أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله، راجين أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة الآيات مجودة مرتلة، ثم نتدارسها، والله نسأل أن يفتح علينا، وأن يعلمنا وينفعنا بما يعلمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم:6-9].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذا الكلام الذي سمعتم كلام من؟ كلام الله. إذاً: الله موجود، وهل يعقل وجود كلام بدون متكلم؟ مستحيل! فهذا الكلام الذي سمعتم كلام علم وهداية، فهل يقوله غير الله عز وجل؟ والجواب: لا، فها نحن الآن كأننا بين يدي الله، نتدارس كلامه من أجل هدايتنا، من أجل إصلاح قلوبنا، من أجل إعدادنا لأنفسنا لنسعد في الدنيا والآخرة.
قول ربنا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى [إبراهيم:6]، أي: اذكر يا رسولنا، يا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، اذكر لقومك العرب المشركين الذين كانوا بمكة، إذ لا يمكن أن يقول هذا الكلام غير رسول، فهذه تقرر أن محمداً رسول الله، وإلا فكيف يعلم هذا العلم ويقوله؟!
فموسى تلقى كلام الله في جبل الطور، تجلى له ربه جل وعز، وكلمه وأسمعه كلامه، فقال: يا رب! أكلامك أسمع أم كلام غيرك، قال: بل كلامي يا موسى!
وخاتم الأنبياء وسيدهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كلمه الله وجهاً لوجه مكاشفة في الملكوت الأعلى فوق السماوات السبع، ومن عداهما ما كلمه الله كلاماً يسمعه، بل لا بد من واسطة، جبريل أو غيره.
أولاده الذين تفرقوا اثنا عشر ولداً، على رأسهم يوسف، من ثم كان الأسباط، ومن ثم كانوا أمة كبيرة، إذاً: هؤلاء هم بنو إسرائيل يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
ماذا قال لهم؟ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6] لتشكروه، اذكروا ما أنعم الله به عليكم إذ كنتم أذلاء مهانين مستعبدين ينكل بكم وتعذبون، يذبح أبناؤكم وأنتم تنظرون، ثم أنقذكم الله وأبعدكم من هذا البلاء، اذكروا هذا من أجل أن تقولوا: الحمد لله، وتطيعوا الله فيما يأمركم وينهاكم؛ لهذه الإنعامات والإفضالات الإلهية.
هيا نقول لإخواننا المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا: اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم مستعبدين لبريطانيا، مسخرين لإيطاليا، مستعمرين لفرنسا، لبلجيكا وكذا وكذا، اذكروا نعمة الله عليكم، قولوا: الحمد لله الذي نجانا، أنقذنا، حررنا، واعبدوه كما أمركم أن تعبدوه، ذلكم هو الشكر، ليس مجرد قول باللسان، إذا اعترفت لي بنعمة عليك يجب أن تحبني أولاً، وأن تؤثرني على نفسك ثانياً، وأن تطيعني فيما أقول لك وآمرك وأنهاك.
ما أحوج أمة الإسلام اليوم إلى أن تقول هذه الآية الكريمة: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [إبراهيم:6]، وآل فرعون: رجالاته وعظماء دولته وكبراؤهم.
إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [إبراهيم:6] أسوأ العذاب، يعذبونهم بأبشع أنواع التعذيب.
وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ [إبراهيم:6]، وقد عرفتم سر الذبح ما هو، قال بعض الكهنة وبعض رجال السياسة لفرعون: نخشى أن يزول ملكك وتسقط دولتك على أيدي هذا الشعب؛ لأن لهم أصلاً ولهم مجد ولهم شرف، فيوسف كان يحكم هذه البلاد، فهم يتطلعون إلى أن يحكموا، إذاً: حاول أن تتخلص من هذه الفتنة، قال: فماذا نصنع؟ قالوا: نذبح الأطفال، ونستحيي النساء، نتركهن أحياء للخدمة والعمل، وأما الذكور فنذبحهم، إذا حملت امرأة تسجل في البلدية أنها حبلى، وأن ميعادها يوم كذا، فإذا دخل شهر الولاده يتردد عليها الرجال المختصون بهذا، ما إن تضع الجنين حتى ينظروا: فإن وجدوه ذكراً دفنوه في الأرض، أو ذبحوه.
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ [إبراهيم:6] أي: يتركونهن أحياء، وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [إبراهيم:6]، والبلاء يكون بالخير، ويكون بالشر، وهما بلاءان: البلاء الأول هو الذي كانوا فيه، والبلاء الثاني حين أنجاهم وأنعم عليهم بالمن والرضا وحررهم وأعتقهم من الاستعمار الفرعوني.
وَإِذْ تَأَذَّنَ [إبراهيم:7] أذن يؤذن: إذا أعلم بصوته، فالله أسمع موسى كلامه وأعلمه به، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] بأي شيء أعلم؟ قال: وعزتي وجلالي لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]
هذا إعلان الله وهو عام للبشرية كلها إلى يوم القيامة، من شكر الله زاده في الإنعام، ومن كفره انتقم منه، وسلبه تلك النعمة، وسلط عليه شقاء، وعذبه عذاب الدنيا والأخرى.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] قائلاً: وعزتي وجلالي لئن شكرتم نعمي عليكم لأزيدنكم.
الشكر يكون أولاً: بالاعتراف في القلب لمن أنعم، فمثلاً اذكر نعمة بصرك، من أعطاك بصرك؟ اذكر نعمة عقلك، من وهبك عقلك؟ اذكر نعمة يدك، من جعلها تتحرك؟ اذكر نعمة وجودك، من أوجدك؟
إذاً: فلا بد من الاعتراف أولاً بالقلب، ثم ترجمة ذلك الاعتراف باللسان، بكلمة: الحمد لله والشكر لله.
ولهذا علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا إذا لبسنا، إذا أكلنا، إذا شربنا، إذا ركبنا نحمد الله عز وجل، ما إن تفرغ من طعامك حتى تقول: الحمد لله، ما إن تبدأ به حتى تقول: باسم الله، إذ لولاه ما أكلت، فأنت باسم الله تأكل، وباسم الله تشرب، وباسم الله تركب، حتى السيارة والدابة تركبها فتقول: باسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وعند لبس الثوب تقول: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ولو شاء لأعراني.
الشكر باللسان يكون: بكلمتي (الحمد لله والشكر لله)، وهما تدلان على اعترافك بقلبك بأنه منعم عليك، وأن كل ما بين يديك من نعمة، فأنت تقول: الحمد لله الذي أنعم علينا.
ثالثاً: أن تصرف النعمة فيما من أجله أعطاكها الله، أي: فيما من أجله أنعم الله بها عليك، وقد سئل بعض الصالحين عن الشكر، فقال: ألا تتقوى بنعمة الله على معصيته.
لقد وهبك الله سمعك، فالسمع نعمة أم لا؟ ما تقولون في الأصم الذي لا يسمع؟ أترغبون في هذا؟ فنعمة السمع يجب أن تحمد الله عليها بلسانك بعد أن تعترف بها في قلبك لله عز وجل، وتترجم ذلك المعنى بكلمتي: الحمد لله والشكر لله، ثم لا تسمع إلا ما يرضي ربك.
ومن هنا فإنه لا يحل أبداً أن نسمع صوت من يغتاب المسلمين أو يعيبهم أو يسخر منهم أو يستهزئ بهم؛ لأنهم أولياء الله، فكيف تسمع إلى من يسخر بأولياء الله أو يستهزئ بهم؟ لا يحل أن نسمع أبداً صوتاً حرمه الله، كأصوات الأجنبيات غير المحارم من النساء، لا يحل أبداً أن تصغي وتسمع إلى مغنية تغني أو عاهرة من العواهر، هذا الصوت محرم أن تسمعه.
ونعمة البصر كنعمة السمع كذلك، فبم يكون شكرها؟ يكون بأن تنظر بها حيث يريدك الله أن تنظر، كما قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [يونس:101]
انظر إلى الكون علويه وسفليه لتستدل بذلك على عظمة الله وقدرته ووجوب ألوهيته على عباده، فانظر حيث تنتفع بالنظر في السماء أو في الأرض، أو في طريقك، أو إلى من ناداك أو دعاك لتقضي حاجته، أما أن تنظر إلى ما نهاك الله عن النظر إليه فقد عصيته وكفرت النعمة وما شكرت الله عليها.
فلهذا غض بصرك عن أية امرأة من النساء اللائي ما زلن صغيرات، اللهم إلا العجائز، فقد أذن الله لهن أن يخرجن كاشفات الوجوه، والنظر إليهن لا يضر، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30].
ونعمة اللسان أيضاً يجب أن تذكر بها الرحمن، وتحمده وتمجده، وتأمر بها بمعروف أو تنهى بها عن منكر، وتقضي بها حاجتك: أي تقول: ولدي! أعطني مالاً، أو يا أماه كذا، أما أن تقول بها فجوراً أو تنطق بها كفراً، أو تقول بها الباطل والسوء، فهذا كفر لهذه النعمة التي أنعم الله بها عليك، ولو كان الله يؤآخذنا بالذنب لكنا قد انقطعت ألسنتنا وعميت أبصارنا وصمت أسماعنا، ولكنه رحمن رحيم.
يا إخواننا المسلمين من الشرق إلى الغرب! اذكروا نعمة الاستقلال عن الشرق والغرب والتحرر منهما، وكيف أصبح الحكم لكم والسلطة بين أيديكم، اذكروا هذه النعمة بقلوبكم، واشكروا الله عليها بطاعته، فما أمركم بفعله فافعلوه، وما نهاكم عن فعله فاتركوه، أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، تقيدوا بحدود الله، تزودوا مما يرضاه الله، كونوا حقاً أولياء الله، وإلا فمن المتوقع أن يصاب المسلمون بفتنة عمياء لا يقدر قدرها ولا يعرف منتهاها إلا الله، إما بحرب كاملة أو بأن يسلط الله عليهم عدواً كافراً يهينهم ويذلهم ويسلب حريتهم كما فعل في الأول؛ لأنهم ما شكروا، والله ما شكروا، أعرضوا عن كتاب الله، سخروا من سنة رسول الله، ما طبقوا شرع الله، طبقوا القوانين الوضعية التي وضعها اليهود والنصارى أعداء الله، كأنهم ليسوا بأهل الكتاب، ليسوا بأهل القرآن، ليسوا بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ليعلم المسلمون والكافرون أن لله شرعاً وقانوناً ونظاماً إذا طبق بصدق وإخلاص وإيمان فلا بد أن يتحقق شيئان: الطهر والصفاء، الطهر والأمن، وهذا فعله الله قبل الاستقلال بسنين، ثم بدأت الاستقلالات، فاستقلت سوريا. فأقول -وإني لعلى علم بما أقول، وإن كره الكافرون هذا، ولا قيمة لكراهيتهم-: والله الذي لا إله غيره كان الواجب الشرعي الرباني الديني حين يستقل الإقليم، أن يأتي وفد منهم، ويقولون: يا عبد العزيز! قد استقل هذا الإقليم فضمه إلى المملكة، والإقليم الثاني كذلك، والثالث والرابع، أيضاً فتتم الاستقلالات وأمة الإسلام دولة واحدة وأمة واحدة، أقسم بالله لقد كان الواجب هذا.
فما دام قد جاء الله جل جلاله وعظم سلطانه بإمام للمسلمين وتحقق على يده الطهر والأمن فإنه يجب أن تنظم إليه كل الجماعات الإسلامية، ولكن عموا وصموا وما سألوا، وقد كان المفروض أنه إذا استقل الإقليم من عرب أو عجم أن يقولوا: يا عبد العزيز أو يا خالد! هذا الإقليم استقل الآن، فماذا نصنع؟ فينصب عليه والياً هناك، ويبعث رجال الحكم ورجال الشرع يقنون شرع الله ويطبقونه، فهذا لم يرض به أباؤكم ولا إخوانكم.
وماذا نريد من الله إذاً؟ نريد أن يسعدنا ويملأ قلوبنا بنور الهداية ونحن معرضون مستكبرون؟ كأن هذه الآية ما قرئت: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
والآن يا معشر السعوديين، يا من يسمعون ويبلغهم الخطاب! يجب أن تشكروا هذه النعمة، فإن أبيتم فوالله لتسلبن وتتحول البلاد إلى الخبث والشر والفساد، هذا قانون الله عز وجل، وسنته التي لا تتبدل كما قال: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ [إبراهيم:8] يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [إبراهيم:8] أبيضهم وأسودهم فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]، غني عن خلقه، حميد بأفعاله، محمود في الأرض والسماء، ليس في حاجة إلى إيمانكم وإسلامكم، حتى لا تقولوا: الله مفتقر إلى الإسلام وإلى الإيمان حتى يسلم الناس ويعبدوه، والله ما هو في حاجة إلى هذا.
كل ما في الأمر -كما علمتم- أنه أوجد عالمين: عالماً للسعادة، وعالماً للشقاء، أي: الجنة والنار، عالم علوي وعالم سفلي، ثم أوجد الدارين وأوجد لهما من يسكنهما، ثم ربط سكن الجنة بطهارة الروح وزكاة النفس، وربط سكنى النار بالشرك والخبث في النفس، ثم وضع أدوات التزكية وحددها وبين كمياتها ومقاديرها وأوقاتها التي تزكي النفس، وبين كذلك مدسيات النفس ومخبثاتها وحددها وبينها، وأعطاكم الحرية: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فمن آمنوا وزكوا أنفسهم بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وطابت أرواحهم، فوالله ما إن تخرج نفس أحدهم حتى تلتحق بالملكوت الأعلى، أقسم بالله، وإن كان ما زال ساخناً لم يرد بعد، وأما من كانت نفسه خبيثة، فإلى الدركات السفلى والعياذ بالله.
إذاً: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8] ما هو في حاجة إليكم، قد يقولون: إيش هذا الإسلام؟ كيف نعبد؟ كيف نصلي؟ يقولون الآن بألسنتهم: كيف.. كيف.. كيف! وهل الله محتاج لكم أو لعبادتكم؟ إنه الغني الحميد.
إذاً: ماذا كان الجواب؟ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ [إبراهيم:9].
قال تعالى: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، فسخروا واستهزءوا: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:11-14]، في ثلاثة أيام فقط كما قال: فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65]، في اليوم الأول وجدوا أنفسهم لا يستطيعون المشي فجلسوا على ركبهم، ووجوههم حمراء، وفي يوم الخميس كانت مصفرة، ثم صارت مسودة، وفي صباح السبت أخذتهم صيحة واحدة فخرجت قلوبهم، وماتوا عن آخرهم.
ما سبب هذا؟ الكفر بشرع الله وبأن يعبد وحده ولا يعبد سواه، ولا تعبد شهوة ولا دنيا ولا صنم ولا قبر ولا نبي ولا عبد من العبيد، ولكن المعبود الحق هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، رفضوا فانتقم الله منهم، هؤلاء قوم صالح.
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] مرة يقولون: اسكت لا تتكلم، لا نسمع، وهذا يقوله الصعاليك عندنا وقد سمعناهم، إذا دعوته إلى التوحيد وإلى الدعوة السليمة ما يقبل، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ [إبراهيم:9] حتى يتخلصوا فلا يطيعون ولا يستجيبون ولا يعبدون الله وحده، ولا يتخلون عن الشرك والباطل.
هذا الكلام كلام من؟ كلام الله، كيف يكفر بالله ويجحد وهذا كلامه؟ هل هذا الكلام يدعو إلى الزنا؟ يدعو الربا؟ إلى الغش والخداع؟ إلى الكذب والباطل؟ إلى الذل والشهوات والأطماع؟ أم يدعو إلى الطهر والصفاء والعز والكمال؟ لم أعرض المسلمون عنه؟ مضت قرون لا يجتمع اثنان ولا ثلاثة على دراسة آية، فقط إذا مات الميت يستدعون طلبة القرآن وهم ما حفظوه إلا لهذا الغرض فقط، لا يسألون عن معنى آية ولا عن مراد الله منها، يجمعونهم ليأكلوا اللحم، ويقرءوا القرآن، ويعطوا فلوساً لثلاثة أيام أو سبعة أيام، وإن كان الميت غنياً فواحد وعشرون يوماً.
إلى الآن نقول: هل مررتم بثلاثة رجال تحت شجرة في ظل في بلادكم، أو تحت جدار أو في مسجد يقول أحدهم للآخر: اقرأ عليّ شيئاً من القرآن نتدبره؟ أم أنه يقول: لا تدرسوا القرآن، لا تفسروه فإن صوابه خطأ وخطأه كفر، فلم يبق من يقول: قال الله.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ [إبراهيم:7] أعلن لموسى قائلاً: وعزتي -لأن اللام في (لئن) لام القسم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] أي: من النعم، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] ما قال: سيسلب النعمة فقط، بل سلب النعمة وإنزال البلاء، إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ .
وقال موسى لبني إسرائيل: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8]، ما هو في حاجة إليكم، ما هو في حاجة إلى أن نعبده ونصوم ونصلي أبداً، هذا تعود عوائده إلينا لا إلى الله، فإنه كان ولم يكن معه شيء.
ثم قال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [إبراهيم:9] ماذا أصابهم؟ كيف حلت بهم البلايا والرزايا والهلاك؟ من هؤلاء؟ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم:9] الكل جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ [إبراهيم:9] قالوا: ما نسمع ولا نتكلم أبداً، وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم:9] ما نحن بموقنين أن هناك جنة، وأن هناك ناراً، ما نحن بموقنين أن العذاب سينزل بنا، نحن مرتابون ما تيقنا هذا الذي تقولون لنا.
والله تعالى أسأل أن ينفعني وإياكم بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر