أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة، ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، وها نحن اليوم مع هذه الآيات من سورة الرعد تلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ * وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ * اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:5-9].
الله جل جلاله وعظم سلطانه يقول لرسوله مسلياً له عما يعانيه من صلف أولئك المشركين، وكفرهم، وعنادهم: وَإِنْ تَعْجَبْ [الرعد:5] في كونهم ما آمنوا بأنه لا إله إلا الله، وفي كونك رسول الله، فالعجب في قولهم: أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5]، هذا الذي يعجب منه؛ ينكرون الحياة الثانية في الدار الآخرة، لا يؤمنون بأن البشرية والخليقة لما تنتهي مدة هذه الحياة تبعث من قبورها لحياة دائمة خالدة في عالم الخلود، ينكرون البعث الآخر، يكذبون بيوم القيامة، يكذبون بالجنة دار النعيم والنار، دار العذاب الأليم.
والآن نسبة الذين يؤمنون بالدار الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم وعذاب أليم نسبتهم إلى الذين لا يؤمنون لا يزيد على (1%)، فالكل كفرة، مشركون، جاحدون، منكرون، وهم يطيرون في السماء ويغوصون في الماء، ويحللون الذرة والكونيات، ولا يفكرون أنهم مربوبون، مخلوقون، ميتون، يبعثون ليجزون على عملهم في هذه الدار.
أليس كذلك؟ بلى. فكيف ما نعجب إذاً؟
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا [الرعد:5] بعد موتنا، وتلاشي أجسامنا، وتمزقها أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5] بعد ذلك. هكذا ينكرون البعث الآخر.
واسأل: اليابان، والصين، والأمريكان، واليهود، والنصارى تجد نسبة الذين يؤمنون بالحياة الثانية -كما قلت لكم- أقل نسبة، وفي اليهود من يؤمنون بالبعث لكن ليسوا كلهم، فقد تبلشفوا، وأصبحوا ملاحدة، والنصارى انتهى أمرهم، (75%) أصبحوا لا يؤمنون بالله ولا بلقائه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكيف لا تعجب يا رسولنا، وقد عجبت من كونهم ما آمنوا بأنك رسول، وأن القرآن كلام الله ووحيه، فاعجب من قولهم: أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً نعود من جديد خلقاً جديداً.
هذا هو التكذيب بالدار الآخرة، إنكار البعث والجزاء، وصاحبه كافر، لا خير فيه بالمرة.
وأكرر القول وبلغوا: أي إنسان سواء كان أبيض أو أسود.. عربياً أو أعجمياً، طار في السماء أو غاص في الماء، وقال ما قال، وفعل ما فعل ثم لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا خير فيه ألبتة، ويجب ألا يحب، ويجب أن يبغض، ويجب ألا ينظر إليه، ويجب ألا يؤمن على أدنى شيء، إذ هو فارغ تمام الفراغ من الإيمان بالله ولقائه، فكيف -إذاً- لا يخرج عن طاعة الله؟
الكافر هذا الكفر لا يوثق فيه أدنى ثقة، ولا يصدق فيما يقال، ولا يرغب بالنظر إليه؛ لأنه أكفر الخلق.
وإن قلتم: من أين لك أن تقول هذا؟ فآية سورة البينة تقرر هذه الحقيقة، واسمعوا قول الله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [البينة:1] وإذ يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6]، شر الخليقة.
ما شر الخليقة؟ ليست الثعابين، ولا الحيات، ولا القردة، ولا الخنازير، ولكن الكفرة بالله ولقائه، فالله يقول لرسوله وأتباعه معه وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرعد:5] نحيا مرة ثانية، ونصبح بشراً كما نحن الآن؟!
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرعد:5]، أولئك البعداء الذين كفروا بربهم. ومن كفر بالله يقول أكثر من هذا، وينكر كل شيء.
الذي أنكر خالقه وقال: ما خلقني خالق، ولا أومن بأني مخلوق. هذا ما بقي عنده عقل، ولا يوثق فيه، ولا يؤمن على شيء!
كفر بموجده وصانعه، وصانع الكون لأجله، ومن أجله، من الذرة إلى المجرة، فهو مكذب به يقول: لا أومن به.
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرعد:5]، لو أنهم آمنوا بالله لصدقوه فيما أخبر به، ولقالوا: آمنا بالله وبما أخبرنا به أنه سيكون كذا وكذا..والله لا يسعنا إلا أن نقول: آمنا، سواء عقلنا ذلك أو لم نعقله، قدرنا على فهمه أو لم نقدر، ما دام أخبر الله وأخبر رسوله آمنا بالله، لكن هم ما داموا كافرين بربهم فلا يصدقون رسول الله ولا يؤمنون بالبعث والجزاء.
أُوْلَئِكَ [الرعد:5] البعداء الأشقياء الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ [الرعد:5]، أي: جحدوا وجوده.. جحدوا حقه في العبادة.. جحدوا أن يكون الإله الحق.. جحدوا نبوة أنبيائه ورسالات رسله، جحدوا بلقائه والدار الآخرة.
الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [الرعد:5] أولئك أصحاب التكالب على المادة.. الشهوات.. الأطماع، والعناد والكبر.. هذه كلها منعتهم من الإيمان والدخول في الإسلام، فهي أغلال في أعناقهم لا يستطيعون أن يسلموا، ولا يقوون على أن يؤمنوا؛ لوجود هذه الموانع وهذه الشهوات التي في أعناقهم، ويوم القيامة يؤخذون من الأغلال في أعناقهم، ويقادون إلى جهنم.
هذه عقيدة الرسول وأصحابه والسلف الصالح في الذين ماتوا على الكفر بالله ولقائه، وشرعه، ووحيه، وكتابه، ورسوله.
الكافرون هؤلاء يخلدون في دار الشقاء خلوداً أبداً، ولا تعجب أبداً، فإن أحدهم يصبح في هيئته.. في صورته.. في جسمه ضرسه كجبل أحد، والله العظيم، وما بين كتفيه مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً، إذ قال الرسول: ( ما بين كتفي الكافر كما بين مكة وقديد )، مائة وخمسة وثلاثون كيلو متراً.
أجسام عجب؛ تأكلها النار وتحرقها فتنبت كما كانت، وهكذا إلى الأبد، أحبوا أم كرهوا.
هذا هو واقع البشرية، إما أن يؤمنوا فيسلموا، ويطيعوا ربهم ويعبدوه فيكملوا ويسعدوا، وإما أن يحملهم الكبرياء والعناد والمكر والخديعة على الإصرار على الكفر والتكذيب، وهذا والله مصيرهم وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد:5] لا غيرهم.
إذاً: استعجالهم للرسول العذاب: أن يقولوا: ائتنا بالعذاب الذي تخوفنا به وتهددنا؛ كل هذا لأن الأغلال في أعناقهم، العناد والكفر والتكذيب، فالجحود أعماهم وأصمهم، فأصبحوا يطالبون بالعذاب، هات العذاب الذي تخوفنا به، ولو كانوا عقلاء لا يطالبون بالعذاب بل يطلبون الرحمة، ولكنه طلب عناد، وكفر، وجحود.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد:6]، أي: العقوبات الصارمة الشديدة، فعاد وثمود أصبحوا دماراً، وفرعون وجيشه ومائة ألف أصبحوا غارقين، ومع ذلك يطالبون بالعذاب، وقد مضت قبلهم أنواع من العذاب لا حد لها، ويعرفون هذا ويطالبون به؛ لكبرهم وعنادهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ [الرعد:6] يا رسول الله لَذُو مَغْفِرَةٍ [الرعد:6]، صاحب مغفرة على للناس عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]، إذ والله لو يؤاخذنا الله بظلمنا ما بقيت الحياة ولا يوماً واحداً، إذ ما على وجه الأرض من يظلم ولو مرة، فلو كان يؤاخذ الظالمين ما بقي أحد، ولكنه غفور رحيم، يعفو ويصفح، ويرجئ العذاب إلى ساعته، ولو بعد السنين وعشراتها، ولو إلى يوم القيامة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6]، يغفر ويرحم الناس، ولا يؤاخذهم بذنوبهم، إذ لو يؤاخذنا بذنوبنا ما عاش أحد، ولو أن كل من ارتكب جريمة وذنباً من الذنوب يهلك ما بقي أحد، ما بقي أبي حتى أكون أنا، ولا وجدت أمي؛ لأن أمها ما وجدت، ولكنه الغفور الرحيم، يرجئ العذاب إلى يوم القيامة، يرجئه إلى آجال محدودة، حتى يصدق على أهلها كلمة العذاب، فينزل العذاب.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، أي: عقابه الذي يعاقب به شديد ما هو بالسهل، ولا باللين، ولا بالهش، فهو عذاب شديد: استئصال، إبادة، وباء يصيبهم، غرق يعمهم، صواعق تنزل من السماء، أمة يسلط عليها أخرى تبيدها.
يقول المشركون في مكة: لولا أنزل على محمد آية كما أنزل على موسى عصا، فأصبحت العصا حيّة، وكما أنزل على النبي الفلاني كذا وكذا؟!
أين الآيات الدالة على أنه رسول الله؟
هلا أنزلت عليه آية من ربه؟
ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين؟ ائتنا بآية؟
حول لنا جبال مكة إلى ذهب وفضة! حول لنا هذا الوادي إلى بساتين! أحي لنا آباءنا وأمهاتنا يا من يدعي أنه رسول الله، وأننا كافرون!
قالوا أكثر من هذا الكلام، والآيات تشير إلى هذه الأحداث.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الرعد:7]، أي: يقول الذين غطوا وجحدوا وجود الله وجحدوا كتابه ورسوله، ولقاءه، إذ الكفر هو الجحود والتغطية، لَوْلا [الرعد:7]، أي: هلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7]، تثبت أنه رسول الله ونبيه إلينا.. أين هذه الآيات؟
ولو تفكروا وعقلوا لآيات القرآن أعظم من الآيات التي يريدونها؛ لأن الآية المادية تنتهي كتحويل الجبل إلى جبل ذهب وفضة وينتهي الأمر، وأعظم من هذا لمّا أوقف الله القمر وانشق شقين على جبل أبي قبيس وشاهدوه، وبعد ذلك لما عاد القمر كما كان قالوا: ما رأينا أو سحرنا فقط، كيف ينشق القمر؟ واقرءوا: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [القمر:1-3]، اتبعوا أهواءهم لا عقولهم.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7] ما قالوا من ربنا والعياذ بالله، بل مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7]، فهم لا يؤمنون بالله، ولو كانوا مؤمنين فإنهم سيقولون: من ربنا، بل قالوا: مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7].
وهؤلاء شاهدوا آية هي أعظم الآيات: نزول الكتاب من السماء، وتحداهم الله أن يأتوا بمثله فعجزوا، بعشر سور فعجزوا، بسورة واحدة فعجزوا، فأي آية أعظم من هذه دلالة على أن محمداً رسول الله ونبي الله، وإلا كيف يأتي بهذا الكلام؟!
إذاً: الآية تقرر أن كل أمة لها نبي ورسول، وأنت منهم نبي ورسول، تنذر قومك، ولست مسئولاً أبداً عن هدايتهم؛ لأنهم ما اهتدوا، ولا تعجب، ولا تحزن، ولا تكرب، فأنت وظيفتك أنك نذير تنذر المخالفين من العذاب، فإن أصروا وعاندوا فالعذاب سينزل بهم، وأنت منهم بريء، ولكل قوم من الأقوام هادٍ يهديهم إلينا، ويدعوهم إلى طريقنا، فإن أجابوا الدعوة، واستجابوا، وآمنوا، وعملوا الصالحات كملوا في الدنيا وسعدوا، وإن هم أنكروا وكذبوا هلكوا في الدنيا وفي الآخرة.
والبشرية كلها، والأطباء كلهم، السحرة والكهنة كلهم -والله- ما يستطيعون أن يعرفوا هل ما في بطن المرأة شقي أو سعيد، بر أو فاجر، مؤمن أو كافر في المستقبل، فهذا خاص بالله الذي يجب أن نؤمن به، وأن نحبه، الله الذي يجب أن نكبره ونجله، أن نعظمه، أن نفعل محابه ونترك مكارهه؛ لأنه القوي العظيم، الإله الأكبر الذي لا إله غيره ولا رب سواه، أما الأصنام والأحجار والتماثيل.. أما الشهوات والأهواء والأطماع فلا نؤلهها ولا نعبدها، فهذا باطل باطل باطل!
هذا القرآن عجب! الله وحده يعلم ما تحمل كل أنثى من بقرة، أو معزة، أو أرنب، أو حية من الحيات، أو مرأة من المؤمنات، كل أنثى يعرف الله ما في بطنها، ومصير هذا الذي في بطنها، هل يموت؟ يهلك؟ يشقى؟ يسعد؟ يبر؟ يفجر؟ يعلمه على أي حال، لأنه كتب هذا في كتاب المقادير عنده قبل أن يخلق أمه وبطنها. آمنا بالله.
وضربت لكم المثل، وقلت لكم: إن معمارياً يجلس على كرسيه وطاولته بين يديه ورقة بيضاء أمامه، والقلم في يده، ويقال له: ارسم لنا عمارة أو حديقة أو قرية؛ فيأخذ القلم ويرسم عمارة مكونة من عشرين طابقاً، أبوابها كذا، أنوارها كذا، سلالمها كذا، على الورقة، ويعطيها لأهل القدرة فيمثلونها في الحياة كما هي ماثلة في الورقة، هذا موجود، والله -ولله المثلى الأعلى- قبل أن يخلق أي شيء خلق القلم وقال: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا هو الركن السادس من أركان الإيمان الستة: الإيمان بالقضاء والقدر.
ليس هناك شيء جديد ما علمه الله أو ما يدري به، أو يخلق ويوجد بدون إرادة الله، مستحيل، فلهذا المؤمنون إذا ذكر الله وجلت قلوبهم؛ لعظمته في قلوبهم ومعرفتهم له.
إذا ذكرت المؤمن فقلت: يا عبد الله! اتق الله؛ يبكي، ويسقط من يده ما كان فيها ، والذين لا إيمان لهم لا بالله ولا بلقائه.. لا بقضائه ولا بقدره، كالحجارة صم، بكم، عمي لا يعقلون، شأنهم شأن الحيوانات، والحيوانات أفضل.
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ [الرعد:8] أي: عند الله بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] مقدر؛ محدد: كمية، ووقتاً، وصفة، وزماناً، ومكاناً.
الله عالم الغيب، وعالم الشهادة، وهذه صفة من صفات الرب لا توجد في كائن من الكائنات، مستحيل، فالمخلوق علمه محدود، يسمع الصوت على مدى محدود، يبصر على مدى محدود، وبعد ذلك لا يبصر، كذلك عقلك محدود في مجال معين، لا تستطيع أن تعقل أكثر من ذلك، وحياتك محدودة بالدقيقة، باللحظة الواحدة، لن تستطيع أن تزيد دقيقة في عمرك أبداً، ولو اجتمعت البشرية كلها على أن يزيدوا يوماً واحداً بل نصف ساعة في حياة امرئ -والله- ما استطاعوا، ولا قدروا على ذلك.
تأمل! لما تقول: لا إله إلا الله، ما هذا الخبر؟ إنك تخبر أنه لا يوجد إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله، فهل يستطيع البشر أن ينقضوها؟ هل يستطيعون أن يقولوا: عيسى يستحق العبادة؟ أو عبد القادر يستحق العبادة؟ أو مريم أو فاطمة البتول، والله لا يستطيعون أن ينقضوها أبداً إذا كانوا يعقلون أو يفكرون، فلا معبود بحق إلا الله، إذ المعبود بحق هو الله الذي خلق الموت والحياة.. خلق السماوات والأرضين.. خلق الكون كله، مدبر الحياة بكاملها، يميت ويحيي، يعطي ويمنع، فلا إله إلا هو الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9] فلا أكبر من الله أبداً.
الشمس أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، فمن كوكب هذا الكوكب؟
من حشاه وملأه بالنار الملتهبة؟
من أوجد له فلكه الذي يدور فيه طول العام، وطول الدهر؟
إنه الله الكبير المتعال، لا أكبر منه، فهو العلي العظيم، كل الكون وكل الخلائق دونه، وهو فوقها، العظيم، الجبار، الكبير، المتعال سبحانه.
إليكم مرة ثانية تلاوة الآيات وتأملوا، يقول الله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد:5]
ما معنى يستعجلونك يا رسول الله؟ يقولون: هات العذاب قبل أن تأتينا بالرحمة؛ تحدياً له حتى يؤمنوا به كما يزعمون وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ [الرعد:6] أي: العقوبات الشديدة، وسمعوا ما حل بقوم عاد، وثمود، وفرعون ومن إلى ذلك من الأمم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ [الرعد:6] هذه أرجى آية في كتاب الله ، إذ علمنا والله! لو كان الله يؤاخذ كل من ظلم ويبيده ويهلكه لما بقي على الأرض أحد، وما يبقى على الوجود أحد، ولكنه عز وجل ذو مغفرة للناس على ظلمهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6] إذا عاقب وأخذ بالذنب، والعقوبة شديدة في الدنيا والآخرة.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد:7] الكافرون في مكة يقولون: لماذا لا يعطيه الله آية كما أعطى موسى أو عيسى، لم لا يحول لنا الجبال إلى كذا وكذا؟ يريدون آية. إذاً: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ [الرعد:7] هذه وظيفتك، فليست وظيفتك أن تأتي بالعذاب أو النعيم، وإنما النذارة، أنذر قومك وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] كل قوم بعث الله فيهم هادياً وداعياً يدعوهم إلى الهدى مثلك.
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد:8] من الإنس والجن والحيوان، فهو يعلم ما في بطنها من ذكر أو أنثى، من أبيض أو سواد، من صحة أو مرض، من شقاء أو سعادة، وهذا خاص بالله، الذي يُحب ويُخاف، والذي يُؤمن به يعلم: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ [الرعد:8] فهذا علم خاص به وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8] بنظام تام، مؤقت، محدد، الكمية، والوصف والزمان، والمكان عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9].
لو أننا نتدبر القرآن هكذا كيف سنصبح؟
نصبح علماء ربانيين، ولكن الأعداء حرمونا من هذا، فلا نجتمع على كتاب الله أبداً اللهم إلا ليلة الموت يجتمعون في دار الميت ليقرءوا القرآن على الميت ليدخل الجنة.
من فعل بنا هذا؟ إنه الثالوث الأسود: المجوس، اليهود، النصارى.
لماذا سميناهم ثالوثاً؟ لأنهم ثلاث حيات، أرادوا خنق الإسلام، وإطفاء نور الله في الأرض، ونظروا ببصيرة كيف حييت هذه الأمة عرباً وعجماً بعدما كانوا مثلنا كفاراً؟ كيف أصبحوا مؤمنين أتقياء بررة صالحين؟
قالوا: السر -بعد البحث الدقيق- في القرآن الكريم، فالقرآن هو الذي أحيا هذه الأمة، فسادت، وعزت وكملت.
قالوا: إذاً: ماذا نصنع؟ كيف نبعدهم عن القرآن؟ قالوا: مستحيل، فهم يحفظونه في صدروهم، وفي سطورهم.
قالوا: كيف يمكن أن نبعدهم عن القرآن حتى يموتوا فنركب ظهورهم ونذبحهم؟
قال لهم الشيطان: الأمر سهل، حرموا عليهم دراسة القرآن، قولوا: تفسير القرآن صوابه خطأ، وخطؤه كفر، والعياذ بالله، واحملوهم على أن يقرءوه على الموتى. هذه المهمة.
انظر إلى الكتاتيب فيها أطفالنا الصغار، اسألهم: لم تحفظون القرآن؟ ليقرءوه على الموتى، هذه هي المهمة. من إندونيسيا إلى موريتانيا إلى الآن القرآن يقرأ على الموتى إما ثلاث ليال أو سبع ليال حسب غنى الميت وفقره.
ماذا يستفيد الثالوث من إبعادنا عن القرآن؟
الجواب: علموا أن القرآن الكريم روح، وهل هناك حياة بلا روح؟ هل توجد حياة بدون روح؟
الجواب: لا، فهذه الروح القرآنية يقول تعالى فيها: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52] فالقرآن روح لا حياة بدونه، والقرآن نور لا هداية بدونه، والله لن تهتدي إلى ما يسعدك ويكملك إذا لم تأخذ بنور القرآن؛ إذ فيه بيان الحلال والحرام.. فيه العقيدة السليمة الصحيحة، والعقيدة الفاسدة.. فيه أنواع السلوك على اختلافها: آداب، وأخلاق، وكمالات، فأغلقوا الباب في وجوهنا، وما زلنا نمد أعناقنا، ونسمع لهم.
قال: من هداية الآيات: أولاً: تقرير الوحي الإلهي ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ] إثبات الوحي والنبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقوله: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد:5] هذا خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم.
[ ثانياً: تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله ] أي: لا يعبد إلا الله، فلا نبي مرسل، ولا ملك مقرب، ولا عبد صالح مهما كان لا يعبد بعبادة الله، إذ العبادة خاصة بالله.
عرفتم هذه، فكيف تجيزون لإخوانكم أن يقولوا: يا رسول الله! أعطنا كذا، يا سيدي فلان مد يديك لنا، ويسوقون قطعان البقر والغنم ويذبحونها للأموات يدعونهم؟! أليس هذا هو الشرك بالله؟ والله لهو الشرك بالله، وما نجا من هذا إلا من نجاه الله عز وجل.
والعلة في ذلك: إبعادنا عن القرآن الكريم، نقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وإذا وقعت السبحة من يدي أحدنا قال: يا رسول الله!!
[ ثالثاً: تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا ] هذه الآيات قررت هذه الحقيقة: وهي تقرير البعث الآخر -أي: الحياة الثانية- والجزاء على العمل والكسب.
إذاً: تقرير أصول العقيدة ثلاثة: التوحيد، والنبوة، والبعث والجزاء، كما قدمنا. صوارف الإيمان التي هي كالأغلال هي: التقليد الأعمى، والكبر، والعناد، وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [الرعد:5] فسرناها بتفسيرين أغلال في الدنيا تمنعهم من الإيمان وهي: الكبر، والعناد، والحسد، فلا يدخلون الإسلام لكبريائهم، ويوم القيامة توضع الأغلال في أعناقهم، ويقادون إلى جهنم.
[ رابعاً: عظيم قدرة الله تعالى وسعة علمه ] عظيم قدرته وسعة علمه، إذ العلم أحاط بكل شيء حتى ما في الأرحام، وما إلى ذلك.
[ خامساً: تقرير عقيدة القضاء والقدر ] آمنا بالله، آمنا بالله.
والله تعالى نسأل أن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، وأن يجمعنا في دار الكرامة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر