أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فهيا بنا لنصغي إلى تلاوة هذه الآيات الأربع مجودة مرتلة ثم نتدارسها إن شاء الله، والله نسأل أن يفتح علينا وأن يرزقنا العمل بما يعلمنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:7-10].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:7]، من أخبر بهذا الخبر؟ الله جل جلاله.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ [يوسف:7] من هو يوسف هذا؟ هذا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (الكريم ابن الكريم ابن الكريم) كما قال سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
وَإِخْوَتِهِ [يوسف:7] وهم أحد عشر أخاً وهو الثاني عشر، هكذا علمنا، والإخوة كلهم من أب فقط إلا بنيامين فإنه أخ ليوسف من أبيه وأمه، والعشرة منهم الشقيق لبعضهم أمهم واحدة، وبعضهم أمه أخرى، وأبوهم واحد.
الطريق يضعون فيه علامات تهدي السالك إلى مقصوده والمكان الذي يريده، فالآية هي العلامة، وقد علمنا أن القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وكل آية علامة على أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وقد بينا ذلك.
هذه الآية من قالها؟ من أنزلها؟ من أوحاها؟ الله. فالله موجود ذو علم وقدرة وحكمة.
ومن نزلت عليه وأوحي بها إليه لن يكون إلا رسولاً، مستحيل أن يكون غير رسول، فكل آية -إذاً- تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:7] والسائلون: جمع سائل.
من هم السائلون؟ ورد -ونقل هذا الخبر أهل التفسير- أن اليهود بالمدينة بعثوا بهذا السؤال، فقالوا لكفار قريش: اسألوا محمداً عن الرجل الذي فقد ولده ففقد بصره في ديار فلسطين، فإن أجابكم فهو نبي وإلا فهو كاذب.
ويروى: أن المشركين أنفسهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يعقوب وأحداثه مع أولاده.
وهذا كله جائز، فهم سائلون، ولكن لفظ السائلين عام، وهذه آيات لكل من يسأل عن الله وعلمه ومعرفته وجلاله وكماله، وعن محمد ونبوته ورسالته، وعن الإسلام وشرائعه وأحكامه، وعن الآخرة وما فيها من النعيم المقيم والعذاب الأليم؛ إذ هذا كله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ [يوسف:7] أي: في قصصه.. في أحداثه التي بدأت أولاً بالرؤيا التي رآها يوسف الولد الصغير وقصها على أبيه؛ إذ رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً يسجدون له إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] هذه بداية القصة.
يوسف الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره يرى رؤيا عجب في منامه، فيرى أحد عشر كوكباً -والمراد إخوته الأحد عشر- والشمس والقمر -أبوه وأمه- ساجدين له، هذه أول مقدمة.
إذاً: اذكر يا رسولنا لهم إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8] متى قالوا هذه الكلمة؟ لما شاهدوا إقبال يعقوب على ولده يوسف حتى لا يكاد يفارقه.. حتى لا يكاد يغيب عنه؛ لما رأى تلك الرؤيا أحبه حباً عظيماً وأصبحت عيناه دائماً تنظر إليه، وشاهدوا بأعينهم إقبال يعقوب على يوسف وإدباره عنهم، هنا خافوا وقالوا: هذا أمر لا نطيقه، فكيف يؤخذ عنا وجه أبينا ونبقى كأننا أجانب أو ربيبون معه.
ما سبب هذا؟ سببه يوسف الذي أحبه إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8] من المراد بأخيه هنا؟ بنيامين شقيقه، فأمهما واحدة.
وقولهم: (ليوسف) أي: والله! ليوسف وأخوه بنيامين أحب إلى أبينا منا ونحن عشرة.
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] أي: جماعة، والعصبة: الجماعة المتعصبة المتعاونة، وليس للفظ عصبة مفرد.
إِنَّ أَبَانَا [يوسف:8] أي: يعقوب لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]، ولا تفهموا من الضلال المبين أنه الكفر، فلو قالوا هذا لكفروا، لكن الضلال هو الخطأ وعدم البصيرة والمعرفة في حبه لولد وتركه لعشرة، فلهذا لو قال قائل: فلان في ضلال مبين فلا يقال: كفره أو نسبه إلى الكفر؛ لأن الضلال هو الخطأ وعدم البصيرة وعدم المشي في الصراط المستقيم، إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] في حبه لأخينا يوسف وتركه لنا، أخطأ في هذا الباب وما أصاب! كذا قالوا.
وهؤلاء الإخوة هل كانوا أنبياء لما قالوا هذا القول؟ الصواب: ليسوا بأنبياء حينها.
وهل نبئوا بعد كبرهم وتوبتهم؟ الراجح أنهم بعدما كبروا وتقدموا في السن أوحى الله إليهم ونبأهم فكانوا أنبياء.
قالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9].
اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:9] اقتلوه وبعد ذلك نتوب ويتوب الله علينا، ونستريح ويقبل علينا والدنا ويحبنا، والذنب بعد التوبة لا أثر له، أما أن نبقى هكذا كل يوم في إثم وكل يوم في كرب فليس هذا من صالحنا.
اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:9] أو إذا لم تقتلوه فاطرحوه في الصحراء.. في البر تأكله الطيور أو الذئاب أوا السباع، أو يتيه، وهذا أخف من قتلكم أخاكم؛ فالقتل صعب، لكن طرحه بعيداً في الصحراء حتى يموت أو يأخذه آخر فتتخلصوا منه أولاً، وثانياً: لا تتحملون جريمة القتل لأنها عظيمة: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
إذاً: أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9] يفرغ.. كان مشغولاً بيوسف، فحين تبعدون يوسف يخلو وجه أبيكم ويقبل عليكم وتقبلون عليه وتتوبون وتصلحون، فتهيئوا للتوبة قبل الذنب لبصيرتهم.
وكيف لا وهم أولاد نبي وفي حجر نبي ويتهيئون للنبوة أيضاً، فهم قالوا: يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] أي: عابدين مستقيمين ربانيين.
وفيه معنى ارتكاب أخف الضررين؛ لأن بقاءهم في تلك الحال قلوبهم ممزقة وأبوهم بعيد عنهم، فقالوا: ننهي هذه المشكلة بالتآمر والتشاور والتدابر أو التدبير، فقالوا: اقتلوه. فقالوا: لا. ثم قالوا: اطرحوه أرضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9] ويفرغ لكم وتصبحوا أنتم معه.
وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9] أي: بعد التوبة تستقيمون وتصبحون صالحين.
وقد فسرنا الصالح منا من هو؟ والصالحون من هم؟ ولا ننسى، فالصالح من أدى حقوق الله كاملة وأدى حقوق عباده كاملة، ذلكم هو العبد الصالح، والصالح ضد الفاسد ومقابله.
إذاً: الصالح من الناس هو من أدى حقوق الله تعالى، وأدى حقوق عباده، أما من ينهش حقوق الله ويبخسها وينقصها فلا يكون صالحاً أبداً.
والذي يؤذي العباد ويأخذ حقوقهم في أموالهم أو أعراضهم أو أبدانهم لن يكون صالحاً، فالصالح من أدى حقوق الله وافية وحقوق عباده كذلك في حدود طاقته البشرية.
ابحثوا عن بئر موجود في طريق مصر وألقوه فيه.. في ظلمته فيموت أو يخرجه من يخرجه، ووفق في هذه المشورة: وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10] والسيارة ليست سيارة الحديد عندنا، بل الجماعة السائرة الكثيرة السير، فهم سيارون وسيارة.
إذاً: وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10] هذا إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:10] أما قتله فلا، وكذلك إلقاؤه في البر ليموت، لكن الأفضل والأحسن أن يلقى في بئر ويأتي الناس يسقون من البئر فيخرجونه، وهذا تدبير ذي العرش.
هم يقولون والله هو الذي يدبر، وهو الذي يقضي، وبالفعل أخذوه وألقوه في البئر، وجاءت سيارة فاستخرجوه وهم تجار فباعوه لأحد الصالحين في مصر وهو العزيز، وأصبح في بيته، وحدثت أحداث ستأتينا حدثاً بعد حدث أولها محرق وآخرها مشرق.
قال: وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:10] صادقين في عزمكم على أن تفعلوا.
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] أشرت لكم إلى أن هذا ليس تكفيراً ليعقوب، تقول: فلان في ضلال. يعني: مخطئ وليس بكافر، إذ لو كفروه لكفروا.
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9] هذا في التدبير وما اجتمعوا عليه، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:9-10].
والضالة في الفقه هي البعير والبقر والغنم، هذا هو الضال على الحقيقة، واللقطة ما يتلقط من دراهم ودنانير ويؤخذ.
فما حكم الضال؟
الجواب: أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا نأخذ ضالة البعير، بل نتركها لأن معها حذاءها وسقاءها تعيش حتى يأتيها صاحبها، فليس من حقك أن تأخذ هذا البعير؛ لأنك وجدته في الصحراء.
ثانياً: ضالة الغنم والماعز يقول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: (هو لك أو لأخيك أو للذئب)، كبش أو نعجة أو تيس أو خروف في الصحراء إما أن يأتي آخر فيأخذها وإما أن يأتي الذئب فيأخذها أو تأخذها أنت، فأنت مخير، هي لك أو لأخيك أو للذئب، وفي هذا جواز أخذها.
هذه توجد في صحراء ما عندها راع ولا صاحب، تاهت.
وأما اللقطة فيقول صلى الله عليه وسلم: ( اعرف عفاصها ) أي: وعاءها ( ووكاءها ثم عرفها سنة ) ثم بعد ذلك هي لك افعل ما شئت.
( اعرف عفاصها ) أي: وعاءها التي هي فيه؛ لأنه إذا كانت دراهم في كيس من نوع كذا وكذا، أو زنبيل في كذا، فلابد أن تعرف عفاصها ووكاءها ثم تعرفها سنة، تقف عند أبواب المساجد يوم الجمعة وتقول: من فقد أو ضاع له شيء فليأت، فإذا جاء فقل له: ما نوع الإناء الذي هي فيه؟ ما نوع الرباط الذي هي مربوطة به؟ فإن عرفها فأعطها لأخيك، ولا يحل لك أن تأخذها، وإن هو ما عرف أو ما أصاب فاتركه، فإذا لم يجيء صاحبها سنة كاملة فهي لك افعل بها ما شئت.
إذاً: عرفنا حكم الضالة واللقطة؟
الضالة: الإبل والبقر والغنم، والإبل تترك لأن معها حذاءها وسقاءها، والغنم تؤخذ لأن الذئب يأخذها.
واللقطة: ما كان ذا شأن وقيمة، أما التوافه كالحبل وغيره والعصا فلا قيمة لها، وأما ذات القيمة فهذه اعرف وعاءها الذي هي فيه والرباط الذي هي مربوطة به، وأعلن للناس سنة كاملة وأنت تخبر: عندنا ضائعة أو لقطة، فيأتي صاحبها يعرفها ويأخذها، فإذا لم يأت أحد فهي لك بعد ذلك.
هذا حكم اللقطة، وفي الآية الكريمة يقول الله: يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:10].
ما زال السياق في قصة يوسف عليه السلام، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ [يوسف:7] في شأن يوسف وإخوته وما جرى لهم وما تم من أحداث جسام عبرٌ وعظات للسائلين عن ذلك، المتطلعين إلى معرفته، (إذ قالوا) أي: إخوة يوسف، قالوا: لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ [يوسف:8] بنيامين وهو شقيقه دونهم، أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8] أي: جماعة، فكيف يفضل الاثنين على الجماعة؟ ] فضل والدهم الاثنين على الجماعة، [ إِنَّ أَبَانَا [يوسف:8] أي: يعقوب عليه السلام لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] أي: في خطأ بين بإيثاره يوسف وأخاه بالمحبة دوننا.
وقوله: اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ [يوسف:9] يخبر تعالى عما قاله إخوة يوسف وهم في خلوتهم يتآمرون على أخيهم للتخلص منه، فقالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:9] أي: بإزهاق روحه أَوِ اطْرَحُوهُ [يوسف:9] أي: في أرض بعيدة ألقوه فيها فيهلك وتتخلصوا منه بدون قتل منكم، وبذلك يخلو لكم وجه أبيكم حيث كان مشغولاً بالنظر إلى يوسف، ويحبكم وتحبونه وتتوبون إلى الله من ذنب إبعاد يوسف عن أبيه، وتكونون بعد ذلك قوماً صالحين حيث لم يبق ما يورثكم ذنباً أو يفسدكم إثماً! عزموا على التوبة قبل الذنب.
وقوله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [يوسف:10] يخبر عن تعالى عن قيل إخوة يوسف لبعضهم البعض وهم يتشاورون في شأن يوسف وكيف يبعدونه عن أبيهم ورضاه عنهم: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [يوسف:10] هو يهوذا أو روبيل، وكان أخاه وابن خالته ]؛ إذ كان يجوز أن يجمع الرجل بين المرأة وأختها، وجاء الإسلام فحرم ذلك، فلا يجمع الرجل بين المرأة وأختها، ولا بين المرأة وخالتها أيضاً، وقد كان في الشرائع الأولى جائزاً.
[ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [يوسف:10] هو يهوذا أو روبيل وكان أخاه وابن خالته، وكان أكبرهم سناً وأرجحهم عقلاً ] ماذا قال إذاً؟ [ قال: لا تقتلوا يوسف ] لماذا؟ [ لأن القتل جريمة لا تطاق ولا ينبغي ارتكابها بحال من الأحوال، وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [يوسف:10] أي: في ظلمة البئر، وهي بئر معروفة في ديارهم بأرض فلسطين، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10] أي: من المسافرين إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [يوسف:10] إن كنتم فاعلين شيئاً إزاء أخيكم فهذا أفضل السبل لذلك ].
هذا يهوذا، ولا تقل: إذاً: قيل اليهود لأن يهوذا من أجدادهم؛ فالصحيح في تسميتهم باليهود هو قولهم: إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156] الآية، أي: رجعنا تائبين.
من هداية الآيات:
أولاً: الميل إلى أحد الأبناء بالحب يورث العداوة بين الإخوة] فلا تفعلوا، الميل القلبي بالحب إلى بعض الأولاد وترك الآخرين يورث العداوة يبن بعضهم، ولا ينبغي أن يكون، أخذنا هذا من قوله تعالى: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8]. فعلى الأب أن يسوي بين أولاده حتى في النظر، كما يضحك مع هذا يضحك مع هذا.
[ ثانياً: الحسد سبب لكثير من الكوارث البشرية]، ومنها: إخراج آدم وحواء من الجنة، فسببه حسد إبليس لهما.
ثانياً: قتل قابيل لـهابيل ما سببه؟ الحسد، لما تصدق بصدقة فقبلت منه والثاني ما قبلت، فحسده فقتله.
ثالثاً: كيد اليهود ضد الإسلام، حيث حسدوا رسول الله والمسلمين حتى لا ينتشر الإسلام ويسود في الأرض وتنتهي اليهودية، فحملهم حسد الرسول والمؤمنين على الكيد والمكر للإسلام والمسلمين إلى هذه الدقيقة، سبب ذلك الحسد.
[ ثالثاً: ارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون] ارتكاب أخف الضررين، إذا كان لا بد من فعل واحد منهما فيفعل الأخف، وقد أخذنا هذا من قوله تعالى: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10].
قاعدة فقهية: ارتكاب أخف الضررين، إذا عرض لك عارض إما أن تفعل هذا أو هذا فتفعل أخفهما وأقلهما إثماً وضرراً إذا كان ولابد، فارتكاب أخف الضررين قاعدة شرعية عمل بها الأولون والآخرون أيضاً.
[ رابعاً: الشفقة والمحبة في الشقيق أكبر منها في الأخ للأب ].
وهذا صحيح، فالشفقة والمحبة في الشقيق أكثر منها في الأخ للأب، وإلى الآن موجود هذا، فالذي ترضع معه من ثدي أمك أحب إليك ممن يرضع ثدي امرأة أخرى وإن كان الأب واحداً.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونتعلم ونسمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر