[ لا التي لنفي الجنس:
عمل إنَّ اجعل للا في نكره مفردة جاءتك أو مكرره
فانصب بها مضافاً أو مضارعه وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه ]
هذا من حسن ترتيب المؤلف رحمه الله؛ لأنه لما ذكر الأفعال الناسخة وهي كان وأخواتها؛ ذكر بعدها الحروف الناسخة التي تعمل عمل كان وأخواتها، وهي: ما وإن ولا ولات المشبهات بليس.
ولما ذكر الحروف الناسخة التي تعمل على نصب الاسم ورفع الخبر؛ ذكر بعدها الحروف التي تعمل هذا العمل، وإن كانت تختلف عنها بعض الشيء.
يقول رحمه الله: (لا التي لنفي الجنس)، أي: لنفي جنس مدخولها، وتكون في ذلك نصاً في العموم؛ لأنك إذا قلت: لا رجلَ في البيت، فالمعنى: لا يوجد هذا الجنس في البيت، لا واحد ولا اثنان ولا أكثر، فتنفي الجنس، ولهذا قالوا: إنها نص في العموم، بخلاف ما إذا قلت: لا رجلٌ في البيت، فإنه ليس نصاً في العموم، إذ يحتمل أن المعنى: لا رجلٌ واحد في البيت، أما إذا قلت: لا رجلَ في البيت، فلا يمكن أن تقول: بل رجلان، أما إذا قلت: لا رجلٌ في البيت، فيصح أن تقول: بل رجلان.
فـ(لا) إذاً لنفي الجنس، أي: لنفي جنس مدخولها الشامل للواحد والمتعدد.
أما عملها فقال: (عمل إنّ اجعل للا في نكرة).
عمل: مفعول مقدم لاجعل، وهو مضاف إلى إنّ باعتبار لفظها.
للا: جار ومجرور متعلق باجعل.
في نكرة: جار ومجرور أيضاً متعلق باجعل، والتقدير: اجعل عمل إنَّ للا في النكرة.
والمعنى: أن لا النافية للجنس تعمل عمل إنَّّ في النكرات خاصة، ولا تعمل في المعارف، ولهذا قالوا: إن قول القائل: لا إله إلا الله، لا يمكن أن نجعل لفظ الجلالة خبر (لا)؛ لأن (لا) لا تعمل إلا في النكرات، لكن نجعله بدلاً من خبر (لا) المحذوف، والتقدير: لا إله حق إلا الله.
قوله: (مفردة جاءتك أو مكررة).
مفردة: حال من فاعل جاءتك المستتر.
أو مكرره: معطوف على مفردة.
والمعنى: سواء جاءتك (لا) مفردة -والمراد بالإفراد هنا ما لم تكرر- أو جاءتك مكررة، ونفهم أن المراد بالمفردة ما لم يتكرر من قوله: أو مكررة؛ لأن هذه قسيم لها، فأفادنا رحمه الله بأن (لا) تعمل في النكرات، وأنها تعمل مفردة وتعمل مكررة، وسيأتي إن شاء الله حكم عملها إذا كانت مكررة.
(فانصب بها مضافاً أو مضارعه
وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه)
قوله: (انصب) فعل أمر، والفاء في قوله: (فانصب) للتفريق، أي: فبعد أن عرفت أنها تعمل عمل (إنَّ) فانصب بها.
مضافاً: مفعول انصب.
أو مضارعه: مضارع: معطوف على (مضافاً)، وهو مضاف والهاء مضاف إليه.
وبعد ذاك: بعد: ظرف مضاف إلى ذا، والكاف حرف خطاب.
الخبر: مفعول (اذكر) مقدم، والظرف في قوله بعد ذاك متعلق باذكر.
رافعه: حال، أي: حال كونها رافعة له، وليست الهاء ضميراً، بل هي تاء التأنيث، وتقدير الكلام: واذكر الخبر بعد الاسم حال كون (لا) رافعة له.
والمراد بقوله: (أو مضارعه) أي: مشابه المضاف، ومشابه المضاف ما تعلق به شيء من تمام معناه، بمعنى: أن ما بعده يكون متعلقاً به من حيث المعنى، كما يتعلق المضاف إليه بالمضاف، ولهذا سمي: مشابهاً للمضاف.
مثال المضاف: لا غلامَ رجلِ قائمٌ.
ومثال المشبه بالمضاف: لا قبيحاً فعلهُ محمود، فـ(قبيحاً) غير مضاف، لكنه تعلق به شيء من تمام معناه وهو (فعل)؛ لأن (فعل) فاعل قبيح، ومحمود: خبر لا.
وقد يكون المتعلق منصوباً، كقولك: لا راكباً سيارةً موجود، وقولهم: لا طالعاً جبلاً حاضر، فالمتعلق هنا منصوب.
وقد يكون مجروراً، مثل: لا مطالعاً للكتابِ حاضر، فإن (للكتاب) جار ومجرور متعلق بـ(مطالعاً).
إذاً: معنى قوله: (أو مضارعه) أي: مشابهه، ونعرف المشابه بأنه ما تعلق به شيء من تمام معناه، فيكون له به تعلق: إما بالرفع، وإما بالنصب، وإما بالجر.
قال ابن عقيل: [أي: مشابهاً للمضاف، والمراد به: كل اسم له تعلق بما بعده إما بعمل ... وإما بعطف].
فقوله: (وإما بالعطف)، مثل أن تسمي رجلاً: ثلاثة وعشرين، فتقول: قام ثلاثة وعشرون، ورأيت ثلاثة وعشرين، ومررت بثلاثة وعشرين، فإذا أدخلت (لا) قلت: لا ثلاثةً وعشرين حاضر، فتعطف عشرين على ثلاثة؛ لأنه لا يتم معناها إلا بالعطف، ولو قلت: لا ثلاثة، لما عرف أنه اسم، فإذا قلت: لا ثلاثةً وعشرين، عرف أنه اسم، إذاً لا بد من ذكر العشرين.
وقوله: (وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه) يدل على أنه لا بد من الترتيب بين اسم (لا) وخبرها، فيذكر الخبر بعد الاسم، ولا يذكر الخبر قبل الاسم، فلا يصح أن تقول: لا في البيت رجل، بل لا بد من الترتيب.
وقوله: (رافعه) يدل على أن (لا) النافية للجنس تعمل في المبتدأ والخبر كما تعمل إن وأخواتها، وأن رفع اسمها ليس رفعاً مبنياً على الأصل، بل هو رفع جديد، حدث بدخول لا.
والخلاصة: أن (لا) النافية للجنس تعمل عمل إنَّ، ثم إن كان اسمها مضافاً أو مشابهاً للمضاف وجب نصبه، وإذا وجب نصبه صار منوناً، نحو: لا قبيحاً فعله محمود، لا راكباً سيارةً موجود، لا مطالعاً في الكتاب حاضر.
[ وركب المفرد فاتحاً كلا
حول ولا قوة والثانِ اجعلا
مرفوعاً أو منصوباً أو مركباً
وإن رفعت أولاً لا تنصبا ]
قوله: (وركب المفرد فاتحاً) المراد بالمفرد هنا ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، وبهذا نعرف أن للنحويين اصطلاحاً في كل باب بحسبه، فالمفرد في باب الإعراب: ما ليس مثنى ولا جمعاً، والمفرد في باب المبتدأ والخبر ما ليس جملة ولا شبه جملة، والمفرد هنا: ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف.
يقول: (ركب المفرد فاتحاً) ركب: فعل أمر.
المفرد: مفعول لركب.
فاتحاً: حال من فاعل ركب، أي حال كونك فاتحاً.
(كلا حول ولا قوة) أي: كهذا المثال، ولهذا نعرب هذه الجملة فنقول:
الكاف: حرف جر.
لا حول ولا قوة: اسم مجرور بالكاف، لأن المقصود: كهذا المثال، فالمقصود لفظها.
قوله: (ركب المفرد فاتحاً) أي: ركبه مع لا كما تركب (عشر) مع العدد قبلها، فتقول: ثلاثة عشر، وتقول: لا رجل، فالكلمتان مركب بعضهما ببعض كما ركب العدد العشري مع العدد الفردي، وكيف تعرب؟
نقول: لا رجل في البيت.
لا: نافية للجنس.
رجل: اسمها مبني على الفتح في محل نصب، ولا يجوز أن نقول: لا رجلاً في البيت؛ لأنه يجب أن يبنى على الفتح، ولذلك يقول: (ركب المفرد فاتحاً كلا حول ولا قوة)، والخبر: إلا بالله، ولنقتصر على المثال الأول: (لا حول إلا بالله)، فنقول:
لا: نافية للجنس.
حول: اسمها مبني على الفتح في محل نصب بها.
إلا: أداة حصر.
بالله: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر لا.
وهل يبنى خبرها كاسمها؟ لا، بل خبرها معرب غير مبني، ولهذا تقول: لا رجل قائمٌ، ولا تقل: لا رجل قائمُ، بل تنونه لأنه معرب.
قوله: (والثاني اجعلا).
الثاني: مفعول مقدم لـ (اجعلا)، والألف في قوله: (اجعلا)، يجوز أن تكون للإطلاق ويجوز أن تكون بدلاً عن نون التوكيد.
فإن كانت للإطلاق فلا إشكال، ولكنها في الواقع بدل عن نون التوكيد، والدليل لذلك: أن الفعل معها مبني على الفتح، فإن (اجعل) فعل أمر مبني على الفتح، فيتعين أن تكون الألف هنا عوضاً عن نون التوكيد الخفيفة؛ لأن نون التوكيد الخفيفة يجوز أن نبدلها بألف، كقوله تعالى: لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ [العلق:15].
وقوله: (مرفوعاً أو منصوباً أو مركباً):
مرفوعاً: مفعول ثان لاجعل، والتقدير: اجعل الثاني مرفوعاً أو منصوباً أو مركباً.
أفاد المؤلف رحمه الله أنك إذا قلت: لا حولَ ولا قوة؛ فإنك تبني الأول على الفتح مركباً مع لا.
وأن الثاني يجوز لك فيه ثلاثة أوجه: أن تجعله مرفوعاً، أو منصوباً، أو مركباً؛ فتقول في الرفع: لا حولَ ولا قوةٌ، وفي النصب: لا حولَ ولا قوةً، وفي التركيب: لا حولَ ولا قوةَ.
إذاً: نقول في إعراب الأول (لا حول): حول: اسم لا مبني على الفتح، وسبب بنائه التركيب مع لا.
والثاني: (ولا قوة) يجوز في (قوة) ثلاثة أوجه: الرفع، والنصب، والتركيب.
ووجه الرفع: أنه معطوف على محل لا واسمها؛ أو على محل اسمها، لأن اسمها في الأصل كان مبتدأ.
ووجه النصب: أنه معطوف على محل اسم (لا) لفظاً؛ لأننا قلنا في (لا حول): حول: اسمها مبني على الفتح في محل نصب، فإذا نصبت (ولا قوةً) صارت معطوفة على محل اسم (لا) لفظاً.
ووجه التركيب: أنه يكون مستقلاً، أي يركب مع (لا) الثانية، وصار العطف هنا ليس عطف مفرد على مفرد، ولكنه عطف جملة على جملة، أي: أننا عطفنا (ولا قوة) كلها على جملة (لا حول)، فنقول في الإعراب:
الواو: حرف عطف.
لا: نافية للجنس.
قوة: اسمها مبني على الفتح في محل نصب، والعطف هنا عطف جملة على جملة.
إذاً: إذا بنينا الأول على الفتح جاز في الثاني ثلاثة أوجه.
وإذا رفعنا الأول فلا ننصب الثاني؛ لعدم وجود السبب، فإذا قلنا: (لا حولٌ) فإن سبب الرفع إلغاء عمل (لا) فنقول:
لا: نافية لا تعمل.
وحولٌ: مبتدأ.
فيمتنع نصب الثاني، ويبقى الرفع والبناء على الفتح؛ فنقول:
لا حولٌ ولا قوةٌ إلا بالله، فتكون (لا) ملغاة في الأولى وفي الثانية.
ونقول: لا حولٌ ولا قوةَ، فتكون (لا) ملغاة في الأولى وعاملة في الثانية.
ولا تقل: لا حولٌ ولا قوةً؛ لأن أصل جواز النصب -فيما إذا بني الأول على الفتح- العطف على المحل لفظاً، وهنا وقع اسم (لا) مرفوعاً، فلا يمكن أن تعطف عليه منصوباً.
فخلاصة الكلام: يجوز لك في الأول وجهان: الإعمال والإهمال.
ففي حال الإعمال يكون مبيناً على الفتح، وفي حال الإهمال يكون مرفوعاً.
وإذا أعملت الأول جاز لك في الثاني ثلاثة أوجه: الرفع، والنصب، والتركيب.
وإذا أهملت الأول فيجوز في الذي بعده وجهان فقط: الرفع والبناء، ولا يجوز النصب لعدم وجود مقتضيه.
وقوله: (وركب المفرد فاتحاً) المراد بالمفرد هنا ما ليس مضافاً ولا شبيهاً بالمضاف، فيشمل المثنى، ويشمل جمع المذكر والمؤنث السالمين، وإذا كان كذلك فيكون في قول ابن مالك : (فاتحاً) قصور؛ إذ إن المركب ينصب بالفتحة، وينصب بالياء، وينصب بالكسرة، وكلامه لا يشمل كل هذا، ولهذا عبر بعضهم بقوله: إنه يبنى على ما ينصب به، وقال بعضهم: لو أن ابن مالك قال:
[وركب المفرد كالنصب كلا حول ولا قوة ..]
لكان أشمل، تقول: لا رجل في البيت، ولا رجلين في البيت، ولا مسلمين في البيت، فهنا لم يبن على الفتح، بل بني على ما ينصب به وهو الياء.
كذلك نقول: لا مسلماتٍ في البيت، فبنيناه على الكسرة، لكن نقول في جمع المؤنث السالم خاصة: يجوز أن تبنيه على الفتح أيضاً فتقول: لا مسلماتَ في البيت.
[ ومفرداً نعتاً لمبني يلي فافتح أو انصبن أو ارفع تعدل ]
قوله: (مفرداً): مفعول مقدم لقوله فافتح.
نعتاً: صفة لمفرد.
لمبني: جار ومجرور متعلق بيلي.
فافتح: الفاء زائدة لتحسين اللفظ، وأصل الكلام: (ومفرداً نعتاً لمبني يلي افتح).
افتح: فعل أمر، ومعناه: ابنه على الفتح، وقد سبق أن الأولى أن يقال: (يبنى على ما ينصب به).
أو انصبن: أو: للتخيير، انصبن: معطوف على افتح.
أو ارفع: أو: أيضاً للتخيير، ارفع: معطوف على افتح.
تعدل: فعل مضارع مجزوم على أنه جواب لفعل الأمر وهو قوله: (افتح) وما عطف عليه.
وقد اختلف المعربون في مثل هذا التركيب: هل يكون هذا مجزوماً على أنه جواب الأمر، أو مجزوماً على أنه جواب لشرط محذوف والتقدير: إن تفعل تعدل؟ ولدينا قاعدة مهمة وهي: أنه إذا دار الكلام بين الحذف وعدمه فالأصل عدم الحذف، إذاً نقول: الأولى أن نقول: إنها جواب للأمر في قوله: (افتح) وما عطف عليه.
ومعنى البيت: إذا ولي المبني نعت مفرد جاز لك فيه ثلاثة أوجه: الفتح والنصب والرفع.
مثاله: لا رجل ظريف في البيت.
رجل: مبني.
وظريف: نعت مفرد وقد ولي المنعوت ولم يفصل بينهما بفاصل، إذاً: انطبق على كلام المؤلف: النعت مفرد، والمنعوت مبني، ولا فاصل بين النعت والمنعوت، وحينئذ يجوز لك في النعت ثلاثة أوجه: فتقول: لا رجلَ ظريفَ في البيت، ولا رجلَ ظريفاً في البيت، ولا رجلَ ظريفٌ في البيت.
أما الفتح: لا رجلَ ظريفَ في البيت، فوجهه: أنه مركب مع اسم لا كما ركب اسمها معها.
وأما وجه النصب: لا رجلَ ظريفاً: فلأنه تابع لمحل اسم لا، لأننا نقول في إعراب (لا رجلَ): رجل مبني على الفتح في محل نصب، فهو نعت تبع اسم (لا) في محله.
وأما الرفع: لا رجلَ ظريفٌ؛ فهو نعت روعي به محل (لا) واسمها؛ لأن محلهما الرفع.
ونحن عندما نتكلم عن هذه الأوجه في هذه المسألة وفيما قبلها نتبع النحويين في ذلك، والشواهد على هذه التفصيلات قليلة في اللغة العربية، لكن يقولون: إذا تعذر النقل جاز القياس، وجاز الاجتهاد، وإلا لو تدبرت كلام العرب لوجدت الشواهد على هذا قليلة جداً، لكنهم يقيسون على قواعد أصلوها.
والخلاصة: إذا نعت اسم (لا) جاز في النعت ثلاثة أوجه بشرط أن يكون المنعوت مبنياً، والنعت مفرداً، وألا يفصل بينه وبين المنعوت بفاصل، وإذا اختل شرط من هذه الشروط فيقول ابن مالك :
[ وغير ما يلي وغير المفرد لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد ]
غير: مفعول مقدم لـ (تبن) في قوله: (لا تبن)، وهو مضاف إلى (ما) الموصولة.
يلي: فعل مضارع وهو صلة الموصول، والفاعل ضمير مستتر، والعائد محذوف والتقدير ما يليه.
وغير المفرد، غير: معطوف على (غير) الأولى، وهو مضاف إلى المفرد.
لا: ناهية.
تبن: فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنت.
وانصبه: الواو حرف عطف، انصب: فعل أمر، والهاء: ضمير مفعول به، والفاعل مستتر وجوباً تقديره أنت.
أو الرفع اقصد: أو: للتنويع، الرفع: مفعول مقدم لقوله (اقصد).
اقصد: فعل أمر مبني على السكون، وحرك بالكسر من أجل الروي.
قوله: (غير ما يلي) أي: إذا فصل بين النعت والمنعوت بفاصل فإنه يمتنع البناء، ويبقى النصب والرفع، ولماذا يمتنع البناء؟
لأن البناء من أجل التركيب مع (لا) واسمها، وإذا فصل بينهما الفاصل تعذر التركيب، مثل أن تقول: لا رجلَ في البيت ظريف، فظريف هنا نعت لرجل، وهو مفرد، والمنعوت مبني، فهذان شرطان، ولم يبق إلا شرط واحد وهو: عدم الفصل بينهما، وهذا الشرط مفقود؛ فيمتنع البناء لأنه وجد الفصل، فماذا يجوز في النعت؟
يقول: (لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد) أي: أنه يجوز النصب والرفع، فأقول: لا رجلَ في البيت ظريفٌ، ولا رجلَ في البيت ظريفاً.
كذلك لا رجلَ حامل كتاب حاضر، يجوز في (حامل) الرفع والنصب، ولا يجوز البناء؛ لأنه ليس بمفرد، إذ هو مضاف، ولهذا قال: (وغير المفرد لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد).
مثال آخر: لا رجلَ طالع جبلاً حاضر، يجوز في (طالع) الرفع والنصب.
أما: لا رجلَ طالعَ جبلٍ حاضرٌ، فليس فيه إلا وجه واحد وهو النصب؛ لأنه مضاف فهو منصوب، لكن لو قلت: لا رجلَ طالعَ جبلاً حاضر، فهذا لا يصح، أما: لا رجلَ طالعَ جبلٍ، فهذا صحيح؛ لأنه منصوب وليس مبنياً؛ لأنه لا يمكن أن يبنى وهو مضاف، فهذا داخل تحت قوله: (وغير المفردلا تبن).
إذاً: لا رجل طالعَ جبلٍ حاضرٌ، العبارة صحيحة.
و: لا رجلَ طالعاً جبلاً حاضرٌ، صحيحة.
و: لا رجلَ طالعَ جبلاً حاضرٌ، غير صحيحة؛ لأن النعت هنا لا يبنى؛ لأنه غير مفرد.
[ والعطف إن لم تتكرر لا احكما له بما للنعت ذي الفصل انتمى ]
قوله: (العطف): مبتدأ.
احكم: الجملة من الفعل والفاعل خبر العطف، أي: والعطف احكم له.
وجملة (إن لم تتكرر) جملة اعتراضية.
له: الجار والمجرور متعلق بقوله: (احكما)، والألف في قوله: (احكما) يجوز أن تكون للإطلاق، ويجوز أن تكون للتوكيد، وأصلها (احكمن) كما قال ابن مالك :
(وأبدلنها بعد فتح ألفا وقفاً كما تقول في قفن قفا)
أي: نون التوكيد الخفيفة.
وقوله: (بما للنعت) ما: اسم موصول.
للنعت: جار ومجرور متعلق بمحذوف صلة الموصول، ويجوز أن تكون (للنعت) متعلقة بـ (انتمى)، أي: بما انتمى للنعت ذي الفصل، وهو أولى من أن نقول: إنه متعلق بمحذوف؛ لأنه إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه فالأخذ بعدمه أولى.
يقول ابن مالك رحمه الله: إذا عطفت على (لا) واسمها فإما أن تتكرر لا وإما ألا تتكرر، فإن تكررت (لا) فقد سبق الحكم في قوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وسبق أنها إذا تكررت جاز في الأول وجهان وفي الثاني ثلاثة أوجه، فيجوز في الأول: الرفع والبناء، ويجوز في الثاني: الرفع والنصب والبناء، إلا إذا رفع الأول فلا تنصب الثاني، وهذا قد سبق الكلام عليه.
لكن إذا حصل العطف ولم تتكرر (لا) مثل أن تقول: لا كريم وجبان في البيت، فيقول المؤلف: احكم له بما للنعت ذي الفصل.
والنعت المفصول يجوز فيه الرفع والنصب؛ لقوله:
[ وغير ما يلي وغير المفرد لا تبن وانصبه أو الرفع اقصد ]
فعلى هذا تقول: لا كريمَ وجباناً، ولا تقل: لا كريم وجبانَ، بالفتح، والعلة واضحة؛ لأنه إذا جاء واو العطف امتنع التركيب لوجود الفاصل بحرف العطف، والعطف يقتضي المغايرة، فلم يبق عندنا إلا النصب والرفع، فتقول: لا كريمَ وجباناً في البيت، أو: لا كريمَ وجبانٌ في البيت.
أما على النصب فهو معطوف على محل اسم (لا)، وأما على الرفع فهو معطوف على محل (لا) واسمها؛ لأن محلهما الرفع على الابتداء.
والخلاصة أن نقول: إذا عطف على اسم (لا) فلذلك حالان: الحال الأولى: مع تكرار (لا)، والحال الثانية: مع عدم التكرار.
فأما مع التكرار فقد سبق بيان الأوجه فيه، وأما مع عدم التكرار فيمتنع منه شيء واحد وهو البناء فقط، ويجوز النصب والرفع، لكن اسم (لا) مبني على الفتح؛ لأن الكلام الآن على المعطوف، وأما اسم (لا) فهو مفرد، والمفرد معروف أنه يبنى على الفتح تركيباً مع (لا)، ولا تهمل (لا) في هذه الحال، لأنها إنما تهمل مع التكرار، وحينئذ نقول: لا كريم وجباناً في البيت، أو: لا كريمَ وجبانٌ في البيت.
أما: لا كريماً وجباناً في البيت، فهو خطأ، وكذلك: لا كريمٌ وجبانٌ في البيت؛ خطأ.
[ وأعط (لا) مع همزة استفهام ما تستحق دون الاستفهام ]
أعط: فعل أمر.
لا: مفعول أول؛ لأن (أعطى) من أخوات كسا.
مع: ظرف مكان لكنه بني على السكون، وهذا قليل، كما قال ابن مالك: (ومَعَ مَعْ فيها قليل).
وقوله: (مع همزة استفهام) أي: مع الهمزة التي للاستفهام.
(ما تستحق دون الاستفهام) ما: مفعول ثان لأعط، وهي اسم موصول مبني على السكون في محل نصب.
تستحق: صلة الموصول.
دون: ظرف، وهو مضاف، والاستفهام: مضاف إليه.
يقول رحمه الله: إذا دخلت همزة الاستفهام على (لا) النافية للجنس فإن عملها باق لا يبطل، فإذا قلت: لا رجلَ في البيت، وأدخلت الهمزة عليها فقلت: ألا رجلَ في البيت؟ فأنت الآن تستفهم وتسأل المخاطب كأنك تقول له: أتقول: لا رجلَ في البيت؟
فالاستفهام هنا عائد إلى النفي، أي: هل تنفي أن يكون في البيت رجل؟
أما إذا كان الاستفهام للتمني فظاهر كلام المؤلف رحمه الله أنه يبنى الاسم معها.
وقال بعض النحويين: إذا كان الاستفهام للتمني فإنها لا تكون كالمجردة من الاستفهام، وضربوا لذلك مثلاً بقول القائل: ألا ماءً بارداً، فهنا لا يريد الاستفهام عن النفي، ولكنه يريد التمني، فكأنه يقول: أتمنى ماءً بارداً، فيجعلون (ألا) هنا مركبة من الهمزة و(لا)، ويجعلونها نائبة مناب الفعل، وماءً: مفعول به.
[ وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر إذا المراد مع سقوطه ظهر ]
شاع: فعل ماض.
في ذا الباب: جار ومجرور متعلق بشاع.
إسقاط: فاعل.
الخبر: مضاف إليه.
إذا: شرطية.
المراد: في إعرابه ثلاثة أقوال:
القول الأول: إنه فاعل مقدم، وفعله: (ظهر).
القول الثاني: إنه مبتدأ وخبره: (ظهر).
القول الثالث: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده وهو (ظهر).
والقول الأخير قول البصريين، والأول قول الكوفيين، وهو -حسب القاعدة- الراجح.
فعلى القول بأن (المراد) مبتدأ يكون فيه دليل على جواز إضافة (إذا) إلى الجمل الاسمية.
وعلى القول بأن (المراد) فاعل للفعل المذكور بعده يكون فيه دليل على جواز تقدم الفاعل، وهذا هو الذي نختار، وهو الأيسر، وله أمثلة في القرآن، كقوله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [الانشقاق:1]، كيف تعرب (السماء) على رأي البصريين: فاعل لفعل محذوف، والتقدير: إذا انشقت السماء، وعلى أحد قولي الكوفيين: السماء: مبتدأ، وانشق: فعل ماض، والتاء للتأنيث، والفاعل مستتر، وجملة (انشقت) خبر المبتدأ، وعلى الوجه الثاني لهم يقولون: السماء: فاعل مقدم، وانشق: فعل ماض، والتاء للتأنيث.
وجواب الشرط في قوله: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق:1-4]، أي: فالأمر عظيم.
ولو قيل بأن الأصح من هذه الأقوال أن ما يلي (إذا) هو المبتدأ وما بعده خبر للمبتدأ لكان أوجه؛ لأن هذا يستلزم أن تكون الجملة مؤكدة؛ إذ إن المبتدأ صار في جملة الخبر فاعلاً، فكأنه أسند الفعل إلى فاعله مرتين فيكون هذا أبلغ.
قوله: (وشاع) أي: كثر وانتشر (في ذا الباب) يعني: باب (لا) النافية للجنس (إسقاط الخبر) هذا فاعل شاع، أي: أنه كثر إسقاط الخبر في باب (لا) النافية للجنس؛ لكن بشرط: (إذا المراد مع سقوطه ظهر) يعني: إذا ظهر المراد مع سقوطه.
مثال ذلك أن يقال: هل في البيت من رجل؟ فتقول: لا رجل. أي: في البيت.
وكما يقول من يعود المريض: لا بأس، أي: لا بأس عليه.
وكما يقول المفتي لمن سأله: لا حرج، أي: عليك، كقول النبي عليه الصلاة والسلام وقد سئل في التقديم والتأخير في مناسك الحج يوم العيد فقال: (لا حرج)، أي: لا حرج عليك.
وعلم من قوله: (إذا المراد مع سقوطه ظهر): أنه إذا لم يظهر المعنى فإنه لا يجوز الحذف، كأن تقول: لا رجل، وتسكت، فإنه لا يعلم هل المقصود: لا رجل موجود، أو لا رجل في البيت، أو لا رجل مريض، أو لا رجل صحيح، فإذا كنا لا نعلم ما هو المحذوف امتنع الحذف.
وهذه المسألة مأخوذة من قاعدة سبقت لنا في باب المبتدأ والخبر في قول ابن مالك :
(وحذف ما يعلم جائز.....).
فتلك قاعدة عامة في كل شيء: كل ما يعلم فحذفه جائز، وكل ما لا يعلم فحذفه ممتنع؛ لأن المراد بالكلام بيان المعنى، فإذا لم يعلم فإنه يمتنع الحذف. وبهذا انتهى الكلام على لا النافية للجنس.
هناك فرق بين (لا) النافية للجنس و(لا) النافية للوحدة في العمل وفي المعنى:
أما في العمل: فإن (لا) النافية للوحدة تعمل عمل ليس.
وأما في المعنى فإن (لا) النافية للجنس تنفي الجنس أصلاً، وليست تنفي واحداً من الجنس، وأما (لا) الأخرى فإنها تنفي واحداً من الجنس، ولهذا تقول: لا رجلٌ في البيت بل رجلان، ويستقيم الكلام، وتقول: لا رجلَ في البيت ولا امرأة، فهذه نافية للجنس.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر