وبعـد:
اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تبق معنا ولا منا ولا فينا ولا إلينا شقياً ولا محروماً؛ إنك أنت أرحم الراحمين.
يقول الإمام الصنعاني في قصيدته البائية:
يتحدث فيها عن كتاب الله عَزَّ وَجَلّ ويقول:
أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد البعاد إياب |
تقضت بك الأعمار في غير طاعةٍ سوى عمل ترضاه وهو سراب |
يخاطب المكلفين ويقول لهم: أمْا آن لكم أن تتوبوا إلى الله، لماذا يسوِّف الإنسان؟ ولماذا يماطل؟ ولماذا يؤخر التوبة؟ وهو لا يستفيد من هذا التطويل أو هذه المماطلة، أو هذا التأخير إلا ضرر على المستويين.. إما أنه يزيد من المعاصي، أو يفاجئ بالموت فيخسر الدنيا والآخرة.
يقول: لِمَ تؤخر التوبة؟
أما آن لما أنت فيه، ووقعت فيه من الذنوب والمخالفات والمعاصي أن تتوب منها؟ إلى متى وأنت عاصٍ أيها الإنسان؟!
هل قررت أن تعيش هذه الحياة للمعاصي؟
زودك الله عز وجل بالسمع والبصر والفؤاد للتتعرف بهذه الحواس عليه، فاستعملتها فيما يغضبه، يقول الله تعالى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26].. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] إن وسائل الإدراك هذه التي أعطاها الله لك من أجل أن تتعرف عليه وتشكره عليها لا من أجل أن تحاربه بها.
ولذا من استعملها في الغرض التي خلقها الله له سعد بها، ومن استعملها في الضرر والمعاصي قال الله عَزَّ وَجَلّ فيه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ [الأحقاف:26].
فيخاطب العقلاء ويقول:
أما آن عما أنت فيه متاب وهل لك من بعد البعاد إياب |
تقضت بك الأعمار... |
انصرمت بك الليالي، وذهبت الشهور، ومرت الدهور والأعوام، وأنت على ما أنت عليه فلم تتغير، تقضت بك الأعمار من غير طاعة سوى عمل تتصور أنه ينفع وترضاه وهو سراب.
ثم يقول:
ولم يبق للراجي سـلامة دينه سوى عزلةٍ فيها الجليس كتاب |
كتابٌ حوى كل العلوم وكل حواه من العلم الشريف صواب |
فإن رمت تاريخاً رأيت عجائباً ترى آدم مذ كان وهو تراب |
إذا رأيت التاريخ ارجع فيه إلى السجل التاريخي، فالقرآن سجل بشري للعالم منذ خلق الله آدم إلى يومنا هذا، ثم قال في النهاية:
ففيه الدواء من كل داءٍ فثق به فوالله ما عنه ينوب كتاب |
قال الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص:29].. لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].
يقول الحارث الأعور -وقد خرج وسمع الناس يخوضون في حديث رواه الترمذي ، والحديث فيه مقال ولكنه يستشهد به- قال: فحدثت علي بن أبي طالب فقال: أوقد فعلوها؟ قلت: نعم. قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (إنها ستكون فتنة، فقلت: فما المخرج منها يا رسول الله! قال: كتاب الله، فيه حكم ما بينكم، ونبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أذله الله، هو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، من قال به صدق، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم، ومن حكم به عدل، وهو الذي لا يشبع منه العلماء، ولا يبلى على كثرة الرد، ولا تلتبس به الألسن، وهو الذي ما سمعت به الجن حتى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن: 1-2]).
هذا الكتاب الكريم العظيم الذي يقول الله فيه مخاطباً عقول الناس، يقول: أو لم يكفهم يا محمد دلالةً عليك وعلى صدق رسالتك أنا أنزلنا عليهم الكتاب؟.. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51] أليس في هذا الكتاب دلالة واضحة كافية معجزة وباقية بقاء الليل والنهار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟!! هذا الكتاب العظيم يوم القيامة يتقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشكوى، يشكو فيها من أعرض عن هذا الكتاب وهجره، ويقول كما قال الله عَزَّ وَجَلّ في سورة الفرقان: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
الله أكبر! كم هو عظيم يا أخي أن تكون يوم القيامة ممن يعزل ويصبح مما يشتكى به أمام الله، وأنك اتخذت كتاب الله مهجوراً، نور أنزله الله لك لتسير على هديه، كما قال الله عَزَّ وَجَلّ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52-53] .
وفي هذه الليلة نذكر لكم حديثاً في صحيح البخاري وهذا الحديث الذي معنا في موضوع أسباب عذاب القبر هو حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، والذي فيه: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انطلق مع اثنين من الملائكة، ثم سار معهم ورأى مناظر ومشاهد مما يحصل للمعذبين في دار البرزخ في القبور، ومن ضمن ما رأى (رأى رجلين: رجلٌ مستلقٍ على قفاه -أي: على ظهره- وآخر واقفٌ على رأسه ومعه حجرٌ كبير يحمل الحجر فيرضخ به رأسه، ثم يتدهده هذا الحجر، فيذهب هذا الرجل ويأتي به فلا يعود إلى صاحبه إلا وقد أعاد الله رأسه كما كان فيضربه الضربة الثانية ويتدهده الحجر -وهكذا-).
أي: أنه يرضخ رأسه والله يعيده، فتعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا المنظر وقال: (ما هذا؟ -ما هو سبب هذه المصيبة العظيمة؟ فقالا له: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا -وفي نهاية الرحلة أخبراه- فقالا له: أما الرجلان المستلقي على قفاه والآخر يضرب رأسه ويرضخ رأسه في الحجر: هو الرجل يعلمه الله القرآن ثم ينام عنه في الليل ولا يعمل به في النهار).
إذاً: ينام عن القرآن في الليل، ولا يتشرف بأن يقوم لله عَزَّ وَجَلّ ولو بركعتين في جوف الليل، وتعرفون منزلة القيام، فالقيام: هو المطية التي يمتطيها أهل الآخرة إلى الله عَزَّ وَجَلّ إذا نام الغافلون: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً [الإسراء:79].
وقال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18].
وقال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما عليها).
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلاله فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه سؤله، هل من تائبٍ فأتوب عليه، هل من مستغفرٍ فأغفر له) فمن صادفها ولقيها فهنيئاً له؛ لأن قيام الليل مركب الصالحين، وهو ضمان لأداء صلاة الفجر، إذ أن الذي يقوم الليل لا يمكن أن يضيع صلاة الفجر إلا إذا كان مخذولاً لعب عليه الشيطان وأقامه في الليل، ثم نام بعد قيام الليل وأضاع صلاة الفجر، فهذا من لعب الشيطان على الإنسان أن يقيمك للقيام ويضيعك عن الفريضة؛ لأن الفريضة أهم عند الله في الميزان من النافلة: (فهو الرجل ينام عن القرآن في الليل، ولا يعمل به في النهار) أي: لا يتخلق بأخلاق القرآن ويسير في الطرق التي حرمها القرآن، ولا يسير في الأوامر التي أمر بها القرآن، فالقرآن مهجورٌ في قلبه، مهجورٌ بالتلاوة، ومهجورٌ بالتدبر، ومهجورٌ بالعمل، ومهجورٌ بالانصياع والانقياد، ومهجور بالحكم والتحاكم، فقد هجر القرآن من كل جانب، ويوم القيامة يكون خصمه القرآن، ومن كان خصمه القرآن قهره، كما جاء في الحديث: (واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك).
إن القرآن يأتي يحاج صاحبه يوم القيامة أو يحاج له، فإن كان من أهله يحاج عنه حتى يدخله الجنة، وإن كان ليس من أهل القرآن، فإنه يحاجه عن كل معصية عملها ويقول له: لماذا عملتها وأنا في جوفك وقد قلت لك، ثم يحاجه حتى يدخله النار والعياذ بالله، وإن شاء الله سوف نذكر شيئاً من التفصيل في بعض الأشياء المتعلقة بكتاب الله عَزَّ وَجَلّ.
قال الله عَزَّ وَجَلّ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30] وهذه الآية يسميها المفسرون: آية القراء وهي آية في سورة فاطر.
يتلون كتاب الله أي: يملئون حياتهم به؛ لأن ما يعانيه الناس اليوم من جفافٍ في القلوب وقسوة؛ سببه هجر القرآن، وعدم تلاوة القرآن، وأنتم تعرفون إذا دخل رمضان وأقبل الناس على القرآن، وبدأ كل واحد يقرأ، تدخل المسجد وتجد الناس لهم دوي في التلاوة، وتجد الشخص في المكتبة يقرأ، وقبل الصلاة يقرأ، وبعد الصلاة يقرأ، وفي الليل يقرأ، كيف تتحول أخلاق الناس؟
أما ترون أثراً في سلوك الناس، وليناً في قلوبهم، واستقامة في حياتهم، وصفاءً في أرواحهم بسبب القرآن؟ فإذا انتهى رمضان ودعوا المصاحف وعادوا إلى حياتهم، فيأتي بعدها قسوة القلوب والهجر للقرآن وهجر المساجد ونسيان الآخرة، وعدم ذكر الله عَزَّ وَجَلّ.
فما من مشكلة يعاني منها الناس اليوم إلا وسببها هجر القرآن، هل يمكن للإنسان التالي لكتاب الله أن يزني؟! أن يغني؟! أن ينظر إلى الحرام؟!
فالقرآن حاجز بينك وبين المعاصي، فإذا هجرت القرآن استغل الشيطان الفراغ، وملأه بالمعاصي والعصيان، ولذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف:27] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة).
فهذه آية القراء فيها وعدٌ عظيم، وبشرى عظيمة: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29] يرجون، أي: يأملون ويرغبون بالتجارة مع الله، الذي من تاجر معه ربح.
(لن تبور) لن. يسميها علماء اللغة: لن الأبدية الزمخشرية، فتجارتك لا تبور مع الله أبداً، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والحرف من القرآن بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أقول: (ألم ) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) هذه تجارة رابحة مع الله، لا تبور ولا تخرب ولا تتعرض أبداً لأي خسارة؛ لأنك تتاجر مع غني، والذي يتاجر مع الغني لا يخسر، كل التجارات معرضة للربح والخسارة إلا التجارة مع الله، فإنها تجارة رابحة، قال الله عَزَّ وَجَلّ وهو يبين تفاصيل التجارة: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ [فاطر:30] أي: يعطيهم ثواب أعمالهم، وهذا كافٍ، إن التجارة الرابحة هي أن تجعل ثمناً لعملك.
وقال عز وجل: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:30] يزيدك من فضله وفضل الله واسع، ففضل الله عظيم إذا ما تعرضت لفضله.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة) فالذي ليس عنده صعوبة فيه، وطوع نفسه ولسانه، وأمضى جهداً كبيراً في سبيل تذليل عقبة الهضم والإجادة لكتاب الله على الطريقة الشرعية بالتجويد حتى أصبح ماهراً فيه، هذه هي منزلته عند الله عز وجل.
وعنها قالت: قال عليه الصلاة والسلام: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الملائكة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاقٌ له أجران).
وهنا وقفة بسيطة حتى لا يتصور بعض الناس الذين يتعتعون في القرآن أن هنالك أجرين إذا كان هناك تعتعة، قال العلماء: إن التعتعة هذه التي يعاني منها الإنسان وله فيها أجرين، هي التي تكون أثناء تعلم العلم، أو أثناء تحسين وضعك في التلاوة، تجلس إلى العلماء وأنت تتعتع ويردك العالم فتذهب وتذاكر، ثم يردك فتذاكر، وهكذا حتى تصبح ماهراً، فأثناء فترة التعليم لك أجران: أجر المشقة، وأجر التلاوة، أما شخص لا يتعلم القرآن ولا يجوده، بل يلحن فيه اللحن الجلي، وإذا قلت له: يا أخي! اتقِ الله، واطلب العلم، واجلس مع العلماء ومع المشايخ ومع القراء.. قال: أريد أجرين، فهذا ليس له أجران؛ لأنه مهمل ولا يريد أن يقرأ القرآن كما أمر الله، وقد قال الله عز وجل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4].
لما سئل علي رضي الله عنه عن الترتيل قال: [هو إخراج الحروف، ومعرفة الوقوف] فتعرف كيف تقف، وكيف تبدأ، وتخرج الحرف من مخرجه الشرعي.
أما أن تقف على ما تريد، وتخرج كما تريد، فترفع المنصوب، وتنصب المرفوع، وتقول: إن لك أجراً فلا، بل ربما يكون عليك وزر العياذ بالله.
والحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم في الصحيحين ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة بلفظ: (من يقرأ القرآن وهو ما هرٌ به ...).
هذا مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن طعمه طيب، وريحه الذي يخرج على الناس هو أثره وسلوكه الطيب.
القسم الثاني: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن..) وهو المؤمن الذي يقف عند حدود الله، ولا يمكن أن يقع في معصية، ولا يمكن أن يدع لله أمراً، ولكنه مسكين، ما قرأ القرآن ولا تعلم: (مثله كمثل التمرة، لا ريح لها وطعمها حلو) فإذا أتيت إليه تجده صاحب ريح طيب، أي: صاحب إيمان، ولكن لا تنبعث منه رائحة تنفع الناس عن طريق قراءة القرآن، وتعليم القرآن والدعوة إليه.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر) إذا سمعت كلامه تقول: ما شاء الله هذا قارئ مجود، لكن إذا دخلت إلى قلبه وفتشت في خصائصه، وبحثت عن طعمه إذا به علقم مر يؤذيك، فإن هذا الصنف لا ينفعه الريح، فإن الريح في الدنيا فقط، لكن الطعم هو الذي ينفع في الآخرة.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمه مر وريحه خبيث) والحنظل شجر ينبت في الأرض ليس له أغصان يقوم عليها، وإنما يثمر ثمرة مثل الليمون الكبير، إذا فتحته وذقته كان طعمه مراً أمر من العلقم، فهذا مثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ، أي: رواه أصحاب الكتب الستة.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) وهذا الحديث أخرجه الإمام مسلم في صحيحه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا حسد ..) أي: لا غبطة، لا تغبط أحداً في الدنيا على شيء: (إلا في اثنتين) وليس حسداً تتمني به زوال النعمة؛ لأن الحسد في الشرع ممقوت، وهو: تمني زوال النعمة عن المُنعم عليه، ولكن الحسد المشروع هو: الغبطة، أن تغتبط بما عند الناس، وتتمنى أن يكون لك مثلهم دون أن يزيل الله نعمهم، فلا تغبط أحداً ولا تتمنى أن يكون لك مثل ما عنده إلا في اثنتين: الأولى: (رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار -في الليل يقرأ القرآن ويصلي به، وفي النهار يعمل به ويطبقه- ورجلٌ آخر آتاه الله مالاً -فتح الله عليه الدنيا- فهو ينفقه في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار) فهذا تغبطه وتتمنى من الله أن يعطيك مثل ما عنده، وإذا أعطاك الله عَزَّ وَجَلّ فخير، وإن لم يعطك أعطاك الله بنيتك، تأتي يوم القيامة وأنت في منزلة صاحب المال؛ لأن الناس أربعة كما جاء في الحديث : (الناس أربعه: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فأنفقه على هلكته في الخير، فهو في أرفع المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن عندي مالاً لصنعت به مثل ما يصنع به فلان فهو في منزلته، وهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً فأنفقه في وجوه الشر، فهو في أخبث المنازل، ورجلٌ ما آتاه الله علماً ولا مالاً فهو يقول: لو أن عندي مالاً لصنعت به مثل فلان، فهو في منزلته، وهما في الإثم سواء).
وهذا الحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما : (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجلٌ آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).
هذا الحديث فيه بشرى عظيمة لمن يقرأ القرآن، فبإمكانك أن تدخل المسجد وتقرأ وتخرج وأنت مليونير حسنات، فإذا كانت سورة الفاتحة فيها (150) حرفاً إذا قرأتها مرةً سجَّل الله لك في موازينك (1500) حسنة، وهذه أصغر سورة في القرآن هي (الإخلاص) فيها (66) حرفاً، إذا قرأتها سجل الله لك (660) حسنة، وأنا قرأت مرة صفحة من الصفحات وعددت حروفها، وكانت من الصفحات التي فيها (15) سطراً فوجدت في الصفحة الواحدة أكثر من (450) حرفاً، اضربها في عشرة ستكون (4500) حسنة، من يترك هذه التجارة؟
والله لا يتركها إلا خاسر، تقرأ الجريدة أو المجلة والقرآن عندك؟!! مد يدك إلى القرآن واقرأ وتاجر تجارة رابحة مع الله، حتى تكون عبداً ربانياً بإذن الله عز وجل.
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وقد وافقه النووي في تحسينه، قال: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يقول الله عَزَّ وَجَلَ: من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن كالبيت الخرب) والتشبيه هنا تشبيهٌ رائع؛ لأن الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن شبهه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيت الخرب، والبيت الخرب الذي لا يعمر لا يمكن أن يسكن فيه أحد، فيعمره الغربان والبوم والحيوانات السائبة، ويدخل فيه الناس لقضاء الحاجة، وكذلك القلب الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب الذي لا تنزله الملائكة ولا الرحمة، فيسكن فيه الشياطين تتغوط فيه وتتبول.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها).
وقد اختلف العلماء هنا في معنى (آخر آية تقرؤها) هل هي آخر آية تحفظها؟ أم هي آخر آية تتقن قراءتها وتقرأها باستمرار؟
فقال بعضهم: إن منزلتك عند آخر آية تحفظها من القرآن الكريم؛ ليتم بهذا التفاضل بين من يحفظ القرآن وبين من لا يحفظه؛ لأن حفظ القرآن من أعظم المنازل ومن أعظم الدرجات، يقول الله عَزَّ وَجَلّ: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن أناجيل أمتي في صدورهم) أي: القرآن معهم في صدورهم.
وقال بعض العلماء: لا. إن فضل الله واسع، والحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: حديثٌ حسن صحيح، لم يتضمن الحفظ وإنما تضمن القراءة، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها أي: عند آخر آية تتقن قراءتها ولو بالنظر، ففضل الله واسع، فالذي يقرأ القرآن كله وهو ماهر به يقال له يوم القيامة: اقرأ من أول القرآن إلى آخره، وآخر منزلة لك في الجنة عند آخر آية تقرؤها.
وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من قرأ القرآن وعمل بما فيه..) وهذه بشرى للآباء الذين يوفقهم الله لإلحاق أبنائهم بمدارس القرآن، سواءً الرسمية أو الخيرية، وبشرى للأبناء الذين يحفظون القرآن ثم يوفقون للعمل به، أما الذي يحفظ ولا يعمل، فهذه لعنة في جبينه والعياذ بالله، وهنا شرط يقول: (من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس الله والديه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا) فما ظنكم بمن عمل بهذا، وهذا الحديث رواه الحافظ أبو داود .
وعن الحميدي قال: سألت سفيان الثوري عن الرجل يغزو أحب إليك أو يقرأ القرآن؟ قال: يقرأ القرآن لحديث البخاري ومسلم : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ولكن يوفق ابن القيم رحمه الله ويقابل بين هذا الحديث وبين حديث معاذ بن جبل (الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام)-فهي أعلى مكانة- فيقول: لا شك أن المجاهد في سبيل الله في أرفع المنازل، ولكن إذا جمع مع منزلة الجهاد منزلة القرآن كان في أعلى شيء، ولكن الذي يقرأ القرآن أفضل من الذي لا يجاهد، والذي يجاهد أفضل من الذي لا يقرأ القرآن، والذي يقرأ القرآن ويجاهد أفضل من الذي يقرأ القرآن ولا يجاهد، هذا نوع من التفضيل، والتفاضل بين الأعمال بحسب قوة الأدلة وبحسب مدلولاتها الشرعية.
وثبت أيضاً في الحديث الذي رواه مسلم -وفي هذا تفضيل وترجيح لأهل القرآن- قال عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى) فدل الحديث على أن أهل القرآن مفضلين، ودليل تفضيلهم أن أقرأهم هو الذي يؤمهم في الصلاة، إذ لا يمكن أن يؤم القوم في الصلاة ويتقدم بهم إلا أفضلهم ديناً وقرآناً وعلماً وسلوكاً.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه قال: [كان القراء أصحاب مجلس
أن قراءة القرآن أفضل عند الله في الميزان من التسبيح والتهليل وغيرهما من سائر الأذكار.
وقد ورد في الشرع الحث على إكرام صاحب القرآن، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وهو حديث حسن، قال: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن) إذا عظمت وأجللت ذا الشيبة المسلم وقدمته وأكرمته وقربته واحترمته، فإنك تجل بهذا وتكرم الله عَزَّ وَجَلّ؛ لأن ما من مسلمٍ يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً على الصراط يوم القيامة، معنى هذا أن له خبرة وله أقدمية في خدمة الدين، ولذا كان له منزلة، وهذا واقع لدى كل الناس حتى في الدوائر الحكومية، فالذي عنده خبرة طويلة يكون له منزلة في الإدارة، ويكون له منزلة في العمل، فيقدم ويرقى ويعطى فرص أكثر؛ لأنه قديم وعنده خبرة طويلة، كذلك الشيبة المسلم الذي عنده أقدمية وأهلية كبيرة وقدم راسخة في الدين حتى شاب رأسه في دين الله، فهذا يقدم ولكن متى؟ هل الشيبة المسلم الطائع، أما الشيبة المسلم الفاجر والعياذ بالله، فهذا ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ففي الحديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، منهم: شيخ زانٍ) وفي بعض الروايات: (أُشيمط زانٍ) أي: عمره ستين سنة أو سبعين سنة وهو لا يزال ينظر في النساء ويتتبعهن، ويتمنى الزنا، بل إن بعضهم شيخ كبير ويسافر إلى الخارج ليزني والعياذ بالله.
فالشيبة المسلم التقي الورع الملتزم يجب أن تكرمه، لكن كيف تعرف أنه شيبة؟
بعضهم لا تعرف أنه شيبه؛ لأنه يحلق لحيته فكيف تدري أنه شيبة؟ وبعضهم ينتف الشيب، كلما ظهرت شعرة بيضاء انتزعها لا يريدها حتى لا يقال: إنه شيبة، وبعضهم إذا كثر الشيب لا يستطيع أن ينتفه كله، فيصبغه بالسواد وكلما صبغ وجهه بالسواد وجلس يومين أو ثلاث أيام ظهرت الشعر الأبيض فيصبغها.
وهناك حديث كنت متوقفاً عنه ولكن بعد أن راجعته عليه ظهر لي أنه صحيح، أخرجه وذكره الإمام السيوطي في صحيح الجامع قال: (يأتي أقوام آخر الزمان يصبغون لحاهم بالسواد كحواصل الطير لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها).
الأمر ليس سهلاً فلا تسود وجهك يا أخي! فيسود الله وجهك في الدنيا والآخرة، اترك الشيب في وجهك وإذا أردت تغييره فغيره بما جاءت به السنة بالحناء والكتم، والكتم موجود، تطحنه ثم تخلطه مع الحناء فتخضب به لحيتك.
أما أن تصبغ وجهك بالسواد من أجل أن تخدع النساء وتخدع الناس وتخدع نفسك، وتقول: أنا شاب وأنت شايب فهذا لا ينبغي.
ولذا قال العلماء: من صبغ وجهه بالسواد ثم خطب امرأة وقبلته بناءً على ما رأت من ظاهره، ثم بعد ذلك اكتشفت أن شيباً فيه فإن لها فسخ العقد، وله أن يطلقها بالقوة؛ لأنه بنى عقده على غرر وخداع وكذب، فاترك الشيب في وجهك يا أخي!
الشيب في رأس الفتى لوقـاره فإذا تعلاه المشيب توقرا |
فإن من إكرام الله إكرام الرجل ذي الشيبة المسلم، وإكرام حامل القرآن غير الغالي فيه أو الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط، وهو الرجل الذي مكنه الله بسلطته، والسلطة لا نتصور أنها على مستويات سلطة الملك أو الوزير، لا. السلطة مقسمة من الملك إلى آخر مسئول في الدولة، فكل شخص يلي أمر المسلمين ولو أمر اثنين، لو كنت رئيس قسم وعندك اثنان، أو مدير مدرسة وعندك خمسة مدرسين، أو كاتب وعندك كاتب آخر، فأنت مسئول ولديك سلطة يجب أن تكون عادلاً فيها، فإذا كنت ذا سلطة في أي مستوى وعدلت في هذا الأمر ينبغي إكرامك؛ لأن إكرامك إكرام لله عَزَّ وَجَلّ.
وعن جابر رضي الله عنه (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يجمع بين الرجلين في قتلى بدر وأحد ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن، فإن أشير إلى أحدهما قدمه وجعله الأول في اللحد)؛ لأنه الأقرب إلى الله عَزَّ وَجَلّ.
وأذكر مثالاً: ففي مرة من المرات كنت أريد أن أقطع الشارع لأدخل المسجد لكي أصلي بالناس، وهناك شخص واقف بجواري، فمر شخص في سيارة ولكنه من أهل القرآن ومن أهل الدين إن شاء الله، لديه لحية، فكان مسرعاً يريد أن يدرك الإشارة، فالذي بجواري قال لي: انظر إلى لحيته، فكررها، قلت: ماذا بك؟ قال: انظر إلى لحيته وكيف يسرع؟ قلت: الذي أسرع لحيته أم رجله؟ قال: رجله! قلت: ما ذنب لحيته تحمّلها أثر السرعة، فلحيته لم تنزل تضغط البنزين، رجله هي التي سببت السرعة للسيارة، فقال لي: يا شيخ! هذا (مطوع) الأصل أنه لا يسرع، فقلت له: صدقت! لأن خلق الشاب الملتزم يجب أن يكون معتدلاً حتى في السير، إذا جئت وأردت أن تسير في طريق وهناك شخص يريد أن يقطع الشارع ووقفت له وأشرت إليه بأن يمشي، ونظر إلى وجهك ورأى أثر السنة فيقول: هذا (المطوع) جزاه الله خيراً، انظروا كيف الدين يعلمهم الأخلاق، الدين يعلمهم حتى الأخلاق في السير.
أما إذا شاغلته وزاحمته فيقول: انظروا إلى هذا (المطوع) المعقد، فيصب لعناته على الملتزمين وأنهم معقدون، ورغم أنه قد يكون أمامك أناس زاحموه قبلك ولكن لم يسخط عليهم كما يسخط عليك؛ لأنه ينتظر منك أن تكون صاحب خلق.
كذلك في البيع والشراء: فبعض الناس إذا جاء يبيع ويشتري، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذ اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذ اقتضى).
هذه دعوة من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى من يتعامل مع الناس أن يكون سمحاً إذا باع، لا تكون شديداً وإذا اشتريت أيضاً لا تبخس صاحب المحل، يقول لك: السلعة بعشرة تقول له: بريالين. فهذه ليست سماحة في البيع والشراء، إذا فعلت هذا الفعل وأنت شاب ملتزم وملتحٍ فمباشرة هذا الرجل يكره الدين ويقول: لا تبايع (مطوعاً) فتراه يخرج روحك، بينما قد يكون هناك شخص ليس (مطوعاً) وقد بايعه وأخرج روحه فلم يعب عليه، لكن صاحب القرآن عاب عليه لأنه يعتبره قدوة للآخرين.
فإذا أردت أن تشتري فلا تزعج الآخرين، وإذا رأيت السلعة ورغبت بها فخذها وإلا فقل له: بارك الله لك ثم اذهب إلى غيره.
ولذا فاجعل من نفسك قدوة للآخرين، وكن سمحاً إذا اشتريت، وسمحاً إذا بعت، وسمحاً إذا اقتضيت شخصاً لك مال عنده فأردت أن تأخذه منه فلا تضيق عليه في أحرج الظروف، ولا في الفرص الصعبة، فهكذا ينبغي لحامل القرآن أن يكون سمحاً، وأن يتحلى بأحسن الصفات وأكرم الشمائل وأكمل الأحوال؛ ليكون قرآناً يمشي على رجلين، يدعو إلى الله عَزَّ وَجَلّ.
فلا يصلح لك أن تذهب إلى أماكن الرذيلة؛ لأن في جوفك قرآناً كريماً فلا تهينه، يقول أحد الشباب: هداني الله واهتديت، ودرست القرآن والتزمت وأصبحت في أحسن حالٍ، وفي يومٍ من الأيام وأنا خارج من صلاة العشاء وذاهب إلى البيت سمعت زيراً يطرق وزلفة تنقع -في زواج- يقول: وأنا لي مدة مع الزلفة والزير قبل التزامي، فكنت أذهب إليها ولو كانت على بعد عشرات الكيلوهات، قال: فلما سمعتها استغل الشيطان هذا السماع فدخل في قلبي وفي أذني وفي جوارحي، فأخذت ألعب وأنا في مكاني قبل أن يأتي اللعب، ونسيت أنني قد اهتديت والتزمت، فما وجدت نفسي إلا وأنا أفرّق الصفوف لأدخل.
فأخذت ألعب وأرقص بلحيتي بعد أن خرجت من المسجد، فبعد أن وقفنا لكي نسمع أنشودة جديدة وإذا بشخص يقبص ظهري، فقال: يا فلان! قلت: نعم. فأخذني إلى خلف الملاعب وقال: يا فلان! إنك قبل وقت قصير كنت تقرأ علينا في المسجد والآن تلعب، انظر شمالاً ويميناً من الذي بجوارك! إنهم السفلة من الناس، فقد كنت في المسجد تقول: قال الله وقال رسوله والآن تلعب؟!! فهذا العمل لا يصلح، إما أن تلعب وتترك الدين لأهله، وإما أن تتمسك بالدين وتسير مع أهله، فوقع كلامه مثل الرصاص في قلبي، فقلت له: صدقت! والله لن ألعب.
يقول: فخرجت إلى البيت وجلست طوال الليل لم يأتِ إليَّ النوم من خوف الله عَزَّ وَجَلّ والبكاء، وأنا أصلي وأبكي وأطلب من الله المغفرة.
لا يليق أن تذهب بالقرآن إلى أماكن الرذيلة؛ لأنك تهين الذي في قلبك، فعليك أن تكرم القرآن، ونعمة والله يا أخي! أن أنعم الله عليك بالقرآن الذي يحول بينك وبين المعاصي؛ لأنه سور حاجز بينك وبين المعاصي، فإذا أعانك شخص على أن تمتنع من المعاصي فهذا خير عظيم.
وإذا كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو سيد الأولين والآخرين، كان جلساؤه هم الضعفاء والبسطاء والمساكين والمماليك ( صهيب الرومي - وبلال الحبشي ، وسلمان الفارسي ، وابن أم مكتوم الأعمى ) ولما جاء في يوم من الأيام وأراد أن يجمع المشركين للجلوس معهم قالوا له: لا نجلس مع العبيد والضعفاء والفقراء، نحن أعزاء وصناديد قريش، فاجعل لنا يوماً ولهم يوماً، فأراد أن يفعل هذا، فقال الله له: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف:28] أي: لا تجلس مع هؤلاء، ولما دخل عليه الأعمى ابن أم مكتوم ، عبد الله بن قيس رضي الله عنه، وهو يريد أن يتعلم من الدين، وكان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً في مجلسه مع بعض صناديد قريش طمعاً في هدايتهم، والرجل ينادي ويقول: يا رسول الله! علمني مما علمك الله، ولم يعرف بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً، ولو أنه عرف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً ما تكلم، فكره منه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف؛ لأنه جاء في وقت غير مناسب وهو مشغول مع هؤلاء، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطمع أن يجري معهم صفقة الإيمان، حتى إذا أسلموا أسلمت مكة بأسرها، فإنه لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشغولاً بصفقة دنيوية أو بصفقة معاملات، وإنما كان مشغولاً بالدين، ولكن قطّب وعبس ولم يتكلم، أي: كشر فقط، فنزل القرآن من السماء يخطّىء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعاتبه ويقول: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1] عبس أي: قطب جبينه، لماذا؟ أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:2-3].. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى [عبس:5] فالذي استغنى بماله وسلطته وجاهه من هؤلاء الكفار فأنت له تصدى: وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس:7] أي: وما يضرك سواء أسلم أم لم يسلم، الجنة عندنا لأهل الإيمان، والنار لأهل الكفر والنفاق، لا تحرص على هداهم: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ [النحل:37]... إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى [عبس:3-7] ما لك منه شيء، ثم: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى [عبس:8] أي: الأعمى وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:9-10].
ثم قال: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عبس:11] أي: هذا الموقف وهذا العمل الذي عملته يا محمد تذكرةٌ لك، وتذكرة للأمة من بعدك، أَن الناس لا يوزنون ولا يقاسون ولا يفاضل بينهم بموازين الأرض وإنما بموازين السماء: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] أحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أم مكتوم وعرف منزلته عند الله، فكان إذا دخل عليه وهو لمفرده يفرش له رداءه ويقول له: (أهلاً ومرحباً بمن عاتبني ربي فيه).
وهذا يبين لك أخلاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه ليس عنيداً، فلو كان شخصاً آخر لكان أخذها نقطة عليه ويقول: هذا الذي سبب لي المشاكل فينتقم منه، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يفرش له الفراش ويقول: (أهلاً بمن عاتبني ربي فيه) فعليك أن تكرم المؤمنين وألا تعز الفاجرين؛ لأنك من أهل القرآن.
وأيضاً ينبغي لحامل القرآن أن يكون مظهره مجللاً بالسكينة والوقار والخشوع، فقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: [يا معشر القراء! استبقوا الخيرات، ولا تكون عيالاً على الناس] لأن السكينة التي تظهر الإنسان بالضعف ليست من الدين، والتكبر والتعالي الذي يظهر للناس العظمة هذا أيضاً ليس من الدين، وإنما التواضع في غير ذلة: من سكينة وخشوع ووقار.. لأن الوقار جزء من سمات المؤمنين.
فإذا دخلت مجلساً ورأيت فيه رجلاً صامتاً والناس يخوضون فإنما يلقّن الحكمة، وسكوته إذا كان خوضهم في باطل، بل لا ينبغي أن يجلس ولا بد أن ينصرف، لكن إذا خاضوا في أمور مباحة من الدنيا، ليس فيها غيبة ولا نميمة وهو ساكت لضرورة تعرف من صمته ووقاره وخشوعه أنه يلقّن الحكمة؛ لأنه من أهل القرآن.
وعن الحسن رضي الله عنه قال: [إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسالةً إليهم من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل ويعملون بها في النهار] لقد كان السلف يرون القرآن تعاليم ربانية ورسائل إلاهية إليهم، فهم يتدبرونها ويراجعونها ويعرفون أحكامها في الليل، وفي النهار يطبقونها في الواقع العملي، هذا هو شأن أهل القرآن.
وقال الفضيل بن عياض : [لا ينبغي لحامل القرآن أن يحتاج إلى أحد غير الله].
وكان الفضيل بن عياض رضي الله عنه في ليلة من الليالي في بيته، فخرج هارون الرشيد وقال لـيحيى البرمكي وزيره: اذهب بي إلى عالم من أهل العلم يلين قلبي، فدخل به إلى عالم من العلماء فوعظه وأعطاه مالاً وأخذه ومشى، ثم ذهب إلى آخر فوعظه فأعطاه، ثم أتيا الفضيل فسلما عليه، فرأى يد أمير المؤمنين رطبة، فقال الفضيل : ما أرطب هذه اليد إذا نجت من النار يوم القيامة ثم قال له: عظني فوعظه حتى بكى الخليفة، فقال وزيره: أشفق على أمير المؤمنين، فقال الفضيل : أتقتلونه وأنا أشفق عليه؟! فقال الخليفة: اسكت يا يحيى فسكت! فوعظه ثم وعظه حتى أنه كاد يموت من البكاء، يقول: ثم أعطاه عشرة آلاف درهم فردها إليه وقال: ندله على النجاة، ويدلنا على النار، فتهلل وجه الخليفة من الفضيل وانصرف وهو يثني عليه.
يقول الفضيل بن عياض : لا ينبغي لحامل القرآن أن يكون له حاجة إلى أحدٍ غير الله.
يقول الشاعر:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب |
لا تسألن بُني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تغلق |
اسأل ربك في كل شيء، والله عز وجل ينزّل عليك كل شيء، وخذ بالأسباب والدعاء، وإذا أردت أن تنجح ادع الله وذاكر.. وهكذا، إذا أردت أن تتوظف اطلب الله في الليل، ولكن في الصباح اذهب وتقدم إلى ديوان الخدمة المدنية، أو على أي مؤسسة حكومية، وإذا أردت زوجة اطلب الله واذهب وابحث واخطب، خذ بالأسباب ولا تجلس وتعطل الأسباب وتقول: إني أدعو الله.
وهنا مثال: يذكر أن رجلاً مسكيناً ضاقت عليه سبل الرزق، فكان يذهب كل يوم يبحث عن رزق فلا يجد شيئاً، ولكن الله لا يضيعه فيرسل إليه الرزق، وفي يوم من الأيام لقيه أحد التجار الأثرياء فقال له: أين تعمل؟ قال: ليس عندي عمل، فقال له: من أين تأكل؟ قال له: أبحث عن الرزق فلم أجده، ولكن الله لم يتركني فيرسل إلي رزقاً من عنده! قال له: من أين يأتيك؟ هل ينزل إليك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل؟ قال: الله عَزَّ وَجَلَ على كل شيء قدير، فسخر منه وتوعده وتركه، وبعد يومين عاد إليه التاجر، وقال له: عندي لك شغل، فقال له: نعم، فأدخله التاجر إلى مزرعته وفي المزرعة بئر ليس فيها ماء، وقال له: لقد ضاعت عليَّ صرة في هذه البئر فيها نقود، فلم أستطع إخراجها فأريد أن تنزل في هذه البئر وتأخذ الصرة وتأخذ منها أجرتك، فوافق الرجل.
فأخذ التاجر الحبل وربطه فيه وأنزله إلى البئر، فعندما وصل إلى البئر رمى التاجر بالحبل، وقال له: اجلس مكانك حتى يأتيك من السماء كيس فيه بر وسمن وعسل -من باب النكاية والاستهزاء به- فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذهب التاجر وعاد إلى دكانه، وكان هذا التاجر شديد البخل، وعنده مخازن من الطعام، والمفتاح في جيبه يخرج طعام كل يوم في يومه، ويخرج لامرأته قليلاً من الطحين، وقليلاً من السمن، وقليلاً من اللحم، فكانت المرأة إذا أعطاها شيئاً ادخرت منه شيئاً يسيراً للأيام الطارئة إذا نزل عليهم ضيف، أو يكون غير موجود، فكانت خلال مجموعة من الأيام قد وفّرت كميةً من الدقيق والعسل والسمن، وفي ذلك اليوم الذي جاء التاجر بالعامل وأدخله في البئر تذكرت هي وخادمتها أنها جائعة، فصنعت البر والسمن والعسل، ولكن التاجر طرق الباب والطعام جاهز وهن يأكلن، وإذ بالتاجر يدخل البيت يريد غرضاً، فقالت المرأة: إذا دخل ورأى الأكل فسيذبحنا واحدة تلو الأخرى، فسيقول: من أين سرقتموه؟ فقالت الخادمة: أين نذهب به؟ فقالت المرأة: ضعيه في كيس واربطيه بحبل وأنزليه في البئر إلى أن يخرج فنأتي به ونأكله، قالت الخادمة: نعم. فأتت بكيس ووضعت فيه السمن والبر والعسل، وربطته بحبل وأنزلته إلى البئر وإذا بالرجل جالساً يذكر الله، فلم يشعر إلا والكيس على رأسه، فنظر إليه وإذا بالكيس فيه السمن والعسل والبر، ثم أخذه فأكله وجلس يذكر الله إلى المغرب، فأتى التاجر قبل غروب الشمس وقال للرجل في البئر: هل أتاك البر والسمن والعسل، قال: نعم والله، أتاني كيس فيه بر وسمن وعسل.
فأنزل له حبلاً وقال له: اربط نفسك واصعد؛ فربط نفسه وصعد، وقال الرجل وعليه أثر السمن: الحمد الله لقد شبعت، فقال التاجر: هذا أمر عجيب!! ثم ذهب التاجر إلى زوجته فقال لها: من الذي ترك السمن والبر والعسل في البئر؟ فقالت المرأة: لا تذبحنا نحن نقر لك بالخبر، أنت كلما أعطيتنا طعام يوم أبقينا منه شيئاً حتى إذا أتى إلينا ضيف أو حصل أمر طارئ جمعناه وإذا بنا نأكل منه، فبينما نحن نأكل أتيت علينا فتركناه في البئر وإذا بالجن قد أكلوه، فعلم الرجل وقال: آمنت بالله.
إن التوكل والاعتماد على الله عظيم، ولكن مع الأخذ بالأسباب، فلا تأخذوا كلامي هذا وتجلسوا في البيوت وتقولون: إن كل واحد منا يأتيه بر وسمن وعسل، وإنما خذوا بالأسباب والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
فالرجل كان يمشي ويعرض نفسه على الناس، لهذا لما عرض عليه التاجر العمل لم يتردد، ولم يقل: إنه سيأتيني كيس، وإنما قال: أذهب وأشتغل.
أما إذا لم تعمل هذا العمل فإنه يصعب عليك، ويمكن ألا تختم القرآن في السنة ولو حتى مرة.
وكان بعضهم يختم في كل عشر ليالٍ ختمة، وبعضهم وهو الأكثر من السلف كان يختم في كل أسبوع مرة، وكان بعضهم يختم في كل ثلاثة أيام، ولا أقل من ذلك، فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يفقه من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث) وقد وردت بعض الآثار أن عثمان رضي الله عنه كان يختم في كل يوم مرة، وكذلك الشافعي أثر عنه أنه ختم في رمضان ستين مرة -ختمة في الليل وختمة في النهار-؛ لأن ألسنتهم أصبحت مثل الآليات على القراءة، مارسوا فيها قراءة القرآن ممارسة عظيمة جداً، فلا يجدون تعباً في القراءة.
ويستطيع الشخص منهم أن يقرأ القرآن في عشر ساعات أو في إحدى عشرة ساعة، وقد جربت أنا هذا، فعندما كنت في مسجد النمصا استطعت أن أختمه في أقل من ثلاث عشرة ساعة يتخللها الصلوات، لكن لو أن شخصاً جلس لا ينصرف أبداً عن القرآن، فإنه يستطيع أن يختم في عشر ساعات أو في ثمان ساعات؛ لأنه يقرأ الجزء في ربع ساعة أو الثلاثة أجزاء في ساعة واحدة.
ينبغي لكل شخص أن يكون له ورد من صلاة الليل، يقرأ فيه القرآن سواء نظراً أو غيباً؛ لأن الله أثنى على من يقرأ القرآن في قيام الليل، فقال: ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113]* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:114] إذ أن قراءة القرآن في الليل أجمع للقلب، خصوصاً إذا كان بصوتٍ نديٍ طري، وهو أبعد عن الشواغل والملهيات؛ لأن الناس في سكون ولا يوجد أحد يشغله، وهو أصون عن الرياء، فتدخل غرفتك وتضيء المصباح إضاءة خفيفة، وتأخذ مصحفك ثم تصلي لله كما تشاء، ركعتين أو أربع أو ست أو ثمان أو عشر، إلى قريب الفجر، ثم توتر قبل أن يؤذن لصلاة الفجر.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قام بعشر آيات -أي: من صلى الليل بعشر آيات خمس آيات في ركعة وخمس أخرى في ركعة- لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتبه الله من القانتين، ومن قام بألف آية كتبه الله من المقنطرين) الذين يأتون يوم القيامة بقناطير، وهذا الحديث رواه أبو داود وغيره.
فعليك أن تجعل هذا الحديث نصب عينيك، فلا تفوت الفرصة، ولا تجعل الليل يذهب بدون قيام مهما كانت أشغالك، ومهما كانت التزاماتك، فليس لديك عذر أبداً. فصل حتى ولو ركعتين، نعم. قد تجد صعوبة في بداية الأمر ولكن هذه الصعوبة تتذلل إذا علم الله منك صدق اللجوء وقوة اليقين، بل ويعينك ويوقظك قبل الموعد بدقائق، بإذن الله، وهذا شيء مجرب.
وعليك إذا كنت متزوجاً أن تنبه زوجتك أن تكون لك عوناً على هذا الأمر، ولا بد أن توقظك لقيام الليل وأن تقوم معك، وعليك أن تبين لها هذه الأحاديث والأدلة على فضله، وليس شرطاً أن تقوم كثيراً، لا. وإنما تقوم بثمان طويلات أو أربع، وأقل شيء ركعتين ولو كانت خفيفتين.
فالبعير إذا رأيته معقلاً هل يرغب بالعقال أم يريد أن ينفك منه؟
الجواب: لا يمكن أن يرضى إلا أن يفك القيد وينطلق.
فكذلك القرآن في قلب من يحفظه أشد تفلتاً من الإبل من عقلها، ولكن عليك أن تلتزم به وبتلاوته المستمرة وبتدبره، أما إذا لم تعمل به أو لم تقرأه أو تتلوه فإنه يذهب ولا يبقى معك منه حرف واحد والعياذ بالله.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: [إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة إن عاهد عليها رباطها وعقالها أمسكها وإن أهملها أطلقت نفسها وذهبت].
فالقرآن إن تعاهدته فإنك تحتفظ به، وإن تركته فإنه ينفلت منك.
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: [من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله عَزَّ وَجَلّ يوم القيامة وهو أجذم] والحديثان كلاهما في الترمذي وفيهما مقال، ولكن كما يقول أهل العلم: لهما شواهد، أي: بعضها يعضد بعضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر فيها ذنباً أعظم من رجل أوتي شيئاً من القرآن ثم نسيه) فحاول يا أخي المسلم! يا من وفقت للقرآن أَلا تنسى كلام الله؛ لأن نسيانك له يدل على الحرمان والخيبة -والعياذ بالله- وعلى سوء المنقلب والمصير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: جزاك الله خيراً، مادامت جدتك لم تحج وأمك لم تحج عنها، وقد نويت أن تحج عنها، وأنت ترغب في أن تقوم بهذا الأجر العظيم، فبارك الله فيك، وفي هذه السنة حج عن جدتك، ولك مثل أجرها دون أن ينقص من أجرها شيء، وتسقط الفريضة عن جدتك، وإن لم تكن قادراً على الحج، فإنه بإمكانك أن تبحث عمن يحج مقابل مبلغ تعطيه له، ولكن اختر من طلبة العلم المخلصين الذين يعرفون كيف يؤدون هذه الشعيرة ولا يتاجرون بها؛ لأن من الناس من يأخذها تجارة، لم يحج لنفسه وقد حج لغيره ستين حجة، وكل سنة يأخذ ألفين ريال أو ثلاثة ألف ريال، فيصبح تاجراً للحجج.
أما من حج حجة الإسلام وكان محتاجاً إلى أن يحج، وأدى هذه الأمانة على خير وجه، وقام بها على أفضل أداء، فإن له أجراً إن شاء الله، وله أيضاً أجرة إن شاء الله.
الجواب: أولاً: واصل دراستك في الجامعة بارك الله فيك؛ لأنك لا تستطيع أن تنفصل عن عمك في إمكانياتك الذاتية، فواصل دراستك.
ثانياً: مسألة زواجك من ماله فإن كان ماله الذي يدخل عليه من طريق حلال فلا مانع من أن تقبل ذلك وتستفيد من زواجك إن شاء الله بهذا المال وتحصن فرجك، أما إذا كان ماله يجمعه من الحرام فلا يجوز أن تأخذ منه.
ثالثاً: عيشك معه في البيت: فما دمت محتاجاً فلا مانع أن تبقى معه في البيت، وإثمه على نفسه، لكن إذا كنت قد تخرجت من الجامعة وأصبحت مستقلاً فينبغي عليك أن تفارقه وتنصحه وتهديه إلى الله، فإن استجاب وإلا فتحول أمرك إلى الله.
رابعاً: أما العيش في البيت، وزوجته التي تكشف عليك والبيت ضيق، فأنت لا تستطيع أن تلزمها أن تتغطى، ولكن تستطيع أن تلزم نفسك بأن تغض بصرك، ولا تنظر إليها إلا نادراً بقدر الضرورة، ولا تحملق ببصرك فيها، غض بصرك حتى إذا كلمتك تكلمها وأنت غاض لبصرك، وإذا قالت: ما لك غاض لبصرك؟ قل لها: لأن الله أمرني بغض بصري، وأمركِ بالحجاب، لكنك ما تحجبتِ، أنا أغض بصري، لأن لي أمراً على عيوني.
الجواب: المخطوبة على نوعين: إما خطيبة قد عٌقد بها، فهذه خطيبة يجوز لك أن تفعل معها كل شيء؛ لأنها زوجتك فتجلس معها وتختلي بها.
وأما مخطوبة تنوي أن تتزوج بها، ولكن إلى الآن لم تصبح زوجة لك فهذه يحرم عليك حرمةً قاطعة أن تحدثها، أو تجلس معها، أو تختلي بها، أو تهدي لها، أو تصنع معها أي شيء، إلا شيئاً واحداً وهو: الرؤية المجردة من الفتنة بحضور وليها.
فيجوز لك أن تدخل عليها في مجلس وأبوها موجود، أو وليها أو أمها، وتنظر إليها مقبلةً ومدبرةً ثم تنصرف، أما أن تصنع كل شيء على أساس أنك سوف تتزوج بها بعد سنين فهذا لا يجوز.
الجواب: أولاً: كونك تحزن من هموم الدنيا فهذا شيء طبيعي في البشر، هكذا ركب الله الفرح في البشر من أجل الدنيا، والحزن من أجل الدنيا، ولكن ينبغي أن توطن نفسك بأن يكون الحزن والهم كله للآخرة؛ لأن من جعل الهم هماً واحداً وقاه الله شر كل هم، ومن تشعبت به الهموم لم يبالِ الله فيه بأي وادٍ هلك، فلا تجعل همك الوظيفة، ولا تجعل همك الزوجة، اجعل همك الأول والأخير كيف يكون الله راضٍ عنك؟ كيف تنجو من عذاب الله؟ كيف تدخل الجنة؟ كيف تكون على أحسن وضع يرضاه الله عَزَّ وَجَلّ لك؟ فإذا جعلت هذا همك، يسر الله لك كل شيء؛ لأنه من يتق الله يجعل له مخرجاً، وإذا جاءك بكاء في ليلة من الليالي وأنت تسمع القرآن وكان هذا من أجل خشية الله، كان ذلك من أعظم المنازل، أما إذا كان البكاء من أجل الدنيا والحزن عليها، فعليك أن تعوَّد نفسك على أَلاَّ تحزن إلا من أجل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
الجواب: ليس في شهر رجب عن غيره من سائر الشهور فضيلة في صيامٍ أو قيام أو صدقةٍ، وما ورد فيه من أحاديث فيه تدور بين الضعف والوضع، هكذا يفتي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، أنه لم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصص رجب بأي شيء من العبادات، وإنما هو شهر من الشهور، وأما ما يخصصه الناس من ليلة سبع وعشرين أنها ليلة الإسراء والمعراج فيحيون ليلها بالقيام، ويتصدقون فيها، ويصنعون هذه الاحتفالات فهذا من البدع، وهذا لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه أسري به وأخبر الصحابة، ولو أن هذا الأمر مشروع لاحتفل به هو؛ لأنه صاحب العلاقة الأولى، ولو كان هذا الأمر مشروعاً لاحتفل به أصحابه أو سلف هذه الأمة، فلما لم ينقل أنه فعله ولم يفعله أصحابه ولا سلف هذه الأمة دل هذا على أن هذا الأمر مبتدع، وما لم يكن في ذلك الزمان بدين فليس في هذا الزمان بدين، بل إن علينا أن نتبع ولا نبتدع.
والله يقول: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] هذا رغم أن المؤرخين اختلفوا في كون ليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين أو في غيرها، ولكن على فرض صحة كونها في ليلة سبع وعشرين فإنه لا يجوز أن نعمل بأي عمل إلا بأمرٍ من الله، أو من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الجواب: الطبيب في المستشفى أحد طبيبين: إما طبيب يمارس العلاج العادي للمرضى الذين يقفون أمامه، والذين لا يترتب على تأخير علاجهم مفسدة، فهذا المفروض في حقه أنه إذا سمع المؤذن أن يضع قلمه وسماعته ويذهب إلى وضوئه ومسجده ثم يعود ويعالج، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة متذرعاً على أنه يعالج، فإن هذا الطبيب الذي يعالج وهو يؤخر الصلاة ليس في علاجه بركة، أما الطبيب الذي يصلي يجعل الله في علاجه بركة بإذن الله عَزَّ وَجَلّ.
الطبيب الثاني: هو الذي تدركه الصلاة وهو في عمل جراحي خطير لو تركه وذهب يصلي مات الإنسان، مثل الطبيب الجراح إذا دخل غرفة العمليات -مثلاً الساعة التاسعة صباحاً- وكان من المتوقع أن ينتهي من العملية الساعة الثانية عشرة ويصلي الظهر، لكن طالت العملية ولم ينته إلا الساعة الواحدة ظهراً وأذن المؤذن فلا يجوز له أن يترك هذا المريض يموت ويذهب ليصلي؛ لأنه يترتب على ذلك ضرر ومفسدة، فذهابه ضرر لهذا المسلم، فعليه أن ينهي عمله ويكمل عمليته ثم يذهب ليصلي وله أجر الجماعة بإذن الله عز وجل؛ لأن الذي منعه مصلحة المسلمين وحرصه على حياة هذا المسكين.
أما يوم الجمعة: فإنه إذا كان هذا الطبيب مطلوب منه المناوبة ولا يوجد في المستشفى خطبة جمعة، فإنه يجوز له أن يصلي ظهراً شأنه بذلك شأن الجندي المرابط على الحدود، أو الجندي المطلوب منه حراسة على إدارة، أو الموظف المطلوب منه المداومة أو المرابطة في عمل، فلا يجوز له أن يترك هذا الموقع ويذهب ليصلي بل يصليها ظهراً.
الجواب: الذي يصلي جميع الفروض في البيت ولا يصلي في المسجد هذا والعياذ بالله على خطرٍ عظيم، وقد قال بعض أهل العلم بأن صلاته غير صحيحة، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد ذكر في الاختيارات الفقهية أن صلاة الجماعة شرطٌ في صحة الصلاة، ووضح الأحاديث التي في الصحيحين أن صلاة الرجل مع الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبعٍ وعشرين درجة، فقال بعض أهل العلم: ما دام أن صلاة الإنسان في بيته بدرجة فإنها مقبولة، قال: لا. إن المفاضلة هنا بسبعة وعشرين درجة، ودرجة لمن صلى في البيت لعذر، صلى في البيت لإنه كان نائماً، أو صلى في البيت لأنه كان مريضاً، أو صلى في البيت لأنه كان خائفاً، فهذا له درجة، أما من صلى في المسجد فله سبعة وعشرون درجة، وليس هناك مجال للمفاضلة بين ما هو واجب وبين ما هو محرم؛ لأن علماء الأصول يقولون: المفاضلة بين الأمور المستوية بالحكم، أو تفاضل في الواجبات، أو تفاضل في المستحبات، تفاضل في المسنونات، أما تفاضل بين واجب ومحرم فلا.
فالواجب هو إتيان الصلاة في المسجد، والمحرم هو إتيان الصلاة في البيت، فلا يمكن أن نقول: إن صاحب المحرّم له درجة، وصاحب الواجب له سبعة وعشرون درجة، فالذي لا يصلي جميع الفروض في المسجد فهذا عطل سنة الله، والحديث في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
والله عَزَّ وَجَلّ يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] أي: مع المصلين، ويقول عَزَّ وَجَلّ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور:36]* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37]* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:38] ويقول الله عَزَّ وَجَلَ حكايةً عن أهل النار حينما يسألهم أهل الجنة: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]* قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:43].
يقول المفسرون: يمكن أنهم كانوا يصلون ولكن لم يكونوا مع المصلين، فلا ينبغي لمسلم يخاف الله أَلا يصلي الفريضة إلا في المسجد، وإلا لماذا بنيت المساجد؟
وحديث الأعمى في الصحيحين : (قال: يا رسول الله! إني رجل أعمى شاسع الدار -أي: بعيد- ليس لي قائد يقودني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، فهل أجد رخصة أصلي في بيتي، قال: أتسمع النداء قال: نعم. قال: أجب، فلا أجد لك رخصة) من يقوده؟ ومن يمنعه؟
فكيف تصلي في بيتك والمساجد تحيط بك من كل جانب، وتسمع النداء يخرق أذنك من كل مأذنة والشوارع مزفلتة ومضاءة كأنك تخرج في النهار ولست بأعمى، وأنت شابع في بطنك، آمن في وطنك، معافى في جسدك، تقوم من غرفتك إلى حمامك.. الماء حار.. تغسل في إناء نظيف.. تلبس من أحسن الملابس.. تخرج إلى المسجد.. فهل لك عذر أن تصلي في البيت؟ إذا كان الله لم يعذر هذا الأعمى ولا رسوله فكيف يعذرك إلا النفاق؟ أما المنافق: فلا يريد الصلاة في المسجد ولكنهم جنوا على أنفسهم يوم القيامة، سوف يندم ندامة لا يمكن أن يخرج منها والعياذ بالله.
هذا وأسأل الله لي ولكم التوفيق في الدنيا والآخرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر