اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد:
قال الله عز وجل في سورة الحج: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:26-29].
يخبرنا الله سبحانه تبارك وتعالى في هذه الآيات كيف أنه أوحى لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بمكان البيت، وعلمه مكان البيت، حتى يبني بيتاً لله سبحانه، فلا يشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى شيئاً.
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ [الحج:26]، والتبوء بالمكان بمعنى: النزول بالمكان، أي: أنزلناه في مكان أو هيأنا له مكاناً لنزوله،فكأن المعنى هنا: أرشدنا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لمكان البيت، والبيت كان أصله موجوداً، ولكن الرياح كانت قد طمسته بالتراب فلم يكن يعرف مكان البيت، فدل الله سبحانه تبارك وتعالى إبراهيم على مكان البيت، وأمره أن يبني بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، فرفع إبراهيم القواعد من البيت بأمر ربه سبحانه تبارك وتعالى.
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ [الحج:26] أي: أريناه أصل البيت ليبينه، وكان أصل البيت قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمره الله سبحانه تبارك وتعالى ببنيان البيت، فجاء إلى موضع البيت، وجعل يبحث عن موضع هذا البيت حتى يبنيه لله عز وجل، فبعث الله سبحانه تبارك وتعالى ريحاً أطارت التراب، وكشفت له عن أصل البيت وأساس البيت، الذي كان من عهد آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام كما قيل. فرتب إبراهيم قواعد البيت ورفع البيت كما أمره سبحانه تبارك وتعالى، واستعان بابنه إسماعيل، وقال له: إن الله أمرني أن أبني بيته، قال: فأطع ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. فرفع الاثنان القواعد من البيت قائلين لربهما سبحانه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
وقد بني البيت في مكان ليس فيه ناس، ولم يحج أحد إلى هذا البيت في هذا الزمان الذي فيه إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، إلى أن رفع القواعد من البيت ثم نادى في الناس بأمر الله سبحانه تبارك وتعالى: إن الله بنى بيتاً فحجوا.
قال الله: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ [الحج:26] هذه قراءة الجمهور، وقراءة أبي جعفر وقراءة أبي عمرو: وَإِذْ بَوَّانَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا أي: قائلين له: لا تشرك بي شيئاً. أي: ارفع القواعد من البيت في هذا المكان لعبادة الله، وحتى يوحد الله سبحانه تبارك وتعالى وحده لا شريك له، أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]، قيل: هي مخاطبة لإبراهيم، وهو الراجح، وهذا قول جمهور المفسرين. وقيل: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]، مخاطبة للنبي صلوات الله وسلامه عليه. والراجح أن الخطاب هنا لإبراهيم، وليس فيه ذكر للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولم يكن هناك طائفين ولا قائمين ولا ركع ولا سجود في ذلك الزمان والمكان، إلى أن رفع إبراهيم القواعد من البيت، فهيئ المكان لمن يأتي للعبادة في هذا المكان بأمر الله سبحانه وتعالى.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ [الحج:26]، هذه قراءة نافع وأبي جعفر وهشام وحفص عن عاصم : وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26]، وباقي القراء: وَطَهِّرْ بَيْتِيْ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يعني: بالسكون دون الفتح.
والطائفون هم الذين يطوفون بهذا البيت بعدما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيطهر البيت من النجاسات، يطهره من الشرك والإلحاد بالله سبحانه تبارك وتعالى، من أجل أن يكون للعبادة. ومن عهد إبراهيم إلى أن تقوم الساعة فهناك من يطوف بالبيت، ويعبد الله سبحانه، ولا يشرك به شيئاً، إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ [الحج:26]، الطائف: هو الذي يطوف حول البيت، والقائم: هو الواقف في مكانه، سواء في صلاة أو في دعاء أو في غير ذلك.
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، القيام والركوع والسجود من هيئات الصلاة، فطهر بيتي لمن يطوف بالبيت، والطواف بالبيت صلاة، وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، وهذه هي هيئات الصلاة المعروفة.
فالله سبحانه تبارك وتعالى أمر إبراهيم برفع القواعد من البيت وبناء هذا البيت العتيق، فكم لإبراهيم عليه السلام من الفضل والثواب، فإن الناس من عهده وهم يطوفون بالبيت، ويعبدون الله سبحانه تبارك وتعالى. ثم جاءت فترة من الفترات جاء فيها مشركو العرب فتركوا التوحيد، وأشركوا بالله سبحانه تبارك وتعالى، فجاء النبي صلوات الله وسلامه عليه ليطمس هذا الشرك بالله، ويظهر نور الله سبحانه تبارك وتعالى، ويرجع الناس إلى التوحيد مرة ثانية. وقد ذكر هنا: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ [الحج:26]، وذكر في سورة البقرة: لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة:125]، فالطائف الذي يطوف بالبيت، والعاكف يعني: الملازم للبيت، لعبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26] أي: المصلين.
أمر الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يؤذن، والأذان بمعنى: الإعلام، ومنه الأذان الشرعي المعروف، وهو: الإعلام بألفاظ معروفة، ولكن هنا وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ [الحج:27] يعني: قم فناد، فبعد أن انتهى إبراهيم من رفع القواعد من البيت وهو يدعو ربه سبحانه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127]، أمر أن يؤذن وينادي، وليس في هذه الأماكن أحد، إلا قليل من الناس، وأما باقي الناس فهم في البلاد وفي البحار وفي كل مكان بعيد، ومع ذلك فقد أستمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام أمر ربه، فأذن في الناس.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ يعني: أنا في هذا المكان فلمن أؤذن، ومن سيسمع صوتي، ويأتي إلي؟ فقال: أذن وعلي البلاغ.
إذاً: فقد كان إبراهيم سبباً من الأسباب فقط، فالله يقول له: عليك الأذان فقط، وليس عليك النتيجة.
قال ابن عباس : فصعد إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام جبل أبي قبيس في مكة ونادى: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأسمع الله عز وجل الناس، والعادة أن الإنسان عندما يتكلم لا يسمعه إلا الحاضر، ولكن إبراهيم أسمع الحاضر والغائب أيضاً، وأسمع من لم يوجد؛ لأن الذي أوصل صوته إليهم هو: الله سبحانه تبارك وتعالى، وإنما كان إبراهيم سبباً فقط، وهذا كما قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] عندما أخذ كفاً من حصى ورماه في وجوه الكفار، وقال: (شاهت الوجوه)، فإذا بالله يعمي أبصار هؤلاء فلا يرون، وكف الحصى لا يكفي لإصابتهم أجمعين، ولكنه رمى وكانت النتيجة من الله سبحانه تبارك وتعالى.
وفي يوم بدر والمؤمنون يقاتلون الكفار عندما رفع أحد المؤمنين سيفه ليقتل الكافر سقطت رقبة الكافر قبل أن يضربه المسلم، والذي فعل ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، فلم يكلفنا الله إلا الأخذ بالأسباب، وأما النتيجة فهي منه سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك فعندما أذن إبراهيم، أجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، ممن كتب الله عز وجل له الحج تفضلاً منه سبحانه وتعالى، فردوا على إبراهيم قائلين: لبيك اللهم لبيك، فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة، يعني: من أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين حج مرتين، وهكذا.
وقد اختبره الله سبحانه تبارك وتعالى في أبوه، هل سيحب أباه وإلا ربه سبحانه تبارك وتعالى، وقد كان أبوه يعصي الله، ويصنع الأصنام، فأمره إبراهيم بالمعروف ونهاه عن المنكر، وأمره بالتوحيد، قائلاً له: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43]، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:45].
فأبي أبوه أن يدخل في دينه، وأن يطيعه وقال: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم:46-47] أي: سأدعو لك ربي، إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47] واعتزل إبراهيم أباه، واعتزل عباد الأصنام، وفر بدينه إلى ربه سبحانه تبارك وتعالى، وأقبل على قوم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه، فدعاهم إلى رب العالمين، فلم يهتم ألا يستجيبوا له، وأن يطردوه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ولكنه أصر على الدعوة إلى ربه سبحانه.
واختبره ربه في ابنه إسماعيل، وكان بكره وابنه الوحيد، فأمره بذبح ابنه عليه الصلاة والسلام، فإذا به يستجيب ولا يتردد، ويذهب إلى ابنه ويقول له: إن الله أمرني أن أذبحك، فقال: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
فهذه سنن عظيمة وعجيبة في طاعة الله وتفويض الأمر إليه، والاستسلام والتسليم بين يديه سبحانه وتعالى.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما كان يرفع القواعد من البيت كان يساعده ابنه إسماعيل فقط، وقد كان إسماعيل يذهب فيأتيه بالحجارة، وإبراهيم يرفع القواعد من البيت، وهما يدعوان ربهما: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
ومن المستحيل أن يكون هذا العمل لغير الله سبحانه وتعالى؛ لأن الذي يعمل عملاً لغير الله فإنه يعمله في مكان يراه الناس فيه، وإبراهيم معصوم من ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو يرفع القواعد من البيت ولا أحد معه إلا ابنه، وربه سبحانه شاهد عليه وهو يرفع ويتوسل إلى الله: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
فيتعلم المؤمن من هذا ألا يغتر بعمله أبداً، فإذا كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم من الذنوب، والذي يستحيل في حقه أن يرائي أحداً، ولا أحد موجود حتى يطلع على ما يقوله إبراهيم ويفعله، ومع ذلك يدعو ربه سبحانه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة:127]، فإذاً: لا تمن بعملك على الله سبحانه وتعالى، وإذا عملت عملاً فارجو من ربك أن يقبل منك هذا العمل، وإذا تقبله منك فهو الذي قال لنا في كتابه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، فإذا تقبل عمل إنسان فهذا دليل على أن هذا الإنسان تقي، وإذا كان تقياً وقاه الله عز وجل النار.
ومعنى (أذن) أي: أعلن وناد على الناس في الحج، فيستجيبون لك، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، وقد تحقق وعد الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن الناس في قلوبهم شوق إلى حج بيت الله سبحانه، فكلما تذكروا البيت فإن من استطاع منهم ذهب وحج لله عز وجل، فإذا ذهب كان مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة:125]، والمثابة: الشوق والرجوع والتكرار، فكلما ذهب إلى البيت اشتاق إليه أكثر، وكلما رجع من حج أو من عمرة اشتاق أن يرجع إليه مرة ثانية وثالثة، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجَالًا [الحج:27] أي: على أرجلهم مترجلين مشاة.
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج:27] الضامر: البعير المهزول، يقال: ضمر الشيء بمعنى: أهزله، ومنه تضمير الخيل، فقد كانوا يعدون الخيل للجهاد وللكر والفر، ولذلك كانوا يضمرونها، فيعزل الخليل تماماً ويلبسه الصوف ثم يجعله يجري حتى يعرق فيخفف شحمه فيضمر، فهذا تضمير الخيل، والضمور بمعنى: الهزال، فقوله تعالى: (وعلى كل ضامر) معناه: أن الناس يأتوك من أماكن بعيدة حتى يكون الجمل الذي يركبه صاحبه هزيلاً ضعيفاً، فيكون المعنى: وعلى كل بعير ضامر هزيل مهزول من طول السفر.
إذاً: فقوله تعالى: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ [الحج:27]، كأنه تشريف لهذا البعير المركوب، فهو شرف للبعير الذي رُكب وأتى بصاحبه إلى بيت الله الحرام.
قال: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27] يعني: هذه الإبل أتت من كل فج عميق بأصحابها ليحجوا بيت الله سبحانه.
والفج: الطريق الواسع، والعميق: البعيد، والمعنى: يأتون من طرق بعيدة وبلاد بعيدة شاسعة؛ ليحجوا بيت الله الحرام.
فقوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] قالوا: إنها منافع دنيوية وأخروية، أما الأخروية فهي: أنهم يشهدون المناسك: عرفات، والمشعر الحرام، ومنى وغير ذلك، ويعبدون الله سبحانه، وتكون لهم المغفرة من الله، فيحضرون لينتفعوا بعبادتهم.
وأما المنافع الدنيوية فإنه يشتري أشياء، ويبيع أشياء ويتاجر، فليس عليهم جناح أن يبتغوا فضلاً من ربهم في أيام الحج، وليس عليهم جناح أن يبيعوا وأن يشتروا.
ذكر الله الأيام المعلومة والأيام المعدودة، فذكر هنا المعلومة، وفي البقرة ذكر المعدودة، فقال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، فالأيام المعدودات: هي أيام التشريق ويوم النحر، والأيام المعلومات: هي العشر من ذي الحجة، وقد يدخل معها أيضاً الأيام المعدودات، فيكون المعنى: أن العادة أن الناس يذهبون إلى المناسك من أول ذي الحجة أو قبلها في أشهر الحج، فيذكرون الله مسبحين وملبين ومكبرين ومتقربين إليه سبحانه وتعالى.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر من شهر ذي الحجة، وهي أعظم أيام السنة؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد، إلا أن يخرج رجل بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك شيء) يعني: يستشهد في سبيل الله، ويؤخذ ماله.
فلنحرص على حسن العبادة في الأيام المعلومات، وهي من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم العاشر منه.
وجاء عن ابن عباس أيضاً أنه قال: الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده. فكأن الوارد عن ابن عباس : أن الأيام المعلومة تبدأ من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام العيد، فهي أيام معلومة ومعدودة.
إذاً: الأيام المعدودة التي ذكرها الله عز وجل في سورة البقرة هي أيام العيد: يوم العيد وثلاثة أيام التشريق، ويوم العيد هو: يوم الحج الأكبر، وفيه أعظم المناسك في الحج، فسماه الله عز وجل يوم الحج الأكبر.
إذاً: ففي أول الأيام من ذي الحجة يرى الحاج بهيمة الأنعام فيكبر ربه في هذه الأيام المعدودة، ثم يذبح هذه الأنعام مكبراً لله، ومسمياً لله عز وجل عليها.
والبهيمة هي: كل ذات قوائم أربع، فكل دابة لها أربع قوائم تسمى بهيمة، حتى لو كانت من دواب الماء إذا كانت تمشي على أربع فتسمى بهيمة.
وكذلك كل حي لا يميز يقال عنه: بهيم وبهيمة، والحي الذي ليس في عقله تفكير ولا يجيد النطق يسمى بهيمة. والمقصود من البهيمة هنا: الأنعام التي هذه صفتها، والأنعام تطلق على الإبل، والبقر ويدخل فيها الجواميس، والأغنام ويدخل فيها الماعز، فكل هذه تسمى بهيمة الأنعام، سواءً كانت ذكوراً أو إناثاً، فيذكرون اسم الله عز وجل عليها وهم ينحرونها، سواء نحروها هدياً أو نذراً أو أضحية.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر