أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده )، حقق اللهم رجاءنا، إنك ولينا ولا ولي لنا سواك. آمين.
وها نحن مع سورة النحل، ومع هذه الآيات المباركات الكريمات:
قال تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل:26-29].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا كلام الله نسمعه، والله إنه لكلامه عز وجل، هذا كتابه، وهذا رسوله الذي أنزله عليه، وما أنزل هذا الكتاب أبداً إلا لإصلاح البشرية وإسعادها، والله العظيم ما أنزل كتابه، ولا بعث رسوله لحاجته إلى ذلك أبداً، وإنما من أجل أن يصلح البشرية، وأن يهيئها للكمال والسعادة في الدارين، فمن آمن واستجاب لنداء الله وعبد الله فزكى نفسه وطيبها وطهرها رفعه إلى الملكوت الأعلى فوق السماء السابعة؛ ليعيش في ذلك العالم القدسي الطاهر، ومن انتكس واستكبر وهوى يجري وراء الشهوات والأهواء، ومات والنفس خبيثة منتنة عفنة كأنفس الشياطين نزل به إلى سجين في أسفل سافلين ليخلد أبداً في عذاب الله لا يفارقه أبداً، هذا قضاء الله، هذا حكم الله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10].
مما روي أن بختنصر عدو إبراهيم الخليل، والذي حكم بإعدامه وإلقائه في النار، صنع لنفسه شبه الفلك، وركبه ووضع له حبالاً تتماسك معه ورفعها إلى الأعلى، وجعل فوقه لحمًا مدلى في رمح أو كذا، وربى مجموعة من النسور التي لا تعيش إلا على اللحم وربطها معه بحيث تنظر إلى اللحم فتطير، وأخذت النسور كلما شاهدت اللحم تطير بأجنحتها وهي ترفع تلك السفينة المصنوعة له من خشب؛ ليحارب أهل السماء، وليتحدى إبراهيم، ولما انتهت إلى مستوى انقلبت وتحطمت وهلك من فيها.
و النمرود بن كنعان بأرض بابل صنع قصراً طوله ثلاثون كيلو متر وعرضه نحو ذلك، يريد أن يصعد إلى السماء ليحارب أهل السماء.
وفرعون قال لـهامان : يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً [غافر:36-37].
هؤلاء تمردوا على الله ومكروا فردوا دعوة رسل الله وحاربوهم، وأرادوا أن يحاربوا الله جل جلاله، وذلك لمسخ عقولهم وفساد فهومهم وأفكارهم، فماذا فعل الله بهم؟
هو ما أخبر تعالى بقوله: َأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:26]، فليذكر هذا أهل مكة ليتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه، وليذكر هذا كل إنسان ليقلع عن الكفر والشرك ويعود إلى التوحيد والإيمان لينجو ويسعد في الدنيا والآخرة؛ إذ أن هذا الكتاب كتاب هداية للبشرية كلها، ومن حاول أن يتكبر ويتجبر ويتعالى ويهين أولياء الله ويدوسهم بنعله، ويحارب دعوتهم؛ فلا بد أن تنزل به نقمة الله، يأتيه الله بالعذاب الملائم له.
قال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل:27]، هاتوهم، فهل يقول عبدة عيسى: هذا عيسى؟ والله ما يقولون، وعبدة مريم كذلك، وعبدة عزير، وعبدة الأولياء والقبور والصالحين، من يجرؤ ويقول: هذا هو الشريك؟
قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [النحل:27] من هم الذين أوتوا العلم؟ الملائكة والأنبياء وأولياء الله العلماء العارفون بربهم، ماذا يقولون؟ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ [النحل:27]، الذين كفروا بربهم، جحدوا ألوهيته وربوبيته، وأقبلوا على عبادة الشياطين، تزين لهم الأهواء والشهوات، فعبدوا غير الله عز وجل، وحاربوا المؤمنين الداعين إلى ربهم، حاربوا أولياء الله وأنبياءه، وشاقوهم مشاقة عجباً، بل قتلوهم، بل حرقوهم وفعلوا بهم الأعاجيب: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7]، يحرقونهم بالنار؛ لأنهم خالفوا الكافر، ما آمنوا بالباطل، ما آمنوا بالشرك، قالوا لهم: تدخلون في ديننا وتعبدون معنا آلهتنا وإلا أدخلناكم النار. فحفروا أخاديد وملئوها بالحطب وأوقدوا النار فيها، فكانوا يأتون المؤمن فيقولون: تكون معنا تقول بما نقول أم لا؟ فإن قال: لا إله إلا الله قذفوه في النار.
وذكر لنا الحبيب صلى الله عليه وسلم: أن امرأة من هؤلاء تحمل طفلها ترضعه بثديها لما وقفت أمام الأخدود أرادت أن تلقي بنفسها، ثم ذكرت طفلها فبكت وتراجعت، كيف ترمي بنفسها وطفلها في النار؟ فأنطق الله الطفل وقال: أماه لا تخافي.
فهذه المشاقة، وهي والله قائمة، فأهل الكفر، أهل الشرك، العلمانيون، البلاشفة الحمر، الاشتراكيون، الماديون، الفلاسفة الكافرون، كلهم ضد الإسلام يحاربونه، ما يريدونه أن ترتفع له راية ولا أن يسود في الأرض، لماذا يشاقون المسلمين؟ ما حملهم على هذا؟ ماذا طلب الإسلام منهم سوى أن يطهروا ويصفوا ويكملوا في آدابهم وأخلاقهم ويتراحموا ويتعاونوا حتى تنتهي هذه الحياة، أبوا وأصروا على الكفر والحرب والعناد، وصدق الله العظيم: الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ [النحل:27]، يشاقون الله عز وجل.
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [النحل:28]، اطرحوا معلنين عن خزيهم وذلهم ومهانتهم: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل:28].
أولاً: المؤمنين الذين كانوا في مكة ودخلوا في الإسلام، ولما شاهدوا قوة الكفر وعظمة سلطانه رجعوا وانتكسوا وعادوا إلى الشرك، وتشمل أيضاً المؤمنين الذين كانوا في مكة وفرض الله عليهم الهجرة بأن يخرجوا من ديارهم إلى المدينة، فعز عليهم أن يتركوا مناصبهم وأموالهم، وأبوا أن يهاجروا وماتوا على الكفر والشرك والعياذ بالله، ومنهم من جاء إلى بدر يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء ينتظمهم هذا اللفظ ويشملهم، ويشمل أيضاً الذين يوجدون في بلد يمنعون فيه من عبادة الله، وثم يرضون بالبقاء على الشرك والكفر والفسق والعصيان ولا يهاجرون من تلك البلاد، والآية الكريمة التي تبين هذا من سورة النساء هي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، هذا السؤال: فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، ما هذه الأوساخ؟ ما هذا النتن؟ فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، في المراحيض، في المزابل؟ فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، قومنا منعونا أن نصلي أو نعبد الله، أو نأكل الحلال ونترك الحرام، قومنا فرضوا علينا أن نكشف وجوه نسائنا، وأن نفعل ونفعل، فماذا نصنع؟ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97].
صارت نفوسهم منتنة عفنة، صبوا عليها أوزاراً وذنوباً وآثاماً، ولذا قالوا: فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، ما قالوا: أين كنتم؟ فيقولون: كنا بمكة أو في باريس، لكن فِيمَ [النساء:97]، تدل على أنهم ملطخون عفنون لا ينظر إليهم.
قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، الحكومة ورجال البلاد ما سمحوا لنا أن نصلي ولا نصوم ولا نعبد الله: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، هذا عذر في الظاهر ما هو بمقبول، فإن كنتم مستضعفين فاهربوا.. اخرجوا بالليل والنهار كما كان المؤمنون يخرجون من مكة، لقد مكثت أم سلمة سنة كاملة وهي تخرج إلى ديار مكة ثم تعود، ما سمحوا لها أن تعود إلى مكة، ثم يسر الله وخرجت، فالذين يعيشون في بلاد بيضاء أو سوداء لا يستطيعون أن يعبدوا الله فيها يجب أن يهاجروا، يجب أن يخرجوا منها، والذين وجدوا دار أمن يعبدون الله ولا يخافون أحداً وإن كانت دار كفر كدار أصحمة الحبشي ؛ فلا بأس بذلك، كانت بلاد كفر مسيحية محضة وملكهم صليبي، وهاجر إليها مؤمنون من مكة، من بلد الله؛ لأنهم ما أطاقوا الكفر ولا استطاعوا أن يدفعوا عن أنفسهم، أذن لهم الحبيب صلى الله عليه وسلم أن يهاجروا إلى الحبشة، إذ فيها ملك صالح، ونزلوها وعبدوا الله عز وجل بين يدي الكافرين.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، رد عليهم الملائكة -ملك الموت وأعوانه الذين يقبضون أرواحهم- فقالوا لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]؟ ماذا يقولون: أرض الله ضيقة؟
وقد قلت غير ما مرة للمستمعين والمستمعات: إن كنت في عمارة تسكنها وما استطعت أن تتقي الله فيها فيجب أن تخرج من هذه العمارة وتستبرئها، كنت في قرية من القرى ما تمكنت من أن تعبد الله فيها يجب أن ترحل من هذه القرية إلى أخرى في نفس الإقليم وفي نفس البلاد، كنت في وظيفة فما استطعت أن تعبد الله بها يجب أن تتركها وتطلب عملاً آخر ولو سقاية ماء، لا يحل لمؤمن ولا مؤمنة وهو قادر على الهجرة أن يقيم في أرض لا يمكنه أن يعبد الله تعالى فيها أبداً.
واسمعوا ماذا تقول الملائكة ملك الموت وأعوانه، قال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النحل:28] حال كونهم ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [النحل:28] واستسلموا وقالوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل:28].
فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:28]، أي: من الظلم والفسق والفجور والشرك وترك عبادة الله.. وما إلى ذلك.
ليست أبوابًا مفتحة، دركة بعد دركة، واحدة تحت الثانية، دركات، طبقة فوق طبقة فوق طبقة.
ثم قال تعالى -واسمعوا كلمة ربكم- : فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل:29]، ما أقبح وأسوأ مقامًا ينزله المتكبرون، من هم المتكبرون؟ الذين ما سجدوا لله ولا ركعوا بين يديه، ولا استجابوا لندائه، ولا قبلوا أمراً من أوامره ولا نهيًا من نواهيه، وأعرضوا عنه وشاقوه وعبدوا غيره، وماتوا على هذا الظلم والشر والفساد، فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل:29]، أي مثوى أقبح من جهنم؟ تأمل قول الله تعالى، ماذا نعرف عن جهنم؟ تأمل قول الله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، لماذا هذا؟ لأنه كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37].
وقوله: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان:48-50].
وقوله: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22].
إن البشرية مقبلة على عالم ما هو ببعيد أبداً، فقط عندما يأتي المرض بسرطان أو جرح أو إصابة تتجلى هذه الحقائق كلها وتنكشف لنا ونشاهدها.
إذاً: هيا نطلب العلم فإن الله قد قال: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [النحل:27]، من أعطاهم العلم يرحمكم الله؟ الله، وهل أتاهم العلم وهم نائمون؟ لا، بل زحفوا ومشوا على ركبهم وأيديهم ووصلوا إلى مجالس العلم وأنبياء الله وتعلموا العلم، فهذه فضيلة لأهل العلم في أشد موقف هم الذين يفصلون في القضية.
قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ [النحل:27]، من هم الكافرون؟ أصحاب البرانيط، الذين لا يقولون: لا إله إلا الله، الذين لا يصومون ولا يصلون، الذين لا يعترفون بشرع الله ولا قوانينه التي في كتابه أبداً، هؤلاء هم الكافرون، جحدوا ربهم، جحدوا دينه، جحدوا أنبياءه ورسوله؛ لأن الكفر: التغطية والجحود. ماذا قالوا؟ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ [النحل:27] من هم؟ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97] في سورة النساء، وهنا ماذا قال الذين أوتوا العلم؟
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [النحل:28-29]، المتكبر يقول: كيف نسجد على الأرض؟ ما يسجد على الأرض، متكبر كيف يصوم ويترك طعامه وشرابه وشهوته، متكبر يقول: كيف نطبق الشريعة المحمدية وتقطع يد السارق ويرجم الزاني؟ لن يكون هذا بيننا وعندنا.. هذا والله التكبر.
أولاً: سوء عاقبة المكر وأنه يحيط بأهله لا محالة، والمراد به المكر السيئ ]، أما المكر الحسن فلا بأس به.
[ ثانياً: بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: فضل أهل العلم؛ إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار ]، قالوا: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ [النحل:27] هذه الشماتة.
[ رابعاً: بيان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم ] مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل:28].
[ خامساً: تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمثله ]، وهذا يعود بنا إلى ما سبق أن علمتم: أن السور المكية تعالج العقيدة، أعظم أركانها: التوحيد والنبوة والبعث الآخر؛ لأن من كفر بالله لا خير فيه، من كذب الرسول فمستحيل أن يعبد الله، من كذب بالبعث الآخر لا يستقيم أبداً، ما دام لا يؤمن بأنه يحاسب ويجزى بعمله فلن يعمل، ولهذا دائماً يقول تعالى: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:232].
معاشر المستمعين! أرأيتم كيف تدارسنا كتاب الله؟ يجب أن يتدارسه المسلمون هكذا طول الحياة، في مدنهم وقراهم طول العالم، لم يحرموننا من كتاب الله، لم يحولونه إلى الموتى؟ يا للعار، يا للخزي والدمار، القرآن يقرأ على الأحياء ليسودوا ويعزوا، فصرنا نقرؤه على الموتى لنهون ونذل، يا للعجب! اللهم اغفر لنا ولهم، وارحمنا وإياهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر