اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [47] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والشرط لغةً العلامة، وشرعًا: ما يلزم من عدمه العدم، لا من وجوده وجود ولا عدم لذاته، فإن أخل عدمه بحكمة السبب فشرط السبب كقدرة على تسليم مبيع، وإن استلزم عدمه حكمةً تقتضي نقيض الحكم فشرط الحكم. وهو عقلي كحياة لعلم، وشرعي كطهارة لصلاة، ولغوي كأنت طالق إن قمت، وهذا كالسبب، وعادي كغذاء الحيوان، وما جعل قيدًا في شيء لمعنىً كشرط في عقد فكشرعي. واللغوي: أغلب استعماله في سببية عقلية وشرعية، واستعمل لغةً في شرط لم يبق لمسبب شرط سواه].
ثم الشرط في اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا [محمد:18]، أي: علاماتها.
وفي الشرع: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
فكونه لا يلزم من عدمه العدم يوافق السبب؛ لأن السبب يلزم من عدمه العدم، فما هنا ليست نافية بمعنى الذي.
ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، بهذا يخالف السبب؛ لأن السبب يلزم من وجوده الوجود كما سبق، فصار الشرط موافقاً للسبب في أن كلاً منهما يلزم من عدمه العدم، ومخالف له في أنه لا يلزم من وجوده الوجود والسبب يلزم من وجوده الوجود.
وقول المؤلف: (لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته)، احتراز مما لو كان يلزم من عدمه العدم، ومن وجوده الوجود؛ لأنه لم يبق في الشروط سواه، فإنه إذا لم يبق في الشروط سواه لزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود، مثال ذلك: رجل صلى الصلاة كلها، وبقي عليه شرط واحد لم يأت به، هذا الشرط إذا وجد لزم من وجوده الوجود، فمثلاً شروط صحة الصلاة تسعة، أتى المكلف بثمانية، وبقي عليه واحد، هذا الواحد إذا أتى به لزم من وجوده الوجود، وإذا لم يأت به لزم من عدمه العدم؛ لكن ليس هذا لذاته، بل لاستيفاء الشروط سواه، فتوقف الوجوب هنا على وجوده والعدم على عدمه ليس لذاته، ولهذا لو فقد شرط آخر لم ننتفع بوجود هذا الشرط.
إذاً: كلمة (لذاته) احترازاً مما إذا وجدت الشروط سوى هذا الشرط، فإن هذا الشرط يتوقف على وجوده الوجود، وعلى عدمه العدم.
عدم الشرط يؤثر، لكن تأثيره مختلف، إن كان أخل بحكمة السبب فشرط السبب، (كقدرة على تسليم مبيع).
أي: من شرط صحة البيع القدرة على تسليم المبيع، لأن تخلف القدرة على تسليم المبيع يخل بحكمة السبب، والحكمة من اشتراط القدرة على التسليم هو أن يتمكن المشتري من الانتفاع بالمبيع، وإذا كان لا يقدر على تسليمه أخل ذلك بحكمة هذا الشرط، وإذا كان يخل بالحكمة فإنه يسمى شرط السبب، كما قال المؤلف.
إذاً هذا التقسيم في الحقيقة ليس ذا أهمية، لكن ما دام المؤلف ذكره فلنعرف أنه إذا عاد الشرط إلى الإخلال بحكمة السبب سميناه شرط السبب، والمثال: القدرة على تسليم المبيع.
فإذا قال قائل: من شرط صحة البيع أن يكون قادراً على تسليم المبيع، لماذا؟ فنقول: لأن فوات هذا الشرط يخل بحكمة السبب وهو الملك، فهذا المبيع إذا كان غير مقدور على تسليمه فإن المشتري تفوته الحكمة التي من أجلها اشترط هذا الشرط، والحكمة هي: الانتفاع بالمبيع.
مثاله: باع طيراً في الهواء وهو لا يعرف الرجوع، فهذا البيع لا يصح؛ لأن المشتري لم ينتفع بالمبيع، فنسمي هذا الشرط شرط السبب.
الحكم بالصحة نقيضه الحكم بالفساد، فإذا استلزم عدمه حكمة تقتضي نقيض الحكم يسمى شرط الحكم، كالسترة في الصلاة مثلاً، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، فإذا أخل الإنسان بالسترة فإن هذا إخلال بشرط الحكمة، والحكمة هي أن تقف بين يدي الله على أحسن حال، وعلى أكمل صورة؛ لأنك تناجي ملك الملوك، فكونك تخاطبه وأنت عار هذا خلاف الحكمة، لو أنك خاطبت بشراً من البشر وأنت عار لقيل: هذا من أعظم الإساءة في الأدب، فكيف وأنت تخاطب الله؟ فنسمي هذا شرط الحكم.
والواقع أننا في غنًى عن هذا التقسيم، ونقول: شرط الصحة سواء عاد إلى السبب أو إلى حكمة تقتضي نقيض الحكم فإن الكل يسمى شرطاً، فأنت إذا عرفت الشرط فاعلم أنه يخالف السبب من وجه، ويوافقه من وجه آخر، ويخالف الركن أيضاً؛ لأن الركن هو الذي تنبني عليه العبادة، فهو جزء منها، وليس وصفاً فيها، فمثلاً الركوع والسجود والقيام والقعود في الصلاة أركان؛ لأن الصلاة تتكون من هذه الأشياء، مع أنه يلزم من عدمها العدم، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم لذاته كالشرط.
يعني: أنه من شرط العلم أن يكون العالم حياً، فلا يوصف بالعلم إلا من هو حي، فالجدار لا تقول: إنه عالم، وهذا على كلام المتكلمين؛ ولهذا استدلوا على ثبوت حياة الله بثبوت العلم، يعني: بنوا الأصل على الفرع، قالوا: نحن لا نعرف أن الله حي إلا لأننا نعلم أنه عليم، ولا نعلم أنه عليم إلا بإحكام المخلوقات، فإحكام المخلوقات يدل على علم، وثبوت العلم يدل على الحياة.
فانظر كيف قلبوا الأصل، أو قلبوا الحقيقة؛ لأن الأصل الحياة، ثم يأتي بعدها العلم.
على كل حال لا يمكن أن يوصف أحد بعلم إلا بشرط أن يكون حياً، هذا ما ذهبوا إليه، والصحيح: أنه قد يوصف بالعلم من ليس بحي، فإن أحداً لما صعد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان اهتز بهم؛ لأنه علم من صعد عليه؛ ولهذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق، وشهيدان).
ثم نقول: قال الله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، والمسبح عالم بالتسبيح، وعالم بمن يسبح.
فقولهم: إن العلم يستلزم الحياة استلزاماً عقلياً نقول لهم: هذا مردود عليكم، وما أكثر أصول المتكلمين التي هي مردودة عليهم ويبدؤونها عقلاً، ولكن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الأدلة العقلية أكثرها شبهات وهمية، ولهذا تجدها منتقضة عليهم، لكن لنأخذ ونسلم بما قالوا، إن من شرط العلم الحياة، فهذا شرط عقلي.
وهذا واضح، من شرط الصلاة الطهارة، والذي جعل الطهارة شرطاً في الصلاة ليس هو العقل، فالعقل يجيز أن يصلي الإنسان بلا طهارة، لكن الذي جعل الطهارة شرطاً الشرع، إذاً فالطهارة للصلاة شرط شرعي.
وليت المؤلف مثل بغير هذا، مثل أن نقول للعبد: أنت حر إن حفظت القرآن، هذا شرط لغوي لا شرعي؛ لأنه ما قال الشرع: إذا حفظ العبد القرآن عتق، لكنه شرط لغوي.
أما أنت طالق إن قمت، ما تقولون في رجل قال لزوجته: أنت طالق إن قمت، فقامت، تطلق أم فيه تفصيل؟
الجواب: أما على المشهور من المذهب ومن مذاهب العلماء عامة، والمذاهب الأربعة كلها على أنها إذا قامت طلقت، ولكن ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أنه إذا كان مراد القائل المنع من القيام دون وقوع الطلاق، فإن هذا حكمه حكم يمين، فلو قامت لم تطلق، ولكن عليه كفارة يمين، وإن أراد الشرط -أي وقوع الطلاق عند وجود القيام- فإنها تطلق.
واستدل لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبأنه وردت قضايا عن الصحابة فيمن نذر نذراً يقصد به المنع أنه يكفيه كفارة اليمين، قال: فإذا حكم الصحابة على النذر الذي يراد به المنع بحكم اليمين مع أن الوفاء بالنذر محبوب إلى الله، كان الحكم بذلك في الطلاق من باب أولى.
قال: ومسألة الطلاق لم ترد عن الصحابة؛ لأن ذلك لم يكن معروفاً في عهدهم، فلذلك ما وجد عن الصحابة أثر في أن الإنسان إذا قال لزوجته: أنت طالق إن قمت وأراد به المنع أنه يجزئ فيه كفارة اليمين، لكن ورد نظيره في النذر؛ لأن النذر موجود في عهدهم، أما هذا فليس موجوداً في عهدهم.
والراجح ما اختاره شيخ الإسلام لا شك؛ لأن الحديث واضح فيه، والقياس على ما وضعه الصحابة ظاهر.
لكن لو قال: أنت طالق إذا دخل شهر رمضان، فهل يتصور فيه إرادة المنع؟
الجواب: لا؛ لأنه لا يمكن أن يمنع دخول رمضان، هل يمكن إذا صادف يوم تسعة وعشرين من شعبان قال: يا رمضان لا تدخل؟ ما يمكن، إذاً فما علق على يوم أو شهر فإنه قطعاً لا يراد به اليمين، بل هو شرط محض.
وهذه المسألة لما دخلنا فيها لا بد أن نكملها، إذا علق الطلاق على فعل غير الزوجة، فالذي يترجح أنه أراد اليمين، لا أنه أراد اليمين؛ لأنه ليس للزوجة دخل في الموضوع، مثل أن قال لشخص: إن كلمت زيداً فزوجتي طالق، إرادة التعليق هنا بعيدة؛ لأن الزوجة ليس منها ذنب حتى يقال: إنه أراد طلاقها، وإنما أراد بذلك المنع، يعني: منع المخاطب من كلام زيد.
أما إذا قال لزوجته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فهنا يحتمل أنه أراد الطلاق أو أراد اليمين، لماذا؟ لأنه يقول: إن كلمت زيداً فأنا نفسي تعبت منها لا أريدها، ولذلك قلت: إن كلمت زيداً فأنت طالق، هنا يكون الشرط شرطاً محضاً شرطاً محضاً؛ لأنه يقول في نفسه: إنها إذا كلمت زيداً طابت نفسي منها ولا أريدها، فحينئذ نقول: يقع الطلاق.
وتارة يريد أن يهددها ويمنعها، ولو كلمت زيداً لا يريد أن يطلقها، هو يريد زوجته بكل حال، فهنا يكون يميناً، والله أعلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , مختصر التحرير [47] للشيخ : محمد بن صالح العثيمين
https://audio.islamweb.net