إسلام ويب

تفسير سورة يوسف (21)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لما رجع إخوة يوسف عليه السلام إلى مصر ودخلوا على يوسف يستجدونه أن يتصدق عليهم أدركته الشفقة فرحمهم وقررهم بما فعلوه بيوسف من قبل، فعلموا هنالك أنه يوسف، فأخبرهم بحقيقته وعفا عنهم في كل ما بدر منهم تجاهه، ثم أعطاهم قميصه ليذهبوا به إلى أبيه علامة على حقيقة وجوده، وطلب إليهم أن يأتوه بأهلهم أجمعين ليعيشوا في كنفه بأرض مصر، فلما دخلوها خروا له سجداً فكان هذا تأويل رؤياه التي رآها في الصغر حققها الله سبحانه وتعالى له.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات ، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.

    قال تعالى: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:89-100].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! مما يؤسفنا -بل ويحزننا- أن هذه الآيات في هذه السورة والله! لقد سمعت بأذني حين تقرأ في التهجد سمعت البكاء من العوام، ونحن كم يوماً نسمع وقلوبنا قاسية، والله! إنهم ليبكون وهم عوام، فتسمع لهم نشيجاً، ونحن قست قلوبنا فانصرفنا انصرافاً كلياً عن هذه المرققات للقلوب، فإلى الله نشكو هذه الحالة!

    فهيا معاً نستكمل هذه القصة.

    قوله تعالى: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89] من القائل؟ قالها يوسف لإخوانه لما حضروا عنده في مصر.

    قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ [يوسف:90] قرروه: أنت يوسف؟

    قَالَ [يوسف:90] نعم أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي [يوسف:90] يعني بنيامين قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:90] بما منَّ من النعم، نجاني من تلك الظلمة في البئر، ونجاني من تلك الظلمة في السجن، ونجاني من تلك الفتنة النسوية، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:90]، وعلل لذلك فقال: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، يتقي الله فلا يترك واجباً أوجبه عليه، ولا يغشى محرماً حرمه عليه، ويصبر على ذلك ويصبر على البلاء والابتلاء، من كان هذا موقفه فليبشر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين!

    وقد اتقى يوسف وأخوه ربهما وصبرا، فكان هذا الكمال الإلهي الذي أضفاه عليه فأصبح ملك مصر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله لقد آثرك الله علينا ...)

    قَالُوا [يوسف:91] أي: الإخوة تَاللَّهِ [يوسف:91] أي: والله لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:91] أي: فضلك علينا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] مذنبين فيما فعلناه حيالك وإزاءك يا يوسف.

    وتذكرون كيف أخرجوه من بلاده ورموه في البئر وباعوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم ...)

    بم أجابهم؟ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لا لوم ولا عتاب ولا تقبيح ولا تعيير، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [يوسف:92] هكذا قابلهم، قابل ذلك السوء وذاك الباطل والمنكر بهذه الكلمة الطيبة: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [يوسف:92] لا ألومكم ولا أعتب عليكم، فهذا شيء مضى والله يغفر لي ولكم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].

    من يقف هذا الموقف؟ يقفه الموصول بالملكوت الأعلى، الربانيون الذين يعيشون مع الله بعدما عرفوه وعلموا جلاله وكماله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً ...)

    قال تعالى حاكياً قول يوسف لإخوته: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي [يوسف:93] نزع قميصه وأعطاه لأحدهم -لعله يهوذا- وقال له: ألقه على وجه أبي، إذا وصلتم بادية الشام.. ديار كنعان ألقه على وجه أبي يأت بصيراً. وهذا وحي وإلهام، أليس يوسف رسول الله؟ بلى.

    إذاً قال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا [يوسف:93] يخاطب إخوته العشرة، اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف:93] ارحلوا من ديار الشام وباديتها، وتعالوا عندنا بمصر.

    وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ [يوسف:94] نساءً وأطفالاً، كباراً وصغاراً، أريد الكل فائتوني بهم أجمعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)

    قال تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف:94] وانقطعت وأبوهم معهم، والكل معه نساء ورجالاً، ولما فصلت العير من ديار الشام أو فلسطين قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف:94] لولا أن تكذبون، والله! إني لأجد ريح يوسف، هذه الريح حملتها ريح الصبا التي يحبها رسول الله ونصر بها في الخندق، أي: حملت ريح يوسف في ذلك القميص، فما إن وضع على وجهه حتى شم رائحته وانفتح بصره.

    وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف:94] أي: تكذبوني.. أي: تسفهوني.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم)

    قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95] من القائل؟ ليس الإخوة، بل الأسرة الذين ما كانوا في مصر، الذين ما شاهدوا يوسف وعرفوه، قالوا: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:95] أي: في حبك ليوسف، فقد تهت في ذلك الحب وضللت. هذا معنى الضلال القديم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ [يوسف:96] حامل القميص أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا [يوسف:96]، فيعقوب عليه السلام قال لأسرته وهم ينتظرون مجيء إخوانه من مصر: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تكذبوني أو تقولوا: كذب. هذه الريح كيف شمها؟ كيف وصلته؟ حملتها ريح الصبا الشرقية ووصلت إلى يعقوب وهي تحمل ريح يوسف، فما إن شمها حتى أخبر بذلك.

    فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ [يوسف:96] ألقى قميص يوسف على وجهه فَارْتَدَّ بَصِيرًا [يوسف:96] رجع كما كان يبصر، بعد العمى وببياض العينين.

    ثم قال لهم: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96] من جلال الله وكماله وألطافه وإحسانه وإفضاله، ووجوب طاعته والحب فيه والبغض فيه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين)

    قال تعالى: قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97] تابوا، هذه هي التوبة، اعترفوا بالذنب وطلبوا المغفرة، وهذه هي التوبة.

    يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا [يوسف:97] أي: اطلب لنا المغفرة من ربنا ليغفر ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97] أي: مذنبين، مسيئين، فاعلين للباطل.

    والخاطئ غير المخطئ، فالخاطئ فاعل الخطايا: إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم)

    بم أجابهم يعقوب عليه السلام؟ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف:98] أي: أطلب المغفرة منه إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف:98].

    ولم أجلهم بكلمة سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ [يوسف:98]؟

    أهل العلم يقولون: إما أجلهم ليوم الجمعة حيث لا يرد فيه الدعاء، أو أجلهم إلى السحر آخر الليل عندما يتجلى الرحمن وينادي: هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من داع فأستجيب له؟

    وهذا هو الصواب، ما قال: (اللهم اغفر لهم) على الفور، قال: قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ [يوسف:98] لا غيره الْغَفُورُ [يوسف:98] لعباده الرَّحِيمُ [يوسف:98] بهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ...)

    قال تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:99].

    كان ذلك الحديث في كنعان أو في فلسطين، ومضت العائلة كلها على رأسها يعقوب، فلما وصلوا إلى الديار المصرية دخلوا على يوسف، أين دخلوا عليه؟

    يقول أهل العلم: خرجوا لاستقبالهم بعيداً عن عريش مصر، ونصب يوسف خيمة له والناس في استقبالهم، رجال الحكومة وملك مصر وكل أعيان البلاد خرجوا لاستقبال والد يوسف وإخوته، وهذا مشروع، والآن يستقبلون الحجاج إذا كانوا وافدين.

    إذاً: قال تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:99] في تلك الخيمة أو ذلك المخيم آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ [يوسف:99] ضم إليه أمه وأباه ومشوا.

    أخذهما من الأسرة.. من العائلة وضمهما إليه، وهما يعقوب وأمه، وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99].

    إذاً: فلما دخلوا على يوسف أين دخلوا عليه؟ في العريش الذي نصبه خارج الديار المصرية لاستقبال الأسرة بكاملها، وقد حضر للاستقبال قل ما شئت من أعيان البلاد ورجالها، فلما وصلوا ضم إليه أبويه في قافلته آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99] لا تخافون أبداً أدنى خوف؛ لأنه العزيز.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً ...)

    قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف:100]، المراد من العرش: السرير.. سرير الملك.

    الآن دخلوا مصر، فلما انتهوا إلى القصر رفع يوسف أبويه على العرش، أجلس أباه هنا وأجلس أمه هنا، والعرش هو السرير الواسع.

    إذاً: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100] هذا السجود هو التحية كما هي تحية العسكر الآن، أو كما هي تحية الناس، كانوا إذا أرادوا أن يحيي بعضهم البعض يخر ساجداً، وليس سجود العبادة، وإنما سجود تحية شاعت بينهم وتناولوها وأصبحت عادتهم.

    فقوله تعالى: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100] هذا تحقيق للرؤيا التي رآها يوسف أيام كان طفلاً صغيراً؛ إذ قال: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] فإخوته أحد عشر، والشمس أبوه والقمر أمه، والكل خر ساجداً له.

    قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ [يوسف:100] يا أبي هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100] هذه الرؤيا التي رأيناها منذ أربعين سنة قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا [يوسف:100] وصدقاً، وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100]، ما قال: من ظلمة البئر؛ لأنه يريد ألا يحرج إخوته، وألا يثير في نفوسهم ثائرة الألم والحزن.

    وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100] بادية الشام.. بادية فلسطين، متى هذا؟ لما جاءوا يطلبون الميرة.

    قال: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] ألا وهو الحسد الذي ألقاه في نفوس الإخوة حتى حسدوا يوسف ومكروا به وألقوه في غيابة الجب، ثم باعوه عبداً.

    إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ [يوسف:100] وأي لطف أعظم من هذا؟ أي لطف أجل من هذا؟ يؤخذ ولد ويرمى في بئر، ويباع عبداً.. وكذا، ثم يصبح ملكاً بهذه الصورة عالماً ربانياً، نبياً ورسولاً!

    إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ [يوسف:100] بخلقه الْحَكِيمُ [يوسف:100] في قضائه وتدبيره.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    يقول تعالى: قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ [يوسف:89] من القائل؟ يوسف. من هم الجاهلون؟ إخوته. ومظاهر جهلهم: مكرهم وخداعهم وغشهم له.

    قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ [يوسف:90]؟ يتأكدون، قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي [يوسف:90] من المراد بأخيه؟ بنيامين قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:90] أكرمنا ونجانا وأسعدنا، والسر في ذلك: تقوى الله والصبر عليها: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90] هذه كلمات يوسف.

    قَالُوا [يوسف:91] أي: الإخوة تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا [يوسف:91] فضلك وأعلى درجتك، وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91] حقاً وصدقاً.

    قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف:92] لا لوم ولا عتاب ولا تحزنوا ولا تكربوا، ما مضى مضى، لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92] جل جلاله وعظم سلطانه.

    إذاً: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا [يوسف:93] من أي مكان؟ من مصر إلى أرض فلسطين، اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا [يوسف:93] أعلمه الله ذلك، فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ [يوسف:93] ينتقلون من الصحارى والبادية الشامية إلى أرض مصر أرض الخصب العام.

    وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف:94] بمن؟ بيعقوب والأسرة بكاملها، فصلت من ديار الشام متجهة إلى مصر.

    وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ [يوسف:94] وبينهما مسافات بعيدة من مصر إلى فلسطين، ولكن قال لهم: إِنِّي لَأَجِدُ [يوسف:94] والله رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف:94-95] والقاتلون ليسوا الإخوة، بل الجماعة الذين ما عرفوا، والضلال القديم هو حبه ليوسف في الماضي فيما سبق.

    فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ [يوسف:96] المبشر أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96] من قائل هذا؟ يعقوب عليه السلام.

    قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ [يوسف:97] بم أجابهم؟ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف:98]، وعرفنا هذا التأجيل، إما إلى السحر آخر الليل، وإما إلى الجمعة، هذا الذي عليه أهل التفسير.

    فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ [يوسف:99] وصلوا الآن ودخلوا على يوسف وهو في عريش ومنزل نصبه لاستقبال الأسرة ومعه كل الأعيان من رجال مصر.

    فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ [يوسف:99] ضم إليه أمه وأباه حتى يمشيا معه إلى الدار المصرية.. إلى دار القصر، آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99] لا خوف عليكم أبداً ولا حزن.

    وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف:100] متى هذا؟ لما انتهوا إلى القصر ودخلوا، وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:100] على الأرض، سجدوا لمن؟ ليوسف تحية له، خروا له سجداً، حتى أبوه وأمه سجدا كما هي العادة عندهم.

    وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] هذا تفسيرها وتأويلها تمت كما هي، رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين، وقد فعل الله ذلك، الأب والأم الشمس والقمر، والنجوم إخوته الأحد عشر.

    وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:100] يذكر نعم الله عليه، وَجَاءَ بِكُمْ [يوسف:100] أيها الإخوة مِنَ الْبَدْوِ [يوسف:100] بادية الشام مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي [يوسف:100] وأثار تلك الفتنة ألا وهي الحسد الذي ألقاه في قلوبهم، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال المؤلف: [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: آية عظيمة هي: حمل الريح ريح يوسف على مسافات بعيدة ].

    هذه من أعظم الآيات: الريح تحمل ريح الشخص -أي: رائحته- وتجتاز هذه المسافات لثلاثة آلاف كيلو مثلاً، آية من آيات الله، ولا عجب؛ إذ الله على كل شيء قدير.

    [ ثانياً: آية أخرى: هي ارتداد بصر يعقوب بعد العمى بمجرد أن ألقي القميص على وجهه ].

    ألق الآن ألف قميص على أعمى فلن يرتد بصره.

    هذه آية أخرى: ما إن ألقي القميص على وجهه حتى انفتح بصره من شدة الحب والفرح، وهذا فعل العليم الحكيم.

    [ ثالثاً: كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه عن أولاده؛ إذ استغفر لهم ربهم فغفر لهم ].

    من يقوى على هذا الموقف؟ كرم يعقوب وحسن عفوه وصفحه عن أولاده الذين كادوا ومكروا وفعلوا، واستغفر لهم ربهم وغفر الله لهم، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يوسف:98]، فاستغفر بالفعل لهم في آخر الليل أو يوم الجمعة، وغفر الله لهم وبلغهم ذلك.

    [ رابعاً: مشروعية الخروج خارج المدينة لاستقبال أهل الكمال والفضل كالحجاج مثلاً ]، عالم كبير.. ملك.. وزير، أيام كانوا يأتون على البعير وكذا، حتى الآن على السيارة نستقبلهم، نخرج خارج المدينة لاستقبال الملك أو استقبال عالم أو وزير أو ولي من أولياء الله ولا حرج، هذه سنة مطردة ماضية في الزمن.

    من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ [يوسف:99]، إذاً آواهما إليه في أي مكان؟ خارج مصر، في مكان الاستقبال، ثم بعد ذلك قال: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف:99] أي: العاصمة.

    [ خامساً: صدق رؤيا يوسف عليه السلام إذ تمت حرفياً، فجلس يوسف على عرشه وخر له إخوته وأبوه وأمه ساجدين ]، تمت كما هي، ما هي هذه الرؤيا؟ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف:4-5]، وبالفعل نزغ، ألقى الحسد في قلوب إخوته ومكروا تلك المكرة وكادوا ذلك الكيد.

    قال: [صدق رؤيا يوسف عليه السلام إذ تمت حرفياً، فجلس يوسف على عرشه] أي: سريره [وخرَّ له إخوته وأبوه وأمه ساجدين]، وهل يجوز لنا الآن أن نسجد لحاكم؟ لإمام؟ لأب؟ لأم؟

    الجواب: لا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منعهم وقال: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )، لما له من حق عليها، ولكن لا سجود إلا لله رب العالمين.

    فلهذا في بعض البلاد يركعون، والركوع والسجود بمعنى واحد، يطلق لفظ الركوع على السجود، والسجود على الركوع، فالذي ينحني للملك أو الوزير أو لمن أراد، هذا الانحناء ركوع لغير الله عز وجل، ولا يجوز، لا سجود إلا لله رب العالمين، هذا كان موجوداً في الأمم لكن الإسلام نسخ تلك الشرائع وأبطلها.

    وبعض العوام الآن يسجد، وهذا فعل منكر لا يصح، فعلموهم، فلا بد من تعليمهم وإخبارهم بأن هذا لا يجوز أبداً.

    [ سادساً: قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين ]، ترى رؤيا ولا يظهر معناها إلا بعد سنتين.. ثلاث، عشر سنين، [فقد تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة]، قال تعالى: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] كم الزمان؟ أربعون سنة.

    إذاً: قد يتأخر تأويل الرؤيا المنامية عشرات السنين؛ إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة. وهذا أيضاً حصل لنا، وما زالت رؤيا نتوقعها، وهي خير إن شاء الله، فقد رأيتني قد ضربني مجرم في باب الرحمة برصاصة، فوقعت على الأرض ميتاً، فهذه منذ أربعين سنة إلى الآن، وممكن أن تتحقق.

    وهل تأسفون لها؟ هذه شهادة لم يظفر بها إلا من أعطاه الله عز وجل وكمله.

    إذاً: الشاهد عندنا: لا تيأس من الرؤيا، فقد تتأخر ثلاثين عاماً.. أربعين عاماً.. عشر سنين، سنة كاملة وتتجلى، وتقول: هذه رؤياي التي رأيتها يوم كذا أو ليلة كذا.

    قال: [ قد يتأخر تأويل الرؤيا عشرات السنين؛ إذ تأخرت رؤيا يوسف أربعين سنة ] من أيام طفولته إلى أن أصبح ملكاً وشيخاً.

    [ سابعاً: تجليات الألطاف الإلهية والرحمات الربانية في هذه القصة في مظاهر عجيبة ].

    وأول تجل لما ألقي يوسف في البئر في ظلمته، فماذا أوحي إليه؟ ماذا ألهم؟ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15].

    ولما باعوه في السوق عبداً أين وضعه الله؟ في بيت العزيز أعز رجال مصر، وأضفى عليه من الإنعام ما شاء الله، وهذا من تجلي ألطاف الله.

    ولما اتهمته زليخا بالعهر ماذا حصل؟ أنطق الله رضيعاً وقال: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ [يوسف:26]... الآية، فكذبت وصدق يوسف، أي تجل أعظم من هذا؟!

    ولما أدخلوه إلى السجن بعد ذلك وحكموا بسجنه كيف خرج من السجن؟ الرؤيا التي رآها وفسرها.

    وهكذا ألطاف إلهية متجلية في هذه القصة لمن يقرؤها ويبكي عندما يقرأ، أما أصحاب القلوب القاسية مثلنا فلا يستفيدون.

    والله تعالى نسأل أن يرقق قلوبنا، وأن يشرح صدورنا، وأن يزكي نفوسنا، وأن يدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765796430