وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
ها نحن مع سورة مريم عليها السلام، وها نحن مع هذه الآيات سنسمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:24-31].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! من أين يأتي هذا الخبر وهذه الأخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم العربي القرشي الأمي في مكة؟
فهذا دليل نبوته وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يردوا عليه هذا الكلام الطيب، ومعنى هذا أنه يوحى إليه، وأنه رسول الله.
ثم مريم عليها السلام كما رزقها الله الولد بدون ما زوج ولا جماع، قبل ذلك رزق الله زكريا يحيى، وأم الولد عقيم، وزكريا كبير السن تجاوز الخمسة والتسعين، آية من آيات الله تدل على وجود الله وعلى قدرته وعلى علمه وحكمته، وأنه بذلك لا إله إلا هو ولا رب سواه.
فقوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ [مريم:16] أي: اذكر في القرآن الكريم يا رسولنا! مريم خادمة الله، فمن أين للرسول أن يقول هذا لولا أنه وحي الله وكتابه؟ اذكرها يوم أن انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، وانقطعت عن أسرتها، واتخذت مكاناً شرقياً من الأسرة.
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا [مريم:17] يحول بينها وبينهم، فأرسل الله تعالى إليها روحه جبريل عليه السلام: فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، أي: جبريل الملك ذو الستمائة جناح يتمثل لـمريم رجلاً حسن الوجه والطلعة، كما تمثل لرسولنا صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18].
وهنا لطيفة: الأتقياء إذا استعيذ بالله منهم لا يعصون ولا يظلمون ولا يعتدون أبداً: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، فالأتقياء الذين يخافون الله عز وجل عندما يذكرون بالله وبما عنده لا يعصونه أبداً، ولا يقارفون الذنب، وعرفت مريم البتول هذا؛ لأنها تعيش في أسرة طاهرة.
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19] بشرها وأخبرها بأنه رسول من الله إليها لمهمة، وهي أن يهبها الله غلاماً زكياً، ألا وهو عيسى روح الله عليه السلام، فماذا قالت مريم البتول؟
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]، أي: كيف يكون هذا؟ ما تزوجت ولا جامعني رجل، ولا زنيت ولا فجرت، فكيف يكون لي ولد؟!
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم:21] أي: إيجاده وخلقه بدون أب، هو هين على الله عز وجل.
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم:21] تدل على أن الله على كل شيء قدير، وعلى أن الله يوحي إلى أنبيائه ورسله، وعلى أن الله رب كل شيء ومليكه، وخالقه وإليه المصير.
وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم:21]، وقد رحم الله بعيسى فوق ما نتصور من الرحمات، وسوف ينزله في آخر الزمان، وتتجلى رحماته أيضاً مرة أخرى.
وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا [مريم:21]، أي: قضى الله بوجود عيسى في بطن أمه مريم عليهما السلام، فحملته على الفور في بطنها قال الله: كن فكان.
بل كان بكلمة (كن).
فما كان منها إلا أن هربت بعيدة من قومها حوالي كذا ميل؛ لأنها تخاف، فقد يقال: كيف تلد مريم ؟! فهي لم تتزوج.. وهكذا، كما تعرفون العوام.
فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا [مريم:22] أي: بعيداً كذا ميل، ولما هربت وولدها في بطنها ألجأها المخاض وألزمها.
فلابد من تعب ولابد من ألم.
أي: ألجأها المخاض إلى جذع النخلة، قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ [مريم:23] قراءة سبعية: (مُتُّ)، قَبْلَ هَذَا [مريم:23] هذا الذي تمنته على الله، أنها لو كانت ماتت وهي صغيرة قبل أن تحمل في بطنها عيسى عليه السلام: مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23] أي: شيئاً منسياً لا يذكر، وهذا من باب أنها خافت من لوم قومها وعتابهم، والتشنيع عليها، واتهامهم لها بأنها فجرت، وكيف ولدت؟! فهذا لا يطاق، فتمنت على الله لو كانت نسياً منسياً، أي: من الأشياء التي لا تذكر أبداً.
قال تعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [مريم:24]، أي عندما سقط من فرجها وبطنها نطق ونادى، وهذه آية من أعظم الآيات، فكيف الوليد الرضيع الذي ينزل في ساعة يتكلم، ويبين الطريق ويهدي إليها؟!
فهذه آية أخرى.. كونه كان بدون أب من أعظم الآيات، وكونه ينطق ويفصح ويرشد والدته إلى أن تفعل كذا وكذا من أعظم الآيات، ما تم هذا أبداً في الكون.
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا [مريم:24] بأن قال لها: أَلَّا تَحْزَنِي [مريم:24]، والحزن: الألم النفسي، وكانت تألم وتحزن وتكرب، لولا أن الله عز وجل نجاها من هذا؛ لما بين لها ولدها: أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم:24]، والسري: النهر العذب والماء الطيب.
فمن قال: إنه جبريل، فالجواب: لا، إنما هو عيسى عليه السلام، وهذا الذي رجحه ابن جرير .
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، فالنخلة لا يستطيع من يحرك جذعها حتى لو كانوا عشرة من الرجال، ولكن مريم عليها السلام وضعت يدها على جذع النخلة فتساقطت الرطب بمشيئة الله تعالى.
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، قال: (بجذع) ولم يقل: بالعرجون أو القنو وهما في أعلى النخلة، والجذع هو أسفل النخلة، فقط هزيه فيتحرك فتتساقط الرطب.
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25] أي: ناضجاً مستوياً تأكلينه، وهذه من أعظم الآيات، فكون عيسى بدون أب آية، وكونه تلده في ساعة واحدة آية أيضاً، وكونه ينطق ويكلمها آية كذلك، وكون الجذع يتحرك ويسقط الرطب آية من أعظم الآيات.
فهذا هو الله الذي يجب أن ندعوه، وأن ننطرح بين يديه، وأن نسأله حاجاتنا، وأن لا نعرض عن ذكره ولا عن دعائه، بل نعلن دائماً عن افتقارنا إليه عز وجل، فالله هو الذي فعل هذا مع مريم وقادر على أن يفعل معك أنت، ويعطيك ويقضي حاجة من حاجاتك.
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، أي: النخلة تساقط عليكِ الرطب الجني؛ لتأكليه وتشربي من النهر الذي تحتك.
ثم قال: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا [مريم:26]، أي: إن رأيتِ إنساناً وأراد أن يسألكِ: من أين هذا الولد، وكيف ولدتِ؟ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26] أي: بأن لا أكلم أحداً، أي: قولي: نذرت لله أن لا أتكلم.
ومعنى الصوم هنا: الإمساك عن الكلام كالإمساك عن الطعام.
فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا [مريم:26] أي: سواء من أقربائكِ أو من غيرهم، فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] أي: حتى لا تسأل، فتجيب بكذا وكذا وتقع في فتنة.
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]، والنذر عبادة من العبادات وهو أن يتطوع المرء، فيقول: لك يا ربِّ أن أصوم كذا، أو لك يا ربِّ أن أتصدق بكذا، أو لك يا ربِّ أن أقوم هذا الشهر ليله كنهاره، فهذا هو النذر ويجب الوفاء به، حتى في شريعة من قبلنا.
(إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ) فلا أستطيع إذاً أن أتكلم، وإنما تكفي الإشارة، فلا تكلموني.
وقد سبق أن زكريا عليه السلام عندما طالب الله بالآية الدالة على أنه سيرزق ولداً مع كبر سنه وعقم امرأته، فقال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، وقال: ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10] وهاتان آيتان، فسبحان الله العظيم!
قال تعالى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26]؛ حتى يبتعدوا عنك ولا يكلمونك، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] أي: من الناس.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [مريم:27] أي: نوعاً من الافتراء والكذب والعجب! ما هذا الذي جئتِ به؟!
أي: يا أخت العبد الصالح! مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، أي: ما كان أبوك إنساناً فاسداً فاسقاً فاجراً، ولا كانت أمك زانية، فكيف أنت تفعلين هذا؟! وهذا كلام العقلاء
فلما تبين لهم الواقع استسلموا وانقادوا.
قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]، وهذه حقيقة، فالطفل المولود الذي ما زال في المهد، وفي الشهر الأول أو الثاني أو العام الثاني فكيف له أن يتكلم؟!
فيا ليتنا قُبلنا مع الله وأصبحنا حقاً عبيده، نعبده الليل والنهار!
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:30-33]، فهذه كلمات عيسى الرضيع في يوم ولادته! فمن علمه هذا، وكيف عرف؟!
قولوا: آمنا بالله، وهيا نحب الله عز وجل ونخافه، وهيا نكون في أنفسنا حب الله والخوف منه، فإن من فقد حب الله والخوف منه لن ينجو ولن يسلم أبداً، ولن يسعد ولن يكمل، فلنذكر هذه الأحداث العجيبة.
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] (الكتاب) أي: الإنجيل يخبر بأشياء ما وقعت، ولكن مجزوم بوقوعها وآتية لا محالة، فقد أنزل عليه الإنجيل.
آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] أولاً وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30]، فعيسى نبي الله ورسوله، وهو من أولي العزم، فقد تكلم مع القوم وهو رضيع وأمه صامتة؛ لأن الله أرشدها لذلك.
أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي [مريم:31] أي: أوصاه بأمرين عظيمين ألا وهما: بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:31] حتى وقوع الموت.
فمن المسلمين من لا يزكي، ومن المسلمين من لا يصلي، وهناك أيضاً ممن آمنوا بالله ولقائه لا يصلون ولا يزكون، وهذا عيسى يقرر الصلاة والزكاة قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ [مريم:31] أي: على أي كانت من الدعاء والقيام والركوع أو السجود، وَالزَّكَاةِ [مريم:31] التي هي تطهير النفس وتطييبها بالمال الذي ينفق في سبيل الله.
وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، ولهذا الصلاة لا يتركها العبد إلا إذا فقد عقله، أو غرغرت الروح وحشرجت في صدره، فالمريض يصلي بالإيماء والإشارة، وإن عجز عن تحريك رأسه يصلي بأشفار عينيه.
الأولى: أن لا تؤذي أبويك بأي أذى كان.
ثانياً: أن تصل الخير إليهما.
ثالثاً: أن تكف أذاك عنهما.
رابعاً: أن تطيعهما فيما يأمرانك وينهيانك، إلا إذا أمراك بغير طاعة الله وطاعة رسوله.
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، الجبار: الذي يجبر الناس بالعصا والهراوة أو بالصوت العالي على أن يطيعوه في معصية الله. والعصي: ذاك الذي يتمرد عن شرع الله ويخرج عن طاعته.
(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) فعيسى عليه السلام عاش ثلاثة وثلاثين سنة كالملك في الأرض، ثم رفعه الله تعالى إليه.
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي [مريم:32] (بوالدتي) ولم يقل: بوالدي، إذ ليس معه إلا والدة فقط وهي أمه، وسبق أن ذكرنا أن الخلق ثلاثة أصناف: صنف وجدوا بآباء بدون أمهات، وصنف بأمهات دون آباء، وصنف بلا آباء ولا أمهات، فآدم عليه السلام وجد بدون أب ولا أم، وحواء عليها السلام زوجته وأم البشرية خرجت من ضلعه الأيسر، فلها أب ولا أم لها، وعيسى عليه السلام له أم ولا أب له، وما عدا ذلك من البشرية من أبوين: أم وأب، لكن آيات الله الدالة على قدرته وعلمه وحكمته تتجلى في واحد من هؤلاء الثلاثة.
آدم بدون أم ولا أب أصبح رجلاً، وحواء بدون أم أصبحت امرأة وسيدة النساء، وعيسى عليه السلام بدون أب أصبح رجلاً صالحاً نبياً.
وعيسى عليه السلام قال: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:33]، ونحن نقول: اللهم اجعل السلام لنا يوم نموت ويوم نبعث أحياء، أما ولادتنا فقد كانت ومضت، أما ما بقي من عمرنا: اللهم اجعل السلام علينا يوم موتنا، والسلام علينا يوم تبعثنا أحياءً يوم القيامة.
قال تعالى: فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، ولا حرج عليها أبداً ولا إثم إن تمنت على الله أنها ما وجدت وما كانت؛ حتى لا تتعرض للفتنة التي لا تطاق، ولكن الله نجاها وسلمها.
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [مريم:26] أي: وافرحي وابتهجي وطيبي نفساً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا [مريم:26] أي: ممن يأتون يلومون ويقولون: كيف ولدتِ، وكيف كذا؟ فَقُولِي [مريم:26] أي: قولي لهم: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26]، أي: لا تجيبينهم إلا بهذا الكلام.
إذاً: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ [مريم:27] أي: في خرقة من الكتان، قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:27-28] أي: ما كانت أمك زانية فاجرة، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:29] أي: إلى عيسى، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]؟ هي أشارت إليه: أن كلموه يخبركم، قَالُوا [مريم:29] هم: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم:29]؟
إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ [مريم:30] أي: الإنجيل بعدما أكبر قطعاً، وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30] من الأنبياء، وهذا تقرير أن عيسى عليه السلام ليس ابن الله، ولا بإله مع الله أبداً، بل عبد الله ونبيه، فنحن نقول في نبينا: وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، هذه تلقاها وهو بين يدي أمه وفي حجرها.
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:32-33] اللهم ارزقنا سلامك، وسلامك عند موتنا
وعند بعثنا يا رب العالمين!
أولاً: من مظاهر قدرة الله تعالى حمل مريم ووضعها في خلال ساعة من نهار]، وهذه من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته كونها تحمل وتلد في ساعة من النهار، بمجرد ما نفخ في كمها وصلت الروح إلى بطنها وتكون الولد، ولجأت إلى النخلة! فهذه آية من آيات الله.
[ ثانياً: إثبات كرامات الله لأوليائه، إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه، فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن ]، وهذا من إكرام الله لأوليائه، فما زال الله يكرم أولياءه متى وجد له أولياء واحتاجوا إلى هذه الكرامات والله يعطيهم إياها ويكرمهم إياها، وليس بعجب أبداً أن تتهم وأنت ولي الله بتهمة عظيمة، وليس بعجب أن ينطق الله ذلك الطفل ويقول: كذا وكذا، فهذه آية من آيات الله، ولا عجب في هذا.
[ فأرشدها وبشرها وأذهب عنها الألم والحزن، وأثمر لها النخلة فأرطبت، وأجرى لها النهر بعد يبسه.
ثالثاً: تقرير نظام الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها، فإن الله تعالى قد أثمر لـمريم النخلة، إذ هذا لا يمكنها القيام به ].
يا معاشر المستمعين والمستمعات! إن لله سنناً في خلقه، وتلك هي الأسباب، فإن أردنا أن نجني الرطب فلابد وأن نتسلق النخلة وهذا سبب، فالله عز وجل أمرها أن تحرك جذع النخلة ولو شاء ما تحركه، لكن حتى نؤمن بالأسباب: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، فالأسباب لابد منها، ويجب أن نعترف بها، وأن نمشي معها، وإذا أراد الله شيئاً بدون سبب كان، لكن آيات من آياته وكرامة لأوليائه عز وجل.
قال المؤلف غفر الله له ولنا ولوالدينا أجمعين في النهر: [قالت العلماء: أكل الرطب للنفساء من أنفع الأغذية لها؛ نظراً إلى أن الله تعالى اختاره لـمريم عليها السلام]، وهذه لطيفة علمية قالها العلماء: أكل الرطب قطعاً نافع غير ضار، وحسبنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم إذا كان صائماً يفطر على الرطب، فإن لم يجد فعلى التمر، فالرطب له نفعه وأثره في النفس، وقرر هذا الأطباء وأثبتوه، فإذا نفست المرأة وقدم لها رطب كان أنفع لها في صحتها ويساعد على برئها وسلامتها؛ اقتداء بـمريم عليها السلام.
[ رابعاً: مشروعية النذر إلا أنه بالامتناع عن الكلام منسوخ في الإسلام ].
مشروعية النذر -كما قلت لكم-: انذر لربك يا عبد الله! يا من يريد أن يتملق إلى ربه، ويتزلف إليه ليحبه وليحفظه؛ تملقه بما يحب، إما بالصلاة، إما بالصيام، إما بالصدقات، إما بالعكوف في بيوت الله متملقاً إلى ربك، مشروعية النذر لله عز وجل، لكن من نذر يجب أن يفي بنذره، قال تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]، فلابد من الوفاء به، ولهذا ما تنذر شيئاً لا تطيقه فتعجز، بل انذر قدر الاستطاعة كصيام ثلاثة أيام، أو التصدق بمائة ريال مثلاً.
ثانياً: الامتناع عن الكلام هذا ليس ممنوعاً عندنا، وهذا خاص بـمريم المرأة المؤمنة الصالحة؛ لأنها لو تكلمت معهم لاتهموها ولن يسكتون عنها، ولكن قالت: أنا لن أتكلم، ونذرت لله أن أصوم عن الكلام، وقالت: كلموا الولد! وهذا خاص بعيسى وأمه.
[ تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعبودية عيسى ونبوته عليهما السلام ].
في هذه الآيات تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والله! إنه لنبي الله ورسوله، وإلا من أين يأتيه هذا العلم الذي نقرأه؟ ومن أين أتانا لولا أننا نقرأ في كتاب الله عز وجل؟
تقرير نبوته صلى الله عليه وسلم، ونبوة عيسى وعبوديته لله عز وجل؛ فلهذا لا نسمع أبداً جدل من يجادل ويقول: عيسى ابن الله، أو ثاني اثنين مع الله، إلى غير ذلك من الأباطيل، إنما هي والله! أكاذيب وضعوها؛ ليحرموهم من الإسلام والعياذ بالله.
[ آية نطق عيسى في المهد، وإخباره بما أولاه الله من الكمالات ].
فكون عيسى ينطق وهو في المهد آية من آيات الله عز وجل، وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله وولايته لأوليائه.
[قال المؤلف في النهر: قيل: لما سمع كلامهم ترك الرضاعة وأقبل عليهم بوجهه، وقال مشيراً بسبابته اليمنى: إني عبد الله، فكان أول ما نطق به الاعتراف بعبوديته لله تعالى، وفي هذا رد على الذين ألهوه وعبدوه من دون الله تعالى].
الله أكبر! لما جاءوا يكلمونه كان يرضع، ترك الثدي وأقبل عليهم وقال: إني عبد الله! وكلمهم، ولو كان النصارى يعرفون هذا ومسموحاً لهم بأن يسمعوا ويعرفوا والله! لأسلموا كلهم، لكن منعوهم، أولاً: جهلوهم، وثانياً: سلطوا عليهم القسس والرهبان يتحكمون فيهم، والعياذ بالله.
[ وجوب بر الوالدين بالإحسان بهما وطاعتهما بالمعروف وكف الأذى عنهما].
وجوب بر الوالدين معلوم بالضرورة عندنا في كتاب الله وعلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
[ أخيراً: التنديد بالتعالي والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان]؛ لقوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]. نجانا الله وإياكم من الكبر والظلم والاعتداء على المؤمنين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر