فهذه المحاضرة تلقى في جامع الشربتلي بمدينة جدة ، بعد مغرب يوم السبت الموافق: (25) من شهر محرم الحرام عام (1418هـ) على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
ويأتي هذا الدرس ضمن السلسلة الشهرية المعنونة بـ: "تأملات في السيرة النبوية" وعنوان هذه المحاضرة: "مراحل الدعوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم" إذ مرت الدعوة في حياته صلوات الله وسلامه عليه بمراحل، التي يقسمها العلماء إلى أربع مراحل:
المرحلة الأولى: الدعوة السرية والتي استمرت ثلاث سنين.
المرحلة الثانية: الدعوة الجهرية، ولكن مع كف اليد عن القتال، وإنما فقط الدعوة بالكلمة دون المواجهة، واستمرت هذه إلى الإذن بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .
المرحلة الثالثة: استمرارية الدعوة جهراً مع قتال المبتدئين بالقتال، واستمرت إلى وقوع صلح الحديبية وتوقيع المعاهدة مع المشركين في عام الحديبية .
المرحلة الرابعة: وهي استمرارية الدعوة جهراً مع قتال كل من يقف في طريق الدعوة، ويصد عن سبيل الله عز وجل.
هذه هي المراحل التي مرت بها الدعوة في بداياتها، وفي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل يجب على كل من يدعو إلى الله التقيد بهذه المراحل بمداها الزمني، كما وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يدعو أول شيء إلا سراً، ثم ينتقل جهراً؟
والجواب: إن ذلك غير مطلوب من الدعاة أن يتقيدوا بذلك؛ وذلك لأن المدى الزمني الذي حددت فيه تلك المراحل تقدير رباني، وليس جهداً بشرياً فقط، فالتقيد بهذه المراحل لا يتلاءم ولا يتماشى مع مرونة الإسلام في معالجة الأمور ومواجهة القضايا.
والسيرة النبوية تمثل حركة الإسلام، وتفتح أمام الدعاة والعاملين للإسلام نماذج كثيرة لخيارات متعددة، بحسب الأحوال والملابسات التي يعيشها المسلم، فقد تقتضي الضرورة في بعض الظروف أن تكون الدعوة سراً، وذلك في البلاد الكافرة التي تحارب الإسلام وتحارب الدعاة، فهناك لابد للمسلمين الذين يريدون نشر الدين أن ينشروا دينهم بطريقة سرية، حتى لا تضرب دعوتهم من قبل الكفار.
أما إذا كانت الدعوة تمارس في بلاد المسلمين، فليس لدى المسلم شيء يخفيه على المسلمين، فنحن عندما ندعو الناس إلى الله لا نقدم لهم شيئاً نخاف عليه أو نخشى منه، نحن نقدم لهم وسيلة النجاة، وندعوهم إلى سفينة الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، والإسلام هو البديل الصحيح، وهو يمثل الخلاص من ورطة الدنيا والآخرة، فما نقدمه للمسلمين إنما هو عملية تذكير لهم، فلا نخاف على شيء ولا نخشى من شيء، وبالتالي لا داعي للسرية؛ لأنك تمارس دعوتك بين المسلمين، وظروف الغفلة والشهوات والشبهات التي أضلت بعضهم تقتضي أن تذكرهم، ولهذا جاء الأمر من الله عز وجل بالدعوة إلى الذكرى، قال عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].. فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:9-10].
وخلاصة القول في الموضوع هذا: أن قضية الدعوة سراً أو جهراً إنما تقدر بقدرها، بحسب الظروف التي يعيشها الداعية والمسلم في زمانه ومكانه، ولكل حال وزمان علاج يناسبه، وقد لا يناسبه في زمان آخر ولا في مكان آخر.
وسنتحدث إن شاء الله بالتفصيل عن المراحل الأربع مرحلةً مرحلة.
الرسول صلى الله عليه وسلم نُبئ بإقرأ، وأُرسل بالمدثر، فكانت بداية النبوة والوحي: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وفي المرة الثانية نزلت هذه سورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] أُرسل الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات، وقد لخصت هذه الآيات رغم قصر عباراتها، ورغم اختصارها، وهذا كله في الآيات المكية، والذي يقرأ القرآن يلاحظ أن الآيات التي نزلت في مكة تتميز بقوة العبارة وبقصرها واختصارها، بينما الآيات التي نزلت في المدينة تتميز بالإطالة والإطناب في بيان أحكام الشرع، فالآيات الطوال كلها آيات المدينة، بينما المكية كلمتان أو ثلاث فقط: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المقام لا يقتضي التطويل، إنما يقتضي كلمات معدودة، في تكليف محدود، وفي عمل مشروع، وكانت هذه البداية.
ففي قوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] المدثر: الذي أخذ دثاره وتلحف بثيابه، وجلس يريد الراحة والسكينة، ويريد الجلوس والأنس، جاءت هذه الآيات لتشير إلى أن زمن التدثر والخلود إلى الراحة، والأنس والسكينة، والجلوس في البيت مع الزوجة والأولاد والأبناء قد ولى، وجاء زمن المجاهدة بكل أبعاده المادية والمعنوية.
والإنسان -أيها الإخوة- يشعر بعظم المسئولية وضخامة الرسالة التي كلف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قاس نفسه وهو يجد الصعوبة ويفشل -أحياناً- في تربية أولاده في بيته، إذا كان عنده ولدان أو ثلاثة أو أربعة ومثلهم بنات، ثم يجد أن هذا فشل في تربيته، وتلك فشل في تربيتها، فيشعر بالمسئولية الكبيرة التي أنيطت بالنبي صلى الله عليه وسلم في هداية العالمين.
ليس في تربية بيته، ولا هداية قبيلته، ولا هداية مدينته، ولا الجزيرة العربية ، وإنما وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] .. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فيكلف بهذه الرسالة ثم يحملها صلوات الله وسلامه عليه، فيربيه الله عز وجل ويؤهله حتى يؤديها، ويستطيع القيام بها من أول لحظة، وهو يقول: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] انتهى، لا يوجد تدثر ولا جلوس الآن.
يوجد هناك سر، رغم أن النبوة تتضمن البشارة والنذارة؛ البشارة بالجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، والنذارة من العذاب والنار والدمار في الدنيا والآخرة، لكن حالة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة تقتضي النذارة فقط؛ وذلك لما كان عليه الناس من الشرك، فقد أمعنوا في الكفر، وتجاوزوا الحدود في الضلالات، فإذا جاء ليعطيهم بشارات قد لا يستجيبون، لكن تقريعهم وتخويفهم من عذاب الله بالنذارة، كان هذا أدعى إلى الاستجابة؛ ولهذا خصها بالذكر، رغم أن بعض أهل العلم يقول: إن النذارة تتضمن البشارة، فهو ينذر من عذاب الله ويبشر بنعيم الله الذي يلحق المؤمن إذا هو استجاب لأمر الله وترك طريق الشيطان.
قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:2-3] وفي هذه العبارة الصغيرة، إشارة إلى أنه ليس في الوجود أكبر من الله خالق الوجود.. خالق الإنسانية.. خالق الكون والحياة، فيجب أن يُعَظِّم إذ لا خالق إلا هو، وما دام أنه لا خالق إلا هو، فليس هناك من يستحق التقدير والتعظيم والتمجيد والتقديس والعبادة إلا هو، فتعظيم غيره ظلم.. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
ولذا على الناس أن يعلموا هذه الحقيقة ليتواضع الناس كلهم للكبير المتعال، وفي هذا التوحيد المطلق، يوم أن تعلم أن الله هو الكبير فتوحده، وتخضع لأمره، وتستجيب له دونما سواه، وترفض كل أمر يتعارض مع أمره، فأنت بهذا توحد الله وتعلن العبودية الخالصة له سبحانه وتعالى.
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم |
تصف الدواء لذي السقـام وذي الـضنا كيما يصح به وأنت سقيم |
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم |
وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [الصف:2-3] أي: عظم إثماً عند الله: أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3].
ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه.. إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال.. الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان.. لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان.
هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله!
والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة.. تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن.
وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟!
لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] وعلى حد قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا. لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.
ثم قال عز وجل : وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6] وفي هذا إشارة إلى أن ما خص به من منع إعطاء الشيء ابتغاء شيء أكثر هو أنه مقرون بأجمل الأخلاق وأشرف الآداب، ليكون مثلاً أعلى للبشرية؛ لأنه يدعوها إلى مكارم الأخلاق، ولقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وقد أوتي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق أرفع قدر وأعلى نسبة، فإن الكمالات البشرية الموزعة على جميع الأنبياء والرسل وعلى جميع الناس، لم تجمع لشخص واحد إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم، حتى قال الله له بشهادة ربانية عالمية: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] من قائل هذا الكلام؟ إنه الله، الله يشهد له ويقول: يا محمد! إنك لعلى خلق عظيم، عظيم عندي وعندك، ليس عند الله فقط، فيا لها من شهادة! ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت: (كان خلقه القرآن) من أراد أن يعرف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فليقرأ القرآن، القرآن يحتوي على أفضل الكمالات، وهي مترجمة كاملة في تطبيق وسلوك وأخلاق وتعامل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وأقرأها الله السلام، وبشرها أن لها في الجنة قصراً من ذهب، لا صخب فيه ولا نصب رضي الله عنها وأرضاها.
ومن المستجيبين في بداية الدعوة السرية: علي بن أبي طالب ، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه، والختن: هو زوج البنت، زوج بنته فاطمة البتول ، وأبو الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين..
علي بن أبي طالب كان أول المستجيبين من الشباب، وكان يتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولاد أبي طالب كثير، فقد كان ذو عيال، فطلب منه أن يكون علي معه، فكان في حجره وفي تربيته، وتحت كنفه، فكان علي أول من أسلم من الشباب الصغار.
ومن المستجيبين في المرحلة الأولى: المولى زيد بن حارثة ، الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم حينما جاء أبوه يطلبه: (إن شئت فأقم عندي وإن شئت فانطلق مع أبيك، فقال: بل أقيم عندك) فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ببنوته؛ لأن أصل زيد ليس عبداً مملوكاً بل هو حر، لكن أمه أخذته وذهبت من بيت زوجها حارثة إلى بيت أهلها في غضب عائلي، أي: خلاف منزلي؛ لأن بعض النساء جاهلات ما أن يحصل بينها وبين زوجها أي خلاف إلا وتخرج، وهذا من نقص العقل، فلا تخرج المرأة من بيت زوجها إذا حصل شجار، يخرج الرجل ولا تخرج المرأة؛ لأنه إذا خرج يستطيع أن يعود، لكن أنتِ إذا خرجتِ، فمن يرجعك؟ وأهلها يقولون: لا ترجعي حتى يأتي هو يأخذك، وإذا اتصلوا به تعال خذها، قال: لا، الذي ذهب يرجع، والله ما آتي آخذها، وتبقى هي الضحية.. فلا تفكر المرأة بالخروج من بيت زوجها أبداً بأي خلاف، إلا إذا قررت أن لا حياة مع الزوج، بعد أن تدرس الموضوع دراسة متأنية، وتصدر قراراً نهائياً تعرف فيه أن هذا الزوج لا يمكن أن يكون لها زوجاً، أما لمجرد أي خلاف، خلاف عائلي يسير على مسألة البيت، على مسألة مع الأولاد، وعلى الفور أخذت عباءتها وفتحت (الشنطة) وأخذت أغراضها وخرجت، فمن الذي يرجعها؟!
وبعض الأزواج -والعياذ بالله- سيئ الخلق فما أن يحصل بينه وبين زوجته شيء إلا ويقول: الباب يمشي منه الجمل، أي: إن كنتِ مثل الجمل اخرجي، هذا نوع من امتهان المرأة، فلا تريها الباب، اخرج وبعد ذلك ارجع، ومن أعظم الوسائل للقضاء على الخلافات المنزلية خروج الزوج، إذا رأيت الأمر محتدماً والنار مشتعلة بينك وبين العيال، فخذ (غترتك) وامش ويزول الخلاف، وسوف تدخل وإذا هي تضحك وأنت تضحك، لكن إذا جلست منك كلمة ومنها كلمة، وبعض النساء مسكينة ليس معها إلا أن تدافع عن نفسها بلسانها، لا تستطيع أن تضربك ولا أن تطلقك ولا أن تخرجك، فما عندها إلا هذا اللسان، وبعض الأزواج أناني يريد كل شيء له، يقول: اجعلي آخر كلمة لي أنا، لا تردين عليَّ، آخر كلمة أقولها إذا رديتِ أرد، وترد ويرد، وبعد ذلك يجد أن ليس عنده إمكانية، كلما قال كلمة قالت كلمة، فيريد أن يضربها، فإذا ضربها فبعض النساء تضارب، فإذا رأى أن السلاح عندها وعنده سواء، استعمل السلاح النووي وهو الطلاق، فتتحطم الأسرة، ويتشرد الأبناء، وينفرط عقد الحياة.. لماذا ؟ لو فكر الإنسان لوجد السبب تافهاً، لكن أفضل الأمور إذا سمعت بمشكلة حصلت في البيت -وليس هذا انهزام، بل هو رجولة- فاخرج وسيخرج الشيطان، ثم عندما تدخل تقول: السلام عليكم، ذهب الخلاف واضحك وابتسم، (خيركم خيركم لأهله) وهذا ليس عاراً عليك، أفضل الناس الذي يعامل أهله بهذه الأخلاق.
فهذه أم زيد خرجت، وفي الطريق لقيها بعض الناس فضربوها وأخذوا ولدها وباعوه في السوق بيع الرقيق، واشترته خديجة من سوق مكة ، ولما تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له، وبقي أهل زيد يبحثون عنه حتى علموا أنه بيع في مكة ، وأتوا يسألون حتى وجدوه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، وجاء القافّ الذي يعرف الأثر، وقال: هذا الرجل من هذا الرجل، وكانت العرب تعرف بالقيافة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا هو معكم إن أردتموه فهو لكم) وهذا من كرم الأخلاق، لم يقل: هذا عبدي مملوك عندي، لا. إن كان يريد أن يذهب معكم فخذوه، فجاء زيد وخيره النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: (إن شئت أن تقيم عندي وإن شئت أن تنطلق مع أبيك، قال: ما أنا بالذي أختار عليك يا رسول الله! فقال له أبوه: ويحك يا
وقد قتل شهيداً في غزوة مؤتة، حين أمرّه النبي صلى الله عليه وسلم على المعركة، فكان زيد بن حارثة أميراً على الغزوة وهو مولى، وتحت إمرته جعفر بن أبي طالب ، وجعفر ابن عم الرسول، فقال: (إن مات
كان زيد هذا من أوائل الذين أسلموا في العهد الأول في الفترة السرية التي كانت في أول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
حادثة الإسراء كانت حادثة ذات منعطف خطير في حياة الدعوة؛ إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ، أسري به ثم عرج به يقظة لا مناماً بجسده وروحه، هذا هو المحقق عند العلماء من أهل السنة ، أنه أسري به جسداً وروحاً وليس رؤيا منامية، الله يقول: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] والعبد يقتضي الروح والجسد، وما قال: أسرى بروح عبده وأسري به من أين؟ من مكة المكرمة ، إلى أين؟ إلى المسجد الأقصى الأسير الذي نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يخلصه من أيدي اليهود.
والمسافة من مكة إلى الأقصى شهر بالقوافل وأسري به صلى الله عليه وسلم إليه في طرف ليل، وكان يمتطي البراق، والبراق: دابة فوق الحمار ودون الفرس، لكن خطوته عند منتهى بصره، مثل البرق، حتى وصل، وهناك صلى بالأنبياء ثم صعد في المعراج وعرج به إلى أن بلغ سدرة المنتهى، وفرضت عليه هناك الصلوات الخمس، ثم عاد وركب البراق ووصل مكة في نفس الليلة.
وحينما نحدث به اليوم يمكن أن نقبله؛ فقد ابتكرت من وسائل النقل ما يقارب هذه، بإمكان الواحد أن يذهب بالطائرة من جدة إلى الرياض أو من جدة إلى بيت المقدس ويعود في نفس الليلة وينام في داره.
لكن لو حدثنا بهذا قبل زمن، هل يمكن أن تصدق لو قيل لك: هناك حديدة طويلة يركب فيها أربعمائة من الرجال بعفشهم وعوائلهم وترتفع في الليل من الأرض وتصل إلى الرياض خلال ساعة، هل تصدق؟ والله لو ما ركبنا فيها ما صدقنا، فكيف يكون هذا الحديث كأنها مربوطة بحبل وتنظر في الليل وترى الجبل والسهل، لا تعلم عن شيء إلا وأنت قد وصلت، لكن هذا حصل، فلو حدث الناس في هذا الوقت بهذا الأمر يمكن يُقبل، لكن الناس في ذلك الوقت لا يعرفون من وسائل الاتصال والنقل إلا البعير والحصان والحمار والجمل، وهذه الوسائل البدائية التي تقطع الطريق شهراً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: إني ذهبت وعدت في نفس الليلة، وليست الرحلة فقط في الأرض، بل قال: ثم إلى السماء، فلما أخبر الصحابة والناس في الصباح حصل نوع من الرجة، وسمع المشركون وقالوا: والله ما بقي إلا هذه، نقطعها شهراً ذهاباً وشهراً إياباً وأنت تأخذها في ليلة! ثم جاءوا يشككون الصحابة وكل واحد وقف، وجاءوا إلى أبي بكر الصديق وأرادوا أن يهزوه؛ لأن اهتزاز أبي بكر يعني هزة الجميع، وثبات أبي بكر يعني ثبات الجميع.. قالوا: أو ما سمعت ما يقول صاحبك؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: يقول: إنه أسري به البارحة من بيت أم أيمن في مكة إلى بيت المقدس ، وعرج به إلى السماء حتى وصل السماء السابعة، ثم نزل وأصبح في بيت أم أيمن ، قال: [إن كان قال ما قال فقد صدق] اللهم صلِّ على رسول الله.
إنها قضية تجرد، قضية تسليم العقل إذا وجد التعارض، ما دام قال الرسول الصادق إذاً صدق ولو لم يصدقه عقلي، فسمي من ذلك اليوم بـ(الصديق ).
وحتى لا يهتز ذوو الإيمان الضعيف كان هناك دلائل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً ذهب إلى بيت المقدس ورجع، فقد جاء المشركون في عملية زعزعة وقالوا له: صف لنا بيت المقدس ، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت رحلته قصيرة، ومهمته محدودة، صلى بالأنبياء وصعد، وما جلس يتفقد بيت المقدس .. يعني: أنتم الآن في هذا المجلس كل شهر وأنتم تحضرون، لو سألتكم: كم عدد الأعمدة في هذا المسجد؟ ربما لا تعلمون، وكذلك كم فيه نوافذ؟ كم فيه أبواب؟ ونحن شهود جالسون؛ لأن هذا لا يسترعي انتباهنا حتى نجلس نحدده، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما جاء من أجل أن يكشف على المسجد، ويستعرض الأبواب والنوافذ والأعمدة، جاء ليؤدي رسالة وصعد، فقالوا له من باب الامتحان: صف لنا بيت المقدس ، فالله عز وجل طوى له الأرض وكشف له بيت المقدس أمامه وهو في مكة ، فجلس يصفه عموداً عموداً، واسطوانة اسطوانة، وباباً باباً، ونافذةً نافذةً، كأنما يراه، عامل المكان اختصر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يؤمنوا، بل قام أحدهم قال: عندما ذهبت في الليل هل رأيت قافلتنا الآتية من الشام؟ كيف أراها وأنا ذاهب في الليل؟! الذي في الليل لا يري الذي في الأرض، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (نعم رأيتها، يقدمها جمل أورق عليه غرارتان حمراوان، تأتيكم يوم كذا قبل صلاة المغرب وبعد العصر، ورأيتها في المكان الفلاني) كيف رآها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الله أوحى إليه في اللحظات التي كانت في ذاك المكان، ولما كانوا ينتظرون بالدقيقة والساعة إذا بالقافلة آتية والجمل أمامها، وسألوا الذي مع القافلة في تلك الليلة أين كنتم؟ قالوا: كنا في المكان الفلاني، الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل آمنوا؟! لا. يقول الله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146]لم تكن البراهين والدلائل غير كافية، بل لقد كانت كافية لكن الذي لا يريد أن يستمع كيف تفعل به؟ عندما تقول لشخص: هذا (ميكرفون) فيقول لك: لا، هذه سيارة.. حيرتني، هذا -يا أخي- (ميكرفون) وليست سيارة، فيقول: انظر هذا الكفر حقها وهذا.. فكيف تقنعه؟ فما ينبغي للإنسان أن يكابر، ولهذا سمي الكفار كفاراً؛ لأنهم يغالطون ويغطون الحقائق؛ فإن الكفر في اللغة: هو التغطية والستر، فالكافر يغطي الحقيقة ويكتمها وأبو بكر الصديق رضي الله عنه سُمي الصديق من يومه ذلك رضي الله عنه وأرضاه.
وفي إطار هذه السرية التي كانت تحيط بالدعوة في بدايتها، تحرك كل واحد من هؤلاء الذين أسلموا في الوسط الذي يحيط به، فتحرك أبو بكر الصديق وكانت له أبرز حركة؛ لأنه صاحب نفوذ وصاحب مال وصاحب شخصية، له شخصية مرموقة، وله وقار وهيبة، فتحرك في أقاربه وفي أصدقائه، واستجاب له نفر كريم من الصحابة الكرام منهم ستة من العشرة المبشرين بالجنة، أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهم:
- عثمان بن عفان ، الخليفة الراشد الثالث رضي الله عنه وأرضاه.
- الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه.
- طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه.
- سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه.
- عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.
- عثمان بن مضعون رضي الله عنه وأرضاه.
- أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه.
- أبو سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنه وأرضاه.
الله أكبر! كل هؤلاء إنتاج أبي بكر، ما أعظم هذا الرجل! كيف كان يؤثر بهذا القدر وبهذه الضخامة! لأنه كان صادقاً، ودائماً الصادق في عمله الذي يؤديه بصدق له تأثير وله خصوصية في فتح قلوب الناس، دائماً كلما كنت صادقاً وصاحب صدق مع الله يجعل الله في عملك بركة، ويضاعف لك الثواب؛ لأنك صادق وجاد، وهكذا كان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.
ومن خلال هؤلاء الكرام الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق أخذ الإسلام ينتشر في مكة وفي خارج مكة ، ودخل في الإسلام أناس كثير من بطون قريش ومن مواليها خاصة، وأتباع الرسل دائماً من المستضعفين والموالي؛ لأنهم يجدون في الدين ما يعيد لهم شيئاً من حريتهم وكرامتهم وعزهم، أما أصحاب العظمة وأصحاب المال وأصحاب المكانة، فإنهم يترددون في قبول الدين؛ لأنه يردهم إلى مكانهم الصحيح، وهم يريدون أن يمارسوا الطغيان والتسلط، والكبرياء والغطرسة على الضعفاء، فإذا جاء الإسلام، وقال: الناس سواسية، رفضوا هذا، إلا من كان منصفاً منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وممن اشتهروا بين السابقين في الإسلام من الموالي: بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وقد أسلم على يد أبي بكر، وصهيب بن سنان ، وعمار بن ياسر ووالده ياسر وأمه سمية بنت خياط ، هؤلاء من الموالي الذين أسلموا في بداية الدعوة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فترة وجيزة وصل عدد الذين سبقوا إلى الإسلام من بطون قريش إلى أكثر من خمسين نفراً في فترة يسيرة، مع الحركة المنظمة المرتبة، التي كانت تحمل الإخلاص من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل أبي بكر الصديق ، ومن قبل خديجة ، ومن قبل الصحابة الذين أسلموا في البداية، انتشر الإسلام قليلاً حتى أصبحوا أكثر من خمسين رجلاً.
وقد ثبت أن ورقة بن نوفل الذي ذكرنا أنه ابن عم خديجة في الدروس الأولى، جاءت إليه خديجة لتخبره بما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه أسلم وكان من المسلمين الأول، وذلك بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته وعليه ثياب بيض، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض) رواه أحمد في المسند ، وعلق عليه صاحب الفتح الرباني وصحح إسناده، وقال صلى الله عليه وسلم في روايه أخرى: (رأيته وعليه ثياب بيض في بطنان الجنة وعليه السندس) رواه ابن كثير وحسنه أبو يعلى في الطبقات ، وقال: (لا تسبوا
بلال بن رباح أوذي أذىً لا يعلمه إلا الله.. كان يجرد من ثيابه، ويخرج به إلى الرمضاء في مكة ، وحرارة مكة في الصيف لا يتحملها أحد، ثم يخلس من ثوبه، ثم يؤتى به على الأرض التي تشع مثل النار، ثم يوضع على صدره الحجارة، ثم يسحب جلده على الأرض وما بينه وبين الأرض شيء، على أن يرجع عن دين الله، فيقول: أحد.. أحد.. ما رأيكم في هذا الرجل؟ هذا قمة في الإيمان وجبل في الدين، ما ثبت على هذا إلا لعظمته في قلبه، حتى قال عليه الصلاة والسلام له : (إيه يا
أولاً: إلهام الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل ربه بأن يبدأ الدعوة سراً، وذلك إرشاد له وإرشاد للدعاة من بعده، إلى وجوب الأخذ بالحيطة وممارسة الأسباب، إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم مدعوم بقوة الله ولو بدأ الدعوة جهراً فإن الله سيحفظه، ولن ينالوا منه شيئاً، لكن لبيان منهج الإسلام في الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه ناقة فقال: (يا رسول الله! أطلقها وأتوكل، أم أعقل وأتوكل؟ فقال له: بل أعقلها وتوكل) خذ بالسبب ثم توكل على الله عز وجل؛ لأن ترك الأسباب قدح في العقل، والاعتماد على الأسباب نقص في الدين، إذا اعتمدت على السبب فهذا نقص في الدين، وإذا تركت السبب فهو نقص في عقلك.
يأتي أحدهم ويقول لك: كل، فتقول: لا أريد أن آكل، لماذا ؟ أكلت أو ما أكلت الحياة بيد الله، وأنا إذا أكلت لن يزيد عمري، وإذا ما أكلت لن أموت، نقول له: ستموت غصباً عنك؛ لماذا؟ لأن من سنن الله الكونية أن تأكل من أجل أن تعيش، أما إذا لم تأكل فستموت، أتريد أن يغير الله سننه من أجل خاطرك أنت؟! لا. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62] والله يخبرنا في القرآن أن عيسى عليه السلام يقول لأمه مريم عليها السلام، وهي في حالة المخاض: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً [مريم:25] كان يكفي أن تساقط الرطب من غير هز؛ لأن الذي أنبت الشجرة وأعطاها قادر على أن ينزلها من غير هز، لكن الأخذ بالأسباب من أجل أن تعمل هي، تهز النخلة فينزل الرطب.
والوحي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ الدعوة سراً، ففيه دليل على مشروعية الأخذ بالحيطة، وممارسة الأسباب الظاهرة، وما يقرره التفكير والعقل السليم من الوسائل المفيدة، التي تعمل على إنجاح الدعوة، وعلى عدم الزج بها في مواجهات خاسرة وغير منتصرة، خصوصاً عند ضعف الدعوة.
فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم دعوته سراً، وهذا لا يخدش في إيمانه، فضلاً عن أنه يتنافى مع طبيعة الدعوة إلى الإسلام.
العظة الثانية: يقول جمهور العلماء: إن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد أو ضعف من العدة، بحيث يغلب على ظنهم أنهم سيقتلون، من غير أن يكون هناك نكاية في أعدائهم، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس؛ لأن المصلحة المقابلة هي مصلحة حفظ الدين، وهي موهومة أو متوقعة أو منفية الوقوع، وهذا ما يقرره العلماء، وقد قرره الشيخ / العز بن عبد السلام .. يقول أحد العلماء في تعليقه على هذا القول: إنه من حيث حقيقة الأمر ومرماه البعيد، فإنها في الواقع مصلحة دينية، إذ أن مصلحة الدين تقتضي أن تبقى أرواح المسلمين سليمة، لكي يتقدموا ويجاهدوا ويستمروا في الدعوة؛ لأن في هلاكهم إضراراً بالدين، وفسحاً للمجال أمام الكفرة ليقتحموا ما كان مسدوداً بوجود المسلمين، وهو بهذا يعني: أنه إذا عُرف أن المصلحة ليست في القتال؛ لأن المواجهة معروفة ومكشوفة لنا، إذ أن العدد قليل، والعدة غير كافية، وأن المواجهة ستقضي على المسلمين، إذاً لا داعي للمواجهة؛ لأن ذلك من مصلحة دين الله عز وجل؛ ليبقى في وجود المسلمين قانون يسمونه (قانون التدافع) وهو قول الله عز وجل: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، فيدفع الكفر بالإسلام، فيبقى الكفر موجوداً والإسلام موجوداً، هؤلاء يعملون وهؤلاء يعملون، لكن إذا واجهت الكفر وليس عندك إمكانية للمواجهة، وقضى عليك، خلت الساحة للكفار، ولم يعد هناك شيء من التدافع الذي يرفع الفساد؛ لأن الله يقول: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251] ما دام الخير يدفع الشر يحصل فيه أيضاً صلاح، لكن إذا خلا الجو للشر ظهر الفساد في البر والبحر بما تكسب أيدي الناس من الفساد والعياذ بالله!
هذه هي المرحلة الأولى وهي الدعوة سراً.
إن الموقف السلبي لعشيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وللعرب القرشيين بصفة عامة من الدعوة في هذه الفترة، فيه رد على من يحاول أن يصور هذا الدين وأن نجاحه كان نتيجة العصبية القومية، ويزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته الدعوة القومية والعصبية، وهذا باطل؛ لأن بعض القوميين العرب حينما بدأت الدعوة القومية -لكن الحمد لله ماتت في مهدها في فترة من الفترات قبل حوالي ثلاثين أو أربعين سنة- نادى الناس بـالقومية العربية والاجتماع حول العروبة وترك القومية الدينية، وقالوا: نحن نبدأ حضارتنا من العرب، وضيعوا على المسلمين مجداً عظيماً.. هذا فيه رد؛ لأن موقف العرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، كان: الرفض والمحاربة والسلبية، ومع هذا انتصر دين الله عز وجل.
إذاً: في تباطؤ الناس عن دين الله، فيه دليل على قوة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش فيها ردحاً من الزمن، وهذا وضع يواجهه الدعاة.
يا أخي في الله! ليس من السهل أن تأتي على مجتمع تعارف على شيء من التقاليد والأعراف والعادات، وتريد أن يغيرها الناس بجرة قلم، لأن الناس تعودوا عليها واعتادوها، ولذا من الصعب أن يتركوها، ولذا تواجه أنت وعندك هذا الشعور وهذا الحس أنك تمارس عملاً عظيماً، وعندما يخبو صوت الدعوة المهتدية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن هذه العادات تنشط، لكن إذا بدأت الدعوة المهتدية بالهدي النبوي وبالنور الرباني وبالحكمة؛ فإن هذه العادات والتقاليد تختفي وتزول، لكن تحتاج القضية إلى وقت وإلى صبر، أما المواجهة بسرعة والتوقع للاستجابة الفورية فهذا غير وارد.
أيضاً من العبر في هذا المقطع بالذات: أن في خصوصية الأمر بإنذار العشيرة إشارة إلى درجة المسئولية بالدعوة، وأنها تتعلق بكل مسلم، خصوصاً الدعاة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل المسئولية تجاه نفسه أولاً، لكونه مكلفاً بعبادة الله عز وجل، ثم تجاه أسرته وأهله لوصفه رب الأسرة والمسئول عنها، ثم تجاه أقاربه وعشيرته لكونه ملاصقاً لهم ومخالطاً لهم، وبينهم وبينه علاقات، وتربطه بهم روابط، فعليه مسئولية أعظم مما على الآخرين البعيدين عنهم، ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسئولية كل مسلم مكلف، إذ على المسلم أن يبدأ بنفسه، ثم ينتقل في الخطوة الثانية بمسئوليته تجاه أولاده وزوجته وبناته ووالديه.
وإن دعوة الوالدين تحتاج إلى نوع من اللين والرفق والدراية؛ إذ من الصعب أن يقبل الوالد من ولده.. لماذا؟
لأن الوالد يعرف الولد بمدى زمني بعيد، يعرفه وهو طفل يؤذي، ويعرفه وهو يدخل المدرسة ويمر بفترة زمنية، ثم يفاجأ به في لحظة من اللحظات وإذا به يوجهني ويعلمني الدين، ويدعوني إلى الإسلام، يقول لي: اتق الله! أعرف هذا اللّعاب من زمن! ولذلك لا يقبل الأب ويرفض ويقول: أنت تعلمني! وربما يضربه. ولهذا انتبه! إذا أردت أن توجه نصيحة للوالد فلا توجهها من مكان التعالي والشعور بالأستاذية، أو أنك تعلم أباك وهو الجاهل، حتى لو كان عندك شهادة وأبوك لا يحمل أي شهادة فإنه يحتقرك؛ لأنه يعرفك وهو الذي جاء بك.
فعليك أن تعطيه الدعوة لكن تقدمها في قالب مقبول محبوب، تقول: يا أبتي! أنت أعرف مني، وأفضل مني وأنا أستحي وأقول: عيب علي إن أعلمك وأقول لك هذا الكلام، لكن من باب الفائدة، وهذه الفائدة أنا ما أخذتها إلا منك.. إذا قلت له هذا الكلام، فسيقول: نعم يا ولدي جزاك الله خيراً! ويقول: لا يا ولدي بارك الله فيك، أنا يعجبني هذا الكلام، أنا أكون مسروراً عندما تأتيني نصيحة من ولدي.. لماذا؟ لأنك أعدت له مكانته وأشعرته بكرامته، لكن عندما تجرده من الكرامة وتشعره بأنك أحسن منه، وأنه جاهل، وتقول له: أنت لم تعرف شيئاً، فيقول: اذهب أنت ودراستك، أنت أصلك ما تفهم، ويغضب ويتصدى لك ويقف في وجهك.. هذا الأب وكذلك الأم.
إذاً: القضية قضية دقيقة جداً، لابد أن يكون فيها إحساس، لا تخرج الكلمة إلا وأنت تعرف أن لها مكاناً في قلوبهم وإلا فقف؛ لأنه ربما أفضى تعليمك لهم بأسلوب غير صحيح إلى حملهم على أن يتخذوا موقفاً، وربما يخرجون به من الدين وأنت لا تدري، وتكون السبب أنت، ولنا في إبراهيم عليه السلام أعظم الأثر والاعتبار وهو يقول لأبيه: يا أبت! أربع مرات.. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ [مريم:45].. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ [مريم:44].. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ [مريم:43] انظروا كيف الأدب في العبارة! قال: إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، أي: إن عندك علماً لكن ما أتاك العلم الذي عندي، ما قال: أنت جاهل وما عندك علم، بل قال: ما لم يأتك، وفي العبارة هذه إيحاء إلى أنه جاءك علم لكن الذي جاءني ليس عندك، بمعنى: أنا عندي علم وأنت عندك علم يمكن أكثر من الذي عندي فاتبعني، بعد ذلك أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً [مريم:43] وفي كلمة: "يا أبتِ" نوع من التلطف والترقق وحسن العبارة حتى يدخل في قلب أبيه.
فابدأ -يا أخي- بأبيك وبأمك، وأعظم مجال تستطيع أن تدخل به قلب أمك وأبيك الخدمة والعطاء والبذل؛ لأن الحياة مأخوذة على المعاوضة، فأعط أباك خدمة في البيت وتواجد باستمرار في البيت، وبراً وطاعةً، ولا أزال أذكر قصة أكررها للعظة والعبرة وهي:
ملخص القصة: أنه جاءني شاب وأنا في أبها يشكو لي عناد أمه، ووقوفها في وجه الدعوة، فسألته: من يخدمكم في البيت؟ من يقوم بالطبخ والغسيل والكوي؟ قال: أمي، قلت: أريد أن أوصيك وإن شاء الله تنفذ وصيتي، قال: نعم. قلت: أولاً: لا تدعها إلى شيء من الدين أو الحجاب، فإن الحجاب ليست متمسكة به؛ لأنها لا تعرفه، فقلت له: لا تدعها إلى الحجاب ولا إلى غيره واعمل بوصيتي، قال: حسناً.. ماذا أصنع؟ قلت: إذا أكلتم وتغديتم وقمتم من السفرة لا تغسل وتذهب لتنام، وإنما اجلس أنت واجمع الصحون ولف السفرة واذهب بها إلى المطبخ، واغسل الصحون أنت بدل أمك، سترفض هي، لكن قل لها: والله ما أغسلهن إلا أنا، فإذا قمت في الصباح قبل أن تذهب الكلية نظف غرفتك، ونظم فراشك، ونظم السرير والبطانية حقك، وراجع دروسك واخرج من الغرفة وهي مرتبة، إذا رأيت أمك تكنس بالمكنسة الكهربائية فقل لها: والله ما أكنس إلا أنا، أريد أن أتعلم نوعاً من الخدمة، واستمر على هذا، ثم أعلمني بالنتيجة بعد ذلك.
يخبرني فيما بعد ويقول: ذهبت إليها، ومن يوم تغدوا كان من قبل يتغدى ثم يغسل ويذهب لينام، لكن هذه المرة جلس حتى قاموا كلهم وهو جالس، فقالت له أمه: قم، قال: لا، أنا اليوم أريد أن أتعلم كيف أغسل الصحون؛ لأني غداً سأصبح عزوبياً، غداً أسافر وأحتاج أن أتعلم، وهذا نوع من الرياضة كوني أغسل الصحون، وأتحرك أحسن من النوم، قالت: لا يا ولدي، الصحون لا يغسلها الرجال، لا يغسلها إلا الحريم، قال: لا والله ما أغسلها إلا أنا، وحمل الصحون ودخل المطبخ وبدأ يغسلها وينظفها، وبعد ذلك في الصباح نظف غرفته، ثم رآها تكنس فقام يكنس مكانها، رآها تكوي يكوي معها ويخدمها، فأحبته لهذا الخلق فأصبح عينها، وبعد ذلك تريد رضاه بأي وسيلة، كان إذا ذهب يصلي يقول لإخوانه: انهضوا صلوا، تقول أمه: ما عليك منهم، صلِ وإلا اجلس، مالك دخل بهم، لما صار يغسل الصحون ويقوم يصلي من أجل تجامله تقول لإخوانه: قوموا صلوا مع أخيكم، هو يصلي وأنتم لا تصلون، من باب المجاملة مرة ومرتين واستمر، وأخيراً قالت له يوماً من الأيام: يا ولدي! قال: نعم. قالت: ما رأيك إني أستحي من الرجال والناس يأتون إلينا، ما رأيك أتغطى؟ قال: هذا أمر يخصك، قالت: لا والله إني أعرف أنه يؤذيك وأنك غير راضٍ لكنك تستحي، الله يديمك، لكن أعاهدك ألا أكشف على أحد.
الله أكبر! وبعد ذلك صارت تدعو له وتقول: الحمد لله الذي هدى ولدي كي يغسل الصحون، هذه هي الهداية التي عندها، قبل يوم لم يكن يغسل الصحون ولم يكن مهتدياً، لكن لما أصبح باراً ويغسل الصحون عندها هو المهتدي.
فكذلك -يا إخواني- إذا أردنا أن ندعو الآباء والأمهات يجب أن نخدمهم؛ لأننا إذا خدمناهم أخذنا منهم الحب، وبادلونا بالشعور، وفرحوا بالدعوة التي ربتنا هذه التربية، لكن بعض الشباب ما أن يهتدي حتى يقلب ويعكس المرآة لأهله، ولم يعودوا يرونه أبداً.. أين أنت؟ عندي محاضرة.. عندي درس مع الإخوة.. عندي معسكر.. عندي مخيم.. خذنا إلى المستشفى، قال: أنا مشغول.. أعطنا حاجات، قال: عندي زميلي.. ما ذا سيقول أبوك؟ سيقول : الله يقلعه، والله من يوم اهتدى ما نحصل منه على مصلحة. فيكره الدعوة ويكره الدين.
لكن لو أنه إذا اهتدى الولد لصق بأبيه وخدمه لقال: الحمد لله، الله يوفق الولد، ما رأينا بركته ولا مصلحته إلا من يوم أن هداه الله، فيحب أن يهتدي جميع أولاده.
فهذا -أيها الإخوة- ضمن مسئولية الشاب تجاه والده ووالدته، وتجاه أسرته القريبة، وهذه هي المرحلة الثانية من مراحل الدعوة، وهي الدعوة جهراً، لكن في محيط العشيرة والأقربين.
ونكتفي بهذا، وسوف نواصل -إن شاء الله- الدروس المباركة، ولكن بعد انتهاء العطلة الصيفية، فسوف تتوقف هذه الدروس خلال شهر اثنين وثلاثة وأربعة لعدم وجودي في المنطقة، وسأكون في أبها -إن شاء الله- خلال فترة الصيف، وستبدأ هذه الدروس -إذا أحيانا الله جميعاً- في نهاية الشهر الخامس بإذن الله عز وجل.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لكل خير، وأن يجنبنا جميعاً كل شر، وأن يرزقنا العظة والاعتبار بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق ولاة أمورنا وعلماءنا ودعاتنا وجميع شبابنا وجميع المسلمين إلى خدمة هذا الدين، والحرص عليه والدعوة إليه، والتمسك به، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
الدرس الثاني: الصدق وترك الكذب حتى في الصغيرة؛ لأن الكذب يكتب حتى الكذيبة التي يسمونها الكذب الأبيض هذه كذب، فلا تكذب.
الدرس الثالث: وهنا درس تربوي جديد، ونريد -إن شاء الله- أن نتمسك به وليس فيه صعوبة، وهو: تلاوة ورد يومي مقرر من القرآن الكريم، لا يقل عن جزء واحد، أن تقرأ يومياً جزءاً فهذا سهلٌ جداً، هناك أناس يمكن أن يقرءوا عشرة أجزاء، ومن كان له ورد أكثر من هذا فبارك الله فيه وليستمر وليس معنياً بكلامنا، كلامنا الآن ليس معنياً به من عنده ورد يومي يأخذ ثلاثة أجزاء فتراه ينزل إلى جزء، أو يظل على ثلاثة، بل يظل على ثلاثة، وإنما نعني بالجزء لمن لا يقرأ القرآن إلا نادراً؛ لأنه سيكون موضع شكوى من قبل النبي صلى الله عليه وسلم: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30].
كتاب أنزله الله للتدبر والتلاوة، لك بكل حرف تقرؤه من الحروف عشر حسنات.. (لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ثلاثون حسنة في هذه الثلاثة الحروف: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] فيها ستة وستون حرفاً إذا قرأتها مرة فإن لك ستمائة وستين حسنة.. الفاتحة فيها مائة وخمسون حرفاً، إذا قرأتها مرة فإن لك ألفاً وخمسمائة حسنة.. الصفحة الواحدة فيها ستمائة حرف، إذا قرأت صفحة من القرآن لك ستة آلاف حسنة.. أيُّ تجارة أعظم من هذه التجارة يا إخواني؟!
فنريد أن نأخذ بالحد الأدنى مثلما قال العلماء: إن أقل معدل يمكن أن يسلم الإنسان فيه من أن يكون هاجراً للقرآن أن يقرأ القرآن في كل شهر مرة، وبعض السلف كان يقرأ القرآن في كل عشرة أيام مرة، وقرأه بعض الإخوة في كل أسبوع مرة، وكان يقرأ بعضهم في كل ثلاثة أيام مرة، ومن السلف من قرأ القرآن في اليوم الواحد مرة، ومنهم من كان له في كل يوم ختمتان؛ ختمة في الليل وختمة في النهار، وقد تستغربون من هذا، لكن لا تستغربون؛ لأنه كان في أوقاتهم بركة وكان في أعمالهم خير، لكن نحن الآن مشغولون؛ شغلتنا بطوننا، وشهواتنا، وحاجاتنا، وأسواقنا، وذهابنا، وإيابنا، أما هم فما عاشوا إلا لدين الله عز وجل، فنريد -أيها الإخوة- أن نلتزم بهذا القدر إن شاء الله في كل يوم نقرأ جزءاً.
وقد رتب بعض الإخوة ترتيباً لهذا، يقول: إن الإنسان إذا جاء قبل إقامة الصلاة في الخمس الصلوات وقرأ ورقتين فقط، أي: أربع صفحات في خمس صلوات، فسيكون هناك عشر ورقات وهو جزء كامل، فالذي يأتي قبل كل صلاة ويقرأ ورقتين هذا في يومه سيقرأ جزءاً، المهم كما تريد أنت، عليك جزء فقط، تريد أن تأتي به في صلاة واحدة أو في خمس صلوات، المهم لا تنزل عن هذا المعدل، تريد أن تقرأ جزأين أو ثلاثة فخير كبير، ومن زاد زيد له، والذي يريد حسنات أكثر يقرأ أكثر، ويقال يوم القيامة كما جاء في الصحيح لقارئ القرآن: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك في الجنة عند آخر آية تقرؤها) فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن.
الجواب: نعم، ندعو الله الذي لا إله إلا هو أن يعين أبناءنا الطلبة وإخواننا على أداء امتحاناتهم، وأن يرزقهم النجاح في الدنيا والآخرة، ولكن نوصيهم:
أولاً: بتقوى الله، فإن تقوى الله عز وجل أكبر معين على مذاكرة الدروس، يقول الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ [الحديد:28] والشافعي يقول في بيتين من الشعر:
شكـوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وأخبرني بأن العلـم نور ونور الله لا يهدى لعاصي |
ومن أسباب عدم القدرة على هضم العلم المعاصي؛ فإن المعاصي تغلب القلب فلا يعرف العلم، فعليك إذا أردت أن يفتح الله بصيرتك، وأن يفتح الله ذكاءك، أن تكون طائعاً لله متقياً له، حافظاً لحدوده ومجتنباً لمحارمه.
ثانياً: على الطلبة تجنب الغش، فإن الغش حرام مهما كان، لو رأيت كل الصالة تغش فلا تغش: (من غشنا فليس منا) ويترتب على حرمة الغش حرمة الشهادة التي تأخذها، ويترتب على حرمة الشهادة حرمة الوظيفة التي تنالها؛ لأنه ما بني على الحرام فأساسه حرام، إلا من عمل هذا جاهلاً ثم تاب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها، لكن تعملها وأنت تدري ثم تقول بعد ذلك: إذا نجحت من الامتحان تبت، لا، أنت تعصي الله على بصيرة والعياذ بالله!
ثالثاً: ينبغي للطلاب بذل الجهد واستنفاذ طاقة المذاكرة، وعدم تضييع الأوقات، ووضع جداول وبرامج محددة، كأن تأتي بجدول الامتحانات أمامك، ويوم السبت الموافق: 9/2/ تبدأ بمادة كذا وكذا، والأحد كذا وكذا، والإثنين كذا وكذا، تضع جدول للمذاكرة قبلها بثلاثة أسابيع، الأسبوع الأول: أذاكر في يوم السبت المادة التي في يوم السبت، وفي الأسبوع الثاني أراجعها مرة ثانية، وفي الأسبوع الثالث أراجعها مرة ثالثة، ويأتي يوم الامتحان فتراجع المرة الرابعة، وإذا بها مطبوعة في ذهنك، لكن بعض الشباب يضيع الوقت إلى ليلة الامتحان، ثم يأتي يذاكرها مذاكرة واحدة فتتبخر، فيدخل الصالة وليس معه حرف واحد، فلا بد من المراجعة بالتكرار؛ لأن التكرار يؤكد المعلومة في ذهن الإنسان.
أيضاً احذر من السهر، فإن السهر الطويل الممل والمتعب خاصة في الليل، يأتي الشخص فينام ساعة ثم يذهب ليذاكر، فيذهب وهو مقفل (الموجات) نائم، وهذا مجرب، فعليك أن تذاكر في النهار كله وتذاكر جزءاً من الليل ثم تنام، وبعد ذلك تقوم وأنت نشيط قد ذهب منك النوم والكسل، فتؤدي الامتحان -إن شاء الله- بنشاط.
وبعد ذلك الحذر من تعاطي بعض الأشياء، التي نسأل الله ألا تكون في مجتمعنا، لكننا نسمع أن بعض الناس يتعاطون بعض الحبوب المسهرة، وهي نوع من الحبوب المخدرة، التي إذا تعاطاها ذهب منه النوم وجف دماغه، لكن بتعاطيها وقع في الحرام وربما يقع في الإدمان، ويقع في بؤرة المخدرات والعياذ بالله!
بهذه الوصية نسأل الله تبارك وتعالى أن يعين أبناءنا وإخواننا، وأن يوفقهم للنجاح في الدنيا والآخرة، كما نذكرهم أن يتذكروا وهم في هذا الامتحان الرهيب يوم القيامة، ولا مقارنة بين الامتحانين؛ فالامتحان في الدنيا في بعض فصول الكتب، أما امتحان الآخرة ففي كتاب: لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف:49] زمن الامتحان في الدنيا ساعتان أو ثلاث ساعات، أما زمن الامتحان في الآخرة فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] .. الذي يدير الامتحان في الدنيا ثلة من البشر، لكن الذي يدير الامتحان يوم القيامة مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] وبعد ذلك نتيجة الامتحان في الدنيا إما أن تنجح أو دور ثاني وإما تسقط، لكن الامتحان في الآخرة إما الجنة وإما النار: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
الجواب: كل ما يقال للرجال في أمر الدعوة يقال للنساء أيضاً، ولكن نخص النساء بمزيد؛ إذ أن جانب الدعوة النسوي لا يزال يفتقر إلى الداعيات، وأقدر الناس على الدعوة في صفوف النساء هن النساء؛ لأن المرأة أعرف بشئون المرأة، وبمشاكلها وقضاياها، وإننا نستغرب -أيها الإخوة- أن لا يكون في نسائنا داعيات خصوصاً بعد ظهور العلم، وتأهل الكثير من النساء.. كثير من النساء الآن يحملن (الدكتوراه) ويحملن (الماجستير)، ويحملن الشهادات الجامعية، ومع هذا لم نجد فيهن داعيات لماذا؟
هذا أمر مستنكر، فلابد أن يقوم في النساء من يدعو إلى الله، وهذا عمل عظيم، ولو استعرضنا تاريخ السلف والتراجم، وسير الأعلام من الأمم؛ لوجدنا أن كثيراً من الصالحات كنَّ داعيات وعالمات وفضليات، ولا يتسع المقام لذكرهن وحصرهن، يتقدمهن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها التي روت أكثر من خمسة آلاف حديث، وحفظت للأمة هذه الثروة الضخمة لدين الله عز وجل.
الجواب: بئس الرجل الذي لا يعرف الله إلا في رمضان! من يصلي الفجر في رمضان عليه أن يصلي الفجر في كل أيام السنة في المسجد، وإلا فهو -والعياذ بالله- منافق معلوم النفاق؛ لأن الذي يبين لك هل أنت مؤمن أو منافق هي صلاة الفجر، فإن كنت من أهل صلاة الفجر بانتظام فهذه علامة الإيمان، وإذا كان العبد لا يصلي الفجر في المسجد فهذه علامة النفاق.
الجواب: النافلة المنهي عنها في وقت النهي هي النافلة المطلقة، أما النافلة ذات السبب فإنها تشرع في وقت النهي وفي غيره، وقد عد العلماء من ذوات الأسباب ركعتي تحية المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) فإذا دخلت المسجد في وقت نهي فهناك قولان للعلماء:
القول الأول: أنك تصلي؛ لأنك مأمور بعدم الجلوس إلا بعد الصلاة، وهذا أرجح عند العلماء.
والقول الآخر: أنك تجلس ولا تصلي؛ لأنه منهي عن الصلاة في هذا الوقت، وهذا القول مرجوح؛ لأنه اجتهادي، أما القول الأول: فهو نصي، والنصي مقدم على الاجتهادي، الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) وبعض الناس اجتهد فوقف، لا جلس ولا صلى، وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم، فأنت بالخيار، إما أن تصلي أو أن تجلس، أما أن تظل واقفاً لا صليت ولا جلست فهذا اجتهاد من عندك، فأنا صليت عملاً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالأرجح الذي قرأته وعرفته من كلام أهل العلم.
الجواب: لقد تكلم أهل العلم عن خصوصيات الصفات بالنسبة للأنبياء، فهم مخصوصون بالصلاة والسلام، وإن كان السلام يطلق في العموم على كل مسلم، لأننا نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إذا لقيتك قلت: السلام عليك، لكن إذا ذكرت رجلاً من الناس بعينه فلا ينبغي لك أن تقول: فلان عليه الصلاة والسلام، فإن هذا مختص به الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما بالنسبة لـ(رضي الله عنه) فهذه مختصة بالصحابة؛ لأن الله قد أخبرنا بأنه قد رضي عنهم، ومن بعدهم من التابعين لا يترضى عنهم وإنما يترحم عليهم، فتقول في التابعين: الحسن رحمه الله.. سعيد بن المسيب رحمه الله، لكن أبو بكر رضي الله عنه.. عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعدهم من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة نقول: رحمهم الله، ورحم الله الجميع.
عمر بن عبد العزيز من التابعين وهو ملحق بالخلفاء الراشدين، حتى عده المؤرخون الخليفة الخامس، لكن الترضي عنه لا؛ لأن الترضي يعني أنك ألحقته بالصحابة، وشرف الصحبة شرف لا يناله أحد مهما كان عمله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصحابة لا يدانون، يقول: (لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) ولهذا أجمعت الأمة وأطبقت على أن الصحابة كلهم عدول؛ لأن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن عمر بن عبد العزيز رحمه الله معروف بفضله، ما نقول: رضي الله عنه، نقول: رحمه الله، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله عُدّ من الخلفاء الراشدين؛ لأن خلافته كانت على منهج الخلفاء الراشدين، ولم يأت أحد بعد خلافة علي على منهجه إلا هو رحمه الله، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
الإمضاء: أم الفتاة، من هي أم الفتاة؟ قالوا وقلنا، من التي كتبت؟ ومن هي الفتاة؟ ومن أمها؟ ومتى حدثت؟! كل هذا أساطير وكذب، ومن هو التاجر الذي فقد ثروته؟ ومن هو العميد حتى نراه ونهنيه؟! لكن كلها كذب في كذب ما الغرض من هذا -أيها الإخوة-؟ الغرض كما بين العلماء أن يقوم أحد الناس السطحيين الذي في عقله خفة، فيقوم يصورها ثلاث عشرة صورة، ويرسلها ويرقب أنه يترقى، فإذا غلق الثلاثة عشر يوماً وما وجد الترقية؛ بنى على هذه الخرافة أن الدين الذي جاء عن الله وعن رسول الله خرافة، لأن هذه السيدة زينب منسوبة إلى البيت، وهذه كلها خرافة، إذاً كل الدين خرافة.. هذا هو الغلط؛ إظهار الدين شعوذة وكذب وأساطير.
أيها الإخوة: هذا ليس من دين الله، والذي يوزعها أجهل خلق الله، الذي يوزعها ويتبناها جاهل -والعياذ بالله- فعلى من وجدها أن يمزقها، وأنا أول من يمزقها، تقرباً إلى الله؛ حتى لا تقع في يد أحد يذهب يصورها وقد مرت علي فألام عليها يوم القيامة، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر