أما بعد:
(والسماوات مطويات بيمينه) السماوات السبع على عظمها واتساعها (مطويات بيمينه) ومن الذي طواها؟ الله، كما قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104] هذا الذي هذه عظمته كيف يشرك به مخلوقٌ حقير، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا غياً ولا رشداً؟! إن من أشرك بهذا الرب العظيم معه غيره لهو أسفه الناس بل هو أسفل الناس، لقول الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] وملة إبراهيم هي ما ذكره الله في قوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:123].
ولهذا قال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] (سبحان) منصوبة لأنها مفعول مطلق عاملها يسبح فهي مفعول مطلق؛ لأنه وافق المصدر في المعنى وخالفه في اللفظ، حيث مصدر يسبح تسبيحة، هذه الكلمة (سبحان) لا يمكن أن يدخل معها عامل، كلما جاءت في القرآن أو السنة فهي منصوبة دائماً على المفعولية المطلقة ولا يذكر معها عامل.
انظروا في السنة: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، كلما ذكرت لا يذكر معها العامل وتذكر بهذا اللفظ على أنها مفعول مثل: سبحانه، أي: تنزيهاً له، والذي ينزه الله عنه ثلاثة أشياء:
أولاً: كل صفة نقص فالله منزه عنها.
ثانياً: كل نقصٍ في كماله فالله منزه عنه، فكمال الله عز وجل ليس فيه نقص، فلا نقص في علمه ولا في قدرته ولا في قوته ولا غير ذلك.
ثالثاً: مماثلة المخلوقين، فالله منزه عنها.
ما هو الدليل على ذلك؟ الدليل على الأول: أنه منزه عن كل نقص فليس موصوفاً بالعمى عز وجل، ولا بالصمم ولا بالخرس؛ لأن إبراهيم أقام الدليل العقلي على أبيه في قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً [مريم:42] فدل ذلك على أن الرب يجب أن يكون سميعاً بصيراً يغني عن عابده شيئاً، إذاً: الله تعالى منزه عن كل نقص.
ثانياً: منزه عن كل نقصٍ في كماله، مثلاً: القوة من الكمال أليس كذلك؟ فالله منزه عن نقص هذه القوة، مهما عظم الفعل فإنه منزه عن نقص هذه القوة، ودليل ذلك: قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: من تعبٍ وإعياء، وهذا نفي لنقص كماله جل وعلا.
الثالث: منزه عن مماثلة المخلوقين والدليل قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهذا خبر، وقوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74] فنفى المثل أولاً، ثم نهى أن نضرب الأمثال له ثانياً.
إذاً: كلما تلوت: (سبحان الله) فاستحضر هذا المعنى: أنه منزه عن كل نقص، ومنزه عن النقص بكماله، ومنزه عن مماثلة المخلوقين.
(تعالى) يعني: ترفع وتعاظم عن هذه الأصناف؛ لأن هذه الأصناف لا تغني من الحق شيئاً.
ثم قال عز وجل: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69] (أشرقت) أي من نور الله عز وجل، ولهذا قال: (بنور ربها) وذلك أن الله عز وجل ينزل للقضاء بين عباده، فتتشقق السماء بالغمام؛ والغمام: هو السحاب الأبيض النير، فيأتي الرب عز وجل للقضاء بين عباده، لا إله إلا الله!
وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ من يأتِ بالنبيين؟ يأتي بالنبيين رب العالمين عز وجل، يحضرهم من أجل أن يستشهدهم على إبلاغ أممهم، كما قال تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ [الحج:78] يؤتى بالنبيين فيشهدون أنهم بلغوا رسالة الله، وأن الحجة قامت على عباد الله، ويؤتى أيضاً بالشهداء؛ والشهداء هنا من باب عطف العام على الخاص، لأن النبيين شهداء، وهناك شهداء آخرون وهم العلماء، فإن العلماء يشهدون على الأمم بأنهم بلغوا رسالات الله؛ لأن العلماء -جعلنا الله وإياكم منهم- ورثة الأنبياء، والله هذا الإرث الذي ينبغي التسابق إليه، العلماء ورثة الأنبياء، لو سئل من وارث الرسول؟ أهي فاطمة ؟ أم أمهات المؤمنين؟ أم أعمامه؟! لا. ورثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هم علماء الأمة، العلماء شهداء؛ يشهدون بأنهم بلغوا رسالات الله لعباد الله، فيشهد العالِم يقول: أشهد يا رب! أني بلغت رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى قومي.
ومن الشهداء: شهداء يشهدون على الإنسان وهم من الإنسان، ألا وهي الأعضاء: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:24-25].. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65] وحينئذٍ يقولون لجلودهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [فصلت:21]؟ والجواب: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) والذي خلقكم أول مرة قادر على أن ينطق جلودكم لتشهد عليكم: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .
إذاً: من الشهداء؟
الأنبياء، ثم العلماء، ثم الجوارح كلهم يشهدون على الإنسان.
إذا قال قائل: النبيون عطف عليهم الشهداء، فنقول: هذا من باب عطف العام على الخاص.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر:69] قضي بين الخلائق بالحق، والقاضي من؟ الله عز وجل، يقضي بين الخلائق بالحق في معاملتهم مع الله، وفي معاملتهم مع عباد الله، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: من لا درهم عنده ولا متاع، قال: لا. المفلس من إذا كان يوم القيامة يأتي بحسناتٍ أمثال الجبال -حسنات عظيمة- فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا، وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء، وإلا أخذ من سيئاتهم وطرح عليه ثم طرح في النار) فيقضى بين الخلائق بالحق، وهذا بين المكلفين من بني آدم والجن.
لكن: هل يقضى بين البهائم؟
الجواب: نعم. يقضى بين البهائم، كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن البهائم تحشر كما قال تعالى: وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:4-5] فيقضى للشاة الجلحاء التي لا قرون لها من الشاة القرناء التي لها قرون؛ لأن العادة أن الشاة التي لها قرون تنطح الشاة التي ليس لها قرون، إذا كان يوم القيامة قضى الله بينهما.
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:69] لا يظلم أحدٌ شيئاً، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه:112] لا يظلم أحد بنقصٍ من حسناته، ولا بزيادة من سيئاته، أبداً؛ لأن الله تعالى كامل العدل، وهو يقضي بين عباده في ذلك اليوم بالحق.
وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ما أحسن هذه العبارة بعد قوله: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ! لئلا يظن الظان أنه سيخفى شيءٌ من أعمال الإنسان، فلا يخفى شيءٌ من أعمال الإنسان، كل شيء معلومٌ عند الله مدون لا يزاد فيه ولا ينقص.
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا [الزمر:71] مقررين ومقررين: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى [الزمر:71] والهمزة هنا يقول علماء النحو: إنها للتقريب، فهي بمعنى الفعل الماضي، فمعنى: (ألم يأتكم)؟ قد أتاكم، ونظيرها في المعنى قول الله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] أي: قد شرحنا لك صدرك، (ألم يأتكم رسل) من عند الله عز وجل، (منكم) من قومكم، من إنسانيتكم، ليسوا جناً أو ملائكة بل منكم، كل نبي يبعث إلى قومه، ومحمد عليه الصلاة والسلام بعث إلى سائر الناس، فهو من الناس باعتباره بشراً مثلهم (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ) يقرءونها عليكم، يعلمونكم إياها، يبينونها لكم، (وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) يعظونكم ويخوفونكم من هذا اليوم، وقد قامت عليكم الحجة، ولهذا يقرون، يقولون: (بلى) أتانا رسلٌ منا وأنذرونا لقاء يومنا هذا، ولكن: وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71] وإذا حقت كلمة العذاب على الكافرين فإنهم لا يؤمنون، كما قال جل وعلا: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:33] في هذه الآية يقولون: حقت كلمة ربك، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، في آية أخرى أقروا بأنهم هم السبب: قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك:9] إذاً: هم السبب في دخول النار؛ لأنها قد قامت عليهم الحجة؛ ولكنهم رفضوها والعياذ بالله.
يحتمل أن القائل هو الله، ويحتمل أن القائل هم الملائكة: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا (أبواب) جمع باب، وعدد أبواب جهنم سبعة، والدليل على أن أبواب النار سبعة: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:43-44] فيدخلون أبواب جهنم داخرين، صاغرين ذليلين -والعياذ بالله- على أخس ما يكون، حتى إن الرب عز وجل مع كمال رحمته ورأفته إذا قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] ماذا يقول؟ قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] وهذا أشد شيء عليهم أن يقول لهم الرب عز وجل: اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ اندحروا، كونوا أذلاء ولا تكلمونِ، فحينئذٍ ييأسون من كل خير، نسأل الله العافية وأن ينجينا وإياكم من عذاب النار.
قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا [الزمر:72] هل هذا الخلود أبدي أو أمدي؟
والأمدي: هو الذي يكون إلى مدة معينة، والأبدي: الدائم فلا نهاية له.
خلودهم أبدي والدليل على ذلك قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107].
القول الراجح الذي لا ينبغي العدول عنه: أن أهل النار مخلدون فيها أبد الآبدين: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:75]، حتى إنهم يقولون: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49] ما قالوا: يرفع عنا العذاب يوماً واحداً، قالوا: يخفف، ولكن لا يجابون ولا يطاعون، إذاً: هم خالدون فيها أبد الآبدين، والدليل ثلاث آيات من كتاب الله، فقد قال الله تعالى في سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [النساء:168-169] هذا نص صريح.
وقال تعالى في سورة الأحزاب: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [الأحزاب:64-65].
وقال تعالى في سورة الجن: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [الجن:23].
وإذا كان الله عز وجل قال ذلك في كتابه في ثلاث آيات من كتاب الله فلا عدول لنا عن ذلك إطلاقاً.
فإن قال قائل: ماذا نجيب عن قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]؟ قلنا: الجواب عن هذا: أن قوله: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود:107] يعني: أن مكوثهم كان بمشيئة الله، ولا يمكن أن نثبت حكم هذه الآية التي فيها احتمال آخر وندع آيات فيها التصريح بالتأبيد.
التقوى: أن يتخذ الإنسان وقاية من عذاب الله، ولهذا يقول علماء التصريف: التقوى أصلها وقى من الوقاية، فما هو الذي يقي من عذاب الله؟ الذي يقي من عذاب الله هو: (امتثال أمره، واجتناب نهيه، وتصديق خبره) ثلاثة أشياء: امتثال أمره، والثاني: اجتناب نهيه، والثالث: تصديق خبره، هذا أجمع ما قيل في التقوى: أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره.
وقيل في تعريفها: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى الله، على نور من الله، تخشى عقاب الله.
وقيل في تعريفها:
خلِ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى |
واعمل كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى |
ولكن أجمع ما قيل فيها هي ما ذكرناه أولاً: امتثال أمر الله، واجتناب نهي الله، وتصديق أخبار الله.
هؤلاء هم الذين اتقوا ربهم يساقون إلى الجنة زمراً، أي: أفواجاً، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، أتجدون شيئاً أحسن من ذلك؟ أبداً. ولهذا يمثل للمرأة الحسناء بأنها بدر، فلا أحسن من هذا المنظر.
يقول عز وجل: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا أي: جاءوا الجنة بعد العبور على الصراط: وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ يا لها من تحية عظيمة! يقول: إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وفي أهل النار، قال: إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا [الزمر:71] والقرآن فصاحة وبيان، فلماذا قال في أهل النار: (إذا جاءوها فتحت)، وفي أهل الجنة: ( إذا جاءوها وفتحت)؟
قال بعض النحويين: إن هذه الواو: واو الثمانية؛ لأن أبواب الجنة ثمانية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فأسبغ الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) فقالوا: إن هذه واو الثمانية، وواو الثمانية تأتي في القرآن كثيراً، اقرأ قول الله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة:112] جاءت الواو عند الوصف الثامن، وقالوا أيضاً اقرأ قول الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف:22]، واقرأ أيضاً: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً [التحريم:5] جاءت الواو عند الوصف الثامن، ولكن هذا غلط، لا توجد واو تسمى واو الثمانية أبداً؛ لأن قوله: (ثيباتٍ وأبكاراً) إنما عطف أبكاراً بالواو على ثيبات؛ لأنه لا يمكن أن تكون المرأة ثيباً بكراً، فلابد أن تكون (ثيبات وأبكاراً) مغايرات للثيبات، بخلاف الصفات الست الأولى فإنه يمكن أن تجتمع في امرأة واحدة، على كل حال نقول: إن الواو هنا في أهل الجنة لها معنى أبعد غوراً مما ذكر هؤلاء أنها واو الثمانية، فما هو المعنى؟
المعنى: أن أهل الجنة إذا وصلوا الجنة لا يجدون أبوابها مفتوحة، يحبسون قليلاً حتى يشتد شوقهم إليها؛ لأن الإنسان كلما اشتد شوقه إلى الشيء صار إتيانه إياه على شوق أعظم، أليس كذلك؟ انظر إلى الجائع إذا طال عليه الجوع ثم قدم له الأكل يكون الأكل أشهى له بلا شك، كلما طال الأمد بين الأكلتين صار أشد شوقاً إلى الأكلة الثانية، فهم يحبسون عند أبواب الجنة، لا يجدونها مفتوحة، بخلاف أهل النار يبادرون بلفحها والعياذ بالله وسمومها، لكن أهل الجنة يحبسون إلى متى؟ إلى أن يظهر فضل النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليشفع عند الله جل وعلا أن يفتح أبواب الجنة لأهل الجنة، فتقبل الشفاعة وتفتح الأبواب، ويكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول من يدخل الجنة، إذاً: الحكمة من الواو هنا: أنهم ليسوا إذا جاءوها فتحت، بل إذا جاءوها حبسوا وأوقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيهذبون وينزع ما في قلوبهم من غل، وتطهر القلوب حتى يدخلوا هذه الدار على أكمل حال، كما قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47] أسأل الله تعالى برحمته وفضله أن يجعلنا وإياكم منهم.. آمين آمين آمين.
هؤلاء لا يدخلون الجنة إلا على أكمل وجه، جميع الغل الذي كان في قلوبهم في الدنيا فإنه ينزع، مع أنه قد اقتص لبعضهم من بعض في عرصات القيامة، لكن هذا لإزالة ما في القلوب، أو ما علق بالقلوب من الغل والحقد.
ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تفتح أبواب الجنة.
وما دمنا ذكرنا الشفاعة فإن للرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث شفاعاتٍ خاصات به لا أحد يشفع فيها.
شفاعته في أهل الموقف أن يقضى بينهم؛ لأن أهل الموقف تدنو منهم الشمس حتى تكون قدر ميل من رءوسهم، وحتى إنهم يعرقون من شدة الحر حتى يصل العرق إلى الكعبين وإلى الركبتين وإلى الحقوين وإلى الفم وبعضهم يلجمه العرق، ويلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون؛ لأنهم يقفون خمسين ألف سنة، لا طعام ولا شراب ولا شيء، يقفون هذا الموقف العظيم فيلحقهم من الكرب ما لا يطيقون، فيقول بعضهم لبعض: انظروا من يشفع لنا إلى الله يريحنا من هذا الموقف، فيلهمون أن يذهبوا إلى آدم، آدم أبو البشر خلقه الله بيده، وعلمه أسماء كل شيء، وأسجد له الملائكة، فيصفونه بهذه الأوصاف، ويقولون له: ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا تشفع لنا عند الله؟ فيقول: لست بذاك، ثم يعتذر بأكله من الشجرة؛ لأن الله تعالى قال: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] فوسوس لهما الشيطان فأكلا منها، قال الله تعالى: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى [طه:121-122] فصارت حال آدم بعد التوبة عليه أكمل من حاله قبل أن يأكل من الشجرة؛ لأنه تاب، فآدم يعتذر بأكل الشجرة، وتعرفون أن الشافع إنما يشفع عند المشفوع عنده إذا لم يكن بينهما ما يوجب الجفوة، ثم يأتون إلى نوح، ويقولون له: أنت أول رسولٍ أرسله الله إلى أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، فيذكر أيضاً عذراً، والعذر قال: إني سألت الله تعالى ما ليس لي ويعتذر، فيأتون إلى إبراهيم خليل الرحمن عز وجل، فيعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات، وهن لسن كذبات في الواقع، لكن إنما لشدة حيائه من الله عز وجل استحيا أن يكون شفيعاً وقد كذب هذه الكذبات مع أنها تورية وليست بكذب، ثم يأتون إلى موسى، فيعتذر بأنه قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، ما هذه النفس؟ قتل قبطياً استغاثه عليه إسرائيلي فقتله موسى، وموسى عليه الصلاة والسلام معروفٌ بالشدة، وكزه بيده فقضى عليه، إلى من يأتون؟ إلى عيسى؛ وعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لا يذكر شيئاً لكن يعترف بالفضل لأهله، يقول: اذهبوا إلى محمد، عبدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فانظروا كيف ألهم الله الخلق أن يأتوا هؤلاء الأنبياء الكرام! فمنهم من يعتذر، ومنهم من يعترف بالحق لأهله، الذي اعتذر أربعة: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، والذي اعترف عيسى، قال: ائتوا محمداً، عبدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيستأذن من الله أن يشفع للناس، فيأذن له.
وانظروا! محمدٌ لا يشفع إلا بإذن الله، يستأذن من الله عز وجل، رب العزة والعظمة أعظم من أن يشفع أي إنسانٍ أو مخلوقٍ عنده إلا بإذنه، فيستأذن فيرحم الله الخلق ويأذن له فيشفع فيهم، وبهذا يظهر إكرام الشافع ورحمة المشفوع عنده، أليس كذلك؟ مع أن الله قادر على أن يرفع هذا عنهم بدون شفاعة، لكن من أجل أن يظهر فضل الشافع، ورحمة الله تعالى بالعباد، وعظمته وسلطانه أنه لا يشفع أحدٌ عنده إلا بإذنه.
فيقضي الله بين العباد، هذه الشفاعة العظمى خاصة بالرسول اعتذر عنها أبو البشر، وأولو العزم من الرسل حتى وصلت إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الثانية: الشفاعة لأهل الجنة بدخول الجنة.
الشفاعة الثالثة: شفاعته لعمه أبي طالب ووجه خصوصيته بذلك: أن أبا طالب مات على الكفر، ولا غرابة أن يموت عم الرسول عليه الصلاة والسلام على الكفر كما أن آزر أبا إبراهيم مات على الكفر، لا غرابة؛ بل فيه دليل على كمال قدرة الله أن يخرج من صلب الرسول من هو كافر، وأن يخرج من صلب الكافر من هو رسول، أليس كذلك؟ من الذي خرج من صلبه كافر وهو رسول؟ نوح، إذ خرج من صلبه ابن كافر ونوح من أولي العزم من الرسل.
ومن الذي خرج من صلبٍ كافر؟ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال لأبيه آزر : أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74] والله على كل شيء قدير.
أبو طالب مات على الكفر، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أُنْه عنك) فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، ثم أجاب الله تعالى عن استغفار إبراهيم لأبيه، فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114] هذا الذي يحب الله عز وجل! كل من ادعى محبة الله ولم يتبرأ من أعداء الله فهو كاذب، لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
نبينا صلى الله عليه وسلم شفع لعمه أبي طالب ، ولكن: هل شفع له حتى خرج من النار؟ لا والله، شفع له حتى صار في ضحضاح من نار وعليه نعلان من النار يغلي منهما دماغه -أعوذ بالله- وإنه ليرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، لكن يرى أنه أشد الناس عذاباً لئلا يتسلى بمن هو أشد، فالإنسان إذا عذب وقيل له: فلان عذب أكثر منك، يهون عليه العذاب؛ لأن من الناس من عذب أكثر منه، لكن إذا رأى أنه أشد الناس عذاباً فإنه لا يتسلى؛ لأنه يرى الآخرين دونه فيزداد حسرة.
إذاً: هذا نفعت فيه الشفاعة وهذا خاص بالرسول، لماذا؟ لأن الكافر لا تنفع فيه الشفاعة، كما قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48]، وكما قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] والله تعالى لا يرضى عن الكافر، لكن هذا أذن الله لرسوله أن يشفع فيه فيخفف عنه العذاب، وحينئذٍ لماذا خُص أبو طالب بجواز الشفاعة له وهو كافر؟ لما له من الأيادي البيضاء في الدفاع عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعن دين الرسول نسأل الله السلامة، يدافع عن الرسول ويقول مخاطباً قريشاً:
لقد علموا أن ابننا لا مكذبٌ لدينا ولا يعنى بقول الأباطل.
ليس كذاباً ولا ساحراً، ويقول في الدين:
ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية دينا |
لولا الملامة أو حذار مسبة لرأيتني سمحاً بذاك مبينا |
والذي يقرأ الأبيات هذه يقول: الرجل مسلم ، لكن العبرة بالنهاية، حضرته الوفاة أعني أبا طالب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده يعرض عليه التوحيد، يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) وكان عنده رجلان من قريش، وجليس السوء كله شر وسوء، قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ وعبد المطلب هو والد أبي طالب ، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إذا كان أبو طالب عمه فما اسم أبي أبي طالب؟ عبد المطلب ، قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ما جاءوا إلا بأبيه لأجل أن يوقدوا في قلبه حمية الجاهلية، فكان آخر ما قال أنه على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
اللهم اختم لنا بشهادة التوحيد، اللهم اجعلنا ممن يكون آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
المهم أن أبا طالب من أجل دفاعه عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ودفاعه عن الإسلام! أذن الله لرسوله أن يشفع فيه.
الثالث من الشفاعة الخاصة بالرسول: دخول الجنة، يشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، أما الشفاعة في تخفيف العذاب عن عصاة المؤمنين فهذا ثابت للرسول عليه الصلاة والسلام ولغيره من النبيين والشهداء والصالحين، حتى الذين يصلون على الميت يشفعون للميت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجلٍ مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) كيف شفعهم؟ لأنهم يدعون له، يقولون: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإذا قبل الله هذا الدعاء فهذا هو الشفاعة المقبولة، وهنا نقطة: يقول بعض الناس: تقدم جنائز ونشك في إسلام الميت؛ لأننا نعلم أنه لا يصلي مثلاً فنشك، فهل يجب علينا أن ننصرف أم نصلي عليه؛ لأن الذي يموت وهو لا يصلي لا يصلى عليه، والله يقول في المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]؟
والجواب أن يقال: إذا قدم للصلاة عليه من تشك في إسلامه، أو من تشك في ردته، فاستثنِ، كيف أستثني؟ قل: اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له وارحمه، وإذا قلت هذا برئت ذمتك؛ لأنك لا تعلم والله تعالى يعلم: اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له وارحمه.
وأنا أقول لكم قصة في هذا: يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين : إن شيخ الإسلام ابن تيمية أشكلت عليه مسائل في العلم، وإن الله تعالى قيض له أن يرى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المنام، فسأله عنها فكان من جملتها: أنه يقدم أناس من أهل البدع الذي يشك في كون بدعتهم مكفرة أو مفسقة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: (عليك بالشرط يا أحمد!) من أحمد هذا؟ ابن تيمية : (عليك بالشرط) الشرط أن تقول: اللهم إن كان مؤمناً فاغفر له، فإن قال قائل: وهل يجوز الشرط في الدعاء؟
الجواب: نعم. يجوز الشرط في الدعاء، أليس الله تعالى قال في آية اللعان: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النور:7] وهي تقول: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور:9]؟
وفي دعاء الاستخارة: (اللهم إن كنت تعلم أن هذا خيرٌ لي في ديني، ودنياي، وعاقبة أمري، وعاجله فاقدره لي)؟ وهذا دعاء معلق، بل إن التعليق جائز حتى في العبادات، ضباعة بنت الزبير جاءت تسأل الرسول عليه الصلاة والسلام تقول: أنها أرادت الحج وهي شاكية، قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: (حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني فإن لك على ربكِ ما استثنيتي).
قال الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر:73] سلام من كل آفة، فآفة الموت هم سالمون منه لأن الملائكة تقول: سلام عليكم، المرض، النصب الهم، الغم، أهل الجنة في سرورٍ دائم وفي نعيم، حتى الواحد الذي يكون أدنى من غيره منزلة لا يرى أن غيره أعلى منه منزلة؛ لأنه قد اطمئن: لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:108] أي: لا يطلبون تحولاً؛ لأنهم ناعمون منعمون، (سلام عليكم طبتم) بعد التخلية التحلية، يعني: بعد ما تريد زوجتك أنها تتجمل لك، أولاً: أزل الشعث من رأسها هذا يسمى (تخلية)، ثم ألبسها الحلي، هذا يسمى (تحلية)، المهم أنهم يقولون بالأول: (سلام عليكم) وهذا سلام من كل الآفات، ثم يقولون: (طبتم) وهذا يعني: أنه يحصل لهم كل ما يطيب لقلوبهم (فادخلوها خالدين)، أبداً أو إلى أمد؟ أبداً كما جاء ذلك في عدة آيات.
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74] هذا ثناء على هذا الأجر الذي حصل لهم، وهل هو من الله، أو هم يقولون ذلك إقراراً به؟ يحتمل هذا وهذا، والآية صالحة للجميع.
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يعني بذلك عرش الرحمن جل وعلا، ذلاً لله عز وجل وتعظيماً له.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يعني: ينزهون الله عن كل ما لا يليق به، وسبق لنا أن التنزيه يكون في أمورٍ ثلاثة.
وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي: قضي بين الخلائق، وانتهى كل شيء، أهل النار في النار -والعياذ بالله- خالدون مخلدون، وأهل الجنة في الجنة خالدين مخلدين.
اللهم إنا نسألك في هذا الوقت المبارك ونحن في انتظار فريضة من فرائضك أن تجعلنا من الخالدين في جنات النعيم.
وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (قيل) من الذي يقول؟ كلٌ يقول: الحمد لله رب العالمين، أهل الجنة والملائكة وكل أحد: (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وانظر كيف جاء الحمد في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق، ففي ابتداء الخلق قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1].
وفي النهاية عند دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ووالله إن الحمد لله أولاً وآخراً، وهو ذو الثناء والمجد، ولا نحصي ثناءً عليه سبحانه، هو كما أثنى على نفسه.
وإلى هنا انتهى ما يسر الله تعالى من الكلام على هذه الآيات الكريمة، ونبدأ الآن بالأسئلة.
الجواب: ورد في يوم القيامة أشياء متغايرة ولكننا نسأل كم مقدار يوم القيامة؟ خمسون ألف سنة، تتغير فيها الأمور؛ تدنو الشمس من الخلائق، وتكور بعد ذلك، وكذلك أيضاً تلقى في النار إهانة لعابديها، فيوم القيامة ليس يوماً أو شهراً أو سنة، وانظر إلى قول الله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، وقوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طـه:102] واختلاف بين الزرقة والسواد، كذلك أيضاً أخبر عن المشركين أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، وفي آية أخرى قال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] فهم في الأول قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23] في الآية الأولى، وفي الثانية قال: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً لأن الحوادث تتغير؛ مرة يوقفون ومرة لا يوقفون، فكل ما أتاك من اختلافات في اليوم الآخر فإنما ذلك لطول مدته وتغير الأحوال فيه.
تحييك طيبة والشمال المورج وتشكو إليك الهجر والهجر محرج |
قلوب أحبتكم وأرضٌ تودكم بهم الأزد أزد الله أوس وخزرج |
ويا فضيلة الشيخ! نحتج عليك احتجاجاً شديد اللهجة حيث أنكم لا تأتون إلى المدينة إلا مرة في العام وفي ذلك تقصير في حقنا؟
الجواب: على كل حال أنا أشكر الجميع، وإني مسرور بهذه الزيارة؛ لأني وجدت والحمد لله إقبالاً على العلم وحرصاً عليه، وجدت من لا يغضي بطرفه عن النظر إلى المعلم، وجدت من يقيد ويكتب، امتحنت بعضكم في مراجعة ما سبق فوجدته قد أدرك، كل هذا يسرني كثيراً، ولكن يقول الشاعر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
ونشكو إلى الله عز وجل قلة الفراغ، لكن إن شاء الله تعالى ما دام الأمر كما شاهدت الآن من الحرص سوف يكون لنا زيارات إن شاء الله في المستقبل وعن قريب إن شاء الله.
أما الأبيات فلا أستطيع الآن أن أرد عليها لأني لست بشاعر، لكن لعلي بعد شهر أتمكن من ذلك، وكل يوم أكتب بيتاً ويسهل الله إن شاء الله.
الجواب: نطالب مورده بصحة النقل، إذا صح عنده الحديث فليأت به، أما المعروف فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا صُلي عليه أو سُلم عليه في أي مكان فإنه يبلغه، قال عليه الصلاة والسلام: (إن تسليمكم يبلغني حيث كنتم).
الجواب: هذا يسأل، يقول: إنسان لا يصلي الفجر إلا بعد خروج الوقت يومياً ومن غير تعمد ما حكمه؟ نقول: ما الذي يمنعه؟ النوم، ما دواء هذا النوم؟ له دواءان: الدواء الأول سابق، والدواء الثاني لاحق.
أما السابق: فأن يقلل من السهر، قلل من السهر، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره الحديث بعد العشاء؛ لئلا ينام الإنسان عن التهجد أو عن صلاة الفجر، نقول: بدل أن تبقى حتى تكون الساعة الثانية عشرة نم إذا كانت الساعة عشرة، كم ساعة تزيد؟ ساعتان، وأظن بعض الناس يتأخر إلى ما بعد الثانية عشرة تعلمون هذا؟ ما السبب؟ نم مبكراً كي تصحو مبكراً، هذا علاجٌ سابق.
العلاج اللاحق: اجعل عندك منبهاً (ساعة) وإذا كان نومك ثقيلاً فاشتر ساعة صوتها قوي، وإذا خفت إذا جعلتها عند الوسادة وسمعتها تغلقها وأنت بين النوم واليقظة فأبعدها عنك، وإذا خفت إذا أبعدتها ألا تسمع صوتها فاجعلها في تنكة؛ لكي يكون الصوت قوياً، وكل إنسان يمكن إذا كان مجتهداً أن يصل إلى مراده، لكن أكثر الناس عنده تهاون نسأل الله لنا ولهم الهداية، ولكني أخبركم بارك الله فيكم: أن أي إنسان يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذرٍ شرعي فصلاته باطلة ولو صلى ألف مرة، مردودة عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ومعلومٌ أن تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر عمل ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً.
ومن الأعذار أن ينام ولا يجد موقظاً له لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها) هذا عذر، كذلك لو نسي، إنسان مثلاً كثير النسيان أو تشاغل بشغل شد فكره فنسي، هذا عذر أيضاً، أو إنسان مضى عليه الوقت بسرعة فما شعر إلا وقد خرج الوقت، هذا عذر.
بقي نقطة: هل من العذر إذا كان الإنسان مريضاً وثيابه ملطخة بالنجاسة، ولا يستطيع أن يتوضأ ولا أن يتيمم؟ هل من العذر أن يؤخرها عن وقتها؟
الجواب: لا. صلِّ على حسب ما تبدو عليه لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
الجواب: يسير أن نقول: أثبت هذا، ومثل هذا لو فعل لكان مما توافرت الدواعي على نقله، ولكن المسلمين مكثوا ثلاثة قرون؛ القرن الأول والثاني والثالث، لم تكن هذه البدعة موجودة، ولما مضى خير القرون حدثت هذه البدعة.
ثم نقول: رويدك.. أنت الآن تريد أن تتقرب إلى الله بهذا؟ إذا قال: نعم، نقول: تقرب إلى الله بما هو معلوم، ولذلك تجد بعض الذين يحضرون هذه (الموالد) والصواب (المولد) لأن (المولد) واحد وليست (الموالد) تجدهم فاترين في سننٍ أهم إن صح أن نقول هذا سنة، فاترين في الصلاة مع الجماعة، بعضهم حليق، بعضهم مسبل، بعضهم يرابي، بعضهم يؤخر الصلاة حتى عن وقتها، فهل إنسان يكون على هذه الحال ثم يقيم مولداً بدعياً للرسول عليه الصلاة والسلام، لا دليل عليه لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من عمل الصحابة، نقول: يا أخي! رويدك، اترك ما فيه الشك إلى أمرٍ لا شك فيه.
الجواب: أما إذا كان هذا الرجل أو غيره من الناس اغتابني تديناً، بمعنى: أنه رأى أني أخطأت في أمر واغتابني في ذلك فهذا على كل حال معفوٌ عنه، وأما إذا كان اغتابني بدون تثبت، فماذا أقول؟ أقول: هذه محل نظر، لكن أقول: عفا الله عن كل من اغتابني، وأسأل الله تعالى أن يعاملني وإياه بعفوه، وهو مني في حل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر