أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.
قال تعالى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:77-82].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، من القائلون؟ إخوة يوسف العشرة.
تقدم أن يوسف بتدبير الله تعالى أخذ صواعه وجعله في رحل أخيه بنيامين من أجل أن يبقيه معه، وقد أخذ يعقوب على أولاده عهداً وميثاقاً أن لا يفرطوا فيه، وشاء الله أن يدبر هذا التدبير ليوسف عليه السلام، وأصبح بنيامين مسترقاً مستعبداً عند يوسف عليه السلام في نظر إخوته؛ لأن الحكم الشرعي عند يعقوب: إذا سرق سارق فإنه يسترق بتلك السرقة ويستعبد، وحينئذ يباع أو يتملك، أما في حكم مصر وحكامها فالسارق يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، وقد عرفتم كيف أعلن يوسف برجاله أنكم سرقتم وأنتم سارقون، وحاولوا أن يتخلصوا من السرقة، ولكن الحجة قامت عليهم وثبتت، فهنا قالوا ليوسف ورجاله: إِنْ يَسْرِقْ [يوسف:77] أي: بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، وهم يعنون بهذا الأخ يوسف عليه السلام، ولكن لا يدرون أنه يوسف الذي معهم ويقضي بينهم ويحكم فيهم؛ لأنهم -كما عرفتم- أخذوه طفلاً صغيراً ورموه في غيابة الجب، واستخرج وبيع، فلا يمكن أبداً أن يفهموا أن هذا يوسف، وقد تغير لكبر سنه، فقد تجاوز الآن الأربعين سنة.
إذاً: أجابوا يوسف ورجاله بقولهم: إِنْ يَسْرِقْ [يوسف:77] أي: بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77].
وهذه السرقة ذكر أهل العلم أن يوسف عليه السلام وهو طفل كان يسرق الطعام من القدر أو من القصعة أو من كذا ويعطيه للفقراء والمساكين بدون أن يعلم أمه أو زوجات أبيه، فهذه السرقة محمودة، ومن جملة سرقته أنه سرق صنماً لامرأة جده من أمه، وجدها تعبده فسرقه وكسره حتى لا يعبد من دون الله، فحفظوا هذا عنه، وقالوا: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، أي: من قبل بنيامين، حيث سرق صواع الملك المصري.
إذاً: فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ [يوسف:77] ما قال لهم: أنا يوسف، وأنتم تكذبون، لكن أسرها في نفسه وكتمها.
وهل أسر وأخفى أن يقول لهم: كذبتم وأنتم كاذبون، وأخوه ما كان يسرق، أنا يوسف، فماذا سرقت؟ أم المعنى: أسر في نفسه، قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77]، ما أفصح بها ولا أظهرها حتى لا يكربهم ولا يحزنهم.
وجائز أن يكون قال لهم: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77]. أي: منزلة من بنيامين الذي اتهمتموه ويوسف الذي اتهمتموه بالسرقة.
أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77] أخاكم يوسف الذي اتهمتموه وبنيامين.
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا [يوسف:78]، شيخ وكبير لا في العمر والسن فقط، بل في المكانة والمنزلة والدرجة العالية، كبير المقام، كيف يؤخذ ولده؟ كيف نترك ولده بعدما جئنا به بعهود ومواثيق أن نحفظه ونصونه حتى نرده؟! والآن نرجع إليه وابنه عبد مسترق؟ كيف نصنع؟
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا [يوسف:78] إذاً: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف:78]، إما يهوذا وإما لاوي وإما روبيل، واحد منهم، والمراد به روبيل فهو زعيمهم في عقله وكبر سنه.
فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78]؛ استعطفوه بهذه الكلمة ليلينوا قلبه: ما دمت محسناً فأحسن إلى هذا الشيخ الكبير وأعطه ولده وخذ واحداً منا واسترقه؛ ورضوا لأن موقفهم مع أبيهم موقف صعب لا يطاق، فقد أخذ عليهم عهوداً ومواثيق أن يأتوا به إلا أن يحاط بهم بمصيبة عامة أو هلاك كامل، فكيف يأخذون بنيامين ويتركونه؟ خذ أحداً منا واترك لنا بنيامين.
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا [يوسف:78] إذاً: فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ [يوسف:78] استرقه واترك بنيامين إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78].
أجابهم بقوله: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:79] نعوذ بالله أن نأخذ مظلوماً ولا نأخذ الظالم! كيف نستبدل هذا الذي ما سرق ونترك الذي سرق؟ هذا ظلم في الحكم ولا يصح منا أبداً.
مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:79] أي: نعوذ بالله أن نأخذ إلا من وجدنا عنده متاعنا، الذي وجدنا عنده متاعنا وما ضاع منا وما سرق منا ذاك الذي نأخذه.
والمراد من المتاع هنا: الصواع، المكيال الذي أخذه يوسف وجعله في رحل أخيه بنيامين.
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79] إذا نحن تركتنا الذي سرق وأخذنا الذي لم يسرق فهذا هو الظلم! كيف نرضى به ونقره؟ وكيف تقبلونه أنتم؟ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79].
حكى الله عنهم قولهم: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ [يوسف:80] أيسوا فأيقنوا أنه لا يعطيهم بنيامين، ولا يأخذ بدله لا يهوذا ولا لاوي ولا روبيل ولا غيرهم، خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80]، اجتمعوا على جهة يناجي بعضهم بعضاً ويفكرون كيف يفعلون.
فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ [يوسف:80] أي: من خلاص بنيامين باستبداله بروبيل خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] يتحدثون: ماذا نصنع؟ كيف نفعل؟ كيف نخرج من المحنة؟ كيف نواجه والدنا؟
فأجابهم كبيرهم وهو روبيل قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، رضي أن يبقى عند يوسف، فلا يدخل ديار كنعان ولا يواجه والده، قال: أبقى أنا هنا في الديار المصرية حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] ويقول: تعال يا روبيل ادخل بلادك مع إخوانك، وهي عزيمة صادقة، هكذا قال لهم.
فماذا قال لهم؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ [يوسف:80] أي: وعداً وعهداً موثقاً باليمين، وَمِنْ قَبْلُ [يوسف:80]، أي: من قبل بنيامين وتفريطكم فيه مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ [يوسف:80] أي: تفريطكم في يوسف إذ رميتموه في البئر، ثم بعتموه للناس واشتروه عبداً رقيقاً.
إذاً: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ [يوسف:80] لن نتجاوز هذا المكان ولن نتعداه حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] ويقول: تعال يا روبيل أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، أما أن أمشي معكم إلى والدي فما أستطيع، فإما أن يأذن لي والدي في دخول ديارنا، وإما أن يحكم الله لي بما يشاء من الحكم وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، وقد حكم الله عز وجل، ورده إلى أبيه مع أخيه.
هذا الكلام كلام أنبياء أو شبيه بكلام الأنبياء، كادوا ينبئون، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80].
وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، لو علمنا أن هذا يقع فوالله! ما أخذناه ولا طلبناه منك، ولا جئنا به الديار المصرية، لكن الغيب لله، ما نعلم هذا، فمعذرة يا والدنا.
هذا روبيل يقول لهم: قولوا لأبيكم هذا الكلام: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ [يوسف:81] بالديار الكنعانية فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ [يوسف:81] يعني: بنيامين سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81].
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف:82]، القوافل التي جاءت معنا وعادت إلى فلسطين سلها تخبرك بأن بنيامين سرق وثبتت السرقة عليه، وهو في ذلك رقيق ومسترق.
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:82] فيما حدثناك وأخبرناك به وقلناه لك، هذه هي القضية.
فما موقف يوسف؟ أسرها في نفسه ولم يقل: كذبتم، أنا يوسف وأنتم كاذبون، فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهم [يوسف:77] أي: ولم يظهرها لهم، قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77]، من الجائز أن يكون كتم هذه الجملة وأسرها، أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [يوسف:77] أي: منزلة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77] من الكذب والباطل، إذ قالوا: سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، وإن كان قد سرق تلك السرقة فليست بسرقة محرمة ولا فيها عار ولا لوم، بل كانت من المحامد والفضائل، إذا أخذ الطعام من بيت أمه وأعطاه الفقراء والمساكين.
قالوا: إذاً يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78] فاقبل منا هذا الطلب وخذ بدل بنيامين غيره من إخوانه، فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78]، بم أجابهم؟ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:79] أي: نعوذ بالله أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79]، فهل يجوز أن تقطع يد شخص ما سرق؟ لا يجوز، السارق فلان وتقطع يد فلان؟! لا يمكن أبداً، فكيف إذاً نأخذه؟!
فبنيامين وجدنا السرقة في رحله فهذا الذي نأخذه، هذا كلام الصديق يوسف عليه السلام.
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ [يوسف:79]، المتاع -كما علمتم- الميكال أو الصاع، إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79].
قال تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ [يوسف:80] من أنه لا يعطيهم بنيامين أبداً ولا يستبدله بروبيل ولا بغيره، أيسوا من هذا، إذاً: خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] مالوا إلى جهة يتناجون ويتفكرون ماذا يصنعون؟ فقال كبيرهم وهو روبيل: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ [يوسف:80] في خصوص بنيامين، ما أعطاكم إياه إلا بعد أن حلفتم له بالله أن تحفظوه وتردوه سالماً، فكيف الآن ترجعون إليه وتقولون: استرق ولدك لأنه كان سارقاً؟!
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ [يوسف:80] ومن قبل بنيامين تفريطكم في يوسف إذ رميتموه في غيابة الجب، ثم بعتموه رقيقاً للتجار، وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ [يوسف:80].
إذاً: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ [يوسف:80] من القائل؟ روبيل، هذا أحد إخوانهم، فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80]، عودوا إلى دياركم وبلغوا والدكم، أما أنا فلا أستطيع أبداً أن أتجاوز هذه الديار إلا إذا أراد الله شيئاً آخر فحكم لي بحكم آخر.
وقد حكم تعالى وعاد بنيامين مع أخيه روبيل إلى أبيهما، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80].
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ [يوسف:81]، هم الآن أين يوجدون؟ في ديار مصر، ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ [يوسف:81] أي: بنيامين ولدك سرق، وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ [يوسف:81]، الذي شاهدناه بأعيننا ولمسناه بأيدينا وعرفناه أنه سرق، أما الغيب فما كنا له حافظين.
ثانياً: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف:82]، ابعث رجالك إلى مصر واسألهم هل سرق بنيامين وعرف بالسرقة؟ سل القرية التي كنا فيها واسأل العير التي أقبلنا فيها أيضاً تخبرك بالواقع، وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [يوسف:82] فيما أخبرناك به وحدثناك عنه في أن بنيامين سرق واسترق لذلك.
هذا الكلام كلام روبيل، قال: أنا ما أستطيع أن أعود إلى ديارنا، وأنتم بلغوا والدكم هذا.
من هداية الآيات:
أولاً: مشروعية الاعتذار من الخطأ ]، من أخطأ فمشروع له أن يعتذر عن خطئه.
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف:77]، هذا اعتذار، فلا تلمنا أبداً، فإن أخاً له من قبل قد سرق، فلهذا سرق، هذا اعتذار عن الخطأ الذي وقع لهم.
[ ثانياً: قد يضطر الحليم ] الذي لا يقول كلمة سوء ولا يعنف ولا يغلظ الكلام ولا يشدد، قد يضطر [ إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لولا ما واجهه من السوء ]، من أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ [يوسف:77]، والله! ما كان يوسف يقول هذا الكلام ولا يقدر عليه لحلمه وصبره، لكن الضرورة دعته إلى هذا، نعم قد يضطر الحليم إلى أن يقول ما لم يكن يقوله لولا ما واجهه من السوء.
[ ثالثاً: مشروعية الاسترحام والاستعطاف لمن احتاج إلى ذلك رجاء أن يرحم ويعطف عليه ].
من أين أخذنا هذا؟
من قوله تعالى حاكياً قول إخوة يوسف: قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:78].
[ رابعاً: حرمة ترك الجاني وأخذ غيره بدلاً منه؛ إذ هذا من الظلم المحرم ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79]، لو فعلنا كما تقولون، نترك بنيامين ونأخذ روبيل، فهذا سرق ونتركه، وهذا لم يسرق ونأخذه! هذا لن يصح منا ولن يكون أبداً.
[ خامساً: مشروعية المناجاة للتشاور في الأمر ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80].
إذاً: مشروعية المناجاة والكلام السري للتشاور في الأمر، وأخذنا هذا من قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ [يوسف:80] أي: من يوسف خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80]، وقال أكبرهم ما قال.
[ سادساً: مشروعية التذكير بالالتزامات والعهود والمحافظة على ذلك ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يوسف:80].
[ سابعاً: قد يغلب الحياء على المؤمن فيمنعه من أمور هي خير له ]، من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ [يوسف:81] وقولوا كذا وكذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر