي وليس معه أحد عندما أرسله الله إلى قومه كان يتمنى إيمان جميع قومه، فلم يؤمن به ولا رجل.
فالشيطان ألقى في أمنيته فأبعد الناس عن دين رب العالمين، ويزين لهم الدنيا والابتعاد عن كتاب الله وعن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويحول بينهم وبين الإيمان، قال سبحانه تبارك وتعالى: إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52].
وإذا كان كل الأنبياء والمرسلين سيلقي الشيطان في أمانيهم، فهل سيظل ما يلقي الشيطان ولا يؤمن أحد أبداً؟ لا، فربنا يخبر أنه يبطل ما يلقي الشيطان، قال سبحانه: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52] النسخ: الإزالة والمحو والإبطال، فيبطل الله عز وجل ما ألقاه الشيطان في قلوب هؤلاء؛ فإذا بالمشركين يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: نقول عنه: ساحر؛ فإذا بعضهم يرد على بعض ويقول: لا ما هو ساحر، ولا أحد سيصدقنا فيما نقول.
فقالوا: نقول عنه: كاهن، الشيطان يلقي عليهم هذا الشيء وإذا بعضهم يرد على بعض فيقول: نحن عرفنا الكهانة، وهذا ليس بكاهن من الكهان.
فقالوا: نقول عنه: شاعر، فيقولون: ليس شاعراً.
فينسخ الله ما يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء، ويظهر الحق سبحانه تبارك وتعالى سواء صدقوا أو لم يصدقوا، قال الله: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج:52].
كذلك قد يلقي الشيطان في قلوب هؤلاء القوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لعله يداهن كما قال الله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم:9]، فتمنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يداهنهم ويذكر آلهتهم بخير، والله سبحانه تبارك وتعالى يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:73-75] صلوات الله وسلامه عليه.
فانظر كيف يحكم الله عز وجل آياته ويهدد نبيه صلوات الله وسلامه عليه -وحاشا له أن يبتعد عن أمر ربه سبحانه- تخويفاً له، والأمة تبع له فيقول سبحانه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ [الإسراء:74] وهذا يدل على صموده، وأنه مستحيل أن يداهنهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء:74]، ولم يحدث أن ركن إليهم صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ثبته على الحق بالعصمة منه سبحانه تبارك وتعالى، ولو أنه ركن إليهم شيئاً قليلاً -وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يقع في ذلك- يقول الله عز وجل: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ [الإسراء:75] أي: ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات.
فهنا ينسخ الله ما يلقي الشيطان من الكلام الكذب الذي يقوله الكفار، ويحكم الله عز وجل آياته، ويثبت دينه، ويثبت ما يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره من الأنبياء والرسل، فيسمع الناس الحق، ويعرفون أنه الحق والله عليم حكيم، يعلم كل شيء، ويعلم ما يدبره هؤلاء الأقوام، وما يقولونه، والله حكيم في أن يؤخر الحكم في ذلك، وأن يملي لهم وأن يمهلهم سبحانه تبارك وتعالى، ولا ينسى ربك شيئاً، ولكنه حكيم في أحكامه، حكيم في تأديبه وتأخيره سبحانه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:53] إن الظالمين لفي خلاف وفي عصيان ومشاقة، وأصلها من الشق، أنت في شق وهم بعيدون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن طاعة الله سبحانه.
فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54] هذا وعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أن يهدي المؤمنين إلى صراط الجنة وإلى طريق الجنة، وهو الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعريج على النار، ولكن يهديهم إلى جنته سبحانه تبارك وتعالى، وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الحج:54] فيثبتهم في الدنيا على الخير وعلى الحق، ويثبتهم عند السؤال، ويثبتهم عند المرور على الصراط حتى يدخلهم الجنة سبحانه تبارك وتعالى على صراط مستقيم.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحج [49 - 56] للشيخ : أحمد حطيبة
https://audio.islamweb.net