أما بعد:
فهذا هو اللقاء الأول من شهر شوال عام (1414هـ) وبه نفتتح لقاءاتنا من بعد شهر الصيام المبارك، نسأل الله تعالى أن يكتبها لنا ولا يكتبها علينا.
بعد هذا الشهر المبارك نذكر أنفسنا وإياكم بأنه إذا انتهى شهر الصيام فلا يعني هذا أنه انتهى الصيام، وإذا انتهى شهر القيام فلا يعني هذا أنه انتهى القيام، وإذا انتهى شهر الصدقة فلا يعني هذا أن الصدقة انتهت؛ لأن الأعمال لا تنتهي بانتهاء مواسمها، وإنما تنتهي الأعمال بانتهاء الأجل، لقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] فأمرنا بالبقاء على الإسلام إلى الموت، وقال تبارك وتعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) وقال الحسن البصري رحمه الله: [إن الله لم يجعل لعمل عبده المؤمن أمداً دون الموت، ثم تلا قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]] فالصيام لا زال مشروعاً والحمد لله.
- أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر من أوله أو أوسطه أو آخره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، لا يبالي أصامها من أول الشهر أم من وسطه أم من آخره) ولكن الأفضل أن تكون هذه الأيام الثلاثة أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.
- هناك أيضاً صوم أسبوعي يتكرر بتكرر الأسابيع، وهو صوم يوم الإثنين والخميس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومهما ويقول: (تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم).
- هناك صوم حولي على مدار السنة وهو صوم يوم عرفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إنه يحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).
وصوم يوم عاشوراء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).
فالصيام -والحمد لله- لم يزل مشروعاً، وهذه الأيام التي تصام يكمل بها الخلل الحاصل في رمضان، بل يكمل فيها خلل صوم رمضان، لأن صوم رمضان لا بد أن يكون فيه خلل، إما كلمات محرمة يقولها الصائم، وإما فعلاً محرماً يفعله الصائم، وإما إخلالاً بواجب يخل به الصائم فيحتاج إلى ترقيع؛ لأن هذه خروق في الصيام تحتاج إلى ترقيع، فترقع بالنوافل، ولهذا جاء في الحديث أن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة، ويرقع بها خلل الفرض.
إذاً: فالقيام مشروع في كل ليلة، والصلاة أيضاً مشروعة في كل وقت ما عدا أوقات النهي؛ فإنه لا يصلى فيها إلا الفرائض أو النوافل ذوات السبب، والصلاة شأنها عظيم؛ ولهذا قضى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة؛ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسأل -يعني: ماذا تريد أن نكافئك به؟- قال: أسألك مرافقتك في الجنة -انظر الهمة العالية! ما سأل شيئاً من الدنيا، سأل أن يكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة- فقال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) قال العلماء: بكثرة السجود، يعني: بكثرة الصلاة؛ لأن الصلاة يطلق عليها اسم السجود، حيث إنه ركن فيها، كما يقال: اعتق رقبة ويريد عبداً كاملاً، لكن لما كانت الرقبة لا يمكن وجود الحياة إلا بها أطلقت على جميع العبد.
فتصدق -يا أخي- ثم اعلم أن الصدقة ليست هي التي يتصدق بها الإنسان على شخص أجنبي ليس من أهل بيته فقط، بل الصدقة على أهل بيتك أفضل من الصدقة على الأجانب، والإنفاق على أهل البيت صدقة، بل إن الدينار الذي تنفقه على نفسك صدقة أيضاً، والصدقة على القريب أفضل من الصدقة على البعيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صدقة وصلة، المهم أن تنفق الصدقة تبتغي بها وجه الله تعالى.
زار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال له: (واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في فم امرأتك) (نفقة) أَيْ: أَيَّ نفقة، لأنها جاءت نكرة في سياق النفي، تشمل كل نفقة صغيرة أو كبيرة، قليلة أو كثيرة، فإنك تؤجر عليها بشرط: أن يكون ذلك لله، وأن تكون من طيب، وتبتغي بها وجه الله، مع أن إنفاقك على امرأتك واجب، لو لم تنفق لقالت: إما أن تنفق وإما أن تطلق، فأنت تنفق عليها تأليفاً لها وقياماً بواجبها، وخوفاً من أن تطالب بالطلاق، ومع ذلك تؤجر على النفقة عليها، فالأبواب -ولله الحمد- كثيرة واسعة.
عندما يتوضأ الإنسان في بيته ويسبغ الوضوء ويخرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، أتدرون ما ثوابه؟ لا يخطو خطوة واحدة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، اللهم لك الحمد، الخطوة الواحدة لك فيها فائدتان:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يرفع لك بها درجة.
والثانية: أن يحط عنك بها خطيئة.
لكن أين المحتسبون؟ أين الذين يقدرون على هذا؟ أين الذين يشعرون حينما يخرجون من بيوتهم إلى المساجد بهذا الشعور؟
أكثر الناس إما جاهل بهذا فلا يدري، وإما عالم لكنه غافل لا يحتسب، ولهذا ينبغي لك أن تحتسب ما تعمله من خير على الله، بمعنى: أن ترجو بذلك ثواب الله.
فنسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل بقاءنا في هذه الدنيا رفعة في درجاتنا، وقربى وزلفى لديه يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: هذه الكدرة ليست من الحيض، الكدرة التي تصيب المرأة من بعد طهارتها ليست بشيء، قالت أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) وفي رواية أخرى: (كنا لا نعدها شيئاً) ولم تذكر بعد الطهر. والحيض دم وليس بكدرة ولا صفرة، وعلى هذا فيكون صيام هذه المرأة صحيحاً سواء في اليوم الذي لم تر فيه الكدرة أو اليوم الذي رأت فيه الكدرة؛ لأن هذه الكدرة ليست بحيض.
الجواب: الذي يظهر أن أهل العراق في حاجة شديدة اليوم، فالإنسان قد يتوقف في شخص يشك أنه غني، وأما إذا كنت يغلب على ظنك أنه أهل للزكاة فأعطه منها؛ وعلى هذا فلا بأس أن ترسل لهم من الزكاة إذا كنت تعلم أنهم اليوم فقراء، أو يغلب على ظنك ذلك، وأما إن كنت تعلم أنهم كانوا أغنياء في السابق وربما طرأ عليهم الفقر فمثل هؤلاء لا ترسل لهم من الزكاة وإنما أرسل إليهم من باب الصلة أو الصدقة، فأنت تعلم أن صلة الرحم فيها خير كثير وأجر كبير، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى للرحم أن يصل من وصلها، وأن يقطع من قطعها.
الجواب: نعم، هذا الحديث كما ذكرت جاء في صحيح مسلم ، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك فقال: (أراد ألا يحرج أمته) يعني: ألا يرهقها بحرج ومشقة.
ولهذا يجوز للإنسان متى لحقه حرج ومشقة في تفريق الصلوات أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، سواء في سفر أو في حضر، ولهذا نجمع في أيام الأمطار، ونجمع في أيام الرياح الباردة، ونجمع في المرض، فباب الجمع أوسع من باب القصر، القصر ليس له إلا سبب واحد فقط وهو السفر، فغير المسافر لا يقصر، حتى المريض مرضاً شديداً لا يمكن أن يقصر إلا إذا كان في غير بلده، كإنسان ذهب للمعالجة فهذا يقصر، وإن بقيت المعالجة سنين، لكن الجمع أوسع، الجمع سببه الحاجة، والقصر سببه السفر، ولهذا جاز للمستحاضة -التي يأتيها الدم باستمرار- أن تجمع؛ لأنه يشق عليها مع خروج الدم أن تتوضأ لكل صلاة.
قال العلماء: حتى المرضع التي يشق عليها أن تطهر ثيابها لكل صلاة من نجاسة طفلها، يجوز لها أن تجمع، لكن هذا الذي قاله أهل العلم في وقت يكون الناس في ضيق، وليس عند المرأة إلا ثوب واحد يشق عليها أن تغسله كلما بال عليها الصبي، أما الآن -الحمد لله- يمكن أن يكون للمرأة ثوب خاص للصلاة، وآخر حين وجودها مع أطفالها.
الجواب: إذا كان في بلاد الإسلام التي يظهر فيها التوحيد، وليس فيها شيء من شعائر الكفر، وهو يعيش بينهم فإنه لا يعذر فيه؛ لأنه ليس هناك سبب يؤدي إلى الشرك، لكن في بلاد الإسلام التي يكون فيها شعائر الشرك كغالب البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر، حيث توجد فيها القبور التي تعبد من دون الله ويستغاث بها، فذلك قد يعذر بالجهل؛ لأنه قد يكون عامياً لا يدري عن شيء أبداً، يعيش في هذه القرية وهم يهبون إلى السيد فلان والولي فلان ويستغيثون به، فكان معهم ولم ينبهه أحد على ذلك، فهذا يعذر بجهله ويحكم له بظاهر الحال.
ثم إن كان هناك شيء خفي عنا فأمره إلى الله يوم القيامة، أما في الدنيا فيحكم له بظاهر الحال وهو الإسلام؛ لأنه لو اعتقد أن هذا شرك ما فعله؛ لأنه يدين بالإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويحج البيت، ويصوم، ولكنه في قوم نشئوا على هذا وشابوا عليه، ولا يعرفون أن هذا شرك، فهذا لا شك أنه يعذر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [التوبة:115] وقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4] فلا بد من البيان، ولا بد من المعرفة، والله عز وجل أكرم من أن يعاقب من لا يعرف أن هذا ذنب.
الجواب: أنا أكره استقدام العمال على الوجه الذي عليه الناس اليوم؛ لأن استقدام العمال أصبح تجارة يتجر بها الناس، تجد الإنسان يأخذ فيزاً وهو لا يحتاجها، لكن يأخذها فيبيعها على فلان وفلان، أو يأخذها ويأتي بالعمال فيستغلهم بأن يأخذ منهم مالاً، سواء من المكاتب هنا أو من المكاتب الخارجية، فأنا أكره هذا إطلاقاً، وأقول: إن الإنسان لا يستقدم إلا من يحتاج إليه فعلاً، وحينئذٍ لا يمكن أن يبيع الفيزة، ولا أن يأخذ من العامل.
ثم كيف نقول أنه يأخذ من العامل ومن الشروط المعروفة بينهم: أن العامل يأتي لمدة ثلاثة شهور للتجربة، ثم إذا انتهت الشهور لا يعجبه هذا العامل فيقوم برده إلى أهله، فيكون بهذا أخذ منه مالاً بغير حق، أما لو يأخذ منه المال ويقول: إذا لم يقبله رد عليه ما أخذه، فهذا أهون.
فالآن معنا نقطتان: أننا لا نرى جواز استقدام العمال إلا لمن احتاج إليهم حقيقة، أما من استقدمهم ليتجر بهم فهذا لا يجوز، أما إذا احتاج إليهم ثم أعطوه مالاً ليقدمهم على غيرهم فإنه إذا قدر أنه لم يوفق في هذا العامل فليرد إليه ما أخذه؛ لئلا يكون ما أخذه بغير حق.
الجواب: هذا ليس عليه إلا أن يكفر كفارة يمين، فيطعم عشرة مساكين، وذلك أن قوله لزوجته: أنت طالق إنما قاله تأكيداً للامتناع عن التدخين، وليس قصده فراق الزوجة، فعلى هذا نقول: ما دمت أردت تأكيد الامتناع منه ثم عدت إليه فليس عليك إلا كفارة يمين.
الجواب: رفع اليدين في الدعاء على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما وردت به السنة، فهذا ظاهر أنه يسن فيه الرفع، مثل: دعاء الاستسقاء، إذا استسقى الإنسان في خطبة الجمعة أو في خطبة الاستسقاء فإنه يرفع يديه، وكرفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وكرفع اليدين في عرفة بالدعاء، وكرفع اليدين عند الجمرة الأولى في أيام التشريق والجمرة الوسطى، ولهذا فإن في الحج ست وقفات:
الوقفة الأولى: على الصفا.
والثانية: على المروة.
والثالثة: في عرفة.
والرابعة: في مزدلفة بعد صلاة الفجر. والخامسة: عند الجمرة الأولى في أيام التشريق.
والسادسة: بعد الجمرة الوسطى في أيام التشريق. هذا القسم لا شك أن الإنسان يرفع يديه فيه لورود السنة به.
والقسم الثاني: ما ورد فيه عدم الرفع مثل: الدعاء في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح في الصلاة ويدعو ويقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ويدعو بين السجدتين: (رب اغفر لي) ويدعو في التشهد الأخير، ولا يرفع يديه في ذلك كله، وكذلك في خطبة الجمعة يدعو ولا يرفع يديه إلا في الاستسقاء أو في الاستصحاء، ومن رفع يديه في هذه الأحوال وأشباهها قلنا: إنه بدعة، ونهيناه عن ذلك.
القسم الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدم الرفع، فهذا الأصل فيه أن من آداب الدعاء أن يرفع الإنسان يديه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطمعه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين إلى الله من أسباب إجابة الدعاء.
فهذه أقسام رفع اليدين، ولكن في القسم الذي ترفع فيه الأيدي هل إذا فرغ من الدعاء يمسح وجهه بيديه؟ الصحيح: أنه لا يمسح وجهه بيديه؛ لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم به حجة، فإذا رأينا شخصاً يمسح وجهه بيديه إذا انتهى من الدعاء بينا له أن السنة ألا تمسح وجهك بيديك؛ لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف.
الجواب: تداخل العبادات قسمان:
قسم لا يصح: وهو فيما إذا كانت العبادة مقصودة بنفسها، أو متابعة لغيرها، فهذا لا يمكن أن تتداخل العبادات فيه، مثال ذلك: إنسان فاتته سنة الفجر حتى طلعت الشمس، وجاء وقت صلاة الضحى، فهنا لا تجزئ سنة الفجر عن صلاة الضحى، ولا الضحى عن سنة الفجر، ولا الجمع بينهما أيضاً؛ لأن سنة الفجر مستقلة وسنة الضحى مستقلة، فلا تجزئ إحداهما عن الأخرى.
وكذلك إذا كانت الأخرى تابعة لما قبلها فإنها لا تتداخل، فلو قال إنسان: أنا أريد أن أنوي بصلاة الفجر صلاة الفريضة والراتبة، قلنا: لا يصح هذا؛ لأن الراتبة تابعة للصلاة فلا تجزئ عنها.
والقسم الثاني: أن يكون المقصود بالعبادة مجرد الفعل، والعبادة نفسها ليست مقصودة، فهذا يمكن أن تتداخل العبادات فيه، مثاله: رجل دخل المسجد والناس يصلون صلاة الفجر، فإن من المعلوم أن الإنسان إذا دخل المسجد لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل مع الإمام في صلاة الفريضة أجزأت عنه الركعتين، لماذا؟ لأن المقصود أن تصلي ركعتين عند دخول المسجد، وكذلك لو دخل الإنسان المسجد وقت الضحى وصلى ركعتين ينوي بهما صلاة الضحى أجزأت عن تحية المسجد، وإن نواهما جميعاً فأكمل، فهذا هو الضابط في تداخل العبادات.
ومنه الصوم، فصوم يوم عرفة مثلاً المقصود أن يأتي عليك هذا اليوم وأنت صائم، سواء كنت نويته من الأيام الثلاثة التي تصام من كل شهر أو نويته ليوم عرفة، لكن إذا نويته ليوم عرفة لم يجزئ عن صيام الأيام الثلاثة، وإن نويته يوماً من الأيام الثلاثة أجزأ عن يوم عرفة، وإن نويت الجميع كان أفضل.
الجواب: المشهور عند أصحاب الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك والإمام أحمد أن المكي لا يَقْصُر ولا يجمع؛ لأنه غير مسافر، إذ أن السفر ما بلغ ثلاثة وثمانين كيلو أو أكثر، والمعروف أن عرفة هي أبعد المشاعر عن مكة لا تبلغ هذا المبلغ، فعلى هذا لا يجمع أهل مكة ولا يقصرون، بل يتمون ويصلون كل صلاة في وقتها، سواء في عرفة أو في مزدلفة أو في منى.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنهم يجمعون ويقصرون، وقال: إن هذا الجمع والقصر سببه النسك وليس سببه السفر، فيقصرون ولو كانوا في منى وهو أقرب المشاعر إلى مكة.
ولكن الصحيح أن القصر في منى وفي عرفة وفي مزدلفة ليس سببه النسك بل سببه السفر، والسفر لا يتقيد بالمسافة، بل يتقيد بالحال وهو أن الإنسان إذا خرج تأهب واستعد لهذا الخروج وحمل معه الزاد والشراب فهو مسافر، وإذا كان خروجاً يسيراً فيخرج في أول النهار ويرجع في آخره، فهذا ليس بمسافر.
وبناءً على ذلك نقول: إن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتزودون للحج، أهل مكة وغير أهل مكة، ولهذا كان أهل مكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يجمعون ويقصرون تبعاً للرسول، ولم يقل: يا أهل مكة! أتموا.. وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولكن يبقى علينا في وقتنا الحاضر إذا نظرنا إلى منى وجدنا أنها أصبحت حياً من أحياء مكة، والذي يخرج إلى منى مثل الذي يخرج إلى العزيزية؛ بل ربما يكون بعض أفراد العزيزية الشرقية فوق منى، لذلك أرى أن من الأحوط لأهل مكة ألا يقصروا في منى.
الجواب: الأفضل لمن يرجو وجود الماء أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، إن كانت لا تجمع بما بعدها كالفجر والعشاء والعصر، وإذا كانت تجمع لما بعدها فتأخيرها إلى وقت الثانية هو الأفضل، وإن تيمم وصلى فلا بأس؛ لعموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] إلى أن قال: فَإن لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا [المائدة:6].
الجواب: هذه الطريقة من العقود ظلمات بعضها فوق بعض، وحيلة على محارم الله، فإن من المعلوم أنني لو أعطيتك أربعين ألفاً على أن تكون خمسين ألفاً إلى سنة فمن المعلوم أنها ربا لا يختلف فيه، فإذا جئت إلى شخص وأنت تريد الدراهم لكن لا تريد أن تقول: أعطني أربعين ألفاً بخمسين ألفاً إلى سنة؛ لأنه ربا صريح، ولكن قلت: أنا أشتري لك سيارة ثم أبيعها لك بثمن زائد على قيمتها من أجل التقسيط، ثم تذهب وتبيعها فإن بعتها على الذي اشتريتها منه فهي مسألة العينة، وإن بعتها على غيره فهي مسألة التورق.
لا شك أن مسألة العينة حيلة واضحة جداً على الربا، فبدل من أن يعطيك أربعين ألفاً بخمسين إلى سنة اشتريت هذا الشراء الصوري الذي يعلم الله وتعلم أنت ويعلم الدائن ويعلم الخلق كلهم أنه ليس المقصود بهذا الشراء الحقيقي، وإنما المقصود به أخذ أربعين ألفاً بخمسين، فهذه حيلة واضحة، ومن فعل هذا ففيه شبهٌ من اليهود نسأل الله العافية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل).
وإذا كان اليهود دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قاتل الله اليهود! إنه لما حرمت عليهم الشحوم جملوها -يعني: أذابوها- ثم باعوها وأكلوا ثمنها) فاليهود لما حرم الله عليهم الشحوم قالوا: إذاً: لا نأكل الشحم لكن نذيبه ونبيعه ونأكل ثمنه، هذه الحيلة التي صنعها اليهود، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أن يقاتلهم الله؛ لأنهم حرب على الله إذا فعلوا هذا الفعل.
وحيلة اليهود أبعد من حيلة هؤلاء؛ لأن اليهود ما أكلوا الشحم ولا باعوا الشحم أيضاً، ذوبوه ثم باعوه وأكلوا الثمن، أما هذا فبدلاً من أن يعطيك أربعين ألفاً وتكون عليك بخمسين ألفاً إلى سنة قال: تشتري هذه السيارة بخمسين ألفاً إلى سنة ثم يشتريها هو بأربعين ألفاً، فهذه المعاملة حرام على الدائن وعلى المستدين، وعلى من فعلها أن يتوب إلى الله قبل أن يأتيه الموت وهو متلبس بهذه الحيلة -والعياذ بالله- ومن تاب تاب الله عليه؛ لأن الله قال: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
الجواب: لا بأس أن تنظم الجماعات في الدعوة إلى الله عز وجل في أي وقت وفي أي مكان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظم أصحابه في الجهاد والصلاة والحج وفي كل شيء، يصفهم ويرتبهم، ويقول: أنت لك الراية، وهذا له العلم، وهذا في المجنبة اليمنى، وهذا في المجنبة اليسرى، وهذا في القلب، يعني: في وسط الجيش.
هكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك العلماء قالوا: ينبغي في الجهاد أن يرتب الجيش، وينزل كل إنسان منزلته، ويجعل على كل طائفة عرفاء يبلغون القائد العام حاجات الناس، فالتنظيم أمر جاء به الشرع ولكنه مطلق، ومعنى: كلمة مطلق، أنه يخضع لما تقتضيه المصلحة في كل زمان ومكان، قد يكون تنظيمنا هنا في البلد مناسباً وصالحاً، ولكنه في بلد آخر لا يكون مناسباً ولا صالحاً، ولهم أنظمة خاصة بهم، فكل يراعي ما تحصل به المصلحة، وليس ذلك شيئاً محدثاً أو محرماً في الشرع، فإنه من الأمور التي جاءت السنة بمثله.
فالسؤال هنا: هل ترد موانع التكفير أو ما اشترطه أهل السنة والجماعة في إقامة الحجة على من حكم بغير ما أنزل الله تشريعاً عاماً؟
الجواب: كل إنسان فعل مكفراً فلا بد ألا يوجد فيه مانع التكفير، ولهذا جاء في الحديث الصحيح لما سألوه هل ننابذ الحكام؟ قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فلا بد من الكفر الصريح المعروف الذي لا يحتمل التأويل، فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يكفر صاحبه وإن قلنا إنه كفر.
فيفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، قد تكون الفعلة فسقاً ولا يفسق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه، وقد تكون كفراً ولا يكفر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره، وما ضر الأمة الإسلامية في خروج الخوارج إلا هذا التأويل، فـالخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب على جيش أهل الشام ، فلما حصلت المصالحة بين علي بن أبي طالب وأهل الشام خرجت الخوارج الذين كانوا معه عليه حتى قاتلهم وقتلهم والحمد لله، لكن الشاهد أنهم قالوا: حكمت بغير ما أنزل الله؛ لأنك حكمت البشر، فخرجوا عليه.
فالتأويل الفاسد هو بلاء الأمة؛ فقد يكون الشيء غير كفرٍ فيعتقدها هذا الإنسان أنه كفر بواح فيخرج، وقد يكون الشيء كفراً لكن الفاعل ليس بكافر لوجود مانع يمنع من تكفيره، فيعتقد هذا الخارج أنه لا عذر له فيخرج. ولهذا يجب على الإنسان التحرز من التسرع في تكفير الناس أو تفسيق الناس، ربما يفعل الإنسان فعلاً فسقاً لا إشكال فيه، لكنه لا يدري، فإذا قلت: يا أخي! هذا حرام. قال: جزاك الله خيراً. وانتهى عنه.
إذاً: كيف أحكم على إنسان بأنه فاسق دون أن تقوم عليه الحجة؟ فهؤلاء الذي تشير إليهم من حكام العرب والمسلمين قد يكونون معذورين لم تتبين لهم الحجة، أو بينت لهم وجاءهم من يلبس عليهم ويشبه عليهم.
فلا بد من التأني في الأمر، ثم على فرض أننا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، وكلمة (رأينا) شرط، و(كفراً) شرط، و(بواحاً) شرط، و(عندنا فيه من الله برهان) شرط.. أربعة شروط.
فنقول: (أن تروا) أي: تعلموا يقيناً احترازاً من الشائعات التي لا حقيقة لها.
وكلمة (كفراً) احترازاً من الفسق، يعني: لو كان الحاكم فاسقاً فاجراً لكن لم يصل إلى حد الكفر فإنه لا يجوز الخروج عليه.
الثالث: (بواحاً) أي: صريحاً لا يتحمل التأويل، وقيل البواح: المعلن.
والرابع: (عندكم فيه من الله برهان) يعني: ليس صريحاً في أنفسنا فقط، بل نحن مستندون على دليل واضح قاطع.
هذه الشروط الأربعة شرط لجواز الخروج، لكن يبقى عندنا شرط خامس لوجوب الخروج وهو: هل يجب علينا إذا جاز لنا أن نخرج على الحاكم؟ هل يجب علينا أن نخرج؟ ينظر للمصلحة، إن كنا قادرين على إزالته فحينئذٍ نخرج، وإذا كنا غير قادرين فلا نخرج، لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطة بالقدرة والاستطاعة. ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه، لأننا خرجنا ثم ظهرت العزة له، صرنا أذلة أكثر، وتمادى في طغيانه وكفره أكثر، فهذه المسائل تحتاج إلى تعقل، وأن يقترن الشرع بالعقل، وأن تبعد العاطفة في هذه الأمور، فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تحمسنا، ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساق وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك.
الجواب: أتوقف في تحريم هذا الشيء؛ لأن العارضات في المناسبات جاءت الشريعة بمثلها في لعب الحبشة برماحهم في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد عمر أن يحصبهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعهم حتى يعلموا أن في ديننا فسحة).
فأنا أتوقف في التحريم، هذا إذا لم تشتمل على شيء محرم كحضور النساء واختلاطهن بالرجال، فهنا تكون محرمة من أجل ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر