أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.
قال تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:50-53].
وعلى من قُص هذا القصص؟ قصه الله جل جلاله وعظم سلطانه على نبيه صلى الله عليه وسلم، فالله موجود حي قيوم، عليم حكيم.
والذي قُصَّ عليه لن يكون إلا رسول الله ومصطفاه ومختاره، فكل آية -لا قصة بكاملها- تقرر معنى لا إله إلا الله محمد رسول الله، فالنبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يقص هذا القصص بعد أربعين سنة! من أين يأتيه؟ من الله. كيف يصل إليه؟ ما هو إلا أن نقول: آمنا بالله ولقائه، آمنا بالله ورسوله.
وها نحن مع قول الله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:54]، من الملك هذا؟ الريان بن الوليد ملك مصر.
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:54]، لم طالبهم بالإتيان بيوسف وهو في السجن؟
لما قص عليه رؤياه وعبرها التعبير العجب قال: إذاً: أحضره عندي؛ لأن العلماء على اختلافهم ورجال الدولة كلهم فشلوا.. ما استطاعوا، قالوا: أضغاث أحلام!
كيف أضغاث أحلام؟ أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وأرى سبع سنبلات خضر وأخر يابسات وتكون أضغاث أحلام؟ لا. بل هذه الرؤيا عجب، فتفطن الفتى الذي كان ملازماً للسجن مع يوسف فقال: أرسلوني إلى يوسف، هو الذي يعبر الرؤى؛ لأننا جربناه ورأينا تعبيره، فجاءه فقال: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ [يوسف:47-48]، ثم قال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ [يوسف:49]، فاندهش الملك لهذا التعبير العجب، وهو -والله- حق، ومرت بهم سبع سنوات جدب.
إذاً: فالآن قال الملك: ائتوني بهذا الذي عبر هذه الرؤيا بهذا التعبير، أحضروه عندي، فبعثوا إليه.
وقررنا بالأمس وعرفنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم منعنا أن نقول للملك: رب، ولا للسيد: رب، بل السيد سيد والفتى فتى والأمة أمة، أما ربي وعبدي فلا، ربنا الله ونحن عبيده، هذا عبد الله وربنا الله، لكن هذا في ديار مصر.. في ديار الكفر، وعاش عليه العالم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فنسخ الرسول ذلك، فلا تقل لخادمك: عبدي، ولكن قل: فتاي، والخادم لا يقول لسيده: رب؛ لأنه يملك أمره، ولكن يقول: سيدي.
إذاً: فَلَمَّا جَاءَهُ [يوسف:50] أي: جاء الرسول إلى يوسف وهو ما زال في السجن، قال له يوسف: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف:50] إلى الملك سيدك فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50] قل له يسأل: ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ وهل هناك نسوة قطعن أيديهن؟
أي نعم، مكرت زليخا مكراً ومكرن مكراً أيضاً، وكانت النتيجة أن قطعن أيديهن كما تقدم.
لم قطعن أيديهن؟ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، أراد أن يبرئ ساحته من كل شك أو ريب.
مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] وكان المفروض أن يقول لـزليخا : ما خطبك؟ فمن باب الستر والتعمية يكون اللفظ عاماً للنسوة، وإلا فما راودته إلا زليخا فقط، لكن من باب الستر والتغطية عمم: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] ماذا قلن؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51] نبرأ إلى الله أننا ما عرفنا عن يوسف سوءاً أبداً.. براءة كاملة.
وهنا نطقت زليخا امرأة الوزير العزيز: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف:51] لاحت أنواره وظهر.. انتهت التعمية والإخفاء والجحود.
الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] أنا الذي طلبت منه نفسه ليرتكب الفاحشة.
الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51] حقاً -والله- إنه لمن الصادقين.
أليس نبي الله ورسوله؟ بلى. أليس الصديق ابن الصديق ابن الصديق؟ بلى. يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وهذه شهادة زليخا : وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51] فيما أخبر به وقاله وتحدث به.
فلمن هذا القول؟ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] أي: لم أخن يوسف بالغيب، إن قلنا: إنه قول زليخا.
أو: لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] أي: العزيز في امرأته، إن قلنا هو كلام يوسف.
وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:52-53].
الذي ذكره ابن جرير إمام المفسرين واطمأنت إليه نفسي ورضيت به وإن خالف هذا ابن تيمية أو ابن القيم وغيرهما: أن هذا الكلام كلام يوسف.
ذَلِكَ [يوسف:52] أي: طالبتهم بأن يأتوا بالنسوة وزليخا معهن ليسألهن: لماذا كان كذا وكذا؛ من أجل أن يعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرئ نفسي.
والعجيب أنه كيف تعرف زليخا الكافرة المشركة التي تعبد الصنم تعرف هذا الكلام؟ معقول أن تقول هذا وتقول: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]؟!
والله! إنه لكلام يوسف هذا، وما هو بكلام من كانت كافرة.
تأملوا: ذَلِكَ [يوسف:52] من القائل؟ إما أن نقول: يوسف أو زليخا ، زليخا قالت: الآن حصحص الحق وأنا راودته وكذا؛ ليعلم زوجي أني ما خنته بالغيب.
أو يوسف قال: لذلك طالبت الملك بأن يحضر النسوة وأن يسألهن وأن يتأكد من صحة الخبر ويسمع بنفسه، فعلت ذلك لماذا؟ لِيَعْلَمَ [يوسف:52] أي: العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] أولاً، وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52].
ثالثاً: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].
الذي تطمئن إليه نفسي: كيف لـزليخا الكافرة أن تعرف هذا الكلام؟ وتقف هذا الموقف؟
هذا لن يقفه إلا النبيون والصديقون والعلماء والصالحون.
ما أبرئ نفسي. لماذا؟ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53] وحفظ النفس من أن تأمر بالسوء.
إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].
فالحاصل أنه إما أن زليخا قالت ذلك، أي: اعترفت بأن يوسف بريء، وأنه كذا وكذا والآن حصحص الحق، ففعلت ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
أو: ذلك كلام يوسف، طلب من رسول الملك أن يستدعي النسوة وأن يسألهن عن الحادثة كيف تمت، وقد جئن وصرحن بأنهن ظلمن واعتدين. فعلت ذلك لماذا؟ ليعلم يقيناً العزيز -والملك أيضاً- أني لم أخنه بالغيب، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ومع هذا: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] لماذا؟ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].
أين يوجد يوسف الآن؟ في السجن.
ائْتُونِي بِهِ [يوسف:50] لم طلبهم أن يأتوه به؟ لماذا؟ لأنه نقل إليه تعبير الرؤيا، فأعجب بتعبير يوسف فقال: إذاً: ائتوني به.
فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ [يوسف:50] رسول الملك. جاء إلى من؟ إلى يوسف في السجن.
فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ [يوسف:50] قال له يوسف: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ [يوسف:50] أي: الملك. فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50] أراد ألا يخرج حتى تبرأ ذمته وتنظف الساحة ولم يبق أي شك معه.
وهنا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي )، لو كنت في مكان يوسف لأجبت.
مكث سبع سنين في السجن ثم يقول: لا أخرج حتى يكون كذا؟!
إذاً: قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50]، واستجاب الملك وبعث رجاله.. حرسه، وأحضروهن وحضرن بين يديه وسألهن فقال: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] ما شأنكن؟ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51] وهو كذلك.
إذاً: والتي كادت ماذا قالت؟ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51].
ذَلِكَ [يوسف:52] من القائل؟ الذي رجحه ابن جرير إمام المفسرين أنه يوسف.
ذَلِكَ [يوسف:52] أي: قلت ذلك، أي: بأني لن أخرج من السجن حتى يُستدعى النسوة ويمتحن ويصرحن بما تم، فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ورجحت هذا وهو الذي رجحه ابن جرير وأنا لا قيمة لي في الترجيح.
ولكن الذي اطمأنت إليه نفسي ورضيت به وإن خالفت فيه رأي ابن القيم.
وبعض الطلبة يزعمون أنني خرجت عن الواجب! فكيف لامرأة كافرة أن تقف هذا الموقف؟ ماذا قالت: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:52-53] هذا لا يقوله إلا مؤمن عالم بالله عارف به، ولا يقوله شخص عادي.
ورحم الله ابن جرير؛ لم يلتفت إلى أقوالهم وقال: هذا كلام يوسف.
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] هل زليخا تقول هذا؟! بل يوسف هو القائل. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52].
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] لماذا؟ لأن النفس أمارة بالسوء، لأنه هم أن يضربها هو أيضاً، لاحظ هذا الموقف، قال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] فقد هممت بأن أضربها كما همت أن تضربني.
كثيرة الأمر بالليل والنهار، طول العام تأمرك بالسوء.
والسوء: كل ما يسيء إلى النفس البشرية فيجعلها خبيثة منتنة، وذلك بارتكاب المنهيات وترك الواجبات.
السوء: كل ما يسيئ إلى النفس، النفس كانت مشرقة كهذا النور، فإذا كذبت الكذبة كانت مظلمة، فإذا زنيت زنية كانت مظلمة، حتى يختم عليها -والعياذ بالله- وتصبح منتنة عفنة لا يرضاها الله ولا يقبلها.
وهناك نفس لوامة: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] وكذلك نفس مطمئنة.
فالأنفس ثلاث:
أولاً: الأمارة بالسوء، فإن تعلم صاحبها وتبصر وفهم وأقبل على ربه قل أمرها بالسوء، ولكن تنتقل إلى مرحلة وهي: اللوم، تحمله على فعل المعصية وبعد ذلك تلومه ويتألم. لماذا كذبت؟ لماذا كذا؟ ثم إذا واصل تأديبها وتربيتها وتهذيبها تنتقل إلى الدرجة الثالثة وهي النفس المطمئنة، فتسعد وتطمئن عند ذكر الله، عند فعل الخير، إذا عملت الصالحات تشعر بالسعادة الدائمة وتطمئن، فيوسف عليه السلام قال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف:53] لماذا؟ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53] فمن رحمه ووقاه المكروه وأبعده عن الذنب فذاك، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ [يوسف:53].
إن رؤيا الملك ] الريان بن الوليد [ كانت تدبيراً من الله تعالى ] لماذا؟ [ لإخراج يوسف من السجن ].
لو ما رأى الملك الرؤيا وما قصها وما اختلف المعبرون فيها لما كان يبعث إليه ولا يأتون به، لكن تدبير الله عز وجل.
[ إن رؤيا الملك كانت تدبيراً من الله تعالى لإخراج يوسف من السجن، إنه بعد أن رأى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكر أحد صاحبي السجن ما وصاه به يوسف ] ماذا قال؟ اذكرني عند ربك، ونسي حتى يتم الأمر ويبقى في السجن كذا سنة.
قال: [ وتذكر أحد صاحبي السجن ما وصاه به يوسف، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف ] لأنه هو العامل عند الملك، يسقيه الشراب، [ وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا، وأرسلوه] بالفعل [واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله، فأمر بإحضار يوسف لإكرامه لما ظهر له من العلم والكمال، وهو ما أخبر تعالى به في قوله: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [يوسف:50] أي: بيوسف فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ [يوسف:50] أي: جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك، فقال له: إن الملك يدعوك. فقال له: عد إليه، ارجع إليه واسأله أولاً: مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50] أي: قل له يسأل عن حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن، والمرأة التي اتهمتني.
فجمع الملك النسوة وسألهن قائلاً: مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] فأجبنه قائلات: حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف:51] أي: ننزه الله تعالى أن يخلق بشراً عفيفاً مثل هذا! وهنا قالت امرأة العزيز زليخا ما أخبر تعالى به عنها: الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ [يوسف:51] أي: وضح وبان وظهر أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] وليس هو الذي راودني وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51] ].
تعرفون زليخا ؟ سيموت زوجها ويتزوجها يوسف وتصبح زوجته في الدنيا والآخرة.
[ وقوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52] هذا إخبار عن يوسف عليه السلام؛ فإنه قال: ذَلِكَ [يوسف:52] أي: امتناعي من الخروج من السجن وعدم إجابتي الملك وطلبي إليه أن يسأل عن حال النسوة حتى تم الذي تم من استدعاء النسوة وسؤالهن من براءته على لسان النسوة عامة، وامرأة العزيز خاصة أيضاً حيث اعترفت قطعياً ببراءته وقررت أنها هي التي راودتني عن نفسي فأبيت ورفضت؛ فعلت هذا ليعلم زوجها العزيز أني لم أخنه في أهله في غيبته، وأن عرضه مصان محفوظ، وشرفه لم يدنس؛ لأنه ربي أحسن مثواي] أحسن إقامتي عنده.
[ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52]، فلو كنت خائناً ما هداني ربي لمثل هذا الموقف المشرف، والذي أصبحت به مبرأ الساحة، سليم العرض، طاهر الثوب والساحة ].
قال المؤلف: [ من هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: فضل العلم وشرفه؛ إذ به رفع الملك يوسف إلى حضرته وهو رفيع ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف:54] لماذا؟ لما علم ما عبر به الرؤيا وفسر به المنام، فلهذا استفدنا فائدة وهي: فضل العلم وشرفه؛ إذ بواسطته رفع الملك يوسف إلى حضرته.
[ ثانياً: فضيلة الحِلم والأناة وعدم التسرع في الأمور ].
من أين أخذنا هذا؟ من قوله: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:50].
[ ثالثاً: فضيلة الصدق وقول الحق ولو كان على النفس ].
من أين أخذنا هذه الهداية؟ من قوله تعالى عن شهادة زليخا: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51].
[ رابعاً: شرف زليخا بإقرارها بذنبها رفعها هذا الشرف مقاماً سامياً، وأنزلها درجة عالية، فقد تصبح بعد قليل زوجة لصفي الله يوسف الصديق ابن الصديق، زوجة له في الدنيا وزوجة له في الآخرة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر