وبعد:
أيها الأحبة في الله: هذا الدرس بعنوان: (تأملات قرآنية) ويأتي ضمن سلسلة الدروس التي هي بهذا العنوان، وتلقى بشكل دوري، مرة في كل شهر، ونتناول فيها بعض المفاهيم والنظرات والوقفات التي تهدي إليها وتدل عليها بعض آيات سورة الأنعام.
والآيات التي سوف نتأملها هذه الليلة هي في سعة رحمة الله عزَّ وجلَّ، وقد جاءت في بيان الله عزَّ وجلَّ أنه كتب على نفسه الرحمة، وجاءت هذه الآية في أعقاب الحديث عن التكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، وما ختم الله عزَّ وجلَّ به من التهديد المخيف، ومن الوعيد الشديد لأولئك المكذبين والمعرضين، والذين يعدلون بالله عزَّ وجلَّ غيره من آلهتهم المزعومة، ثم ما جاء به من لفت الأنظار، وتوجيه القلوب إلى الاعتبار بمصارع المكذبين من الأمم الغابرة، وأن مصير من يكذب لن يختلف عن مصير أولئك المكذبين.
كما أنها تأتي -هذه الآيات- بعد الحديث الذي عرض حقيقة الألوهية في المجال الكوني والمجال الإنساني، وفي كل مجالات الحياة؛ عرضت حقيقة الألوهية في مجال خلق السماوات والأرض، فافتتح الله عزَّ وجلَّ السورة بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1].
ثم لفت النظر من خلال خلق الإنسان من طين: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2].
ثم إحـاطة علم الله عزَّ وجلَّ بسر وجهر الناس، وبما يكسبونه: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3].
تأتي هذه الآيات بسؤال يوجهه الله عزَّ وجلَّ إلى الناس، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، فيقول ربنا عزَّ وجلَّ للرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12] ثم يأمره الله بالجواب، فيقول: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] فإنه المالك، ولا يستطيع أحد أن يقول أو يتطاول أو يزعم أن له ما في السماوات وما في الأرض إلا الله، قد يزعم أو يتطاول بعض الناس فيدعي أن له شيئاً مما في السماوات والأرض، فقد تقول أنت: هذه أرضي ومزرعتي وعمارتي وشقتي؛ هذه جزئية لك، بقدرك .. بحسبك، وقد يقول -مثلاً- أمير منطقة: هذه منطقتي، ويقول رئيس دولة: هذه بلادي .. مملكتي .. دولتي .. لكن من يجرؤ على أن يقول: الأرض كلها أرضي، والسماء كلها سمائي، وما بينهما وما تحت الثرى لي، وما فوق الأرض والسماء لي؟! من يستطيع إلا الله؟! فالله تعالى يقول: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:12-13].
وبدأت المواجهة بتقرير الربوبية من أجل جعلها لازماً للألوهية، فيقول عزَّ وجلَّ: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:12] التي لا يجادلون فيها، فيقول الله تعالى: قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] ولقد كان العرب -كما قلت لكم- في جاهليتهم أخف ضلالاً من جاهلية الناس في هذا الزمان، لماذا؟ تلك الجاهلية فيها ضلال وزيغ؛ ولكن الجاهلية الحديثة؛ جاهلية البعد عن الله في أبشع الصور، وهي درجة الإلحاد، هذه لا تؤمن بالحقائق، ولا تعرف حقيقة أن الله هو خالق الكون والحياة، والتي هي متعلقة بفطرة الإنسان وبتكوينه، وأن الله هو الذي خلق الإنسان وفطره على الإيمان به، يقول الله عزَّ وجلَّ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].
حتى الفطرة المركبة في الإنسان والتي هي أرضية لاستنبات هذا الدين، مُسخت هذه الفطرة وغُيِّرت، وجُعلت مضادة لما يمكن أن يكون صالحاً لإسعاد هذا الإنسان، إنهم كانوا يعرفون ويقرون أن لله ما في السماوات والأرض؛ ولكنهم ما كانوا يرتبون على هذه القضية نتائجها المنطقية من إفراد الله عزَّ وجلَّ بالعبودية والحاكمية في الأرض، وبهذا اعتُبروا من المشركين، وسُميت حياتهم بالحياة الجاهلية، فكيف -أيها الإخوة- بمن يخرجون على أمر الله كله، وعلى اختصاص الله كله، ويزاولون هذا بأنفسهم؟! بماذا يوصفون؟! وبماذا يمكن أن توصف به حياتهم؟! لا بد من إعطائهم صفة أخرى غير الشرك؛ إنها الكفر، والظلم، والفسق، كما قررها الله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] .. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].
فعينُـك هذه محكـومة بأمر الله، أي: أمَر الله فيها بحكم، وقال لك: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]، هذا حكم الله في عينك، هل أخضعت عينك لحكم الله؟! أم أن عينك متمردة على حكم الله؛ فهي تنظر إلى ما حرم الله؟!
وأذنك هذه مأمورة بأمر، فلا تسمع ما حرم الله، فهل حكَّمت فيها أمر الله فمنعتها من استماع الغناء وما حرم الله؟!
ولسانك هذا محكوم بأمر الله، فهل أخضعت هذا اللسان لشرع الله، وحكمته بشريعة الله؟! أم أنه محكوم بالهوى والشهوة والعادة والطبيعة؟!
وفرجُك، ويدُك، ورجلك، وبيتك، وزوجتك، وعملك، ومؤسستك، وحياتك كلها .. ما من جزئية من جزئياتك إلا وفيها أمر لله، هل حكمته بأمر الله؟! وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].
قال العلماء: كيف تعدد الحكم بين: (كافرون، ظالمون، فاسقون)؟! رغم أن المعصية واحدة.
قالوا: الناس أمام أمر الله ثلاثة أصناف:
الأول: صنف يواجهه أمر الله، فلا يؤمن به أصلاً، ويرفضه، ويتصور أن أمره أحسن من أمر الله، فهذا كافر.
الثاني: صنف يواجهه أمر الله وهو ظالم، وأمر الله يأمر بالعدل، فيرى أن أمر الله يرد ظلمه، فيرفضه ليستمر في ظلمه، فهو ظالم.
الثالث: صنف يواجهه أمر الله، ويعرف أن أمر الله حق؛ لكن أمر الله يحول بينه وبين ممارسة فسقه ومعاصيه، وهو إنسان يحب الشهوات، وإذا عرف أن أمر الله ينفذ عليه، فلا يريده من أجل الشهوة، فهذا فاسق.
والذي تتوفر فيه الثلاثة كلها؛ يرفض أمر الله؛ لأنه لا يريده أصلاً، ولا يرى أنه أفضل شيء، ثم هو ظالم، ثم هو فاسق، فتجتمع فيه الصفات كلها -والعياذ بالله-.
تقول: هذه سيارتي. تَرَكْتَها.
تقول: هذه زوجتي. تَرَكْتَها.
تقول: هذه إدارتي. فصلوك منها.
تقول: هذه رتبتي. نزعوها من على كتفك وتركوك.
تقول: هذه وزارتي. أحالوك.
تقول: هذه مملكتي. متَّ وأخرجوك.
إذاً: لمن الملك أصلاً؟! لله.
ولهذا يوم القيامة بعد أن يفني الله عزَّ وجلَّ الكون كله، ينادي تبارك وتعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16]؟! أين الجبابرة؟! أين القياصرة؟! أين الأكاسرة؟! فلا يجيبه أحد، فيجيب على نفسه تبارك وتعالى فيقول: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] لا شريك له فهو المالك.
ولـهذا لَـمْ تأت الآية بمزيد توضيح؛ إذ لا مجال للمراء والشك في هذه القضية، فهي قضية من المسلَّمات، قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12] لكن العبرة والعظة فيما جاء بعدها: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] سبحانه ما أعظمه! المالك الذي لا ينازَع في ملكه؛ ولكن منه فضلاً ورحمة ومِنَّةً كتب على نفسه الرحمة، مَن ألزمه بأن يكتبها؟! من طلب منه أن يكتبها؟! كتبها ابتداءً منه وفضلاً منه، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] كتبها بمشيئته وبإرادته، لم يوجبها عليه موجِب، ولم يقترحها عليه مقترح، ولم يقتضها منه مقتضٍ، ولم يطلبها منه طالب؛ ولكنها إرادته المطلقة، وربوبيته الكريمة.
فالرحمة قاعدة معاملته مع خلقه في الدنيا والآخرة، ولو أن الله يؤاخذ الناس بغير الرحمة ما ترك على ظهرها من دابة، ولأهلك الناس من زمن طويل، ولم يبق أحداً؛ لأن كل واحد يذنب في كل يوم ذنباً؛ لكن ما أعظم رحمة الله عزَّ وجلَّ! انظر إلى نفسك أنت كم تخطئ في اليوم الواحد؟! وكم تقترف من الذنوب والمعاصي؟! ففي هذا اليوم من الصباح إلى المغرب كم نظرت إلى النساء؟! هل سمعت منكراً؟! هل تكلمت في محذور؟! هل فكرت في حرام؟! هل صليت في المسجد؛ الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء؟! هل عملتَ خيراً؟! تصدقت؟! أصلحت؟! أمرت بمعروف، نهيت عن منكر؟! كل هذه الأسئلة يجب أن تدور في ذهنك .. وستجد في المقابل الثاني معاصٍ، فلو أخذك الله بالمعاصي لأهلكك اليوم، وأهلك أهل أمس، وما بقي أحد؛ ولكن القاعدة الأصلية في تعامل الله عزَّ وجلَّ مع خلقه، ويعاملهم به في الدنيا وفي الآخرة هي: رحمته فله الفضل والمنة، وله الشكر على هذه النعمة.
مثال: ولله المثل الأعلى؛ إذا وُجد مدير إدارة، ذو خلق كريم، وشهم .. يقدر الرجال، يؤدي العمل ويحترمه، ويحترم الأفراد العاملين معه، ويراعي ظروفهم، ويحقق مصالحهم، ويهيئ لهم كل فرص تحسين الوضع، وإذا وقع لأحد العاملين ظرفاً ساعده وفزع له ويعطيه إجازة، وإذا حصل عليه شيء يجمع له، المهم رجل شهم بمعنى الكلمة، كيف يتعامل الناس مع هذا المدير؟!
على رجلين:
الأول: موظف شهم فاضل؛ فيتعامل معه من هذا المنطلق، فتجده من أحسن الناس أداء، ودواماً، وإتقاناً؛ لماذا؟ لأنه يحترم المدير، يقول: هذا المدير رجل فاضل، نستحي والله أن نتأخر، أو أن نؤخر العمل عندنا، أو أننا نغلط معه، هذا رجلٌ أَكْرَمَنا وغطَّانا بفضله، كيف نتعامل معه؟! هذا هو منطق الأخلاق؛ أن تتعامل مع المدير بمثل ما يتعامل معك به.
الثاني: موظف سافل لا خير فيه، ولا خُلُق، استغلَّ طيبة المدير وخلقه وكرامته وشهامته؛ فضيَّع العمل .. ما رأيكم في هذا الإنسان؟! بماذا سيتعامل معه المدير؟! هل بنفس الأسلوب أم يغيره له، ويقلب له ظهر المجن، تجد المدير هذا الذي هو أحسن واحد، يصير أشرس واحد، لماذا؟ يقول: هذا لا يستحق التعامل الحسن.
ولله المثل الأعلى! إن سعة رحـمة الله يجب أن لا تطمعنا في معصيته، وتجرِّئنا على مخالفة أمره، وهذا مذهب المرجئة ، يقول فيهم زيد بن علي : " إني أبرأ إلى الله من المرجئة ؛ فإنهم أطمع الفسَّاق في رحمة الله، وأجرؤهم على معصية الله."
ولكن هناك توازن في التعامل مع الله، فتطمع في رحمته وتشفق من عقوبته، فتحملك معرفتك برحمته على الرجاء، وتحملك معرفتك بعقوبته وشدة بأسه على الخوف، فتعيش متوازناً بين الخوف والرجاء، هذه هي مسألة المؤمن؛ فالمؤمن يعيش بين الخوف والرجاء إلى أن يموت، وفي ساعات الموت ماذا يفعل؟ يدع الخوف ويُغَلِّب الرجاء، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك مجال للعمل؛ أي: لم يعد معك إلا ما تحسن به الظن، ويضرب العلماء في هذا مثالاً: الطالب وهو يذاكر أثناء العام الدراسي يعمل بين الخوف والرجاء، الخوف من نتائج الامتحان والأسئلة التي سوف يضعها الأستاذ، والرجاء لأنه والحمد لله مذاكر وذكي وفاهم للمادة، وأيضاً الأستاذ يعرف كيف يصحح الأسئلة والإجابات الصحيحة، هذا خوف ورجاء؛ لكن إذا دخل الصالة، ماذا يُغَلِّب؟! ووقع الورقة وكتبها وخرج إلى الخارج وقرأ الأسئلة وقارنها لم يعد عنده خوف، بل يصير عنده رجاء؛ رجاء في عطف الأستاذ ورحمته، ورجاء في اللجنة التي يسمونها لجنة الشفقة -لجنة الرحمة- التي تنظر في الأوراق إذا بقيت نصف علامة أو علامة ونصف فتضيفها.
وأنت كذلك يجب عليك في هذه الحياة أن تعيش متوازناً بين الرجاء والخوف؛ ولكن تغلِّب في الدنيا جانب الخوف لكي تنحجز عن المعاصي وتمشي في الطاعات، فإذا كنت مودعاً للدنيا إلى الآخرة تغلب جانب الرجاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموت أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)، وإحسان الظن كما يقول ابن القيم : يقتضي إحسان العمل، فمن أحسن الظن بالله أحسن العمل في التعامل مع الله عزَّ وجلَّ.
الأولى: المريء، وهي قصبة من الفم إلى فم المعدة، وهذه القصبة فيها عضلة، فإذا دخلت اللقمة تضرب العضلة فيها، وتعصرها حتى تنزلها إلى تحت، وبعد ذلك تنطبق ولا تسمح بخروج شيء، ولهذا ترى الواحد إذا انتكس على رأسه يمارس الرياضة، لا ينزل الذي في بطنه؛ لأنها تُقْفَل؛ لكن من هنا مفتوحة، أي شيء ينزل ولا يصعد.
الثانية: بجانبها قصبة ثانية، اسمها: البلعوم، وهذه قصبة غضروفية مفتوحة باستمرار، وتوصل إلى الرئة.
وبين القصبتين -بين المريء وبين البلعوم- جندي واقف يسمح بمرور الطعام والهواء بالتناوب، تسمى عندنا في الجنوب: (الطُّرَّاعة)، وتُسمى في بعض الأماكن: (اللهاة)، واسمها في العلم: (لسان المزمار)، وهي لحمة موجودة، إذا تكلم الواحد سدت الفتحة الخاصة بالطعام؛ لأنه يتكلم بالهواء؛ وإذا أراد أن يأكل سدت الفتحة الخاصة بالهواء، فإذا تكلم وهو يأكل ماذا يصير؟ يصدر أمراً إلى هذه اللحمة أن افتحي هنا وافتحي هنا، فتدخل حبة أرز أو قطرة ماء في القصبة الخاصة بالهواء، فيحس الإنسان بشَرْقَة، هذه الشَّرْقَة كفيلة بأن تجعلك تموت، من يخرج الحبة من رئتك إذا دخلت؟! من ينزل قصبة تخرج القطرة التي نزلت إلى رئتك، رئتك لا تقبل قطرة ماء، ولا تقبل حبة أرز؛ لكن رحمة الله تدركك، فتصدر إشارات من المخ إلى الرئة أنه يوجد جسم غريب دخل، اطردوه، فتقوم الرئة تطلق صفارات الإنذار على الدفاع الداخلي ويحدث السعال، وإذا طُرِدَت النقطة قال: الحمد لله، كنت سأموت! وترى عينيه ترقرقت بالدمع، من أجل قطرة تموت؟ ما أضعفك! ما أحقرك أيها الإنسان! من أجل قطرة، لو أن الله ما طرد منك هذه القطرة لكنتَ متَّ؛ لكن رحمة الله عزَّ وجلَّ تدركك.
هذه الرحمة -أيها الإخوة- لها صور، ولها مظاهر كثيرة جداً، ولو تكلم عنها الإنسان ساعات طوال ما أدركها ولا أحاط بها؛ لكن سنتكلم عن بعضها، وعن أشملها وأظهرها:
والله سمَّى القرآن رحمة، يقول الله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [يونس:57]، قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ [يونس:57] وهو القرآن، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] ما هو الذي في الصدور؟ القلوب، إن الله تعالى يقول: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي [الحج:46] أين؟ فِي الصُّدُورِ [الحج:46] وليس المقصود هذا الذي يضخ الدم، لا. هذا القلب مادي، لكن القلب المعنوي: هو القلب الذي يفقه عن الله.. ما الذي يشفيه، ويجعله حياً يخاف من الله ومقبل إليه؟ هنا القلب القرآن شفاء له؛ لكن كيف يأتيك الشفاء وأنت معرض عن القرآن؟!
الأمة الآن مريضة؛ لأن القرآن ليس في حياتها، إذا مرَّ الواحد على القرآن في الإذاعة أقفله، وإذا مرَّ على الأغنية قام يلعب ويرقص، كيف يأتي الشفاء؟ هذه مصيبة الأمة، فالشفاء في كتاب الله تعالى، قال عزَّ وجلَّ: قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57-58]. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ [يونس:58] أي: بإنزاله القرآن، وَبِرَحْمَتِهِ [يونس:58] أي: بالقرآن، فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] إن كان عندك هذه الرحمة والفضل والقرآن فلتفرح، وإن كنت محروماً من هذا الفضل والقرآن فلا تفرح؛ لأنك ضيعت الشيء الذي بسببه تحصل الفرحة: هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
ويقول عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:52].
ويقول عزَّ وجلَّ: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:157] أي: لا أَظْلَمَ، إذا سمعتَ: فَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:157] أي: لا يوجد أحد أظلم من صاحب هذا الظلم وهذا الفعل مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام:157] أي: أعرض عن آيات الله المقروءة أو المنظورة؛ المقروءة في القرآن أو المنظورة في الكـون، وَصَدَفَ عَنْهَا [الأنعام:157] أي: تعـامى وأعـرض عنها، سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ [الأنعام:157] أي: يعرضون عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ [الأنعام:157].
فنزول القرآن رحمة. اسأل نفسك: كم نصيبك من هذه الرحمة؟ كم تحفظ من القرآن؟ تحفظه كاملاً؟ إذن عندك (100%) رحمة. تحفظ نصفه؟ إذن عندك (50% ) رحمة. تحفظ عشرة أجزاء؟ إذن عندك (33% ) .. وهكذا، وإن كنت لا تحفظ شيئاً فعندك (0% ). بعض الناس لا يحفظ حتى آية، لكنه يحفظ مليون أغنية! هذا عنده (100%) عذاب بدلاً من الرحمة.
خلقك الله لتعمل بكتابه؛ من أجل أن تقرأ وتعمل بالقرآن الكريم .. هذا رحمة، كم عندك؟! اسأل نفسك: كم عند زوجتك من القرآن؟! كم عكست ما عندك إلى أهلك؛ عند بنتك وولدك وجماعتك؟! لأنه الرحمة، فيجب أن يستفيد الناس من الرحمة التي فيك؛ لكن الذي ما عنده رحمة في نفسه كيف يكون في الناس رحمة له وقد حرم نفسه من الرحمة العظيمة التي أنزلها الله رحمة للعالمين، وهي هذا الكتاب الكريم؟!
فنزول القرآن رحمة من الله، كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
فبعثة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة، وتصوروا أيها الإخوة، لو لم يكن لنا رسول، فمن يكون قدوتنا في الحياة؟! إن المؤمن ليطمئن وتهدأ نفسه حينما يعلم أنه يتلقى تعليماته وقدوته وأوامره ويسير في حياته على منهج أكرم بشر، وعلى طريقة أفضل مخلوق، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، شرف عظيم لك أن يكون قدوتك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا كنتَ بغير قدوة ورسالة ما حالك؟ انظروا إلى التائهين الضالين، يربي له (زنَّارة).
ماذا به؟!
قال: هذا خُنْفُس.
هذا قدوته الخُنْفُس.
وآخر حلق رأسه إلى أن صار رأسه مثل البطاطا تماماً.
ماذا به؟!
قال: هناك جماعة في أوروبا اسمهم: جماعة الأرانب، أنا من أعضاء جمعية الأرانب.
هذا خُنْفُس وهذا أرنب!
وآخر يلبس بنطالاً ضيقاً على استه حتى يخنقها، ثم يوسع على رجله ويجعله متراً من تحت.
ما به؟
قال: هذا (شارل استون).
ما هذا؟! من قدوة هؤلاء الضالين الضائعين -والعياذ بالله-؟!
رأيت مسابقات يجرونها الآن في العالم تُضْحِك، قبل أيام سمعنا واحداً أُجريت له مسابقة، وحقق رقماً قياسياً في الضحك، مكث ساعة يضحك، حتى آلم فمه وهو يضحك .. وإذا وقف، قالوا: اضحك أو اخرج من المسابقة.
أهولاء يعيشون في سعادة؟!
وآخر أجريت له مسابقة في أطول شنب؛ مكث طول حياته ليس همه إلا أن يمسح شنبه، ويسقيه بالمواد الكيماوية، ويسحبه، ويهتم به، حتى كبر، أتدرون كم كبر؟! مترين وأربعين سنتيمتر .. شنب ملفوف!
ليس لهم قدوة .. هؤلاء ضالون ضائعون، لكن أنت مربوط بالسماء، وموجَّه إلى شخص كريم، اختاره الله واصطفاه، وجعله رسولاً، وقال للناس: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] فتطلق لحيتك وتعفيها؛ ليس لأنها قضية شعر، ولا ديكور، لا؛ ولكن لأن الرسول أمر بها، وقال: (قصوا الشوارب، وأعفوا اللحى) ولذا هي كريمة عندك، لا لكرامة الشعر، ولكن لكرامة الآمر بها والذي حثك عليها، وتموت وتُقطع رقبتك ولا تقطعها، لماذا؟ لحبك لمن أمر بها صلوات الله وسلامه عليه؛ لكن حينما تهون محبة الرسول في قلبك تهون لحيتك عليك، وتحلقها بنقود عليها، وتدع الحلاَّق يَرْصَعها وعينك تنظر، بل بعضهم يحلق في الحمام، وتذهب لحيته مع الكرسي!
أين كرامة الإنسان؟! أين كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبنا؟!
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] إن أعظم ما رحم الله به العباد هو: بعثة هذا الرسول، وإنزال هذا الكتاب الكريم.
ويجعل يدك هذه نظيفة عفيفة؛ لا تمتد إلا إلى الفضائل ومعالي الأمور.
ويجل رجلك هذه طاهرة؛ لا تحملك إلا إلى المسجد والطاعة والعمل الصالح.
ويجعل فرجك طاهراً نظيفاً؛ لا يقع إلا فيما أحل الله له.
ويجعل بطنك هذه نظيفة؛ لا يدخله إلا ما أحل الله.
ويجعلك كلك من أولك إلى آخرك على الطاعات، ويمنعك من السيئات، هذه رحمة أم ليست رحمة؟! نعم رحمة.
اسمعوا ماذا يقول الله عزَّ وجلَّ عن الملائكة: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا [غافر:7] هؤلاء الملائكة في السماء، وأنت جالس هنا، وهم يستغفرون لك في السماء .. فاغفر لمن؟ لمن توفرت فيهم صفتين: لِلَّذِينَ تَابُوا [غافر:7] وبعد التوبة؟ وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ثم تقول الملائكة: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ [غافر:7-9] تطلب الملائكة من الله أن يقيك السيئات، وأن يصرف عنك المعاصي والذنوب: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9].
هذا هو الفوز العظيم، أن يقيك الله السيئات، وتصبح آلِيَّ العبادة والطاعة، كأنك مركب على أزرار؛ من بيتك إلى مسجدك إلى عملك، إذا رأيت معصية تهرب منها، وإذا رأيت طاعة تقبل إليها، فأنت من رحمك الله، وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:9] أي: الذي ما وقاه الله السيئات ما رحمه الله، وما ناله نصيب من رحمة الله، فمن الناس من لا يعرف الطاعات أصلاً، ولا يتعرض للطاعات، وإنما هو واقع في المعاصي والسيئات منذ أن تستيقظ عينه حتى تنام، فهو يستيقظ على معصية الله، وينام على معصية الله؛ يستيقظ ويده على السيجارة، يحسب الباكت، يبحث عنه وهو ما زال مُغْمِضاً عينيه، من أجل أن يشعل الدخان، ويستيقظ ويده على مؤشر الراديو لكي يستفتح النهار بأغنية، أو على الشريط، وعندما يركب السيارة يشغل الأغنية، فيذهب إلى العمل على الباطل، ويمشي في الشارع على الباطل .. حياته كلها معاص في معاص؛ لأنه حُرِم من رحمة الله عزَّ وجلَّ.
إذاً: يا أخي الكريم: تعرَّض لرحمة الله عن طريق فعل الطاعات وترك السيئات، وهذه تقتضي منك مجاهدة؛ لأنك إذا جاهدت نفسك في ترك المعاصي، والابتعاد عن السيئات، وممارسة الطاعات، فكأنك تستمطر رحمة الله؛ يا ربِّ هات رحمة منك، وأنت مأمور بهذا، لكن عندما تأتي الطاعة إليك فتقول: لا، وتُعْرَض عليك المعصية فتقول: هيا، فكأنك ترد رحمة الله، وتستمطر غضب الله ولعنته وسخطه في الدنيا والآخرة.
كما قال الله تبارك وتعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132].
فإذا سمعت القرآن فأنت مُعَرَّض لرحمة الله تبارك وتعالى.
رحمة الله عزَّ وجلَّ ليست مختصة بفئة؛ ولكنها على عباده تسعهم، وبها يقوم وجودهم وكيانهم، وهي تتجلَّى في كل مظهر من مظاهر حياتهم .. ومن مظاهر وجودهم على هذه الحياة:
أي: أنه يضع لك على السيئة سيئة، وعلى الحسنة عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
هذه رحمة أم ليست برحمة؟! مقتضى العدل: السيئة بسيئة، والحسنة بحسنة؛ لكن لا إله إلا الله! سيئة بواحدة، وحسنة بعشر، إلى سبعمائة، إلى أضعاف كثيرة.
وعندما تريد أن تعمل سيئة فيحجزك منها خوف الله، ماذا تُكْتَب لك؟ حسنة.
فعندما تهم بصدقة أو حسنة، لكن لا تقدر عليها، تُسَجَّل لك حسنة. وتمر على فقير في الشارع تراه يمد يده، فتدخل يدك في جيبك تبحث عن ريال فلا تجد ريالاً؛ لن يضيع لك ربك هذه النية الحسنة، يقول: سجلوا له ريالاً، كأنه عمل حسنة. هذه مظاهر رحمة الله عزَّ وجلَّ.
يقول الله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].
جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والقصة يذكرها ابن كثير نقلاً عن ابن أبي حاتم ، يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجباه على وجهه، من كثرة طول سنه، وتقدم عمره، فقال: (يا رسول الله! رجلٌ غدر وفجر، ولم أدع حاجة ولا داجةً إلا اقترفتها، ذنوب لو قسمت على أهل الأرض لأهلكتهم، فهل لي توبة؟ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: اذهب، فإن الله قد كتب لك بكل سيئة حسنة، قال الرجل: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! -يعني: الكبار، التي ما يُتَصَوَّر أن يغفرها الله تعالى- قال: وغدراتك وفجراتك. فولى الرجل وهو يقول: لا إله إلا الله! سبحان الله!).
فما أعظم فضل الله، وهذا الكلام نوجهه لأنفسنا وللمسرفين في الذنوب، والذين عندهم ذنوب كثيرة، ويقولون: ربنا لن يقبلنا ... لا والله، مهما كان ذنبك، فإن رحمة الله أوسع من ذنبك، فقط غيِّر الوجهة: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54].. قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] وبعد ذلك: وَأَنِيبُوا [الزمر:54] بعضهم يأخذ آخر الآية ويترك أولها، يقول: إن الله غفور رحيم، لكن أين وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54] أي: توبوا وأسرعوا، وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54].
فلا بد من التوبة والإنابة والرجوع إلى الله.
أما التوبة بعد فوات الأوان لا تنفع وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء:18] لم تعد تنفع: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:18]، وقبلها يقول: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:17].
فأنت عليك أن تتوب الآن.
ولا داعي -أيها الإخوة- للمجازفة في قضية التوبة، فإن المجازفة في التوبة مجازفة خاسرة؛ لأنه إذا كان الإنسان يعصي الله
فتقول له: الآن هل أنت راضٍ عن وضعك وعن معصيتك، أم لا؟!
سيقول لك: لا، أنا ليست براضٍ. هل قرَّرتَ أن تتوب إلى الله، أم لا؟! سيقول: قرَّرتُ أن أتوب. متى تتوب؟! حدد لي يوماً معيناً. سيقول: فيما بعد. متى .. بعد سنة؟ سيقول: لستُ أدري. بعد شهر؟
سيقول: لستُ أدري.
إذاً: أنت كذابٌ، لا تريد أن تتوب، لو أنك تريد أن تتوب فلا بد أن تحدد.
وإذا قال: أحدِّد، بعد سنة.
نقول: هل عندك ضمان أنك تعيش إلى بعد سنة.
فإذا قال: ليس عندي ضمان.
قلنا: إذاً: لماذا تؤخر على غير ضمان، إذاً: يلزمك أن تتوب الآن، فإنك إن تبت الآن، ومدَّ الله في عمرك، كانت حياتك كلها طاعة، وسلمت من سوء الخاتمة، وإن لم تتب الآن، ومد الله في عمرك وأنت عاصٍ، كانت حياتك كلها وبال عليك، وكنت عرضةً لسوء الخاتمة، فربما تموت الليلة، أو غداً على سوء الخاتمة.
إذاً: الخيار الأفضل لك أيها الإنسان ولي ولكل مسلم هو التوبة؛ ولهذا جاء في الحديث عن الأغر المزني يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس الواحد مائة مرة).
وفي صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله يا عباد الله! إنه ليُغان على قلبي فأتوب إلى الله سبعين مرة) ما هو الغَيْن؟ قالوا: يُغان على قلب الرسول يعني: طبقة خفيفة من الغفلة، وإلا فإن الرسول لا يغفل عن الله، فالرسول مِن أَذْكَر عباد الله .. ومن أخشى الناس لله ... ومع هذا يقول: يُغان، لم يقل: يَغْفُل؛ لأن الغَين: يعني: طبقة خفيفة سريعة تأتي على القلب .. فيستغفر منها الرسول سبعين مرة، ونحن لا نستغفر! نستغفر الله الذي لا إله إلا هو ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه، نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
فمجازاة الله للعباد قائمة على الرحمة، ولهذا إذا تاب الإنسان مسح الله كل ذنوبه، وهذا من أعظم ما يمكن أن نصف به مظاهر رحمة الله تبارك وتعالى.
إذاً: كيف عبادتنا قياساً على عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!
أنا أعطيكم نماذج ونتفاً من عبادة النبي صلى الله عليه وسلم :
أولاً: من عبادته:
- في الصوم:
كان يصوم ويواصل، أتدرون ما معنى الوصال؟ الوصال أنه يصوم من الصباح -أي: يتسحر ويصوم- ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي السحور فلا يتسحر، ويواصل اليوم الثاني، ويأتي المغرب فلا يفطر، ويأتي اليوم الثاني فلا يتسحر، وكان يواصل اليوم واليومين والثلاثة والأكثر من ذلك، ولهذا قال له الصحابة: يا رسول الله! أنت تواصل، ألسنا مثلك؟ لا بد أن نواصل، قال: (إنكم لستم مثلي، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) والحديث في البخاري ، قال ابن حجر وهو يعلق على هذا الحديث: كيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مواصلاً وهو يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه، لو أنه يُطْعَم ويُسْقََى من طعام الدنيا ما كان هذا وصالاً؛ لكن ليس من طعام الدنيا؛ يطعمه ويسقيه بما يفضي على قلبه من شآبيب رحمته، فيعوضه هذا عن الطعام والشراب في الدنيا، لا إله إلا الله! هذا في صيامه ... من منا يصوم هذا الصيام؟!
- قيامه صلى الله عليه وسلم:
وقيامه صلى الله عليه وسلم توضحه الأحاديث :-
تقول عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تفطرت أقدامه) رجلاه من كثرة الوقوف تشققت، ونحن تشققت أقدامنا من اللهث وراء الدنيا! أقدامنا مُشَقَّقَة من الدنيا؛ لا من الطاعة.
ثانياً: الجهاد:
حياته كلها منذ أن بُعث إلى أن مات جهاد، صلوات ربي وسلامه عليه.
ثالثاً: شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مضرب المثل:
يقول علي ، وهو من الشجعان، يقول: [كنا إذا حَمي الوطيس، واحمرَّت الحُدُق ندلق بظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يُرى أقرب منه للعدو].
وفي غـزوة حنـين لما انكشـف ظهر المسلمين، وقف يرتجز على البغلة الشهباء، وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يقول: انظروني، موجود، تعالوا، وما ثبت إلا هو، ومعه مائة من أهل الشجرة، حتى أنزل الله جنوداً قلبوا كفة الميزان لصالح المؤمنين.
رابعاً: كرمه صلى الله عليه وسلم وبذله وعطاؤه:
ما كان أجود منه صلى الله عليه وسلم في الأرض، كان أجود من الريح، وكان يعطي عطاءَ مَن لا يخشى الفقر. جاءه رجلٌ أعرابي يكفيه أنه يعطيه شاة أو نحوها، فأعطاه غنماً بين الجبلين جاءت من الفيء، وادٍ مليء قال: خذ، هذه لك، فرجع الرجل إلى قومه، قال: أسلموا، والله هذا رجل يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر؛ فجاءت القبيلة كلها تسلم. اللهم صل وسلِّم عليه.
ادخر له بلال تمراً قليلاً حتى إذا جاع الرسول أعطاه له، فسأله يوماً: (أعندك شيء؟ قال: لا يا رسول الله! إلا تمرات ادَّخرتُها لك، قال: هاتها يا
وفي حديث عقبة بن نافع في صحيح البخاري يقول: (صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، فانفتل من الصلاة، فقام من سـاعة أن انفتل -دخل حجـرته- ثـم رجع، فقلنا: يا رسول الله ما لك؟! قال: ذكرتُ في صلاتي شيئاً من تِبْر -يعني: ذهباً- عندي، كرهت أن أقعد حتى أنفقه، فقسَّمتُه ورجعت إليكم) هذا رسول، اللهم صل وسلِّم وبارك عليه.
خامساً: حلمه:
دائماً الذي عنده عَظَمَه يكون عنده حلم عظيم، وعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلَّى في كل جزئية من جزئيات حياته.
حلمه: يأتي الأعرابي ويجذبه جذبة عنيفة، أثرت في عاتقه الشريف، والصحابة وقوف والسيوف في أيديهم -ما كانوا يقدرون على رفع أبصارهم إليه، وهذا الأعرابي يأتي ويشده ويقول: أعطني من مال الله الذي عندك، لا من مالك ولا من مال أبيك، فالصحابة كل واحد منهم بيده سيفه يريد أن يأخذ به رأسَه؛ قال لهم: دعوه، دعوه، وجاء بالعطية وأعطاه، قال: صدق، ليس مالي، هو مال الله، وتركه يذهب، اللهم صل وسلِّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه رحمة صلوات الله وسلامه عليه: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، حتى في المعارك، ففي غزوة بدر لما انتهت المعركة، وجيء بالأسرى -أسرى المشركين- استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في هؤلاء، ماذا يصنع فيهم؟ قال أبو بكر : يا رسول الله! أبناؤك وإخوانك وأبناء عمك، اعفُ عنهم، قال عمر : لا يا رسول الله! أعداؤك وأعداء كتابك وأعداء دينك، أخرجوك وحاربوك، اقتلهم، فماذا صنع صلى الله عليه وسلم؟ مال إلى الرأي الأول .. رأي الرحمة وعفا عنهم، ثم جاء القرآن من السماء يصحح رأي عمر ، ويقول: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67] فقال صلى الله عليه وسلم: (لو نزلت نار من السماء لأحرقت أهل الوادي، ولما نجا منها إلا
ولما نزل من الطائف ، وقال له ملك الجبال: (أأطبق عليهم الأخشبان؟ -لو كان واحد منا لقال: هؤلاء ما فيهم خير، يا رب دمِّرهم- فقال صلى الله عليه وسلم: لا. إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون!).
ولما ذهب الطفيل بن عمرو إلى بلاد زهران ، ودعا قومه طردوه، وسبوه، وشرَّدوه، فإذا به يرجع، فقال: (يا رسول الله! هلك الدَّوس، قال: ما أهلكها؟ قال: أدعوهم إلى الله فيكذبونك، ادعُ عليهم، قال: ارفع يديك، فرفع
وما يبلغ أحد فعل النبي صلى الله عليه وسلم وعمله ومع هذا العمل كله لا يؤهله لدخول الجنة، ولهذا الصحابة استغربوا، (قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) فإذا كان الرسول لا يدخل الجنة بعمله، فهل أدخل أنا وإياك بعملنا؟! ما هو عملنا يا إخواني؟! ماذا نعمل؟! والله لو عُرض على زبَّال لرفضه، فصلاتنا نصفها وساوس وأفكار، وكذلك صيامنا! وصدقاتنا .. الله المستعان! نشكو أمرنا إلى الله؛ لكن نسأل الله أن يدخلنا في واسع رحمته.
اللهم أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ربنا لا تؤآخذنا بما فعلنا، ولا بما فعل السفهاء منا، ربنا أدخلنا في رحمتك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
أخرج البخاري ومسلم حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جعل الله الرحمة مائة رحمة، أمسك عنده تسعاً وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً من المائة، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) بسبب هذه الرحمة! وتصور جزءاً واحداً العالم كله يتراحم به الآن، فتجد الناس في قلوبهم رحمة؛ إذا مَرَّوا على طفل صغير يبكي يأخذونه، ولو لم يكن ولدهم، وإذا رأوه مريضاً واقعاً في الأرض يسعفونه، ولو أنهم لا يعرفونه، إذا رأوه جائعاً يرحمونه، كم؟ كل الناس يرحمون.
حتى الكفار في قلوبهم رحمة؛ توجد عندهم جمعيات: الرفق بالحيوان، وجمعيات الإغاثة، وجمعيات المنكوبين، وجمعيات اللاجئين ... هذه الجمعيات سببها ماذا؟ وجود رحمة.
والبهائم فيها رحمة؛ فالدجاجة وهي دجاجة صغيرة، ترحم فرخها وتحن عليه، وتمتنع من الطعام والشراب، وإذا قط يريد أن يأكله، ماذا تفعل الدجاجة؟ تستسلم وتهرب من القط، والقط عدوها يأكلها؟ لا، تتحول الدجاجة إلى مصارع وعدو، تأخذ جناحيها وتفعل بطرفيها هكذا، وتقفز إلى ظهره، وتنقره في عينه -لماذا تأتي على فراخي- ما الذي أعطاها هذا؟ الرحمة، رحمة الله تبارك وتعالى.
والتبيع الصغير يخرج من بطن أمه ويقع في الأرض .. لا يوجد مستشفى يؤخذ إليه، ولا ولادة، ولا حفائظ .. ولا أي شيء، تقوم الأم البقرة بالمهمة فتخرج لسانها وتمسحه، إلى أن تنظفه وتجعله مثل الوَدَعَة، من علَّم البقرة أن تعمل هذا العمل؟ والحديث يقول: (وبها ترفع الدابة حافرها) ما أدرَى الدابة أن هذا يستحق الرحمة الآن، إذ لو رَصَعَتْه مات.
القطة تضع أولادها الصغار ثم تأخذهم من مكان إلى مكان، تراها آخذة ابنها، تمسكه من رقبته من هنا، وتأتي به، وتضعه هناك، وترضعه، وتصيح إذا لم يتركها أحدٌ ترضعه .. من؟ إنه الرحيم الرحمن تبارك وتعالى.
وهذا التمثيل يقرب للإدراك البشري تصور سعة هذه الرحمة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ذلك، يقول عمر رضي الله عنه: قُدِمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فكانت فيه امرأة من السبي، تسعى وقد تحلَّب ثدياها، مرضع ضاع منها ولدها، ولمَّا سُبيت وجدت ثدييها تدرَّان باللبن، وإذا بعينيها تزوغ، تبحث عن ولدها في أي مكان، يقول: ثم نظرت، فإذا صبيها موجود، فأسرعت إليه، واحتملته، وألصقته بصدرها، ثم حنت عليه، وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أترون هذه مُلْقِيَةً بولدها في النار وهي تقدر؟ قالوا: لا، قال: والله إن الله أرحم بعباده من رحمة هذه بولدها) اللهم أدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
يا إخواني: والله كل هذه الأحاديث وكل هذا الكلام يجعل الواحد منا يخجل أن يعمل معصية مع الرحيم المتعالي؛ لكن ما ظنكم بواحد يسمع بالرحمة ويقول: سأظل عاصياً لكي يرحمني. كذَّاب. لا يرحمك وأنت عاص: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف:56] مِن مَن؟ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] يرحمك إذا تعرَّضتَ له، أما إذا عاندته وعصيته وشاققته وتوليت عنه وهربت وحاربته، كيف يرحمك؟! نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] ، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167].
فلا بد -أيها الإخوة- أن نفهم هذه المفاهيم حتى لا يغلظ علينا جانب ونقول: أن الله غفور رحيم؛ ما دام الله يرحمنا إذاً نجلس كلنا في المعاصي، ويرحمنا الله. لا، بل نتعرض لهذه الرحمة حتى يرحمنا الله تبارك وتعالى.
وأخرج البخاري عن جرير قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) إذا أردت أن تكون أهلاً لرحمة الله فربِّ نفسك على رحمة الناس .. ارحم عاملك الذي يعمل عندك، وخادمك الذي يخدم عندك، والموظف الذي يعمل عندك في الوظيفة، ارحم جارك، وزوجتك، وولدك، وابنتك، والحيوان، والبهيمة .. وارحم كل شيء، واجعل الرحمة مدراراً في قلبك على الناس؛ لكن الذي لا يرحم لا يرحمه الله، فالرجلُ الفَظُّ العُتُلُّ الجعظريُّ المتحجرُ الشديد .. قوي على زوجته وأولاده وجيرانه وأمه وأبيه، فهذا نزع الله الرحمة من قلبه، فلا يستحق أن يكون مرحوماً من قبل الله عزَّ وجلَّ.
يروي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن
بعض الناس إذا جاء ليصلي ومر ولده من أمامه صَفَعَه كفَّاً، وبهذا لن يحب الولدُ الصلاة، ولن يصلي مدى الحياة، يقول: لماذا صفعتني؟! يا أخي دع الطفل يمر؛ هذا لأنه لا يقطع صلاتك، لكن هذا الأب يحافظ على الدِّين، يقول: يا ولد! فيصفعه؛ لأنه مرَّ من بين يديه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فركب على ظهره الحسن ، فأطال السجود صلى الله عليه وسلم، والصحابة لا يسبحون له، لماذا؟ لأنهم يخافون أن يكون فعله تشريع، وأحياناً ينسى لبشريته؛ لكن لا يسبحون حتى يعرفون، فأطال فلما انتهت الصلاة، قال: (لعلكم أدركتم طول سجودي، قالوا: نعم يا رسول الله، قال: إن ابني هذا ارتحلني -يقول: ركب عليَّ- فكرهتُ أن أنزله حتى نزل) هذا سيد البشر وأكرم خلق الله، راحلة للحسن، اللهم صل وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.
ويصور النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة في مشهد عجيب جداً يخرجه البخاري ومسلم ، يقول عليه الصلاة والسلام: (بينما رجل يمشي اشتد عليه العطش، فوجد بئراً فنزل فيها وشرب، ثم خرج، وإذا بكلب يطوف بالبئر، يأكل الثرى من العطش -قد مدَّ لسانه على الأرض، لا يقدر أن ينزل، ولا عنده دلو يُنَزِّله، وهو فوق، والماء في البئر- فرآه الرجل فأشفق عليه وقال: والله لقد بلغ العطش من هذا الكلب مثلما بلغ بي، ثم نزل البئر فملأ خفه -الخف: الحذاء، ليس عنده إناء ولا شيء إلا خفه- ثم أمسكه بفمه -وضع حذاءه بفمه، وهو مليء بالماء- ورقى حتى صعد البئر، وسقى الكلب، قال: فشكر الله له، وغفر له، وأدخله الجنة) رواه البخاري ومسلم .
هذا كلب رحمه فأدخله الله الجنة، كيف إذا رحمتَ غيرَك؟! إذا رحمتَ مسلماً؟! إذا رحمتَ زوجتَك؟!
ولا نتصور أن الرحمة أننا نسقي ونغذِّي، إذا رحمتَ زوجتك بأن حُلتَ بينها وبين العذاب؛ دعوتها إلى الله، أبعدتَ من بين يديها وسائل الفساد، ليس راحماً من يجلب لزوجته وسائل الفساد ويركِّب فوق بيته دُشَّاً، هذا رَحِم زوجتَه أم عذَّب زوجتَه؟! والله عذَّبها وعذَّب أولادَه، إن من يدخل في بيته هذا الداء يسبب كارثة لا يعلمها إلا الله؛ كأنه يعطي تأشيرة خروج للدين من بيته، وللفضيلة، وللرحمة، وللخير، فلا يبقى خيراً، كيف يأتي الخير -يا إخواني- وفوق رأسه أربعون قناة تصب بشرورها على رأسه؟! من أين يأتيه الخير؟! وبعضهم يبست عيونهم في الليل؛ إذا جاء ليرقد لن تُغْمِض عيناه، إذا انتهت قناة، انتقل إلى الثانية، فإذا انتهت انتقل إلى الثالثة، وإذا جاء ليرقد أبت عيناه أن تنطبقا، قد نشفت عيناه مما نظر في هذا الشر -والعياذ بالله- وصلاة الفجر هذه الله يحسن فيها الختام، وأحسن الله العزاء فيها، والله لا يصلُّونها ولا يعرفونها، ولا يقوم بعضهم إلا الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، ويذهب إلى الدوام، حتى إنه لا يصلي، وإن صلى فصلاة المنافق: (يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
إذاً: رحمة لزوجتك: أبْعِدْ هذا الفساد، ارحمها من عذاب الله.
وبعضهم يقول: أنا رحمت المرأة ورحمت الأطفال. ماذا هناك؟
قال: الأولاد مساكين، جالسين هكذا، فرحمتهم وأتيت لهم بجهاز فقط، لكي يشاهدوا كراتين.
يرحمهم! انظروا انقلبت الرحمة! هذا يعذِّب أولاده، والله ما رحمتَهم، بل عذَّبتهم، وأهلكتهم وأحرقتهم بالنار، هؤلاء أمانة في عنقك، الله سائلك يوم القيامة عنهم، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] ارحموهم من النار، أما كونهم يصيحون يريدون شيئاً، فهل أنت مَعْبراً هنا فقط! كل ما طلبوا تأتي به، حتى لو طلبوا النار تأتي لهم بالنار؟! لا حول ولا قوة إلا بالله! لا يجوز أيها الإخوة.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم أيضاً: (أن امرأة بغيَّاً زانية من بني إسرائيل رأت كلباً في يوم حار يطيـف ببئر، قد أدلع -أي: أخرج- لسانه، فنزعت موقها -أي: خفها- وسقته، فغفر الله لها بهذا العمل).
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم أجمعين قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث أخرجه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: (قَرَصَتْ نملةٌ نبياً من الأنبياء فأحرق الأمة كلها، فأوحى الله إليه: أن قَرَصَتْكَ نملةٌ، فأحرقتَ أمة، فهَلاَّ نملة؟) يعني: إذا كان لا بد من القصاص، وقرصتك نملة فابحث عن النملة هذه واحرقها؛ لكن تحرق الأمة كلها من أجل نملة؟!
لكن العلماء يقولون: إذا كان النمل في مكان خاص في الصحراء، وأنت جئت إليها، وأخذت تتمشى، وقَرَصَتْك، فقمتَ لتحرقها؛ لأنك ذهبت لتتمشى وقَرَصَتْك .. هذا حرام، من الذي قال لك أن تأتي النمل؟! فأنت تستحق القرص؛ لكن لو جاء النمل إلى بيتك، ودخل في مطبخك، وأفسد عليك طعامك وآذاك، يجوز لك أن تقضي عليه؛ لكن بغير الإحراق؛ لأنه لا يعذب بالنار إلا الله، يجوز لك أن تهلك وأن تقضي على هذه الحشرات والزواحف بالوسائل الحشرية المبيدة، كأن تضع مسحوقاً أو فليتاً أو أي شيء، بشرط أن يكون عليك منها ضرر؛ لأن الضرر والصائل مأمور بدفع صولته، وإبعاد ضرره، أما من غير سبب، تذهب وتضع السم وتطارد، مثل مَن يطارد القطط الآن، بعض الناس إذا رأى قطة في الشارع لَفَّ عليها بالسيارة ... معركة مع القطط.
ماذا هناك؟ قال: قتلتها.
لِمَ يا أخي تقاتل القطط؟!
لكن إذا هي تعمدتك ودخلت عليك، وما دريتَ، فما عليك شيء؛ لكن أن تقتلها عمداً هكذا. (امرأة دخلت النار في هرة، حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا أطلقتها تأكل من خشاش الأرض).
وفي النهاية يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] ثم قال: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] وهذا مشهد آخر من مشاهد رحمة الله وهو: أن الله سوف يجمعنا يوم القيامة.
وكيف يكون هذا اليوم رحمة؟!
قالوا: لأن العاصي يرى جزاءه، والمؤمن يرى ثوابه، فيطمئن قلب المؤمن، ويقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا [الأعراف:43] لكن لو أن الله يجمعنا يوم القيامة، ويدخل العاصي والكافر النار، ويدخل المؤمن الجنة، والمؤمنون قد حرموا أنفسهم من المعاصي والذنوب، وذاك قد تمتع بالذنوب والمعاصي، يصبح من الظلم ألا يدخل هذا النار، وألا يجد هذا جزاءه الجنة، فمن كمال رحمة الله عزَّ وجلَّ أن يدخل الناس الذين عملوا بطاعته في الجنة، ويدخل الكفار الذين عملوا بمخالفاته وخالفوا شرائعه وأنبياءه النار، قال الله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] والإشارة إلى جمع الله الناس يوم القيامة جاءت مؤكدة بعدة مؤكدات: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [الأنعام:12] لام التوكيد، ونون التوكيد المثقَّلة الشديدة، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنعام:12] بيانها، وبعد ذلك: لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12] توكيد ثالث، ثم قال بعد ذلك: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام:12] في ذلك اليوم تظهر الموازين وتنكشف الحسابات، فيخسر الناس الذين ضيعوا أنفسهم في هذه الدنيا من طاعة الله، يخسرون أنفسهم بدخولهم النار، فهم لا يؤمنون في هذه الدنيا، ويحصل لهم بعدم الإيمان في هذه الدنيا خسارة الدارين في الدنيا والآخرة.
ثم يقول تبارك وتعالى في لفتة أخرى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13].
يقول المفسرون: الآية الأولى شملت ملك الله في المكان، قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ [الأنعام:12] يعني: في المكان، والآية الثانية شملت ملك الله في الزمان: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الأنعام:13] جميع الذي يسكن في الليل والنهار لله، له ما في السماوات والأرض وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13] السميع: الذي لا يغيب عن سمعه شيء، العليم: الذي لا يغيب عن علمه شيء، وهذه من صفاته تبارك وتعالى.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا وإياكم أهلاً لرحمته، وأن يرحمنا، وأن يتجاوز عنا، وأن يحبب إلينا الطاعات، وأن يكره إلينا الذنوب والمعاصي والسيئات، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما نسأله تبارك وتعالى أن ينصر دينه، وأن يُعلي كلمته، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رُشد يُعَزُّ فيه أهل طاعته، ويُذَلُّ فيه أهل معصيته، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر، إنه سميع الدعاء.
كما نسأله تبارك وتعالى أن يوفق جميع المسلمين وولاة المسلمين إلى تحكيم شريعة الله، وإلى الدعوة إلى الله، وإلى مناصرة هذا الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
الجواب: الخير في هذه الأمة -أيها الإخوة- لا ينقطع والحمد لله، والهيئات واللجان والجمعيات التي تقوم في هذا البلد المبارك وفي غيره من بلاد المسلمين، هذه وسائل عظيمة من أجل إيصال الخير إلى أهله، فهي بمنزلة الجسور الممتدة بين المحسنين والمحتاجين، فإن كثيراً من المسلمين يود أن يحسن، وعنده خير؛ لكنه لا يجد من يوصل هذا الخير إلى أهله، وليس عنده إمكانية، فقامت هذه الهيئات، ومن ضمنها: مؤسسة الحرمين التي يقوم عليها مجموعة من الرجال الفضلاء، الذين هم موضع ثقة في دينهم وأمانتهم، وفي توجهاتهم، ويحملون تزكيات من أصحاب الفضيلة، وفي مقدمتهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز ، وقد أثنى في كتاب له هنا وقال: سرَّني كثيراً ما تقوم به المؤسسة من الأعمال الطيبة في سائر أنحاء المعمورة من النشاط في الدعوة إلى الله، ومساعدة ذوي الحاجات، فالحمد لله على ذلك، وأسأل الله أن يوفق القائمين عليها لكل خير، وأوصي الجميع بالإخلاص لله في العمل.
لأن المسلمين في كل مكان بحاجة إلى من يعينهم على الخير، ويشجعهم عليه، وعلى الثبات عليه، كما أن غير المسلمين في حاجة إلى الدعوة والتوجيه والتأليف.
وفقكم الله جميعاً، ونفع بكم عباده.
- هذا الكتاب موجه إلى مدير عام المؤسسة فضيلة الشيخ/ عقيل بن عبد العزيز العقيل .
وهذه المؤسسة لها أعمال خيرية كثيرة جداً منها:
1/ الدعوية: في ترسيخ العقيدة، والتركيز على تعليم السنة.
2/ الإغاثية: في إغاثة المسلمين، عند نزول الكوارث، وعند حلول المشاكل والنكبات.
3/ التعليمية: كبناء المدارس.
4/ الصحية: كبناء المستشفيات، والمستوصفات.
5/ حفر الآبار ... إلخ.
كل هذه الأعمال تقوم بها هذه المؤسسة ، وهي قائمة على المحسنين، ولها صناديق الآن موجودة في هذا المسجد، ولا أظن أنك تبخل على نفسك بأن يكون لك دور ومشاركة ولو شيئاً يسيراً، فإن الله تبارك وتعالى يربي للمتصدق صدقته، حتى تكون يوم القيامة كالجبل، فضَع شيئاً في هذا الصندوق: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] .. وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد:38] والله عزَّ وجلَّ لا يضيع صدقة أحد، وليس الإنسان ينفق من ماله بل من مال الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33] .. وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
فأسأل الله أن يوفقني وإياكم للإنفاق في كل مجال، ومن ضمن المجالات، مجال هذه الجمعية المباركة التي هي مؤسسة الحرمين، ولها صناديق، وعليها بعض الإخوة، وموجودة عند أبواب المسجد.
الجواب: تذكر -يا أخي- وأنت تريد أن تتوب وتمنعك هذه الموانع، أن هذه الموانع لا تمنعك من عذاب الله، ولا يمنعونك من الموت، ما رأيك إذا جاءك الموت، هل يمنعك المجتمع وإخوانك وقرابتك وزملاؤك وأصدقاؤك من الموت؟! لا. وما داموا لا يمنعونك من الموت فيجب ألا يمنعونك من التوبة.
سارع يا أخي إلى التوبة، ولا تلتفت إلى المجتمع، فإنك عبد الله لا عبد المجتمع، ولا تلتفت إلى الأصدقاء ولا القرابة، وإنما ضع أمامك هماً واحداً وهو: هم الله، ضع توجهك توجهاً واحداً وهو: إلى الله، وتذكر العذاب، والخسارة العظمى التي تجنيها يوم أن تموت وأنت غير تائب إلى الله من المعاصي، وقد تقول: إن التوبة لها ضغط وشدة، والمعاصي لها طعم ولذة، نقول: صدقت، إن التوبة لها تعب؛ ولكن الأتعب منها الاستمرار في المعصية، فإن تعب التوبة لا يُقاس بألم وتعب المعصية؛ تعب التوبة محدود ينتهي بمعاناة بسيطة، ثم يقبلك الله ويجعلك من التائبين؛ لكن تعب المعصية غير محدود، يشملك في الدنيا ثم ينتقل معك في القبر، ثم ينتقل معك في عرصات القيامة، ثم يوردك النار، إذ لا خيار لك في التوبة.
وأسأل الله أن يتوب علينا وعليك وعلى جميع المسلمين.
الجواب: أولاً: لا يوجد أحد يأتي بشغالة إلا من أجل امرأته؛ لأن المرأة هي التي تطلب الشغالة، فإذا جاءت بالشغالة، ثم توجه الرجل إلى الشغالة وتركها، فعلى نفسها جنت براقش، هي التي تستحق، من قال لها أن تأتي بشغالة؟! أصبحت دَغَّالة لم تعد شغالة، ولهذا ننصح بأن لا يأتي أحدٌ بشغالة بأي حال من الأحوال، ويحاول أن يحرص ألا يأتي بها، لماذا؟ لأنها امرأة أجنبية في بيتك فلا بد أن يجرك الشيطان إليها، لاسيما مع ضعف إيماننا، وقلة ديننا ... ضع النار بجانب البارود وقل: لا تشتعل. لا بد أن تشعل النار البارود، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركتُ على أمتي فتنة أضر من النساء على الرجال، ألا فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
لكن قد يضطر الإنسان إليها اضطراراً، فإذا اضطُرَّ إليها اضطراراً فبالقواعد الشرعية، متى الضرورة؟ كأن تكون زوجتك معلِّمة، وعندها أطفال، ولا يمكن أن تدع أطفالك في البيت بدون أحد، وليس لك أقارب تضع أطفالك معهم، ولا يمكن أن تأخذ أولادها هي إلى المدرسة تدرِّس بهم، هل تضيِّع أولادك؟! لا، هل تفصل زوجتك من العمل التعليمي، وتجلس في البيت تربي أولادك، وتترك تربية أهل المسلمين؟! لا، هذه نظرة قاصرة؛ لأن زوجتك الصالحة إذا جلست في البيت، وأنت الصالح جلست في البيت، وأولادنا نوصلهم ليدرسوا، فمن يبقى في المدارس؟ يبقى الفاسدات، إذاً كأننا نقدم بناتنا وفلذات أكبادنا للسوء في المدارس، ونقعد زوجاتنا عن العمل العام الذي فيه تصحيح، وتربية، ودعوة، فيقعدن يربين، بدل أن تربي زوجتك الصالحة ثلاثمائة طالبة، تربي ثلاثة أطفال.
ماذا نصنع؟! الجواب: نرتكب أقلَّ الضررين؛ نحن بين مفسدتين، نأخذ أقلها، ما هي الأقل؟
نأتي بشغالة؛ لكن بشروط شرعية:
أولاً: أن تكون مسلمة:
فلا تأتي بكافرة، يحرم عليك أن تأتي بكافرة؛ لأنها تربي ولدك على الكفر، وهناك طفل في الرياض عندما جاءوا به في سنة أولى ابتدائي، في أول مواد الدرس:
قال الأستاذ: لا إله إلا الله.
قال: لا. يا أستاذ، الله ثالث ثلاثة.
فلما رجعوا، وجدوا النصرانية الخادمة قد علَّمته أن الآلهة ثلاثة.
وطفل آخر يصيح حتى مات، ثم اكتشفوا، وإذا في رأسه دبُّوس، غرزته الشغالة في رأسه حتى مات.
وطفل ثانٍ وجدوا أن الشغالة عندما تكون أمه في المدرسة وهي في البيت إذا بكى أعطته إصبع رجلها الكبيرة ليرضع، طول اليوم يرضع إصبع رجلها.
وأخرى تضع بولها على السلطة في الغداء (خَل) ويستحق هذا من يأتي بالكافرة، وما أدراك أنها وضعت ليمون أو بولاً؟! وهي كلها أملاح ومواد حامضة، هل أنت جالس في المطبخ؟! الشغالة في المطبخ وأنت في العمل، وصنعت هي السلطة ووضعت عليها فنجان بول، وجاء ذاك ليأكل، ويتأدم ببول الكافرة.
لا تأتي بكافرة، وإذا كانت عندك كافرة فاعمل لها خروجاً بلا عودة الآن، لا تمسي الكافرة في بيتك.
هذه أولاً؛ أن تكون مسلمة.
ثانياً: أن يكون معها زوجها؛ لكي تأتي بمحرم إذا قدرت، ليكون هو سائق للأسرة والبيت، وهي زوجته، فتضمن أن زوجته معه، لا تنظر إليك، ولا تنظر إليها أنت.
ثالثاً: أن تكون كبيرة السن: فلا تأتي بواحدة في العشرين أو الخامسة عشرة، بعضهم يذهب إلى هناك، كأنه يريد أن يتزوج، ويستعرضها وينظر، ويأخذ واحدة عبارة عن وجه، ما هذا؟! هذه خادمة؟! هذه ليست بخادمة، بل نأخذ واحدة كبيرة السن.
رابعاً: أن تكون غير ملفتة للنظر:
شوهاء، إذا نظرتَ إليها صُدَّ عنها، أما أن تأتي بواحدة أجمل من زوجتك! هناك خادمات أجمل من الزوجات، وهنا تقول المرأة: ما رأيكم، والزوجة تعرف، ما شاء الله! أتعرف الزوجة؟! إذاً كيف ترضين بها أن تقعد في بيتك؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
خامساً: أن تفرض عليها الحجاب: تلزمها بالحجاب، وأن لا تكشف عليك.
الشرط السادس: أن لا تخلو بها:
زوجتك في العمل، وأنت في العمل، لا تذهب إلى البيت وتدخل البيت وهي موجودة لوحدها، ولو كنتَ مثل ثابت البناني في العبادة، لماذا؟ (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) وتصور! لو كان قلبك نظيفاً هل يكون قلبها نظيف؟! ولو كان قلبها نظيف هل يكون قلب الثالث الذي بينكما -وهو الشيطان- نظيف؟! فلا تخلو.
إذا جئت والمرأة ليست في البيت، فاجلس في الخارج في الشارع، أو اذهب إلى المسجد، أو اجلس في السيارة .. إلى أن تأتي زوجتك، ولا تتساهل في هذه القضية؛ لأنك قد يجرك الشيطان إلى الثقة في نفسك، ثم تسقط لحظة، فتنظر، ثم تسقط الثانية، ثم يسحبك إبليس على أنفك إلى أن يوصلك النار، وهي بدأت بخطوة، كن حذراً جداً في هذه الجوانب.
ونقول لأختنا هذه: إن كنتِ لستِ موظفة وما عندك أطفال، فلا داعي للشغالة؛ لأن بعض النساء ليست موظفة، ولا عندها أطفال، ولكن تقول: ليس عندي شغالة، وكل النساء معهن شغالات.
لماذا الشغالة؟ قالت: لكي ترد على التليفون، وتأخذ الحقيبة لي وأنا ماشية.
عجيب! أصبحت المسألة مظهراً من مظاهر (الفخفخة) فيعاقبها الله ويضع لها شغالة تغير قلب زوجها، وتتمنى أنها ما عرفت الشغالات.
اشتغلي أنتِ في بيتكِ، إن مسئولية المرأة في بيتها كبيرة، وما أصيب النساء بالأمراض وبالسكر وبالترهل في الجسم وبالسمنة وبالأمراض -والعياذ بالله- إلا بسبب عدم القيام بواجبات المنزل، المرأة إذا قامت في منزلها، وقامت تشتغل من الصباح كالغزال، تكنس وتطبخ وتغسل .. هذه حركة رياضية، تجد بطنها لاصقة في ظهرها، وليس عندها مرض، لكن إذا رقدت من الصباح إلى الظهر، وقامت ووجهها مثل أنفها، مثل الكرة، لا تدري أين رأسها من عَفاسها، وسمنت، وسمنت .. ثم جاءها السكر، أو جلطة، أو سمنة، أو سكتة، بأسباب ماذا؟! لأنها نائمة، لماذا إذاً؟! قومي أنتِ بالخدمة في بيتِك، ألست تشعرين بأن خدمتك لزوجك شرف وعبادة تتقربين بها إلى الله؟! خدمتك لأولادك وغسيلك لهم خدمة تتشرفين بها وتمارسينها بلذة .. من خدمكِ أنتِ؟ يوم أن كنتِ صغيرة عند أمكِ، متى جاءونا بفكرة الخدامات هؤلاء يا إخواني؟! والله ما أحدٌ عرفها إلا قريباً، وإلا فكل واحدة تخدم وتغسل ... وترى النساء الأُوْلَيات ما شاء الله مثل الغزال، تكنس وتطبخ وتغسل وترضع، حتى إن بعضهن تتجاوز مهامها خارج البيت، تجدها تحطب وتأتي بالغنم ... وما شاء الله، لا تمرض، وتحبل سنة وترضع سنة، أما الآن من يوم أن ينزل الولد من بطنها وإذا الحليب قد جف من ثديها.
ماذا بكِ؟! قالت: والله لا أريد الحليب.
لماذا؟! قالت: من أجل الرشاقة.
فيبتليها الله بسرطان الثدي، سرطان الثدي هذا مرض يصيب المرأة التي لا ترضع أولادها؛ لأن الحليب هذا ينحبس فيها، ويصير فيه بلاء، ويتكون إلى سرطان، ولهذا نسبة علمية تقول: إن أكثر شيء هو في اللاتي لا يرضعن أولادهن، فبدل أن تريد الرشاقة إذا بها لم يعد لديها أثداء، قد قُطِع، لماذا؟ لأنها ليست هي التي تشتغل في بيتها.
الجواب: المنهج العملي للعلاج: علاج وقائي وعلاجي:
الوقاية:
أولاً: تمتنع من قرناء السوء وقرينات السوء.
ثانياً: إن كان الشر الذي يأتيها عن طريق الهاتف تقطع الهاتف.
ثالثاً: وإن كان عن طريق المجلة ترمي المجلة.
رابعاً: وإن كان عن طريق الفيديو لا تنظر إلى الفيديو.
هذه يسمونها: وقايات، حجْر إيماني عليها.
العلاج :-
أولاً: تجعل لها ورداً يومياً من كتاب الله، لا يقل عن جزء، وصفحة تقرأ تفسيرها.
ثانياً: تجعل لها ورداً يومياً من حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل عن حديث واحد تقرأه وتحفظه، ويتم تفسيره.
ثالثاً: تحافظ على الطاعات والفرائض محافظة دقيقة جداً.
رابعاً: تنتهي عن المعاصي والذنوب كلها، كبيرها وصغيرها، ودقيقها وجليلها.
خامساً: تبحث لها عن رفقة صالحة، امرأة طيبة فيها خير، لكي تعينها.
سادساً: تكثر من ذكر الله.
سابعاً: تسمع الشريط الإسلامي.
ثامناً: تقرأ الكتاب الإسلامي.
تاسعاً: تحضر مجالس الذكر.
عاشراً: تجاهد نفسها: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
السؤال: هناك أم لستة أطفال، والدهم لا يصلي، فما حكم معاشرتها لهذا الزوج، وقد سألت هذه الأم شيخاً، ونهاها أن تعيش معه؛ ولكنها عطفت على أولادها، وحنَّت عليهم، واستمرت في حياتها مع زوجها، على الرغم من إجابة الشيخ لها، واستمرت في تربية أبنائها متوكلة على الله، فهل من ذنب عليها؟
الجواب: نعم. عليها ذنب عظيم، إذ أنها استمرت في معاشرة رجل كافر، وقد أجمع أهل العلم على كفر تارك الصلاة، وما دام هذا الزوج لا يصلي، فإنه يحرم عليها، ولو عليها مائة ولد وليس ستة فقط، ولو وراءها قبيلة، فلا تحن ولا تشفق عليهم، وإنما تشفق على نفسها أولاً من أن تستمر في بيت الكافر، فهذا الرجل الذي لا يصلي تمسكه، وتقول له: أنت إنما استحللتني بكلمة الله؛ لأنك مسلم، والآن لا تصلي، فأنا أخيرك بين أن تصلي فأنا زوجتك، وأم أبنائك، ومعك على درب الإيمان إن شاء الله، أو لا تصلي فأنا لستُ منك، ولستَ مني، ولستُ أنا لك، ولستَ لي، سأذهبُ إلى بيت أهلي. إن كان لها بيت أهل تذهب إليه، وإن لم يكن لها بيت أهل وأولادها معها، ولا تريد أن تتركهم، فإنها تجلس في هذا البيت؛ لكن تحتجب عنه، لا تراه، ولا تمكنه من نفسها .. وإن غُلِبَت على أمرها ولم تستطع، تخرج من البيت، ولو أن تعيش على الرصيف، فلها والله أن تعيش وتنام على الأرض، ولا تنام ليلة في النار.
أسأل الله أن يهدي هذا الرجل، وأن يوفق هذه المرأة، ويثبتها على الإيمان، وأن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر