[ وفي اختيار لا يجيء المنفصل إذا تأتى أن يجيء المتصل ]
في اختيار: جار ومجرور متعلق بقوله: يجيء، يعني: ولا يجيء الضمير المنفصل في الاختيار إذا أمكن أن يجيء المتصل.
فقوله في (اختيار): ضده الاضطرار، والاضطرار هو ضرورة الشعر، وعلى هذا يكون معنى قوله: (وفي اختيار) أي في حال النثر لا يجيء المنفصل إذا أمكن أن يجيء المتصل:
أولاً: لأن المتصل أخصر.
وثانياً: لأنه أبين في المعنى، فإذا قلت: ضربتك، فهو أبين من قولك: ضربت إياك؛ لأنه أخص، والأخص أدل على المقصود من الأعم.
فلا يجوز أن أقول: أكرمت إياك؛ لأنه يمكن أن نأتي بالمتصل، وإذا أمكن أن نأتي بالمتصل وجب.
وفهم من كلامه أنه إذا لم يمكن أن نأتي بالمتصل أتينا بالمنفصل، وهذا يرجع إلى قواعد النحو.
فمثلاً: في الابتداء لا يمكن أن نأتي بالمتصل؛ لأن الضمير المتصل لا يأتي إلا بعد عامل.
ومثاله قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] .
ومن قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة!
فإذا قال القائل: يمكن أن نأتي بالمتصل فنقول: أعنيك، ويستقيم الكلام!
نقول: هذا صحيح، لكن إذا أتينا بالمتصل على هذه الصيغة فاتنا المقصود بالتقديم وهو الحصر.
ولو قلت: نبعدك يا ربنا، استقام الكلام، لكن يفوت ما أراده المتكلم وهو الحصر.
إذاً: ليس معنى الضرورة أنه لا يمكن النطق إلا كذلك، وإنما هي التي إذا ارتكبناها فات مقصود المتكلم، وليست كضرورة أكل الميتة.
فنقدم مقصود المتكلم ونرتكب الانفصال محل الاتصال، ومن ذلك قوله تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1]، إياكم: ضمير منفصل، ولو كان في غير القرآن لقلنا: يخرجونكم والرسول، واستقام الكلام، لكن قال: (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من أجل تقديم الرسول؛ لأن إخراج الرسول أعظم منكراً من إخراجهم، فبدأ بالأعظم نكارة.
لو قال القائل: لماذا لا يقال: يخرجون الرسول وكم؟
قلنا: الضمير المتصل لا بد أن يتصل بعامله، وهنا واو عطف، والعطف يقتضي انفصال المعطوف عن المعطوف عليه، ولا يمكن أن يلي الضمير المتصل حرفاً من حروف العطف؛ لأن حرف العطف يقتضي الفصل.
خلاصة البيت: متى أمكن أن يؤتى بضمير المتصل فإنه لا يجوز أن يؤتى بالضمير المنفصل.
[ وصل أو افصل هاء سلنيه وما أشبهه في كنته الخلف انتمى
كذلك خلتنيه واتصالا أختار غيري اختار الانفصالا ]..
(أو) في قوله: (صل أو افصل) للتخيير، يعني: يجوز الوصل والفصل في الهاء من سلنيه، وما أشبه الهاء في سلنيه.
ولنعد إلى (سلنيه) حتى نعرف ما أشبهها:
سلني بمعنى: اسألني عطاءً، وليس المعنى سلني عن خبر، بل السؤال هنا من سؤال العطية، وفعلها الماضي سأل، فإذا قلت: سألنيه، يجوز في الهاء الوصل والفصل؛ لأنه قال: (صل أو افصل هاء سلنيه وما أشبهه)، فتقول: سلنيه، وتقول: سلني إياه، ويجوز أن أقول: سألنيه، ويجوز أن أقول: سألني إياه.
والذي يشبه سلنيه: كل فعل ينصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
تقول: الثوب كسانيه، الثوب كساني إياه؛ لأن (كسا) من باب سأل، تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر.
وتقول: الدرهم أعطانيه، الدرهم أعطاني إياه.
والوصل أفضل، وأخذنا هذا من وجهين:
الوجه الأول لفظي: وهو أن المؤلف قدم (صل) على (افصل) والتقديم يشعر بأنه أولى.
والثاني معنوي: وهو أن الأصل هو الاتصال.
وقوله: (في كنته الخلف انتمى كذاك خلتنيه).
انتمى: أي انتسب للنحويين.
والخلف: هو الخلاف.
في كنته: يعني في كان وأخواتها.
كذاك خلتنيه: أي خال وأخواتها.
فكان ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسم كان الضمير (التاء) مبنياً على الضم في محل رفع، والهاء في محل نصب خبر.
الخلف: مبتدأ. انتمى: الجملة خبر الخلف.
يقول: (كذاك خلتنيه):
كذاك: الجار والمجرور خبر مقدم.
وخلتنيه: مبتدأ مؤخر، وهي جملة مكونة من فعل وفاعل ومفعوليه؛ لكن المراد اللفظ ولهذا قال المعربون للألفية: إن مقول القول في قول ابن مالك ( قال محمد هو ابن مالك ) كل الألفية كما تقدم.
واتصالا: مفعول به مقدم لـ (أختار). ورجح الاتصال لأنه الأصل ولأنه أخصر، فاختياره وجيه، لكنه قال: (غيري اختار الانفصالا).
وغيره هم كل الناس، لكن هذا عموم يقصد به الخصوص، قالوا: إنه يريد سيبويه ، ويجوز أن يراد بالعام فرد من أفراده، وفي القرآن: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [آل عمران:173]، والمقصود بالناس أبو سفيان بن حرب
فعلى رأي ابن مالك تقول: المجتهد كنته.
وعلى رأي سيبويه تقول: المجتهد كنت إياه.
وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام لما استأذنه عمر في قتل ابن صياد قال: (إن يكنه فلن تسلط عليه، وإلا يكنه فلا خير لك في قتله)، وابن مالك تابع لهذا الحديث.
[ وقدم الأخص في اتصال وقدمن ما شئت في انفصال ]
عرفنا الضمير المتصل والضمير المنفصل، فإذا اجتمع ضميران فأيهما يقدم؟
يقول المؤلف: في حال الاتصال قدم الأخص، وفي حال الانفصال قدم ما شئت.
وحينئذ نحتاج إلى معرفة الأخص من غير الأخص:
فأخص الضمائر ضمير المتكلم، لأنه لا يحتمل غيره، ومن بعده ضمير المخاطب؛ لأن المخاطب قد يكون واحداً وقد يكون متعدداً فهو أوسع من ضمير المتكلم، ثم ضمير الغائب.
فإذا اجتمعت ضمائر من جنس واحد -في رتبة واحدة- فإنه سيأتينا كلام المؤلف عليها، لكن إذا كانت مختلفة الرتب فإنه يجب أن نقدم الأخص في الاتصال.
مثال ذلك: إذا قلت: الدرهم أعطيتنيه.. ففيها ضميران كلاهما مفعول وهما الياء والهاء، فلا يجوز أن تقول: أعطيتهوي لأن ياء المتكلم أخص من ضمير الغائب.
فيجب أن تقدم الأخص في الاتصال ووجه الوجوب أن قولك: أعطيتهوي كلام ثقيل، وأعطيتنيه كلام خفيف، وكلما كان الكلام أخف على اللسان فهو أولى.
وكذلك: أعطيتكه؛ فالكاف ضمير المخاطب وهو أخص من الهاء التي هي ضمير الغائب، فيجب أن تقول: أعطيتكه، ولا يجوز أن تقول: أعطيتهوك؛ لأنك لو قلت: أعطيتهوك، لقدمت غير الأخص على الأخص في حال الاتصال.
أما في حال الانفصال فيقول: (وقدمن ما شئت في انفصال):
أي: إذا كان الضمير منفصلاً فقدم الأخص أو غير الأخص، فأعطيتنيه إذا فصلت الضمير الأخص، وقلت: (أعطيته إياي) جاز، لأن الأخص كان ضميراً منفصلاً فيخف على اللسان، ولا شك أن قولك: أعطيته إياي خفيفة على اللسان.
[ وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا وقد يبيح الغيب فيه وصلا ]
يعني إذا كان الضميران في رتبة واحدة فإنه يجب الفصل لئلا يجتمع ضميران متصلان في كلمة واحدة، مثال ذلك: إذا قال العبد لسيده: ملكتني إياي، كلاهما ضمير المتكلم فيجب أن يفصل ويقول: ملكتني إياي، فلو قال: ملكتنيي، قلنا: هذا ممنوع، حتى لا يجتمع ضميران متصلان مع اتحاد الرتبة.
وكذلك أيضاً لو كانا لمخاطب، مثل أن يقول السيد لعبده: ملكتك إياك، أي ملكتك نفسك، فهنا لا يجوز أن يقول: ملكتكك؛ لأنه ثقيل.
وكذلك في الغائب، مثل: أعطيته إياه، ولا يجوز أن نقول: أعطيتهوه إلا على قوله: (وقد يبيح الغيب فيه وصلا) يعني قد يجتمع ضميران للغائب في رتبة واحدة ويكونان متصلين.
وخلاصة كلام المؤلف أنه إذا اجتمع ضميران متصلان في رتبتين مختلفتين فيجب تقديم الأخص، وإن كانا منفصلين جاز تأخير الأخص، وإذا كانا في رتبة واحدة وجب الفصل، ولم يجز الاتصال، إلا إذا كانا للغائب فقد يبيح الغيب فيه وصلا، فيقول أعطيته إياه وأعطيتهوه.
[ وقبل يا النفس مع الفعل التزم نون وقاية وليسي قد نظم ].
انتقل المؤلف رحمه الله إلى حكم اتصال الضمير بالفعل فقال: (وقبل يا النفس مع الفعل التزم نون وقاية) أي: التزم من قِبَلِ أهل اللغة العربية أنه إذا جاء ضمير المتكلم -وهو الياء- متصلاً بالفعل، فإنه يجب أن تقترن به نون الوقاية، مثال ذلك: أكرمني، ولا يجوز أن تقول: أكرمي.
وقول المؤلف: (مع الفعل) يشمل الماضي كما مثلنا، والمضارع كما لو قلت: فلان يكرمني، والأمر كما لو قلت: أكرمني، فيتعين الإتيان بنون الوقاية.
وسميت نون الوقاية لأنها تقي الفعل الكسر، لأن ياء المتكلم يكون ما قبلها مكسوراً، والفعل لا يكسر، فيؤتى بنون الوقاية ليكون الكسر في النون فتقول: أكرمني، لأنك لو نطقت الفعل بدون نون لكانت العبارة: أكرمي، يكرمي، أكرمي، وهذا لا يصح في الأفعال.
يعني أن (ليس) فعل من الأفعال، لكنها من الأفعال الجامدة، والجامدة عندهم هي التي لا تتصرف، مأخوذة من الجمود وهو الركود وعدم الانسياب، والمائع هو الذي ينساب ولا يركد.
فـ (ليس) فعل جامد لا يتصرف، فليس لها فعل مضارع ولا فعل أمر، ولكنها من الأفعال، فإذا اتصل بها ياء المتكلم، فهل يجب أن تقترن بها نون الوقاية؟
نقول: كلام المؤلف يدل على وجوب ذلك، لكنها قد جاءت في النظم غير مقرونة بنون الوقاية، ولهذا قال: (وليسي قد نظم)، يعني: جاء في الشعر (ليسي) بدون النون، وهو قول الشاعر:
عددت قومي كعديد الطيس إذ ذهب القوم الكرام ليسي
ولم يقل: ليسني أو ليس إياي، بل قال: ليسي، فأتى بالضمير المتصل بدون نون الوقاية، لكن هذا لضرورة الشعر، والشعر يجوز فيه ما لا يجوز في النثر، لأنه يجبر الشاعر على أن يرتكب ما لا يجوز من أجل الوزن، وأنشدتكم سابقاً قول صاحب الملحة:
وجائز في صنعة الشعر الصلف أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف
فالشعر صلف يجبر صاحبه على أن يرتكب ما لا يجوز في النثر.
[ وليتني فشا وليتي ندرا ].
انتقل المؤلف إلى نون الوقاية في الحروف، أي: هل تقترن نون الوقاية في الحروف إذا اتصلت بياء المتكلم؟
الجواب: من الحروف ما يقترن بنون الوقاية ومنها ما لا يقترن، فمثل: إلى، تقول: إلي، ولا تقول: إليني، على؛ تقول: عليَّ، ولا تقول: عليني.
وبعض الحروف تدخلها نون الوقاية، ولهذا قال المؤلف: (وليتني فشا)، فـ(ليت) هنا حرف دخلت عليها نون الوقاية بكثرة، قال الله تعالى في القرآن: يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73].
وقوله: (وليتي ندرا) يعني أنه يندر حذف نون الوقاية من ليت، ومعنى يندر: يَقِلّ، فتقول: ليتي قائم، بدل: ليتني قائم، وهل يُغلَّط من جاء بذلك وقال: ليتي قائم؟
الجواب: لا يغلط، لكن يقال: الأكثر ليتني وهو الأفصح أيضاً.
قال: (ومع لعل اعكس)، يعني ونون الوقاية مع لعل على العكس من ليت، فيكون الفاشي فيها حذف النون، والقليل إثبات النون.
قال الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، وقال عن فرعون: لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر:36-37]، ولم يقل: لعلني، ومع ذلك لو قال قائل: لعلني قائم أو لعلني فاهم لم ينكر عليه، لأنه جائز لغة لكنه قليل.
(وكن مخيراً في الباقيات): كن مخيراً بين النون وعدمها في الباقيات من إن وأخواتها؛ فيجوز فيها على السواء إثبات النون وحذفها، فتقول: إني وإنني، قال الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ [طه:14]، فأثبت النون.
وقال عن نوح إنه قال لقومه: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود:25]، وكذلك تقول: لكنني ولكني على السواء، وليس من ذلك قوله تعالى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف:38] لأن أصلها: لكن أنا هو الله ربي، ولهذا كتبت بالألف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:
[ واضطراراً خففا مني وعني بعض من قد سلفا ]
اضطراراً: مفعول لأجله.
مني وعني: مفعول خفف باعتبار اللفظ، وإلا فالأصل أن العامل لا يتسلط على الحرف.
والمعنى: خفف هذا اللفظ (مني وعني) بعض من قد مضى من العرب في حال الضرورة وهي الشعر، لأنه يضطر الإنسان إلى شيء لا يريده، ومن ذلك قول الشاعر:
أيها السائل عنهم وعني لست من قيس ولا قيس مني
لو قال: أيها السائل عنهم وعنيَّ، لست من قيس ولا قيس منيَّ، لاختل البيت.
قال رحمه الله تعالى: [ وفي لدنيََ لدني قلَّ ] لدنيِّ أصله لدي، ويقال فيه: لدن، قال الله تعالى: مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل:6]، فإذا اتصلت بها ياء المتكلم يقال: لدنيِّ بإثبات نون الوقاية ويقال: لدُنيِ، لكن هذا قليل، إلا أنه وارد عن العرب.
قال:
[ وفي قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي ].
قدني: أي حسبي. وقطني: أي حسبي.
الحذف أيضاً قد يفي: أي قد يكون جائزاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر