أما بعد:
فقد استمعنا إلى قول الله عزَّ وجلَّ: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
هذه الآية الكريمة من أنصع آيات العلم تفصيلاً، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر فيها مفاتح الغيب، ثم ذكر فيها تفاصيل أخرى، ومفاتح الغيب بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مذكورة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
هذه خمسة أمور.
وقال: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:63].
وقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الساعة، قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) جبريل عليه الصلاة والسلام أشرف الملائكة وأعلمهم، يسأل محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف البشر وأعلمهم عن الساعة، فيقول له: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) يعني: إن كنتَ تجهلها أنت فأنا كذلك أجهلها؛ لأنه لا يعلمها إلا الله.
نعم، للساعة أشراط، يظهرها الله عزَّ وجلَّ مُقَدِّمَة لتلك الساعة؛ لأن الساعة حدث عظيم، فلهذا صار له مقدمات تشير إلى قربه.
الغيث: المطر، وهو -أي: المطر- غيثٌ ولكن الله سبحانه وتعالى قد لا يجعله غيثاً؛ لأن الغيث قد لا يحصل به الإنقاذ من الشدة، وأحياناً يَنْزِل المطرُ ولا يكون إنقاذاً من الشدة، كما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس السنة ألا تُمْطَروا -يعني: ليس الجدْب ألا تُمْطَروا- وإنما السنة أن تُمْطَروا فلا تنبت الأرض شيئاً) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام، الغيث يُنَزِّله الله عزَّ وجلَّ، لا أحد يستطيع أن يُنَزِّل الغيث، مهما كانت قدرته وقوته، لا يمكن أن يُنَزِّل الغيث أبداً؛ لأن ذلك خاص لله عزَّ وجلَّ، والذي يخلق الغيث هو الله، ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا نزل المطر حَسَرَ عن ثوبه ليصيب بَدَنَه، وقال: (إنه حديث عهدٍ بربه) أي: مخلوق جديد، فيصيب بدني من حين أن خُلق، ولا أحد يستطيع أن يخلق إلا الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج:73] استمعوا، الله عزَّ وجلَّ يطلبنا أن نستمع: فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73] هذا الذباب الضعيف المهين لا يمكن أن يخلقه أحد ممن تدعونه من دون الله، ولو اجتمعوا له.
انظر هذا تحدٍّ، تحدٍّ بالآيات الكونية.
وهناك تحدٍّ بالآيات الشرعية: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88] فالله عزَّ وجلَّ يتحدى الناس، يتحدى الخلق بالآيات الكونية كما في الآية الأولى، وبالآيات الشرعية كما في الآية الثانية.
يعلم ما في الأرحام، ماذا نظن المراد بالأرحام في هذه الآية؟
هل الأرحام بنو آدم، أو بنات آدم؟
الجواب: لا. بل أرحام كل ذات رحم، من بنات آدم، وسائر الحيوانات، يعلم عزَّ وجلَّ ما في أرحامها، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله سبحانه وتعالى الذي خلقها، لا يعلم ما في الأرحام إلا خالقها سبحانه وتعالى.
صدق الله، لا تدري أي نفس، نفس هنا نكرة في سياق النفي فتشمل كل نفس، لا تدري أي نفس مهما بلغت في الفراسة، ومهما بلغت في الذكاء، لا تدري ماذا تكسب غداً، نعم الإنسان يخطط بأنه سوف يعمل غداً كذا وكذا؛ ولكن هل ذلك يتم؟
الجواب: قد يتم وقد لا يتم؛ لكن لا تدري يقيناً بأنك غداً تكسب كذا وكذا، أبداً: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24].
وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً كلمة غد، هل المراد بها اليوم الذي يلي يومك؟ أو مستقبل الزمن؟ مستقبل الزمن.
يعني: اليوم الذي يلي يومك وما بعده وما بعده لا تعلم ماذا تكسب فيه.
أي نفس لا تدري بأي أرض تموت، تجد الإنسان يولد في بلد، ويعيش فيها، ولا يطرأ على باله أن ينتقل عنها، ثم إذا أراد الله أن يقبضه في أرض، جعل له حاجة في هذه الأرض، تحثه إلى أن يمشي إليها، فيموت فيها، وهو لا يدري، البعير تنشأ في جهة من جهات الأرض، تولد، تكبر، ثم تُستعمل للركوب أو غير الركوب، وتُذبح في بلاد بعيدة عن بلادها، أو تموت في بلاد بعيدة عن بلادها، كل نفس لا تدري بأي أرض تموت.
وهل تدري في أي يوم تموت؟! لا. لا تدري، من لا يدري بأي أرض -مع أنه باختياره أن ينتقل من أرض إلى أرض- لا يدري أيضاً بأي يوم يموت، فجهالة الزمن أشد من جهالة المكان؛ لأن المكان يمكن للإنسان أن ينتقل، يمكن يبقى في الأرض ويقول: لا أمشي؛ لكن الزمن يمشي غصباً عنه، لا تدري نفس بأي أرض تموت.
فهذه مفاتح الغيب خمس.
والجواب: الساعة: مفتاح الآخرة.
نزول الغيث: مفتاح حياة الأرض.
ما في الأرحام: يعني: يكون الإنسان في بطن أمه، أو أي حيوان في بطن أمه مفتاح الوجود في الحياة.
عمل الغد: مفتاح عمل المستقبل.
الموت: مفتاح الانتقال من الدنيا إلى الآخرة.
فلهذا صارت هذه الخمس مفاتح.
فإذا قال قائل: إنهم الآن يعلمون ما في الأرحام، هل هو ذكر أو أنثى! فهل يتعارض مع هذه الآية؟
الجواب: قد يقول بعض الناس يتعارض، وحينئذ إما أن نأخذ بالآية، أو نأخذ بما قالوا؛ لأن المتعارضَين لا يثبتان جميعاً، إذْ لو ثبتا جميعاً لم يكن هناك تعارض، فهل تأخذ بما دل عليه القرآن، أو بما هو واقع الآن؟
نأخذ بما جاء به القرآن وبما دل عليه؛ لكن الكلام: هل الواقع يعارض القرآن؟ لا، هذا شيء مستحيل.
لا يمكن أن يوجد شيء له حقيقة معلومة قطعاً فيعارض القرآن أبداً، مستحيل؛ لأن القرآن حق والواقع حق، والحقان لا يتعارضان؛ لأن كل شيئين نعتبرهما حقاً إن قلنا بتعارضهما فهذا إما جمع بين النقيضين، وإما رفع للنقيضين، وهذا كله من المستحيل.
وإذا حدث شيء يعارض القرآن في الظاهر وجب عليك أن تعيد النظر مرة بعد أخرى، ليتبين لك أنه لا معارضة، فإن عجزت عن الجمع، فالواجب عليك أن تقول: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] وتقف؛ لأنه كل إنسان يستطيع أن يجمع بين الواقع والقرآن، قد يكون قاصراً لا يفهم، أو مقصراً لا يجتهد.
إذاً: كيف الجمع؟
نقول: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ [لقمان:34] لم يذكر الله عزَّ وجلَّ مُتَعَلَّق العلم، وإن كان في بعض الأحاديث الإشارة إلى أن المراد العلم بالذكورة والأنوثة، ومعلوم أن الجنين علمه ليس بالذكورة والأنوثة فقط:
بالذكورة والأنوثة، أن يخرج حياً أو ميتاً، أن يبقى في الدنيا طويلاً أو قصيراً، أن يبقى غنياً أو فقيراً، أن يبقى شقياً أو سعيداً، كل هذا ممكنٌ، كل هذا يتعلق بعلم الجنين، هل الناس يعلمون هذه الأشياء؟
أبداً، حتى الذكورة والأنوثة لا يعلمونها إلا بعد أن يكون ذكراً أو أنثى، أما قَبْلُ ما يعلمون؛ لأنه لَمَّا كان نطفة لا يعلمونه، حسب علمنا إلى الآن لا يعلمون، إنما يعلمون بعد أن يُخَلَّق، وإذا خُلِّقَ صار من عالم الشهادة لا من عالم الغيب؛ لكنه عالم من عالم الشهادة المحجوبة: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ [الزمر:6] ؛ لكن لو نزيل هذه الظلمات الثلاث علمنا به أم لا؟ علمنا به، وشاهدناه.
إذاً: فهو بعد التخليق من عالم الشهادة المحجوبة، لولا هذه الحُجُب لعلمنا به، فإذا وُجدت أجهزة تنفذ من هذه الحجب فلا مانع أن يُعلَم أنه ذكر أو أنثى.
ثانياً: ينَزَّل الغيث: جاء في الحديث الصحيح: (لا يعلم متى ينزل المطر إلا الله).
فهل هذا يعارض ما نسمع في الإذاعة: أن الطقس المتوقَّع يكون كذا وكذا وكذا؟
الجواب: لا، لا يتعارض؛ لأنه لا يمكن يتعارض القرآن مع الواقع إطلاقاً، كيف لا يتعارض؟
لأن العلم المذكور: أن الطقس مبني على شيء محسوس، ليس على علم غيب؛ لكنه لا يُعلَم إلا بأجهزة دقيقة، ليس كل واحد يعلم، فهناك -بإذن الله عزَّ وجلَّ- تكيُّفات للجو يكون بها صالحاً للإمطار، فيتوصلون بالأجهزة الدقيقة إلى معرفة هذه التكيُّفات، كما أننا نحن لو شاهدنا السماء مظلمة والغيوم ملبَّدة فإننا نتوقع نزول المطر، نتوقع المطر، إذاً: لا معارضة، لا معارضة بين الواقع وبين القرآن الكريم.
(ما) هنا اسم موصول مفيد للعموم، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كل ما في البر وكل ما في البحر، لا يخفى عليه شيء، لا دقيقه ولا جليله.
وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا [الأنعام:59]:
أيُّ ورقة تسقط فهو يعلمها، بأي شيء؟ يعلم هذه الورقة بعينها، ومن أي موضع سقطت من غصن الشجرة، وفي أي مكان من الأرض سقطت، وكيف سقطت، كل ما يتعلق بهذه الورقة الساقطة يعلمها، فما بالك بالورقة النابتة التي تنبت، يكون علمه بها من باب أولى؛ لأن النابتة مخلوقة، والمخلوق معلوم، كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] والساقطة أيضاً مخلوقة؛ لكن الساقطة تسقط مرة واحدة، والمخلوقة تنمو شيئاً فشيئاً، أي ورقة صغيرة أو كبيرة من أي شجرة في أي مكان وفي أي زمان تسقط، فالله تعالى يعلمها.
فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ [الأنعام:59] تصوَّر ما هي الظلمات التي تكون في الأرض؟!
يعني: افرض -مثلاً- أن الظلمات تتوارد أو تتكاثف عليه الحُجُب في الأرض، لنفرض أن حبة في قاع البحر مندفنة في التراب، في ليلة مغيمة، ممطرة، مظلمة، ننظر الظلمات الآن كم تكون؟
الظلمة الأولى: التراب الذي على هذه الحبة.
والثانية: الماء، ماء البحر.
والثالثة: ماء المطر؛ لأن المطر له ظلمة.
والرابعة: ظلمة الليل.
والخامسة: ظلمة السحاب.
كل هذه الظلمات الخمس داخلة في قوله: ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ [الأنعام:59] هذه الحبة الصغيرة الدقيقة في هذه الظلمات يعلمها الرب عزَّ وجلَّ.
قال تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ [الأنعام:59]:
وهذا أعم ما يكون تعميماً من بعده تخصيص؛ لأنه ما من شيء إلا رطب أو يابس، كل رطب أو يابس فهو معلوم لله عزَّ وجلَّ مهما كان وفي أي مكان.
وهذا دليل على عموم علم الله سبحانه وتعالى، وليس المقصود منه أن يخبرنا الله عزَّ وجلَّ عن هذه الصفة العظيمة من صفاته فحسب، بل المقصود شيء آخر.
ماذا يعني كمال صفة العلم لله عز وجل؟!
هو أن نتعبد لله تعالى بمقتضى هذا العلم، هذا هو المهم، أن نتعبد لله بمقتضى هذا العلم، إذا أردتَ أن تعمل معصية، إن ذكرتَ أن الله يعلم تُقْدِم عليها أم لا؟ لا تُقْدِم، ما تُقْدِم عليها.
ما دمتُ أعلم يقيناً بأن الله يعلم فإنه لا يمكن أن أقدم عليها أبداً؛ إلا ناقص الإيمان -نسأل الله العافية- هذا يمكن؛ لكن مع تمام العلم، ومع تمام الإيمان بعلم الله المحيط بكل شيء لا تقدم عليها؛ لأن الله قال لنا في الكتاب: يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] تصوَّر هذه الملاقاة التي ستكون المحاسبة فيها عن علم.
كذلك أيضاً: الفائدة الثالثة، الفائدة الأولى: أن نعرف هذه الصفة العظيمة من صفات الله، والثانية: أن نتعبد لله بمقتضاها.
والثالثة: أن نعامل عباد الله بمقتضاها أيضاً، فلا نخون أحداً، ولا نخدعه في غير موضع الخداع، الخيانة لا نخون أحداً.
الخداع نُقَيِّم، لا نخدعه في غير موضع الخداع، في موضع الخداع نخدعه.
الخيانة لا نخون أبداً بدون تفصيل.
والخداع لا نخدع في غير موضع الخداع؛ لأنه في موضع الخداع يجب الخداع، بل هو صفة كمال، كما قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
الخيانة صفة نقص، لا يجوز أن نخون، ولهذا قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ [الأنفال:71] ولم يقل: فخانهم، قال: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الأنفال:71]؛ لأن الخيانة ذم، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تخن من خانك) ولم يقل: لا تخدع من خدعك، بل قال: (الحرب خدعة) ويُذكر أن علي بن أبي طالب لما بارزه عمرو بن ود، وخرج إليه من الصف، صاح به علي رضي الله عنه، قال: [ما خرجتُ لأبارز رجلَين فظن
لأن هذا الرجل خرج لأي شيء؟ ليقتل علي بن أبي طالب، إذاً: له أن يتوصل إلى حماية نفسه وقتل عدوه بأي طريق.
المهم أن المقصود من ذكر هذه الصفة العظيمة (العلم) ثلاثة أمور، ما هي؟
الأول: معرفة عموم علم الله، وهذه الصفة العظيمة.
الثاني: أن نتعبد لله بمقتضاها.
الثالث: أن نعامل عباد الله بمقتضاها.
كثيرٌ من الناس إذا أمكنه أن يخون أحداً أو أن يخدعه في غير محل الخداع خانه وخدعه؛ كأنه لا يدري أن الله يعلم عزَّ وجلَّ، وهذا من ضعف الإيمان.
كتاب مبين، إما أن تكون من (أَبَانَ) المتعدي أو من (أَبَانَ) اللازم.
إن كانت من (أَبَانَ) اللازم فهي بمعنى: بيِّن، يعني: في كتاب بيِّن واضح مفصَّل.
أو من (أَبَانَ) المتعدي فيه بمعنى: أظْهَرَ ومَيَّز.
وكلا الوصفين بالنسبة لهذا الكتاب الذي أشار الله إليه كلاهما حق ثابت، والمراد به: اللوح المحفوظ، فإن اللوح المحفوظ كتب الله فيه مقادير كل شيء؛ كما جاء في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق القلم قال له: اكتب، قال رب: ماذا أكتُب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة) فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
نسأل الله تعالى أن يكتب لنا ولكم الخير والصلاح والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، إنه جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين.
وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: نعم، أنا عندي أن هذا الحديث موجَّه على أحد وجهين:
الوجه الأول: إما أن يكون المؤذن يؤذن بالتحري، والذي يؤذن بالتحري قد يصيب وقد لا يصيب، كالمؤذنين عندنا الآن.
والوجه الثاني: أن يكون ذلك بالتأذين من المؤذن عن يقين، ومشاهدته للفجر؛ ولكن هذا من باب الرخصة، لما كان الإنسان رفع الماء ليشرب، تعلقت به نفسه، ولهذا لو كان في الأرض لا تحمله، لا ترفعه من الأرض، بل لابد أن يكون في يدك، وإلاَّ كانت النفس قد تعلقت بهذا الماء الذي رفعه، كان من رحمة الله عزَّ وجلَّ أن يقضي الإنسان نهمته منه، كما لو حضر الطعام والإمام يصلي فإنك تأكل من الطعام، ولو فاتتك الصلاة، فتُسقط بذلك واجباً؛ لأن نفسك متعلقة بهذا الطعام الذي قُدِّم بين يديك.
فالحديث لا يخرج عن أحد هذين الوجهين.
الوجه الأول ما هو؟ أن المؤذن يؤذن بالتحري؛ لكن هذا قد يمنعه رواية أحمد ، أنه يؤذن حين بزوغ الفجر؛ إلا أنه يؤيده ما ثبت في الصحيحين من قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن
الوجه الثاني: قلنا: أن هذا من باب الرخصة، وهو أنه لما اشتد تعلق النفس بهذا الماء المرفوع رخص له الشارع أن يقضي نهمته منه، وإن كان في وقت يُمنع منه، ونظير ذلك: (لا صلاة بحضرة طعام) أو (إذا قُدِّم العَشاء فابدءوا به قبل صلاة العِشاء).
أما ما يفعله بعض الناس إذا أذَّن قدَّم السحور، هذا لا يتفق أبداً، لا مع الحديث ولا مع نص الآية.
أو بعض الناس يجيء بحديث، جاء به من جيبه، وليس من كيسه، جاء به من جيبه، يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستتر بناقته لئلا يرى طلوع الفجر، (عَلَشَان) يأكل، كيف هذا؟! كل واحد يستتر بالجدار ويأكل على مهله.
والله! هذا الحديث جاء في الماء.
الجواب: الفترة الأخيرة التي بعد الطهر -إذا كان الدم ليس دم العادة- ليس حيضاً، فلها أن تصوم، وتصلي، ولا حرج عليها،وأما ما قبل الطهر فإنه من الحيض حتى وإن كان صُفرة أو كُدرة، ما دام متصلاً بالدم؛ بالحيض فإنه يعتبر من الحيض، ولهذا تقول أم عطية رضي الله عنها: [كنا لا نعد الصُّفرة والكُدرة بعد الطهر شيئاً] أما قبل الطهر فما دام تابعاً للحيض ومتصلاً به فله أحكامه.
الجواب: إذا كان هذا الرجل يشق عليه الصوم؛ ولكنه يتصبَّر فإنه أخطأ في ترك رخصة الله عزَّ وجلَّ؛ لأن الله قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184] فإن تسبب ذلك إلى ضرر فقد يكون آثماً؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر