أما بعد:
فإن هناك ظاهرة تدل على كمال الصحة إن شاء الله، وهي: ظاهرة تدافع الشباب، وتسابقهم في الحضور إلى مجالس الذكر وحلق العلم، وهذه تبشر بخير، وتدل على أن الصحة والعافية الإيمانية بدأت تدب في أجساد الأمة، وفي جسد أهم عنصر من عناصر الأمة ألا وهم الشباب، فإن الشباب هم الذين على أكتافهم تتحقق إن شاء الله أماني الأمة، وهم الذين دخلوا في دين الله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيروا وجه التاريخ ومساره حينما استقرت حقائق ومفاهيم الإيمان في قلوبهم.
أما الشيوخ والذين قد تحجرت رءوسهم على الكفر فإنهم رفضوا دعوة الإسلام، فقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم سنوات طوال فما استجابوا، ولكن الذين استجاب هم الشباب، وقامت دولة الإسلام وحضارة الإسلام على جهود وأكتاف الشباب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا تاريخ الأمة المقروء يشهد بأن الشباب إذا التزموا بالدين واهتدوا بهديه؛ حقق الله على أيديهم نصرة الإسلام، ولكن يشترط لهذا التوجه ولهذه الصحوة الطيبة المباركة أن تكون في الطريق الصحيح، أي: طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيطان كما يجتهد ويحرص كل الحرص على تثبيطهم والوقوف بهم دون الوصول إلى الدين، فهو أيضاً حريص إذا رأى عندهم الحماس والغيرة على أن يقفز بهم خارج الدين، وهو ما يسمى في الدين بالغلو.
والغلو هو: تجاوز الشيء أي: تجاوز الحد، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين عميق، فأوغلوا فيه برفق) وقال: (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) والاعتدال المطلوب هو: هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته، وهديه صلى الله عليه وسلم واضح كما قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) أي: لا غبش فيها، بل هي واضحةٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن هناك من يَخفى عليه هذا الوضوح؛ لغبش في نظرته أو في تصوره أو في طريقة تلقيه، والذي يجدر بالشباب ألا يتلقوا علومهم هكذا بمجرد الاجتهاد، واقتباس الأحكام من النصوص، بل يجب أن يكون لهم قدوة في استخراج النص؛ لأن رؤية العالم تختلف عن رؤية طالب العلم، فرؤية طالب العلم رؤية محدودة من زاوية ضيقة، فهو لا ينظر إلا إلى هذا النص، ولكن رؤية العالم من المحيط أوسع؛ لأنه يعرف أغلب نصوص الشرع، فيعرف المطلق والمقيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ، والصحيح، والحسن، والضعيف، فيقدم ويؤخر، ويحقق حتى يوازن بين الأحكام.
فالآن إذا كان هناك شخص أمامك، وتريد أن تنظر إليه من زاوية أو مجال أو مسار ضيق، فإنك تضع مثلاً بينك وبينه أنبوبة نصف بوصة، ثم تنظر إليه بعين فلا ترى سواه، لكن لو أبعدت هذه الأنبوبة، ووسعت مجال الرؤية لرأيته ورأيت أشياء تحيط به، فأنا الآن أنظر إلى واحد منكم، ورغم أن نظري إليه وتحقيق عيني في عينيه إلا أني أرى البقية كلهم، فأرى الأعمدة والمروحة؛ رغم أن تحقيق عيني فيه فقط، لكن لما كان مجال الرؤية عندي أوسع فإني أرى كذلك كل إنسان منكم.
فالعالم إذا نظر إلى الشرع وإلى مقاصد الدين وأهداف الإسلام من منظورٍ واسع، فإن هذا النظر أو هذه الرؤية أو النظرة غير المحدودة سوف تعطيه أحكاماً واسعة، بينما النظرة الضيقة لن تخرج لنا سوى الحكم ضيقاً.
ولذا ينبغي على الشباب إذا وجد آية من كتاب الله، أو نصاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفهمه مباشرةً على مراده، بل يرجع فيه إلى كتب السنة، ويعرف ماذا قال العلماء في هذا النص؟ فإنك مثلاً لو قرأت كتاب سبل السلام فإنك سوف تجد الحديث، وتجد بعده حديثاً يناقضه، أي: ضده (مائة بالمائة) فإما أن يكون ناسخاً له، أو يكون مقيداً، أو يكون عاماً، أو يكون مطلقاً، أو يكون له وجهة نظر، فتجد العلماء يأتون إلى هذه الأحاديث بعقل كبير وبرؤية واسعة، فيضعون لها جواباً، لكن لو بقيتَ فقط على هذا الفهم عند هذه الأدلة لصارت مصيبة.
فهناك من الناس من اطلع على حديث في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أم عمارة نسيبة بنت كعب رضي الله عنها، قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الحُيَّض والعواتق وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين في المصلى) يعني: في صلاة العيد، فهذا المسكين ذهب إلى بيته وأخرج النساء كلهن وجعلهن يصلين كلهن، حتى الحُيَّض اللاتي هن ممنوعات من الصلاة جعلهن يصلين؛ لأنه فهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المراد، فالحديث صحيح في أن الحيض يخرجن من أجل الصلاة، فقد قال العلماء في هذا الحديث قولان: القول الأول: أنه صلى الله عليه وسلم أمرها أن تخرج ولكن تعتزل الصلاة بل في بعض طرق الحديث: (أما الحُيَّض فيعتزلن المصلى، ولكن يشهدن الخير ودعوة المسلمين) وقال بعض أهل العلم: لا. أمر الحُيَّض أي: البوالغ، وهن اللاتي بلغن سن المحيض، واللاتي هن دون سن المحيض ببالغات فلا يخرجن.
فهذا الأخ فهم من النص أن الحائض تخرج إلى المسجد وتصلي، وهذا فهم من النص ولكنه من ظاهره، فلو أنه رجع إلى كتب أهل العلم، لعلم أكثر مما توصل إليه علمه، فهديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي، وهناك كتاب عظيم جداً اسمه (زاد المعاد في هدي خير العباد ) صلوات الله وسلامه عليه ألفه العلامة الإمام ابن القيم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتعرض فيه لما ورد في السنة من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين في مقدمة الكتاب فقال: إننا لن نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز وما لا يجوز، ولكننا تعرضنا لهديه الذي كان يداوم عليه، فإن هديه أكمل الهدي وخير الهدي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أردت أن تعرف هديه؛ فارجع إلى هذا الكتاب وإلى غيره من كتب العلماء المحققة، مثل: (صحيح البخاري )، وشرحه: (فتح الباري )، ومثل: (عون المعبود شرح سنن أبي داوُد )، ومثل: (تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي )، ومثل: (سنن النسائي ) وشرحها ، ومثل: (شرح صحيح مسلم ) للإمام النووي ، كل هذه الكتب تجد الشروح فيها واضحة جداً، بحيث تخرج بعلم عن الحديث الواحد.
وهذه المقدمة أردتُ بها تصحيح بعض المفاهيم والإشارة إلى سؤال سأله أحد الإخوة يقول فيه: إنك قلت: إنه لا يجوز حجز الأماكن في المسجد؛ لأن المسجد مناخ من سبق مثل منى ، ولأن الأولوية للأول، و(خير صفوف الرجال أولها)، والغرض حث الرجال على المبادرة: (ولو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه) يقول: ففهمنا هذا، ولكن بعض الإخوة فهم أيضاً أكثر من ذلك، فبعض الإخوة دخل وصلى وجلس يقرأ القرآن حتى إذا ما قرب وقت المغرب أحس بحاجةٍ إلى الخروج وتجديد الوضوء، فترك غترته في الصف وخرج، فجاء أحد من الناس وأخذ غترته، ورماها وصلى مكانه، وقال: لا يجوز!
والجواب: إن هذا فهم غير ما نقول، فهذا المكان مكان هذا الأخ في الأصل، فلم يحجزه له أحد، بل حجزه لنفسه، فهو جاء وصلى وجلس وذكر الله، ولكن انتابه عارض ألزمه بالخروج ليتوضأ، فمادام أنه خرج لغرض يخدم الصلاة ومتعلق الصلاة، فإن له أحقية في هذا المكان، أما أن يرسل من يحجز له، أو يوصي من يحجز له، فلا، أردت من هذا توضيح أنه من الممكن أنك إذا كنت في المسجد، وأردت أن تخرج لغرض يخدم الصلاة فقط فإنه يجوز لك أن تحجز المكان، وليس لقضاء أي حاجة أخرى، فلو خرجت لغرض خاص بالصلاة، كأن تتوضأ مثلاً ثم ترجع فليس هناك مانع، والأولى أن يكون الإنسان مستعداً للصلاة قبل الدخول إلى المسجد، حتى لا يؤدي خروجه من المسجد إلى إذهاب مكانه، أو ربما إذا دخل وجلس في المكان يتصور الناس أنه حجز هذا المكان فيسيئون الظن به، فلهذا أوردت هذه المقدمة قبل الكلام.
كنا قلنا في الماضي: أن هناك أسباباً كثيرة لعذاب القبر، وهي سبعة أسباب وردت بها السنة، وهناك على العموم أسباب كثيرة يستوجب بها الإنسان عذاب القبر، منها أو من أعظمها: الجهل بالله، والإعراض عن دين الله، والتصدي لأولياء الله.. هذه كلها أسباب تهلك الإنسان في الدنيا والآخرة، وهناك أسباب خاصة وردت بها السنة تبين أن ارتكابها سببٌ موجبٌ لعذاب القبر، وذكرنا منها سببين:
السبب الأول: المشي بالنميمة بين الناس.
السبب الثاني: عدم الاستنزاه والاستبراء من البول، ودليلها واضح في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين : أنه مر على قبرين، فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس، فأخذ جريدة رطبة وشقها نصفين، ثم غرز على كل قبر نصفاً، وقال: إنه ليخفف عنهما ما لم ييبسا) وقلنا: إن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه قد أوحي إليه عما يتعذب به هذان الرجلان، وأوحى الله إليه أن ذلك يمكن أن يُخفف به عنهما، أما غيره فلا يعرف لأن الوحي قد انقطع، ولا سبيل إلى معرفة ما يجري في القبور.
فهذه الأموال لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يأخذ المقاتل منها شيئاً، وإنما أمرها إلى ولي الأمر، وهو الذي يقسمها بحسب تقسيم الله لها.
وقاس العلماء على هذه الأموال الأموال العامة، مثل: الخراج، والزكاة، وأموال بيت المسلمين.
يقول عز وجل: يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161] ولكن من أن يأتي به؟ لا يأتي به إلا من النار، بمعنى: أنه سيرد النار، والعياذ بالله! ثم قال عز وجل: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]
وأخرج البخاري في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: (كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم....) فهذه الكلمة وردت بلفظين: ثِقَل ونَفل، فالثقل أي: المتاع الثقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، والنفل أي: الشيء الزائد عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان صلى الله عليه وسلم معه شيء من المتاع زائد عن حاجته، فكان يوكل أمره إلى بعض أصحابه رضي الله عنهم. (كان على نفله أو ثقله -في إحدى الروايتين، وقيل: على غنيمته أي: قسمته مما حصل له- رجلٌ يقال له:
فيقول رضي الله عنه: (قرأت القرآن كله في ليلة واحدة، فقال لي الرسول صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر..) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتدلاً، حتى في جوانب الإيمان والدين لا يريد الغلو، لأنه يعرف أن الواحد إذا شد في أمر ديني وهو أكثر من طاقته؛ فإنه سوف يأتي عليه يوم يرجع فيه إلى طبيعته ويكسل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن عمرو أن يأخذ المتوسط أي: الحد الذي يستطيعه حتى إذا كبر، لكن بحكم قوة إيمان عبد الله بن عمرو بن العاص وقوة يقينه، وأيضاً قوة فتوته وشبابه، قال: أريد أكثر. قال: (اختمه في شهر، فقلت يا رسول الله! دعني أغتنم قوتي وشبابي).
فيقول : دعني أغتنم شبابي الآن، وهذا هو مفهوم الشباب هذه الأيام، يقول قائلهم: دعني أستغل شبابي بالشهوات، والملذات، والسهرات، واللعب، والكرة، يقول: دعني أشبع من الشهوات، وإذا شبعت وصرت شيبة في تلك الساعة سأرجع إلى الله! لكن الذي لا ينفع في هذا اليوم لن ينفع فيما بعد.
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا صارت من الخشب |
فالغصن عندما يكون في الشجرة وهو أخضر تستطيع أن تعدله كيفما تشاء، لكن إذا صار عوداً، فيظل كما هو إلا أن تكسره، فقد رأينا كثيراً ممن شب على الضلال، لما شاب ما اهتدى، لماذا؟ لأن الكلام على المنبت وعلى البدايات، وعلى ضوء حسن البدايات تكون حسن النهايات.
وأذكر مرة من المرات أنني كنت آتياً من العمرة ووقفت في الطائف عند صاحب بنشر من أجل أن يتفقد لي هواء الإطارات، وكنت على سفر وأهلي معي في السيارة، ومتاعي فوقها وأنا آتٍ من العمرة، فوجدت هناك رجلاً كبير السن ربما في السبعين أو الثمانين من عمره، ولكن لا لحية له ولا شارب، أي: محلوق اللحية والشارب، واللحية زينة للرجل سواء في شبابه أو في شيبته، ففي شبابه وقار وهيبة، وفي شيخوخته ستر وهيبة ونور؛ لأنه ينبت فيها الشيب، والشيب نور: (ما من مسلم يشيب شيبةً في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة).
فهذا الرجل لما صار شيخاً كبيراً في السن وليس عنده ولا شعرة في وجهه، وأيضاً قد تجعد وجهه مع السنين، فظهر وجهه مثل وجه المرأة العجوز الكبيرة في السن، وكان يدخن بإسراف فيشعل الواحدة تلو الأخرى، فأشفقت عليه ورحمته من هذا الوضع الذي هو فيه، فجئت إليه وقلت: لابد أن أنصحه، وتساءلت كيف أنصح من مثل هذا الرجل في هذا السن؟ لابد أن أختار أفضل أسلوب وأحسن عبارة، فجئت وسلمت عليه، وتبسمت في وجهه، وأنا أقول في نفسي: لو أن الشيطان الرجيم لقيته ونصحته بهذا الأسلوب ربما يقول: جزاك الله خيراً، وهو الشيطان الملعون، لكن انظروا كيف كان رد هذا الرجل، قلت: السلام عليكم. قال: وعليكم السلام. قلت: كيف حالك يا والد بارك الله فيك، الحقيقة: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) فأنت الحمد لله الذي مد في أجلك وطول في عمرك حتى بلغت هذا السن، والآن ذهب الشباب وشرته وحدته وطيشه وجهله، والآن أتى المشيب وحلمه ووقاره، فالحمد لله الذي مد في عمرك، وآن لك أن تقضي ثمرة حياتك في الذكر والعبادة، وانظر! أنا رأيت في السوق كثيراً من المدخنين، ولكني ما استطعتُ أن أنصح واحداً منهم إلا أنت؛ لأني رأيت علامات الدين والإيمان والنور في وجهك -ووالله لا أثر للإيمان في وجهه، لكن قلت: لعل الله أن ينفعه بهذه الكلمة- فما أردت أنصح إلا أنت، فحبذا! يا والدي جزاك الله خيراً أن تترك هذا التدخين، فأنت تعرف أن هذه الحياة فانية، وأنك ستموت وتدخل القبر وتسأل عن عملك -ثم استرسلت في الأسلوب والبيان والفصاحة والبلاغة، إلى أن قلت-: لا يسعه إلا أن يكون أحد رجلين: إما مهتدٍ مؤمن يقول: بارك الله فيك، وجزاك الله خيراً كما يقول كثير من الناس ويتوب، أو ضال -والعياذ بالله- ومعاند، لكن أمام الأسلوب وأمام الإطراء والثناء ما يسعه إلا أن يقول لي: جزاك الله خيراً.
ولكن أتدرون ماذا قال لي بعد أن انتهيت من هذه المقدمة والخطبة الطويلة العريضة؟
نظر إليَّ وهز رأسه ساخراً مستهتراً ثم قال لي: عجيب أنت مُطوع! الحقيقة لما قال هذا الكلام تغير الأمر، وانقلب الحال، فأنا قد أتعبت نفسي، وأريد أن يهديه الله، فما رفض إلا هذا الأسلوب، طبعاً هو كبير في السن لا يستطيع أن يضربني، وأنا لست شجاعاً، لكن قلت: سأقدر عليه، لكن المشكلة أن أولادي في السيارة وأنا على سفر، وما أريده أن يعطلني، وإذا صاح سوف تأتي الشرطة وتمسك بي وتصبح مشكلة، وإلا فإن يدي على وشك ضربه؛ لأنه ليس هناك لهذا الإنسان الذي يرفض هذا الأسلوب إلا أن يعطى درساً يُؤَدَّبُ به حتى يبعد ما في رأسه من خبال، لكن ليس بإمكاني شيء.
فتذكرت حلم النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يتعرض له من الإهانات، وذكرت حلم إبراهيم بن أدهم الذي يحكى عنه أنه كان يسير في طريق ، فمر عليه يهودي ومع اليهودي كلب يسحبه بحبل، فقال له: يا إبراهيم ! ذنب كلبي أطهر أو لحيتك؟ -لو قيلت هذه الكلمة لواحد منا؛ فلا يرده إلا أن يذبحه مباشرةً!- قال: إن كنتُ من أهل الجنة فلحيتي أطهر من ذنب كلبك، وإن كنتُ من أهل النار فذنب كلبك أطهر من لحيتي.
فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله! والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء، يقول: هذا الخلق لم يأتك من السوق، لابد أنه من أخلاق النبوة، ودخل في دين الله عز وجل. فلما تذكرت هذا الكلام أمسكت نفسي، ولكني ما صرت مثل إبراهيم بن أدهم ، بل قلت له: انظر أنا دعوتك إلى الله وأَبَيت، وبإمكاني أن أجيب عليك، ولكن أَكَلُكَ إلى من يقتص منك ويجازيك، أحيلك على الله الذي لا إله إلا هو، ثم تركته ومشيت.
فالشاهد في الموضوع أن من شب على شيء شاب عليه، فلا تضيع شبابك وحياتك على أمل أنك إذا صرت كبيراً تتوب، لا؛ فالذي لا خير فيه في شبته، لن يكون فيه خير في شيخوخته.
إن من قرأ القرآن في أكثر من شهر يعد هاجراً للقرآن، انظروا إلى هذا الكلام! لأن الله يقول: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] والهجر طبعاً يتفاوت من رجل إلى رجل، فمن الناس من يهجره فلا يقرأه في العام ولا مرة، ومنهم من لا يقرأه في السنين كلها إلا مرة، ومنهم من لا يقرأه إلا في أكثر من الشهر، ولكن الاعتدال أن تقرأ في كل شهر مرة، يقول العلماء: الهجر ينقسم إلى خمسة أقسام:
أولاً: هجر القرآن تلاوةً.
ثانياً: هجر القرآن تدبراً.
ثالثاً: هجر القرآن عملاً.
رابعاً: هجر القرآن احتكاماً.
خامساً: هجر القرآن استشفاءً.
فإذا مرضت فاستشفِ بالقرآن، واحتكم إليه، واعمل به، وتدبره، واتله، فإذا توفرت فيك هذه الخمس، فأنت من أهل القرآن، فإذا أهملت خصلة من هذه الخصال فأنت هاجرٌ لكتاب الله.
وأحد الإخوة! يقول: هناك أسلوبٌ من أعظم الأساليب إذا اتبعه المسلم؛ استطاع أن يختم القرآن في كل شهرٍ مرة؛ لأن بعض الناس يريد أن يختم، ولكن يضيع عليه مصحفه الذي في البيت أو الذي في المكتب أو الذي في جيبه، أو بعضهم ما يتمكن من حمل المصحف في جيبه؛ لأنه يخشى أن يدخل به دورة المياه، أو يعرضه لإهانة، وفي المسجد لا يستطيع أيضاً أن يمسك مصحفاً خاصاً، فإن المصاحف في المسجد مشتركة لكل واحد، فابتكر طريقة جديدة وأسلوباً عظيماً وموفقاً أدلكم عليه، وقد جُرِّب فكان ناجحاً، وهو أن يختم القرآن في كل شهر مرة بدون أي كلفة، فما هو هذا الأسلوب؟
الأسلوب هو: أن تبدأ في ختم القرآن في اليوم الذي أنت فيه، فمثلاً لو أن اليوم [20/4] فإنك من يوم غدٍ ستبدأ في الجزء الحادي والعشرين من القرآن الكريم؛ لأن غداً يوافق في الشهر [21] فتقرأ في الصباح ما شاء الله لك من الجزء الحادي والعشرين، ربع حزب.. ربعين.. نصف جزء.. وبعد ذلك أَغلق المصحف واعرف عند أي آية انتهيت؛ لأنك في الجزء الحادي والعشرين ما عندك فيه اختلاف ولا لبس، فإذا جاء وقت الظهر فمن المفترض أنك بمجرد أن يؤذِّن أن تنزل وتصلي أربع ركعات، راتبة الظهر كما جاءت في السنة، ثم تجلس وتقرأ، وبعد الصلاة تكمل، أو تكمل هذا في العصر، أو تكمله في المغرب فتواصل القراءة إلى العشاء، المهم إذا جاءت صلاة العشاء وما أكملت الجزء كله، فاعرف كم بقي عليك، وإذا جئت البيت قبل أن تنام فاقرأ بقية الجزء ثم صلِّ الوتر ونم.
وبهذا الأسلوب تتمكن في يوم واحد من أن تكمل جزءاً، وفي اليوم (22) تقرأ الجزء (22)، إلى آخر الشهر، ثم تبدأ من أول الشهر من الجزء الأول، فإذا كان الشهر ثلاثين يوماً فالحمد لله، وإذا كان الشهر تسعة وعشرين تضاعف القراءة في اليوم الأخير فتجعله جزأين، وبهذا تعد تالياً لكتاب الله، عاملاً بسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل في هذا صعوبة؟! لا والله ما فيه صعوبة؛ لأننا لو أجرينا الآن استفتاءً في الموجودين وهم صفوة الشباب، وقلنا: هل تقرءون القرآن في كل شهرٍ مرة؟ ربما النسبة التي تقرأ القرآن في كل شهر مرة تبدو قليلة وأنا أولهم، ولكن بالأسلوب هذا إن شاء الله نستطيع أن نعمل.
فقال رضي الله عنه: [ولما شبت وكبر سني ودق عظمي؛ قلت: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم] لأنه في هذه الحالة ألزم نفسه، والرجل صادق لا يعرف الكذب، فمادام أنه استعد أمام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ما كان له أن ينقض عهده الذي أبرمه مع الرسول يوم أن ذهب صلى الله عليه وسلم، بل بقي عليه حتى مات، ولكن حصلت له بعد كبر سنه مشقة في ممارسة مثل هذا من كثرة الصيام والقيام، فقال: [ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصوم] ولقد خفف عنه عليه الصلاة والسلام النافلة حتى قال له: (صم يوماً وأفطر يوما، قال: أكثر من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، هذا صيام داوُد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) وهكذا يقول الشارح لهذا الحديث: كل من ألزم نفسه في تعبدٍ أو أورادٍ أو قيامٍ بأكثر من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيندم فيما بعد؛ لأن قيام جزء من الليل ولو كان يسيراً؛ حتى ولو ركعتين مع المحافظة على الرواتب التي هي اثنا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر، واثنتان بعده، واثنتان بعد المغرب، واثنتان بعد العشاء، واثنتان قبل الفجر، والمحافظة على النوافل كالضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار طرفي النهار -أي: في أول النهار، وأول الليل- مع الاشتغال بطلب العلم ومتابعة حلق العلماء، وقراءة كتب العلم في البيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأى الإنسان معروفاً يأمر به، وإذا رأى منكراً نهى عنه، وتعليم الجاهل، وزجر الناس عن الفساد، وقبل ذلك أداء الفرائض في جماعة المسلمين مع الخشوع والطمأنينة وحضور القلب وانكساره، والصدقة من المال بما تيسر، والتواضع للمسلمين، والإخلاص لله في جميع ذلك بشكلٍ منتظم، يعتبر مقاماً عظيماً ومنزلاً جسيماً، وهو مقام أولياء الرحمن.
هذا المقام إذا أصبحت فيه، فليس أفضل منك، لكن من عدم الاعتدال أن تزيد في شيء ثم تندم عليه بعد ذلك، وكان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كثير القيام والبكاء، وقد بكى رضي الله عنه وأرضاه حتى فسدت عيناه.
فلقد كانوا يبكون رضي الله عنهم بكاءً حاراً، بكاء يُنزل الدمع مثل الجمر من حرارة الإيمان في قلوبهم، فكان بكاؤه كثيراً حتى أفسد عينيه، وقد زوجه أبوه رضي الله عنهما بزوجة من فتيات قريش من أجمل النساء، ومكثت فترةً عنده ما كشف لها ثوباً، كلما دخل عليها وقف في بيته واستقبل قبلته وقام طوال الليل حتى يصلي الفجر، فلا يعرف إلا الله والصلاة.
لقد كان عبد الله بن عمرو شاباً فريداً عابداً زاهداً من خيرة عباد الله، فلما زاره أبوه عمرو بن العاص -وهو مشتغلٌ عنها بالعبادة- قال لها: كيف بعلك؟ يعني: كيف أخلاقه؟ وهل هو حسن أم لا؟ قالت: والله إنه خير رجل، فلم يقرب لي فراشاً منذ أتيته، أي: منذ أتيت إليه، والله ما يمس لي فراشاً، قالت: فأقبل عليه يعاتبه، فعاتبه أبوه، ثم شكاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: (أتصوم النهار وتقوم الليل؟ قال: نعم. قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر... الحديث) وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين سألوا عن عبادته فقال أحدهم: أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أصوم ولا أفطر، وقال الثالث: لا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني) لأن أكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج الإمام مالك في الموطأ ، وأحمد في المسند ، وأبو داوُد ، والنسائي ، وابن ماجة في السنن، أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تُوفي يوم خيبر، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (صلوا على صاحبكم) أي: رفض أن يصلي عليه، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: (إن صاحبكم غل شيئاً مما هو في سبيل الله، ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزاً من خرز اليهود) والخرز هو: عقد بسيط فيه خرز لا يساوي درهمين، ولكن هذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصلي عليه، لأن صلاة الرسول موجبة.
وروى الإمام مسلم وغيره عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما، قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة غلها) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يا ابن الخطاب ! اذهب فنادِ في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا يكتمل إلا فيمن توقى مثل هذه الأمور، واحترز من أخذ هذه الأموال العامة، والتي الوقوع فيها -والعياذ بالله- سببٌ لنكبة الإنسان.
وروى البخاري ومسلم في الصحيحين هذا الحديث -وهو حديث عظيم جداً، وطويل جداً، وواضح ليس فيه غموض- قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ خطيباً، فذكر الغلول، فعظَّمه وعظَّم أمره، ثم قال: لا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة -أي: لا أجدن أحدكم يأتيني يوم القيامة- على رقبته بعير له رغاء -لأنه أخذ من الغنيمة، والله يقول: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]- فيقول: أغثني! أغثني! يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك) أي يقول: خلصني يا رسول الله من هذا الحمل الذي على ظهري؛ لأنه غله في الدنيا، ولكن في يوم القيامة ما يستطيع أن يتخلص منه: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
أي: فلابد أن تأخذ معك هذا؛ لأنك أنت الذي أخذته من بيت مال المسلمين، استهنت بأمر الله فهو فوق ظهرك، ثم قال: (لا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته فرس له حمحمة -والحمحمة هي: صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، ولا أُلفين أحدكم يأتيني يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء -والثغاء هو: صوت الغنم- فيقول: يا رسول الله أغثني! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق).
والرقاع؟ قال العلماء: هي كل ما يغل من بيت مال المسلمين مما يلبس أو يفرش، فإذا كنت مدير مدرسة ولديك الألبسة الخاصة بالنشاط الرياضي ثم أخذت تُلبِس منها أولادك وعمالك وجيرانك من بيت مال المسلمين فاعلم أنك محاسب على هذا؛ لأن هذه جاءت للطلاب، فما ينبغي أن يلبس أحد أبنائك واحدة منها، بل إن هذا ممنوع أشد المنعِ.
أو كنت مثلاً في الشرطة أو في الجيش؛ فتأخذ من الملبوسات وتُلبس الناس من بيت مال المسلمين، هذا لا يجوز.
أو كنت مثلاً مسئولاً في أي إدارة؛ فتأخذ من الزوالي أو من الموكيتات أو من الكنبات أو من أي شيء كان؛ فإن هذا لا يحل لك، أو الخيام أيضاً، فالرقاع يشمل: الملبوس، والمفروش، والمسكون به.
فـ(رقاع تخفق) أي: تأتي بها، وهي تخفق فوق رأسك، لا حول ولا قوة إلا بالله! (رقاع تخفق، فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتيني يوم القيامة وعلى رقبته صامت) والصامت هو: الجماد، فأي شيء صامت مثل: دبوس.. محفظة.. قلم.. دفتر.. كتاب.. كرسي.. طاولة.. سيارة.. أدوات.. أو أي شيء خاص بالمكتب؛ فإنه لا يجوز لك أن تأخذه.
فلا تحتقرن شيئاً يدخل بيتك من بيت مال المسلمين، ولا تستعمل شيئاً إلا ما كان في مصلحة عملك، وفي خدمة واجبك الذي ائتمنك عليه ولي الأمر، فهذا الحديث كما قلت لكم في الصحيح: (فيقول: أغثني يا رسول الله! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك).
وروى أيضاًً البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا، فلم نغنم ذهباً ولا ورِقاً، ولكن غنمنا متاعاً وطعاماً وثياباً، ثم انطلقنا إلى الوادي -يعني: وادي القرى ، ووادي القرى وادٍ قِبل خيبر - ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ له وهبه له رجلٌ من جذام يدعى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام هذا العبد -عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم- يحل رحله -أي: يحل الحمل من على رحله- فرمي بسهم غريب -والسهم الغريب الذي لا يُعرف مرسله- جاء من السماء وارتطم به فضربه بشدقه فكان فيه حتفه، فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: كلا، والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها من الغنائم لم تصبها المقاسم لتلتهب على ظهره في النار، قال: ففزع الناس، وارتبكوا وخافوا، -قالوا: إذا كان هذا من أجل شملة حالت بينه وبين الجنة- فجاء رجل بشراك -والشراك أي: فردة من نعل أخذها من الغنيمة- فقال: يا رسول الله! شراك أخذته، قال: شراك من نار، فجاء آخر وقال: شراكين يا رسول الله! قال: شراكين من نار) والعياذ بالله!
وروى النسائي وابن خزيمة في صحيحه عن أبي رافع رضي الله عنه هذا الحديث العظيم، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى العصر ذهب إلى بني عبد الأشهل -بني عبد الأشهل هم قوم
وروى النسائي وابن حبان في صحيحه واللفظ للحاكم قال: صحيح على شرط البخاري ومسلم : (من جاء بريئاً من ثلاثة دخل الجنة: من الكبر، والغلول، والدَّين) فمن جاء بريئاً من ثلاثة دخل الجنة أي: مع بقية شرائع الدين؛ لأن هذه موانع تمنع الإنسان، الكبر، والغلول، والدَّين.
كذلك من يجلس في مهمة يُمططها، كأن تنتهي هذه المهمة في يوم أو يومين، ولكن لا ينجز منها في اليوم الأول إلا ربع ساعة، وفي اليوم التالي ربع ساعة؛ حتى يجلس شهراً كاملاً في رحلة انتداب، وكان من الممكن أن ينهيها كلها في يوم أو يومين، وهذا كله من أجل أن يأخذ انتداباً، وما علم أن هذا الانتداب زاد له إلى النار.
ويدخل في ذلك العمل الإضافي الذي يأخذه الموظفون، والذين يقومون بتكديس المعاملات، وتأخيرها، والانشغال عنها بالأكل في المكاتب، والمكالمات الهاتفية، وقراءة الجرائد، ومتابعة أخبار الدوري، والتهرب من العمل، وبعدها يأتي بالمعاملات في آخر الدوام عند الأستاذ أو المدير، ويقول: أطال الله عمرك! كيف أعمل بهذه؟! لا أستطيع أن أنجزها! فيقول له المدير: ماذا تريد؟ قال: أريد عملاً إضافياً شهراً أو شهراً ونصف، فالسنة المالية على الأبواب وأنا مسئول، وإلا فلن أتحمل المسئولية فيما بعد، فيقول المدير: تفضل ويعطيه، هذا المدير خائن، فقد كان من المفروض ألا يعطيه إضافياً، بل يحمله على القيام بالواجب رغماً عنه ولا يعطيه شيئاً؛ لأنه هو الآن قد غرق فلم يعد قادراً على أن يحلل لقمة عيشه التي يأخذها؛ لأنه يأتي متأخراً، فلا يحضر إلى الدوام إلا الساعة التاسعة أو التاسعة والنصف، والمراجعون أكوام على أبوابه وهو يرفضهم ويدخل ويغلق عليه الباب.
وأنا مرة من المرات كان عندي معاملة، فدخلت في إحدى الإدارات على أحد الموظفين فأعطيته المعاملة، فقال لي: تفضل اجلس، فجلست حتى تضايقت وهو في مكالمة مع زميل له، وأنا مشغول وعندي عمل، وبعد ذلك عندما وضع السماعة، قال لي: ما عندك؟ ومرة أخرى يكلم شخصاً آخر ربع ساعة أيضاً، وهذا ربع وذاك ربع، وبعد ذلك أغلق السماعة، ثم أخذ معاملتي وقال: اذهب بها إلى القسم الثاني، قلت: لماذا لم تقل لي من البداية يا أخي؟! تربطني نصف ساعة من أجل مكالمتك، وبعد ذلك تقول لي: اذهب إلى القسم الثاني، إنا لله وإنا إليه راجعون!
فهذا حرام في دين الله، وخيانة للأمة، وخيانة لولي الأمر، فولي الأمر مؤتمن ومسئول عن هذه الأمة، وقد وزع مسئوليته على الأفراد، وكلٌّ مسئول عن رعيته يوم القيامة، (وما يلي أحد أمر اثنين إلا جاء يوم القيامة ويده مغلولة إلى عنقه، يُطلقه عدله أو يوبقه ظلمه).
فلا تتصور يا أخي أنك لست مسئولاً إذا كنت موظفاً، لا. بل والله لو كنت موظفاً على الصادر والوارد فقط، فإنك مسئول في أن تحرر المعاملة، وأن تسجلها بوضوح، وإذا جاءك المراجع تعطيه خدمة ممتازة، فتقوم بخدمته وتراجع له ما يحتاج بالسجلات، وتبحث له في الملفات، وتعطيه الرقم بأحسن عبارة، فهذه أمانة، لكن كونك تؤخر عمله، ثم تأتي تأخذ عملاً إضافياً وتأكل حراماً، لا. هذا كله غلول. ولا ينبغي أن يؤخذ من بيت مال المسلمين شيء بغير حق، إلا بحق شرعي نظير أجرتك التي أنت بذلت فيها عرقك في عملك هذا، وما دخل عليك بغيرها فهو حرام.
ويدخل في هذا أيضاً الهدايا، هدايا المسئولين، فإذا كنت مديراً لمدرسة من المدارس مثلاً وعندك طالب في السنة السادسة جاملته لأن أباه وضع في (الحوش) خروفاً، وقال لك: ولدي عندك في المدرسة، فقلت له: ما المسألة يا فلان؟ فيقول لك: نعم. المسألة عزمناك.. عزمناك.. عزمناك..؛ فما جئت، ولا نريد أن نكلف عليك، لأننا نعرف أنك مشغول، فأحضرنا لك ذبيحة إلى البيت، لك أنت والأولاد، فتقول له: شكراً. فإذا جاءت الامتحانات تكون عينك على هذا الخروف (أبو مرقة) أين هو؟ ولو نقص مائة علامة فلابد من أن تزيده، وتقول: لِلَجنة الرحمة ارحموه، هذا لديه (مرقة) عندنا -له خروف- هذا اسمه: غلول؛ لأن هدايا العمال كما جاء في الحديث: (هدايا العمال غلول).
فإذا كنت في مكتب، وعندك وظيفة، وجاءتك هدية من شخص من أصحاب المعاملات التي عندك، كأن تكون مسئولاً عن المباني مثلاً، أو عن الأجور، أو الرواتب، أو الانتدابات، فتأتيك هدية سواءً من الموظف الذي أقل منك، أو من المراجع الذي يأتيك فيهدي لك كأس سمنٍ، أو عسلٍ، أو تمرٍ، أو زبيبٍ، أو شيءٍ مما يهدى، أو أن يسافر ويأتيك عند عودته بهدية: بساعة، أو بقلم، وأكثر المدرسين يهدون هدايا للمدراء.
حتى أن هذا المدير لا ينسى هذا المدرس بأي حال من الأحوال؛ لأن الإنسان عبد الإحسان، فإذا أحسنت إلى أحد من الناس فإنك تستعبده بذلك، والإسلام ينزه المسلم عن هذا، حتى يكون عدلاً في قضاياه وفي تعامله مع الآخرين.
(هدايا العمال غلول) فلا ينبغي أن تقبل هديةً من أحدٍ، وأنت في منصبٍ إلا بشرطٍ واحدٍ، قالوا: إذا كان يهديك قبل المنصب، يعني: بينك وبين أحد خلة وصداقة وقرابة، وهو يهديك وأنت تهديه قبل أن تصير في هذا العمل، فهذا ليس فيه شيء، أما إذا صرت في المنصب وجاءتك الهدايا، فانظر بعد أن يذهب عنك المنصب من الذي يهدي لك، والله لن يلقوا عليك حتى السلام.
فقد ورد في السير أن عبد الله بن اللتبية وهو صحابي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الزكاة، فذهب وأتى بالزكاة، فلما رجع من الزكاة جاء ومعه شيء من الزكاة ومعه شملة- بردة على ظهره- وقال: فأما هذه فلبيت مال المسلمين، وأما هذه فأهديت لي، فلما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم غضب غضباً شديداً حتى لكأنه يفقأ في وجهه حب الرمان -وكان إذا غضب؛ علته الحمرة صلوات الله وسلامه عليه- ثم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ولم يكن وقت صلاة، فجمع الناس، وقال: (ما بال أقوامٍ -وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم، فما فضحه، فقال: ما بال أقوامٍ نستعملهم على الزكاة، فيذهبون ثم يعودون، ويقولون: هذا لبيت مال المسلمين وهذا أهدي لنا، أفلا قعدوا في بيوت آبائهم وأمهاتهم أكان يهدى إليهم شيء؟) فلو أنك لست في منصب أكان يهدى لك شيء؟ لا. لكن الهدية ليست لك، بل هي رشوة تلبس ثوب الهدية: (وهدايا العمال غلول) كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
الجواب: هذا الحديث مشهور، ولكني لا أعرف مدى صحته، وأَعِد الأخ السائل أن أبحث عنه إن شاء الله.
الجواب: صورة المسألة: رجل يريد أن يسافر إلى الرياض ، وبعد ذلك أدركته صلاة الظهر وهو في أبها ، وسفره قائم وموعده بعد دقائق أو بعد ربع ساعة وأدركه الوقت، هل يقصر الصلاة هنا أم لابد أن يخرج حتى يسمى مسافراً؟
اختلف في ذلك أهل العلم، فقال الإمام مالك والشافعي وأحمد وجماعة من السلف والتابعين: لا يجوز لمن نوى السفر أن يقصر حتى يخرج من بيوت قريته أو بيوت مدينته ويفارق البنيان ويتركها وراء ظهره. هذا قولهم.
وقال بعض أهل العلم: يجوز له ويباح له أن يقصر إذا نوى السفر؛ وإن كان لا يزال في بلده، والصحيح الذي عليه الدليل، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجوز له أن يقصر حتى يسافر، والدليل ما ذكره الله في القرآن، قال الله عز وجل: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101] فلا يسمى الإنسان ضارباً في الأرض حتى يباشر السفر، أما إذا كان لا يزال في بيته، فحتى وإن نوى السفر فإنه لا يسمى ضارباً، فقد علق الله إباحة القصر في الصلاة على الضرب في الأرض، قال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء:101].
الدليل الآخر ما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بـالمدينة فصلاها أربعاً، وبـذي الحليفة قصرناها اثنتين) فدل ذلك -وهو قبل السفر- على أنه إذا صلى في المقر الذي يقيم فيه؛ فأن عليه أن يتم، وإذا صلى بعد أن يباشر السفر؛ فإنه يجوز له أن يقصر.
الجواب: هذا الكلام حرام في دين الله عز وجل، وقد أفتت هيئة كبار العلماء بأن ذلك لا يجوز؛ لأن الله عز وجل قد حرم على المسلم دم ومال وعرض أخيه المسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وهذا مسلم، لماذا تأخذ عليه ضريبة؟ لماذا تأخذ عليه جزية؟ لماذا تمارس في رقبته تجارة؟ لكسلك وجهلك وانحطاطك، فكثير من الناس الآن يقوم بعمل مؤسسة وهمية كاذبة، ثم يقول: أريد أن أحضر لي عمالاً، ثم يستقدم له عشرين عاملاً ومن ثم ينام هو، لأنه إنسان فاشل في الحياة، فتجده يقول للعشرين هؤلاء: اذهبوا، وكل واحد منكم يأتي لي في آخر الشهر بخمسمائة ريال، فتصير عشرة آلاف، أي: راتب شهري، تأتيه عشرة آلاف ريال وهو نائم في البيت، لا عَمِل ولا اشتغل، ويأخذها من رقاب المسلمين الضعفاء، فهذا حرام ولا يجوز، سواء رضي العامل بذلك أو لم يرضَ، حتى وإن رضي فإن الرضا هذا ليس منبعثاً عن قناعة، وإنما يسمونه رضا الإذعان، لكن لو جئت وقلت: لا. لن آخذ منك شيئاً فلن يرغمك، لأنه يعرف أنه إذا لم يعطك فإنك تُرَحِله.
فهو يعطيك إذعاناً لا يعطيك رضاً، والحكم هو حرمة ذلك، فلا يجوز لمسلم أن يفعله، وعلى المسلم الذي يفعله أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى من هذا الأمر، الذي هو والعياذ بالله حرام.
الجواب: أولاً: لا يجوز للسائل أن يقول: ما رأيك؛ لأنه ليس هناك رأي في الدين، والذي يجب عليه أن يقول: ما حكم الشرع في كذا وكذا؛ لأن الدين بالدليل ليس بالرأي.
والطلاق شيء شرعه الله في دينه كحل وكمخرج نهائي عند تعذر الحياة الزوجية بين الزوجين، وهو من نعم الله عز وجل على الأمة، إذ لو أنك ارتبطت بامرأة، ثم ساءت عشرتك معها وساءت عشرتها معك، ولا تريدها ولا تريدك، وليس هناك وسيلة للخلاص، فكيف سيكون الأمر؟ عندها تكون مشكلة ومصيبة عليك إلى أن تموت، مثلما يحصل الآن في أوروبا ، فعندهم في بعض الديانات ليس هناك طلاق، ولهذا أصبحت الزوجة سلسلة في رقبته تسحبه إلى أن يموت، ولكن الله شرع الطلاق كباب نهائي إذا فشلت الحياة، قال الله عز وجل: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130].
فقد يتزوج الإنسان بامرأةٍ فلا يرتاح لها ولا يسكن إليها ولا يطمئن لها، أو تتزوج امرأة بإنسان ولا تسكن ولا ترتاح إليه، فإذا لم تكن هناك عشرة، وليس هناك إقامة لحدود الله، ولا تفاهم، ولا انسجام، ولا تمازج؛ فليس هناك داعٍ إلى أن تستمر الحياة في جحيم، وعذاب، ومضاربة، ومشاكسة، وبغضاء، ولعن، وسب، وشتم، لماذا؟ لأنك تستطيع أن تتركها وتأخذ غيرها، فتأخذ واحدة طيبة إن شاء الله تُرجعك إلى الحياة الحقيقية، واتركها هي تأخذ من يصلح لها: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130].
أما أن تقعد إلزاماً، فلا. فليس في دين الله حياة زوجية تقوم على عدم الرضا والقناعة، فإذا تمكن الزوج من ذلك، وإلا فإن من حقه أن يطلق، ومن حق المرأة إذا كانت هناك عيوب شرعية في الرجل أن تطلب الطلاق من زوجها كما هو موضح في كتب أهل العلم.
ولكن المصيبة أن الناس تلاعبوا بهذا الأمر، تلاعبوا بالطلاق، وأصبح الرجل منهم يطلق على كل صغيرة وكبيرة، يطلق إذا اشترى، ويطلق إذا باع، ويطلق إذا استضاف، ويطلق إذا أراد أن يبرهن للناس أنه صادق، وهذا كله لا يجوز في دين الله، أولاً: هذا قسم، والقسم بغير الله لا يجوز كما جاء في الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك).. (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) والإنسان إذا أراد أن يحلف فإنه يعظِّم، ومن عظَّم غير الله فقد أشرك بالله.
ثانياً: فيه تعريض لنفسه في أن يقع في الطلاق؛ لأن هذا الطلاق معلق، فالذي يحلف بالطلاق على شيء لمنع شخص من فعله، أو لدفع إنسان من فعله، أو لإقناع إنسان على أن هذا ليس بصحيح، فهذا الطلاق اختلف فيه أهل العلم هل يقع أو لا يقع، وقد قرأت فتوى لـهيئة كبار العلماء في مجلة البحوث الإسلامية وفيه خمسة عشر عالماً برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله قد أفتوا بأن الطلاق المعلق يقع، ولكن بعض العلماء لهم وجهة نظر أضافوها في نهاية الفتوى للشيخ عبد العزيز بن باز ، وللشيخ عبد الله خياط وغيرهما؛ سبعة من العلماء صارت لهم وجهة نظر أو رأي معين تعليقاً على ما رأته الهيئة بكامل أعضائها، ولذا فإن الجمهور يرون أن الطلاق المعلق يقع إذا حلف به صاحبه، فقد تطلق على ضيف أن يأتي ويمسي عندك اليوم، فيقول: كيف أذهب؟! عندي ظرف، ثم لم يأتِ، فهذا يقول: أستغفر الله وأشهدكم أني استرجعت امرأتي، أهي لعبة؟!
أولاً: لا ينبغي أن يدور الطلاق في لسانك صادقاً كنت أم كاذباً، براً أم فاجراً، لا تفكر فيه أبداً؛ لأنك تحطم عشك وتحطم أسرتك، وتقضي على مستقبل أولادك وزوجتك.
وأذكر أنا كنا مرة جلوساً عند الشيخ عبد الله بن يوسف ، فجاءنا رجلان متصاهران، قال الأول: يا شيخ! أفتنا: هذا صهري جاءني، وأنا أريد أن أكرمه، فطلقت إن لم أكرمه بذبيحة، فطلق هو أنها لا تكتب له، والآن أوقفنا النساء هناك مساكين ينتظرن الخبر، فصارت الآن مشكلة من أجل أن يعشيه لحماً ومرقاً.
قال له الشيخ: أحدكما يحنث وتحرم عليه زوجته إن كانت الثالثة، أو يسترجعها إن كانت غير الثالثة، وهذا الرأي الذي يفتي به العلماء في المحاكم، ولا يفتي بأن الطلاق المعلق لا يقع إذا حلف فيه إلا الشيخ عبد العزيز بن باز ، ولكنه يحتاط لنفسه ويسأل المطلق، يقول: هل تقصد الطلاق أثناء ما حلفت؟ فإن قال: نعم. أقصد الطلاق، قال: اذهب فقد وقع الطلاق، وإن قال: لا. أنا لا أقصد الطلاق، ولكني أقصد اليمين فقط، ولا أنوي الطلاق أبداً ولا أقصده، قال له: نعم. هذه يمين مكفر عن يمينك.
فهذا رأي الشيخ ابن باز رحمه الله خاص به، ومعه طائفة من أهل العلم، وقد كلمته أنا بنفسي، وقلت: يا شيخ! كيف تسمع الرجل يتلفظ بلسانه ويقول: طلاق، وتقول أنت: هل تقصد الطلاق؟ قال: نعم نسأله عن ذلك، قلت: حسناً! لو أتى واحد وصفعني في وجهي، وقلت: بالله أنت قصدك تصفعني أو قصدك تضع يدك في وجهي، ماذا أعبرها؟ فضحك الشيخ ضحكة واسعة جداً، ثم قال: جزاك الله خيراً، لكن الموضوع فيه سعة، ولا نريد أن نحرّج على الناس، وما هو ذنب المرأة التي في البيت، هذا رأي خاص به، لكن العلماء الآخرين يقولون: لا. هذا شيء يملكه وما دام أنه تسرع فيه وطلق به، نوقعه عليه زجراً له حتى لا يتلاعب بالأيمان، ولا يلعب بالطلاق.
فالذي نوصي به الإخوان ألا يطلقوا لا في كبيرة ولا في صغيرة، ولا يلجأ الإنسان منهم إلى التلاعب بالأيمان، وإذا وقع منه شيء في الطلاق عليه أن يستفتي، ولا يحصل منه الاسترجاع هكذا من مجلس الكلام، فيقول: أشهدكم أني قد استرجعت، ويرجع، لا. بل يذهب ويستفتي، وعلى المفتي أن يسأله كم قد سبق هذه، وهل هي الأولى أم الثانية أم الثالثة؟ وما هي نيتك من الطلاق؟ ومن الممكن أن يفتي على رأي الشيخ ابن باز ومن سار معه، أو أن يفتي على رأي الجمهور الذين يوقعون الطلاق، وعلى كل حال يجب على المسلم أن يتقي الله ولا يقع فيه هذا.
الجواب: سؤالٌ عامٌ، وواسعٌ جداً، والجواب عليه ما رواه أنس في حديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثٌ من كنّ في قلبه؛ وجد بهن حلاوة الإيمان) وهذه تريد منك أن تجتهد في سبيل تحصيلها؛ لأن حلاوة الإيمان لا تباع في الصيدلية، ولا في السوق المركزي، وليست في الأندية الرياضية، لا؛ أبداً. فحلاوة الإيمان هذه نعمة من الله يسوقها لمن طلبها، قال: (ثلاثٌ من كنّ في قلبه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) وهذه صعبة جداً إلا على من يسرها الله له، بمعنى: أن تقدم طاعة الله ومحبته وامتثال أوامره، ومحبة رسول الله وسنته على كل أمر، على كل هدي، وعلى كل شيء في الدنيا؛ فحلاوة الإيمان تجدها بعد هذا؛ لأن الحلاوة ثمرة لهذه الثلاث: وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله) يعني: يبني علاقاته مع الناس على أساس من دينه وعقيدته فيحب الرجل إذا رأى فيه علامات الخير، ورأى فيه التمسك بالسنّة والغيرة على دين الله، ورأى فيه الحماس والقوة في دين الله، والاعتدال، والتمسك.
وإذا رأى فيه نقصاً، أو تراخياً، أو حباً وميلاً للشهوات والمعاصي، فإنه يبغضه، فيحبه على ما فيه من الخير، ويبغضه لما فيه من الشر. (وأن يحب المرء لا يحبه إلا في الله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار) وهذه تمثل غاية الثبات على الإيمان والعقيدة، وغاية الاعتزاز بالدين، لدرجة لو أنه عُرض عليه أن يدخل في النار أو أن يرجع إلى دينه لاختار الدخول في النار على الرجوع عن الدين ؛ لأن الرجوع عن الدين معناه دخول النار الحقيقية في الآخرة.
الجواب: إذا وجد شخص إطاراً وقع من سيارة وهي تمشي في الطريق، ثم وجده في الطريق ما الحكم فيه؟ يأخذه أم يدعه أم يبيعه؟ أم ماذا يصنع؟
الجواب: اختلف أهل العلم في هذا على أقوال:
ذهبت طائفة كبيرة من أهل العلم، على أنه لا يلتقط؛ لأن التقاطه مع عدم الإعلان عنه، -والإعلان بالطريقة الشرعية- يؤدي إلى أكل الحرام، وما دام أن هذه وسيلة إلى أكل الحرام، فما أوصل إلى الحرام فهو حرام، دعها ويأتي صاحبها يأخذها.
وقال آخرون: لا. بل يجب أخذها؛ لأن عدم أخذها تضييع للمال، فقد تكون أنت أميناً ورأيت هذا الإطار فتركته وكان بإمكانك أن تعلن وتبين هذه الضالة للناس حتى يجدها صاحبها، لكن إذا تركتها يأتي آخر شرير وأخذها ويخفيها، فتكون أنت بهذا مساعداً على إضاعة هذا المال، فأنت آثم.
وقال آخرون -اعتدلوا-: إن كان في أرض خير وإيمان ودين وأمانة كلهم، فلا يأخذها، بل يدعها لعل صاحبها أن يأتي فيأخذها، وإن كانت في أرض سوء كأن يكونوا كلهم لصوص وكلاب دنيا، فعليه أن يأخذها ويعرّفها، وكيف يعرّفها؟ قالوا: يعرّفها سنة كاملة في الأسبوع الأول في كل يوم مرة، أو في الشهر الأول في كل أسبوع مرة، وفي الأشهر التي بعدها في كل شهر مرة، وأين يعرّف؟ يعرّف في مجامع الناس وفي منتدياتهم، أي في غير المساجد؛ لأنه لا يجوز فيها التعريف بالضالة ولا نشدانها، فهذا حرام، وإذا سمعتم أحد يقول من رأى .. أو وجد لي.. فقولوا له: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبنَ لهذا، لكن يُعرّف في المجامع والمجتمعات والأسواق، وإذا أمكن في الصحف وفي الجرائد، وفي أي وسيلة إعلام يمكنك أن تعلن فيها، وفي المكان الذي ضاعت فيه، وبعد سنة كاملة من التعريف تحل لك، ولكنها تحل لك مع بقاء الضمان.
فتحلها وتعرف كم عددها وكميتها، ولو جاءك صاحبها بعد عشرين أو مائة سنة، فادفعها له، فأنت ضامن، ولكن بعد السنة ما عدت تستطيع أن تمسكها، فإذا جاءك بعد السنة فتعطيه، وإن لم يأتك أُحلت لك.
ونقول لهذا الأخ الذي وجد هذا الإطار: إن تركه ربما يضيعه، وإن أخذه ربما يأكل ثمنه، ولكن يعرّف به، وكيف يكون التعريف بالإطار؟ لأن هذا ليس مكان إنسان ثابت، بل طريق عام، والرجل الذي أضاعه لا يعرف في أي مكان أضاعه، ولو أنك عرّفته في الطريق ما وقف لك أحد يسمع صياحك، إذاً ما العمل؟ تأخذه وتبيعه وتتصدق بثمنه بنية أنه عن صاحبه، هذا إن شاء الله قاعدة للأقوال، والله أعلم.
أما الشيء البسيط الذي لا يهتم به أوساط الناس فإنه لا يُعرف، مثل: السواك، والقلم الرصاص، والحبل البسيط، أو ورقة، فهذه كلها أشياء لا يهتم بها أواسط الناس، فالذي لا قيمة له عند الناس، لا يحتمل أنك تقعد تصيح به، بل الشيء المهم فقط.
هذا الكلام في غير الحرم، أما لقطة الحرم فهي حرام، تلتقط، وإنما تلتقط وتسلم لولي الأمر، للشرطة أو للهيئة .
السائل: وإذا عاد صاحبها بعد أن تصدقت بثمنها؟
الشيخ: تقول له: أنا لقيت الإطار وبعته بمائة ريال وتصدقت به عنك، فإن كنت أنت تقرني على هذا التصرف فجزاك الله خيراً، وإن كنت لا تقرني فأنا أعطيك المائة، وينتقل ثوابها من صحيفته إلى صحيفتك في الآخرة.
الجواب: صلاتهم صحيحة، والصور هذه التي تلبس أو تفرش أو تمتهن، هذه مما عمّت بها البلوى في هذا الزمان فإنك قلَّ أن تجد شيئاً إلا وفيه صورة، بعض الألبسة تجد فيها صورة بقرة أو عسكري أو أرنب، وهذا موجود بكثرة في الألبسة، وقد سمعت الشيخ عبد العزيز بن باز يقول: إن البيت الذي لا تدخله الملائكة هو البيت الذي فيه كلب أو صورة، وخص ذلك بالصورة المعظمة أو الصورة المقدسة، أو الصورة المعبودة والمبجلة، أما الصورة الممتهنة فإنها لا تعتبر مانعاً من دخول الملائكة (والرسول صلى الله عليه وسلم أمر
الجواب: نعم. لأن عم أبيك وعم أمك وخال أبيك وخال أمك أجدادك، فيجوز لك أن تكشفي عليهم؛ لأنهم محارم إن شاء الله.
الجواب: هذا من الجفاء يا أخي المسلم! لأن الأخوة في الله رابطة من أعظم الروابط في هذه الحياة، فإذا كنت لا تحب أن تأتي إخوانك في الله ولا تحب أن يأتوك فكيف تعيش؟ و(إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، ولكن بعض الناس يبالغ في هذه الرابطة، فالأخوة في الله مثل الملح لهذه الحياة، فالحياة بدون أخوة في الله، وبدون زيارة في الله حياة سامجة لا طعم لها، وأيضاً إذا كثرت أصبحت كلها ملح، فبعض الناس يحب أخاه في الله لكن يفتت كبده، فتجده في كل لحظة وهو عنده، وفي كل لحظة يأكل معه، حتى يكرهه أهله، ولكن (زر غباً تزدد حباً)، يعني: إذا أردت أن تزور؛ فمرة في الأسبوع، أو مرة في كل خمسة عشر يوماً، فهذا معقول، أما أن تكون في كل يوم عنده، فإن هذه الزيارات تنقلب كراهة؛ لأن ما تجاوز حده انقلب إلى ضده.
وأيضاً كونك لا تزور أحداً بالمرة، ومنعزل وانطوائي، وإذا أتاك أحد وأنت قادر على أن تستقبله وتقرأ معه في كتاب وتقدم له فنجاناً، وتجلس بدون أن يكون عليك كلفة ولا حرج ولا مشقة، فتقول: لا. لا أريدك أن تأتيني، هذا من الجفاء الذي يخشى عليك فيه، فلعله أنه ينقدح في نفسك بغض لإخوانك في الله، وإذا أبغضت الطيبين ربما ضرك هذا في دينك والعياذ بالله، فيا أخي! حاول أن تربي نفسك على زيارتهم خصوصاً في المناسبات الشرعية مثل: المرض فتعوده، والزواج فتأتيه تبارك له، وإذا عاد من غيبة فتزوره ترحب به، وإذا جاء العيد فإنك تهنئه، إذا مر عليه شهر أو شهران ولم تره فإنك تذهب وتقول له: والله يا أخي! أنا اشتقت لك وفارقتك وما رأيتك منذ زمن، فأحببت أن أجلس معك هذه الساعة؛ ليس هناك مانع.
الجواب: نعم. الجن قد يتشكلون ويتحدثون مع الناس كأنهم بشر، وهذا ثابت كله في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت ومتواتر، ولكن قد يقول قائل: كيف أوفق بين هذا وبين قول الله عز وجل: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]؟
أجاب العلماء قالوا: إن الشيطان وقبيله- يعني: قبيلته وجماعته- يرون الناس من حيث لا يرونهم إذا كانوا في أصل خلقتهم، أما إذا تشكلوا بخلقة جديدة فيمكن أن نراهم، والدليل على هذا كثير، منها: ما روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله وجعله حافظاً لزكاة عيد الفطر، فكان يرصدها في الليل، فجاء في ليلة من الليالي رجل فجعل يحثو من الزاد، فأمسكه أبو هريرة ، فشكا له الحال وقلة المال وكثرة العيال، فأشفق عليه أبو هريرة وأطلقه، فلما جاء في الصباح أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: زعم أنه لا يعود، قال: كذب، إنه سيعود، قال: فرصدته في الليلة الثانية عملاً بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأوثقته، وقلت: ما أفكك الآن، قال: فألح عليَّ، وطلبني، فأشفقت له وفككته، يقول: فلما جاءت الليلة الثالثة وقد أخبر النبي أنه سيعود، يقول: أمسكته وآليت أن آخذه، فقال: ألا أدلك على آية إن قلتها في الصباح لم يزل عليك من الله حافظ حتى تمسي، وإذا قلتها في المساء لم يزل عليك من الله حافظ حتى تصبح؟ قال: قلت: نعم. قال: اقرأ آية الكرسي، قال: فأطلقته، فلما جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما فعل أسيرك البارحة، فأخبرته بالآية، قال: صدقك وهو كذوب، أتدري من تكلم منذ ثلاث؟ قال: لا يا رسول الله، قال: ذاك الشيطان).
فأخبر هذا الحديث أن الشيطان يتشكل في صورة إنسان، وقد يقول قائل: إنني أقرأ آية الكرسي ولا أسلم من الشيطان، نقول: إن قراءة آية الكرسي تختلف من شخص إلى شخص باختلاف قوة البواعث فيها، مثل الذي عنده بندق والهدف هناك، لكن الرماة ليسوا سواء، فمنهم من يرمي ويصيب، ومنهم من يخطئ الهدف فيجب أن تقرأها بيقين، فبعض الناس يقرؤها يختبر الله، يقول: سأقرأ وسأرى ماذا سيحدث، لا إله إلا الله! من أنت يا ضعيف؟! ويا مسكين؟! اقرأها موقناً وجازماً بها، والله عز وجل يحفظك، أما إذا كان هناك شك، فلا يجوز.
أيضاً روى النسائي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقول: [كان لي تمر في جريد- انظروا كيف قوة إيمان الصحابة وقوة قلوبهم- فنقص فتعاهدته، فجاء رجلٌ أكبر من الغلام المحتلم، فأوثقته فإذا يده مثل يد الكلب فيها شعر، يقول: فأوثقته، فقلت: إنسي أنت أم جني؟ قال: جني. لقد علمت الجن ما فيها أشد بأساً مني، قال: أهكذا خلقتم؟ قال: نعم. قال: ما الذي يمنعنا منكم؟ قال: آية الكرسي] لكن لو أن واحداً منا أوثقه، وقال: جني، فكيف سيكون الحال؟! وهذا سبب من أسباب دخول الجن في الأنس أنك تخافهم: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً [الجن:6] قال ابن كثير : خبالاً وجنوناً، فهم إذا رأوا الواحد يرتجف ركبوه، وإذا رأوه جبلاً صامداً قوياً بدين الله لا يخاف إلا من الله فروا منه، وتنادوا في الشعاب والوديان: هناك مؤمن فروا منه، لا يقدرون عليه أبداً، فكن قوياً بالله عز وجل.
وأذكر أني مرة قرأت على امرأة عندها صرع، وكنت قبل أوصي الجالسين أقول: لا تخافوا.. انتبهوا، فقرأت فلما خرج الجني دخل في أحد البنات الجالسات؛ لأنها كانت ترتجف، فعدت أقرأ على هذه ثانية، لكن في النهاية خرج والحمد لله.
أيضاً من الأدلة: ما روى مسلم عن أبي السائب : [قال: دخلت على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يصلي، يقول: فانتظرته فإذا بحركة السرير الذي هو جالس عليه، فالتفت فإذا حية، فقمت لأقتلها، فقال: اصبر انتبه! إنه كان شاب من أهل المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الخندق في المعركة، وكان حديث عهد بعرس، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت القائلة، قال: دعني يا رسول الله! أتعاهد بيتي -من باب الغيرة ومراقبة الأهل ورصد تصرفاتهم- يقول: فلما جاء وإذا بزوجته واقفة على الباب، فرفع رمحه وشهره ليطعنها في كبدها غيرةً لله وحرصاً، فقالت له: اصبر تعال انظر ما في الداخل، فرد الرمح ودخل وإذا على الفراش حية رقطاء ممتدة على الفراش، فقام وركز الرمح في رأسها، يقول: فاضطربت عليه، ثم التوت فوقعت ميتةً؛ وهو يقول أبو سعيد : لا يدر أهي الأولى أم هو] فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إن في هذه المدينة أو البيوت عوامر، إذا وجدتم شيئاً مثلها فلا تقتلوها حتى تؤاذنوها أو تحرجوا عليها).
فإذا رأيت حية أو ثعباناً في بيتك فلا تقتله حتى تحرج عليه، قيل: ثلاث مرات وقيل: ثلاثة أيام، قال العلماء: إن كان في بيت أنت محتاج إليه، تريد أن تسكن فيه أو تنام، فحرجه ثلاث مرات، وكيف تحرج؟ تقول: أحرج عليك بالله إلا خرجت، أحرج عليك بالله إلا خرجت، أحرج عليك بالله إلا خرجت، ثم تصرف نظرك، لأنه لا يتشكل وأنت تراه، فإذا صرفت نظرك، ثم نظرت إليه وقد انصرف فهو جني، وقد ذهب، وإذا حرجت بالله عليه ثلاثاً، ثم صرفت نظرك، ثم رجعت وهو موجود فاقتله، فإنما هو من الدواب، قالوا: وإن كان في بيت لا يحتاج إليه كمن وجده في مستودع، أو دكان، أو مزرعة ولا يحتاج له، فإنه يحرج عليه ثلاث مرات في كل ليلةٍ مرة؛ ليجمع بين الحديثين.
وأيضاً يتصور الشيطان في صورة البشر، فيأتي في صورة البشر كما في قصة الشيخ النجدي الذي رواها ابن إسحاق في سيرة ابن هشام قال: لما اجتمع كفار قريش في دار الندوة ليتفكروا ويتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقتله، دخل عليهم رجل ذو هيئة، وعليه عباءة وعمامة، قالوا: من الرجل؟ قال: شيخ من نجد من بني حنيفة، قالوا: ما تريد؟ قال: جئت لعلي لا أعدمكم رأياً -يقول: لعلكم تحصلون مني على رأي سديد- قالوا: ادخل، فجلسوا يتناقشون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكلٌ أشار بشوره، فمنهم من قال نطرده، ومنهم من قال: نسجنه، فكان كلما قيل رأي، يقول: هذا ليس هذا برأي، فلما أشار أبو جهل بقتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الرأي ما قال هذا، يعني: هذا الخبيث أشار برأي أبي جهل بقتل النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً ما ثبت أن الشيطان في يوم بدر تشبه بصورة سراقة بن مالك ، وجاء في قومه في جماعة وهم كلهم شياطين، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس، إني جارٌ لكم -ورفيقكم لا يهمكم تقدموا- فلما رأى الملائكة ولى وقال لهم: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله، يقول الصحابة: كنا نعرف قتلانا من قتلى الملائكة في بدر ، فكان الرجل يمشي خلف الرجل فيموت مباشرة، نعم. لأن وراءه ملك من الملائكة يقتله. فهذه القصص كلها تُثبت أن الشياطين قد تتشكل بأشكال الإنسان وبأشكال أخرى.
الجواب: أولاً: الاقتداء لا يكون بي ولا بأحد، إنما الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وصحيح أن طلبة العلم والعلماء الكبار- وطبعاً لسنا منهم- هم القدوة وينبغي أن يسيروا على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا خالف فعلهم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يقتدى بهم، بل الدين حجة عليهم، وأنا أقول للإخوة: إني ما أمس لحيتي، ولا أقص منها أبداً، ولكن هذه خلقتها، ماذا أفعل؟ أطولها؟! ربي خلقها هكذا.
الجواب: إذا صلى الإمام ركعة خامسة، طبعاً نحن نفترض في الإمام أنه ساهٍ؛ لأنه لا يوجد إمام يزيد ركعة خامسة عمداً؛ لأنه يعرف أنه إذا زادها عمداً بطلت صلاته، ولكن المأمومين الذين بعده أحد رجلين: إما أناس متأكدون أنه زائد فيسبحون، ولكن إذا رفض فلم يرجع فيجلسون؛ لأنهم متأكدون أنه زائد، ولا يتابعونه في الخطأ، فإذا تابعوه في الخامسة وهم يعلمون أنها خامسة بطلت صلاتهم! وعليهم الإعادة.
أو مصلٍ آخر مثل الإمام شاك ناسٍ وليس عنده يقين، فهذا حكمه حكم الإمام، يقوم مع الإمام، وينهي الصلاة.
أما موقف الإمام في مثل هذه الحالة فهو: إن كان متأكداً أنه في الرابعة وأن هذه الركعة ما هي بالخامسة فيبني على يقينه وإن سبح الناس، أما إن كان عنده شك ولم يكن عنده يقين، ولكن قام أخذاً بالأحوط وسبح له الناس، فإن تسبيح الناس يزيل الشك عنه ويرجعه إلى اليقين بأن هذه زائدة، فيلزمه الرجوع، فإذا لم يرجع وهو عنده شك لزمه إعادة صلاته؛ لأنه استمر في خامسته مع قيام الدليل على أنها خامسة بشكه وتنبيه غيره له، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر