أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ) .
وها نحن مع سورة يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وها نحن مع هذه الآيات الأربع، فهيا بنا لنصغي مستمعين تلاوتها مجودة مرتلة، ونتدبر ونتفكر ثم نتدارسها إن شاء الله.
قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:30-33].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! عرفنا أن زليخا امرأة العزيز راودت يوسف عن نفسه، وهمت بضربه وهم بضربها، ثم استبقا الباب وقدت قميصه من دبر، وأتى الله بشاهد وهو طفل رضيع، وهو شاهد يوسف، فقال ما سمعتم: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27] فثبت أن يوسف كان بريئاً، وأن التي همت بالضرب هي زليخا ، وما همت بضربه إلا بعد أن امتنع من قضاء حاجتها.
وتحدث الناس وانتشرت الفكرة في البلاد، وإذا بنسوة -إما من الأميرات أو شريفات أو نساء الأغنياء والمسئولين- اجتمعن وتحدثن وتعجبن من موقف زليخا ! ولعلهن طعنَّ فيها أو اغتبن أو قلن فيها.. هذه عادة الناس.
فأخبر تعالى عن هؤلاء النسوة، فقال: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف:30] التي هي العاصمة في ذلك الزمن في ديار مصر، وليس في المدينة النبوية.
ماذا قلن امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] امرأة العزيز تراود فتاها: خادمها، أصل الفتى: الشاب، والفتاة: الشابة، لكن يطلق على الخادم أيضاً، وهو شاب بالفعل.
هل هي تملكه؟ أو هو مملوك لزوجها؟ الكل جائز، قد يكون وهبها زوجها هذا الغلام ليخدمها، والله يقول: فَتَاهَا [يوسف:30] سواء كان مملوكاً لها أو لزوجها فهو فتاها.
ماذا قال النسوة؟ قلن امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:30] أي: تريد منه أن يجامعها، وقلن: قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا [يوسف:30] أي: ملأ قلبها حبه. شغف القلب: امتلأ بحبه، فما تمالكت وما صبرت.. ما استطاعت الصبر؛ لأن حبه ملأ قلبها، سد شغافه.
وقلن: إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] هذا القول قول النسوة في المدينة اللائي تحدثن في غيبة زليخا ، وقلن ما شئن أن يقلن، ومن جملة ذلك: قولهن إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] ما من حقها أن تقف هذا الموقف، ولا أن تفعل هذا الفعل، فهي ضالة وتائهة، وضلالها واضح بين.
إذاً: لا بد أن ينتقل الخبر إليها، فبلغ زليخا أنهن اجتمعن في بيت كذا في يوم كذا وقلن وقلن.
أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف:31] أولاً: طلبت منهن الحضور لأجل غداء أو عشاء، دعوة وليمة، ثم قبل مجيئهن أعدت لهن كراسي ومتكآت للجلوس عليها.
وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:31] لما أجلستهن تلك الجلسة المهمة التي فيها اتكاء أعطت كل واحدة منهن سكيناً وأترجة وبعض العسل، والأترج معروف يقطع بالسكين ويؤكل مع العسل.
وبالفعل جلسن واتكأن وبين أيديهن العسل والأترج والسكاكين لقطع الأترج، فلما أخذن في الأكل فتحت الباب وقالت ليوسف: اخرج. ما قالت: ادخل عليهن؛ لأنه في غرفة خاصة داخلة، قالت: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف:31] فما إن خرج يوسف -وهو كالبدر ليلة تمامه- حتى ارتفعت الأبصار والعيون، وأصبحن يقطعن أيديهن.
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31] أعظمنه وأجللنه فوق المستوى وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31] ليس شرطاً أن تقطع اليد، بل جرحها، قطع الجلد، ولكن للمبالغة يقول: قطع يدي، وهو جرحها، وكم من إنسان يقول هكذا؟!
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا [يوسف:31] أي: معاذ الله أن يكون هذا الفتى بشراً! هذا من جنس الملائكة؛ لأنهن ضعاف العقول صغيرات الفهوم والعقول والمدارك، فنزهنه أن يكون بشراً من هذا النوع.
إذاً: هذا من الملائكة! وكانوا يؤمنون بالملائكة ويعرفونهم، وكانوا يصنعون التماثيل ليعبدوها متوسلين بها إلى الله، فما هناك عجب أن يعرفن الملائكة.
وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا [يوسف:31] أي: ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31] هذه كلمة النسوة.
وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] اعترفت فما بقي شيء خفي، وانتشرت القصة في كل المدينة.
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32] على أنني راودته عن نفسه، وقلتن: كيف تراود خادمها عن نفسه؟ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] واستمسك بحبل الله وأبى أن يأتي الفاحشة، فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] وأبى أن يأتيني. فهذا اعترافها وهو الواقع.
ثم قالت: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] كأنها الملكة، وهو يسمع، وهن يسمعن في جلسة واحدة، ماذا قالت؟ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ [يوسف:32] به، ما هو؟ أن يأتيها للفاحشة، لَيُسْجَنَنَّ [يوسف:32] أي: ليدخلن السجن كالمجرمين الذين في السجون، وزوجها هو الملك والسلطان.
وَلَيَكُونًا [يوسف:32] الأصل: (وليكونن)، وهذه نون مخففة كقوله تعالى: لَنَسْفَعًا [العلق:15]، لَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] أي: وعزة الله! ليكونن من الصاغرين. أي: الأذلاء المهانين، فهو مخير بين أحد الأمرين: إما أن يستجيب ويحقق رغبتي فيه، وإما أن يدخل السجن، وإن لم يدخل السجن فسيعذب العذاب الأليم، واحدة من اثنتين.
إلى الله. قَالَ رَبِّ [يوسف:33] يا رب! السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] السجن والبقاء فيه مع المسجونين أحب إلي من أن أرتكب الفاحشة، وأغشى هذه المرأة التي لا تحل لي.
دعا ربه واستجاب الله له: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] ما قال: مما تدعوني إليه؛ لأن القضية الآن شاعت وانتشرت، واللائي حضرن وقطعن أيديهن كل واحدة تريد يوسف؛ لصغر عقولهن.
فقال هو يخاطب ربه تعالى ويدعوه ويسأله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] هكذا يخاطب يوسف ربه، وهو بين يديه يسمعه ويراه.
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] من ارتكاب الإثم وغشيان الذنب، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ [يوسف:33] ومكرهن وحيلهن أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33] أقع في الفخ وَأَكُنْ [يوسف:33] بعد ذلك مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] الذين جهلوا مقام ربهم، جهلوا جلال الله وكماله، جهلوا أمره ونهيه؛ فارتكبوا المعاصي وغشوا الذنوب.
فَلَمَّا سَمِعَتْ [يوسف:31] زليخا بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:31] وما قلنه وتحدثن به وما بيتنه من الحيل والمكر أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ [يوسف:31] بواسطة رجالها.. خدمها، وأعدت لهن متكأ وطعاماً وهو الأترج والعسل والسكاكين لقطع الأترج، وهي عارفة بهذا أنهن سيقطعن أيديهن، وما إن جلسن حتى قالت: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف:31] فخرج يوسف كالبدر، وما قالت: ادخل عليهن، بل اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف:31] فخرج كالقمر، فتعلقت القلوب والأبصار به وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [يوسف:31].
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ [يوسف:31] من العتاد، يعني: أعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ [يوسف:31] أي: وأعطت كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:31] والجمع سكاكين، وهي معروفة تقطع الأترج، وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
فلما سمعت زليخا هذا الكلام قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] وأبى، وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] الأذلاء؛ لأن زوجها هو السلطان، تقول له: اسجنه فيسجنه.
فماذا قال يوسف عليه السلام؟ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] من ارتكاب الفاحشة وغشيان الذنب وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33] أمل إليهن وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] وحاشاك ربي أن تقبل مني هذا.
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34] السميع لأقوال عباده في دعائهم وغيره، العليم بأحوالهم ومقاصدهم.
ما زال السياق الكريم ] فهمنا السياق مما تقدم؛ لأن القصة كالسيل واحدة، من ساق يسوق، فهو ماش في طريق واحد.
[ ما زال السياق الكريم في قصة يوسف، إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه السلام ] ما الحكم الذي أصدره شاهد يوسف؟ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ [يوسف:26]، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ [يوسف:27].
قال: [ انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء ]، بعد ذلك الحكم انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء [ فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز؛ حيث راودت عبداً لها كنعانياً ] من بني كنعان من أرض فلسطين، [ راودته عن نفسه، وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية، إذ قال تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ [يوسف:30] أي: عاصمة مصر يومئذ ] قلن ماذا؟ [ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا [يوسف:30] أي: عبدها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا [يوسف:30] أي: قد بلغ حبها إياه شغاف قلبها، أي: غشاه وغطاه. إِنَّا لَنَرَاهَا [يوسف:30] ] في نظرنا[ إِنَّا لَنَرَاهَا [يوسف:30] أي: نظنها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30] أي: خطأ واضح؛ إذ كيف تحب عبداً وهي من هي في شرفها وعلو مكانتها؟
قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:31] أي: ما تحدثن به في غيبتها، أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا [يوسف:31] أي: فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه، فأعدت لهن حفل طعام وشراب، فلما أخذن في الأكل يقتطعن بالسكاكين الفواكه كالأترج وغيره؛ أمرته أن يخرج عليهن ليرينه، فيعجبن برؤيته، فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل، وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة، وهذا ما جاء في قوله تعالى: وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا [يوسف:31] أي: إنساناً من الناس، إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ [يوسف:31] أي: ما هذا إلا ملك كَرِيمٌ [يوسف:31]. وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه.
وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف:32] أي: هذا هو الفتى الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه، وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ [يوسف:32] أي: راودته فعلاً وامتنع عن إجابتي.
وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ [يوسف:32] أي: به مما أريد منه لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف:32] أي: الذليلين المهانين، وهكذا أسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به، ومن هنا فزع يوسف إلى ربه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها؛ فقال ما أخبر تعالى به عنه: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] أي: يا رب! فلذا عد كلامه هذا سؤالاً لربه ودعاء، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] أي: من الإثم، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي [يوسف:33] ] تبعدني [ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ [يوسف:33] أي: كيد النسوة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف:33] أي: أمل إليهن، وَأَكُنْ [يوسف:33] أي: بفعل ذلك مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] أي: الآثمين بارتكاب معصيتك، وهذا ما لا أريده وهو ما فررت منه وهربت.
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف:34] أي: أجابه في دعائه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ [يوسف:34] تعالى هُوَ السَّمِيعُ [يوسف:34] لأقوال عباده ودعاء عبده وصفيه يوسف عليه السلام، الْعَلِيمُ [يوسف:34] بأحوال وأعمال عباده، ومنهم عبده يوسف؛ ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم، أي: الخوف من نفسه، ولله الحمد والمنة ].
من هداية الآيات:
أولاً: بيان طبيعة الإنسان في حب الاطلاع وتتبع الأخبار ] هذا واقعنا.
الإنسان بطبيعته.. بطبعه يحب الاطلاع، ويتتبع الأخبار، واسألوا أصحاب الراديو، واقرءوا الصحف وما إلى ذلك، بالفطرة. من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ [يوسف:30] كذا وكذا، أردن أن يطلعن.
[ ثانياً: رغبة الإنسان في الثأر لكرامته وما يحميه من دم أو مال أو عرض ]، رغبة الإنسان أي إنسان في الثأر من أجل ماذا؟ من أجل كرامته التي ديست وأهينت، ومن أجل ما يحميه من دمه أو ماله أو عرضه.
من أين أخذنا هذا؟ من قوله تعالى: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ [يوسف:31] فعلت الذي فعلت لتنتقم، وبالفعل قطعن أيديهن.
[ ثالثاً: ضعف النساء أمام الرجال ]، لو دخلت امرأة كالقمر على عشرة أو أحد عشر رجلاً فهل سيقطعون أيديهم؟ ولا واحد يقطع يده، لكن النساء ضعيفات، ما تمالكن أنفسهن أبداً؛ لأنهن نظرن ونسين السكاكين في أيديهن والفاكهة في أيديهن حتى مزقن أيديهن.
[ ضعف النساء أمام الرجال وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال ]، الرجال يتحملون ويصبرون.
[ رابعاً: إيثار يوسف عليه السلام السجن على معصية الله تعالى، وهذه مظاهر الصديقية ]، آمن بالله وصدق، وأصبح من أوليائه، فكيف يرضى أن يعصي ربه؟
إيثار يوسف السجن، قال: السجن أحب إلي من أن أرتكب ذنباً من الذنوب، وهذا -والحمد لله- يفعله كل المؤمنين والمؤمنات، يرضى أن يسجن ولا يرضى أن يرتكب فاحشة.
[ خامساً: الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض ].
هذا القول تكرر عندنا مئات المرات، لو تريد أن تعلل: لماذا هذا الظلم؟ لماذا هذا الفسق؟ لماذا هذا الفجور؟ لا علة إلا الجهل.
لم فلان يعتدي؟ لم فلانة تظلم؟ لم كذا؟ ما السبب؟
الجواب: ما عرفوا الله، ولو عرفوه لخافوه، ولو خافوه لأحبوه، ولو أحبوه وخافوه لأطاعوه وما عصوه ولا خرجوا عن طاعته، فهذه حقيقة لا ننساها.
كل الذي تشكوه أمة الإسلام -ودعنا من أمة الكفر- إن كان فيها ظلم أو فسق أو فجور فهو نتيجة الجهل، والله! إن هذا لهو ثمرة الجهل.
وقد ضربنا لذلك مثلاً وقلنا: أهل القرية ادخلها واسأل عن أعلمهم؛ تجده أتقاهم وأبرهم وأصلحهم، وتجد أجهل أهل القرية أظلمهم وأفسقهم، وهذا أمر واضح؛ فلهذا فرض علينا أن نتعلم.
نتعلم ماذا؟ ليس المهن فقط والصناعات، بل نتعلم حتى نعرف ربنا معرفة يقينية، ونصبح بين يديه إذا قلنا أو تكلمنا أو أكلنا أو شربنا، لا نفارق ربنا أبداً، فلا نقوى على معصيته ولا على الخروج عن طاعته.
فالذين نشكو آلامهم وأتعابهم سبب ذلك جهلهم، من علمهم؟ من عرفهم بالله؟
أما دعوى أنني مؤمن أو مسلم؛ فلا تزكية أبداً، لا بد من العلم، ماذا قال الصديق؟ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف:33] والعياذ بالله تعالى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر