إسلام ويب

تفسير سورة مريم (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ينفي الله عز وجل عن نفسه أن يتخذ ولداً، ويخبر سبحانه أن عيسى عليه السلام إنما هو خلق من خلق الله، خلقه سبحانه بكلمته ونفخ فيه من روحه، وبالرغم من الحقيقة الأكيدة والأمر القطعي الذي جاء به عيسى قومه من عبوديته لله، إلا أنهم اختلفوا فيه اختلافاً عظيماً، فمنهم من قال: هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو وأمه إلهين من دون الله، وعلى الرغم من اختلافهم وتباينهم إلا أنهم اتفقوا على الضلال المبين، ونقضوا توحيد رب العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون)

    الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس -إن شاء الله- كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده ).

    ها نحن مع سورة مريم عليها السلام، وها نحن مع هذه الآيات نسمع تلاوتها مجودة مرتلة، ثم نتدارسها إن شاء الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:34-40].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] قراءتان سبعيتان: (قولُ) و(قَوْلَ)، (قَوْلَ الْحَقِّ)، أي: ذلك عيسى ابن مريم الذي جاء جبريل وبشر به مريم عليها السلام، ونفخ في كم درعها فحملت، وألجأها المخاض على الفور إلى جذع النخلة وولدت عيسى وهو الذي كلمها، وقال لها: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [مريم:25-26]، وهو الذي قال لها: فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا [مريم:26] أي: أن لا تكلم أحداً، قال لها: إذا جاءوك وسألوك عن سبب ولادتك قولي لهم: أنا نذرت ألا أكلم أحداً، وأشيري إلي أنا أكلمهم، وأشارت إليه فكلمهم، وهذا هو عيسى بن مريم، قال تعالى: (ذَلِكَ) الذي سمعتم كيف كان ووجد وكيف قال، هو عيسى بن مريم، ونسبه إلى أمه إذ لا أب له، وأما الذي له أب في عرصات القيامة ينادى باسم أبيه، يا ابن فلان! لكن عيسى عليه السلام ما دام لا أب له ينادى بأمه، وهو هكذا يقول تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:34] وقد علمتم أن مريم معناها: خادمة الله.

    قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] أي: يشكون ويضطربون، إذ اليهود قالوا في عيسى: ساحر، وقالوا: ابن زنا، وقالوا ما قالوا، والنصارى قالوا فيه: ابن الله، وقالوا فيه: ثالث ثلاثة مع الله، وقالوا فيه ما قالوا، وهذا هو عيسى بن مريم قَوْلَ الْحَقِّ [مريم:34] الذي فيه مع الأسف يَمْتَرُونَ [مريم:34]، مع أنه واضح وضوح الشمس، فأمه لم تتزوج ولم يجامعها أحد، وأنجبته في ساعة، وتكلم ونطق وعلم وأرشد، وهذا هو عيسى بن مريم؛ لم لا ينسبونه إلى الله ويقولون: عبد الله ورسوله ونبيه؟ وكان بكلمة التكوين: كن فكان!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ...)

    ثم قال تعالى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم:35] أي: ليس من شأن الله أبداً أن يتخذ ولداً وهو يقول للشيء: كن فيكون، ولو أراد أن يكون مليون إنسان لقال: كونوا لكانوا! فهل مثل هذا ينسب إليه الولد؟!

    وهذه زلة كبرى عظيمة، فما زال المسيحيون المنتسبون إلى المسيح المعروفون بالنصارى في ضلالهم وعميهم إلى الآن ينسبونه لله ولداً -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.

    فنزه تعالى نفسه فقال: سُبْحَانَهُ [مريم:35] أي: مقدس ومنزه عن الزوجة والولد، وعن الشريك وعن الشبيه، وعن المثيل وعن النظير، وعن العجز والنقص في كل مكان، سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:35]، هل هذا الذي إذا أراد شيئاً يقول له: كن يكون، يحتاج إلى ولد ينسب إليه؟

    فالبشرية كلها هو خالقها وموجدها ورازقها، زلة عجيبة لو ما وقعت نقول: هذا ما كان ولن يكون، وإلى الآن النصارى أبيضهم وأسودهم يعتقدون أن عيسى ابن الله، ورفضوا كلام الله وكذبوا رسول الله، فأين العقول؟ وأين الفهوم؟ وأين البصائر؟ عمت كلها وكلت، وعجزت أن تدرك هذه الحقيقة!

    إذا قضى أمراً وأراده وحكم به، يقول له: كن فقط، فهو يكون!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم)

    ثم قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم:36] هذا خطاب لليهود والنصارى والمشركين والمسلمين والبشرية كلها، يقول عيسى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [مريم:36]، فإذا بهم يعبدون عيسى بدل أن يعبدوا الله! وهذه كلمة غالية: (وإن الله ربي أنا)، خالقي مالكي سيدي معبودي، وإلهكم أنتم ربكم وخالقكم ومعبودكم، هيا إذاً: فاعبدوه!

    ثم قال: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36] من سلكه نجا، ومن أعرض عنه وأدبر وتولى خسر وهلك وهو من الهالكين، فهذا هو الصراط المستقيم، وهو توحيد الله عز وجل وعبادته وحده، فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36]، فمن عبد غير الله أو عبد مع الله غيره، أو نسب إلى الله العجز أو صفة المحدثين فهذا -والعياذ بالله تعالى- ما سلك طريق الإسلام وما نجا؛ لأن الله قال: هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36] إشارة إلى توحيد الله، وإلى عبادة الله وحده بما شرع من أنواع العبادة وألوانها وصنوفها وعددها، وهذا هو الصراط الموصل أولاً إلى رضا الله، ثم إلى دخول الجنة دار السلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فاختلف الأحزاب من بينهم...)

    ثم قال تعالى: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مريم:37] أي: اختلف الأحزاب من بين أهل الكتاب، فقد كفر اليهود بعيسى، ونسبوه إلى السحر وقالوا: ابن زنا، وقالوا.. وقالوا، وقال المسيحيون: هو ثالث ثلاثة، وهو ابن الله، وهو مع الله، وهؤلاء المسيحيين مختلفون إلى الآن، فهم طوائف ثلاثة:

    أولاً: الملكانية، وهم الكاثوليك.

    ثانياً: اليعقوبية، وهم الأرثوذكس.

    ثالثاً: الاعتراضية، وهم البروتستانت.

    وإلى الآن طوائف في كل مكان يوجد نصارى فيه، وصدق الله العظيم إذ أخبر عن واقعهم فقال: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ [مريم:37] أي: الطوائف مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] فاختلفوا في دين الله، واختلفوا في معرفة الله، واختلفوا في عبادة الله، فلم يقل: فويل لهم، وإنما قال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [مريم:37]، والمعنى: أن هؤلاء المختلفين في ذات الله وصفاته وعبادته كافرون، وكل من قال: الله اثنين كفر، ومن قال: ثلاثة كفر، ومن قال: عيسى ابن الله كفر، وهكذا يكفر كل من ينسب إلى الله ما هو بريء منه من الأسماء والصفات.

    فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] مشهد: أي: محضر يشاهدونه، ألا وهو يوم القيامة، فهو مشهد عظيم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون)

    ثم قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ [مريم:39] أي: يا رسولنا! يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39]، أي: أنذرهم يوم الحسرة والحزن والكرب والهم والغم، إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، ويوم الحسرة بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إذا استقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يؤتى بملك الموت في صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار، ثم يقول الله تعالى لهم: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت )، فتعظم حسرة الكافرين أشد عظم، فيكون هذا هو يوم الحسرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا...)

    قال تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38] أي: اليوم عميان، اليوم لا يسمعون وهو كذلك، فلو نظروا إلى الكون هل سينسبون إلى الله ولداً؟! ولو نظروا إلى المخلوقات فقط من خلقها؟ من صاحب هذه القدرة وهذه القوة هل ينسب إليه ولد؟!

    فهم عميان لا يبصرون، ولا يسمعون ما ناداهم رسول الله، فلا سمع ولا بصر، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم:38] أي: يوم القيامة! أما اليوم فهم لا يسمعون ولا يبصرون، فقط ادخل أمريكا وناد: يا عباد المسيح! تعالوا أبين لكم الطريق، فلن يسمعونك أبداً، أشر إلى آيات الله في الكون الدالة على وحدانيته وربوبيته وأنه المعبود الحق، وأنه أرسل الرسل، وختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ والله لا يبصرون ولا يسمعون!

    لكن في ذلك اليوم العظيم يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ [مريم:38] ما أشد سمعهم وما أقوى بصرهم في ذلك اليوم.

    أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38] أي: يأتون في عرصات القيامة حفاة عراة غرلاً كما خلقهم الله.

    لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38] والظالمون هم المشركون، الكافرون، فلا أظلم منهم، فهم أخذوا حق الله وواجب الله وأعطوه للمخلوقات، فكيف لا يكونون ظالمين؟! والله يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ووجه عظمته: كون الله يخلقك ويرزقك، ويخلق هذه الحياة من أجلك، بل حتى الجنة والنار، وتعمى عنه ولا تنظر إليه، وتنظر إلى حجر أو صنم أو شهوة وتعبد غير الله! فأي ظلم أعظم من هذا؟!

    فبدلاً من أن تعبده وتلين وترق بوتبكي وتتمرغ بين يديه؛ لفضله عليك وكماله وجلاله، تعرض عن هذه وتلتفت إلى عيسى أو إلى أمه، أو إلى صنم أو حجر! فحقيقةً لا أظلم من الشرك أبداً، فالظالمون هم المشركون.

    لذا قال تعالى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38] الضلال: الجهل والكفر والخطأ، وهو ضلال واضح وبين، فكيف يعبدون غير الله؟ وكيف لا يعبدون الله؟!

    فأي ضلال أعظم من هذا الضلال؟!

    ولكن يتوب الله على من تاب، فلو رجعوا إلى الله وقالوا: عرفونا بربنا، وكيف نعبده لوجدوا من يبين لهم الطريق حتى يهتدوا ويستقيموا، لكنهم في ضلالهم لا يريدون الهدى أبداً، ولا معرفة الحق.

    وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولعيسى عليه السلام: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]، انتهى الأمر وهم في غفلتهم وهم لا يؤمنون، فيوم الحسرة يوم يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ويؤتى بالموت في صورة كبش أملح، ويذبح، وينادي مناد: ( أن يا أهل الجنة! حياة بلا موت.. خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت )، فتعظم الحسرة على أهل النار وتكبر، فيكون هذا اليوم هو يوم الحسرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون)

    ثم قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [مريم:40]، (نحن) أي: رب العزة والجلال والكمال نرث الأرض بكل ما فيها، ومن عليها من الإنس والجن، فسيأتي يوم لا يبقى أحد على هذه الأرض، ولا يبقى إنسان ولا حيوان ولا شجر ولا نبات، فالله تبارك وتعالى وحده من سيرث الأرض.

    إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] أي: لا إلى غيرنا، نرجع إلى الله أحببنا أم كرهنا!

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    وإليكم شرح الآيات من الكتاب، فنتأملها لنزداد بصيرة وعلماً.

    معنى الآيات

    قال: [معنى الآيات:

    بعد أن قص الله تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجاباً، معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها، إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم، فـ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، فبين تعالى أن جبريل بشرها، وأنه نفخ في كم درعها، فحملت بعيسى، وأنه ولد في ساعة من حمله، وأنها وضعته تحت جذع النخلة، وأنه ناداها من تحتها: أَلَّا تَحْزَنِي [مريم:24]، وأرشدها إلى القول الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب، وهو أن تشير إليه، تطلب منهم أن يسألوه، وسألوه فعلاً فأجاب بأنه عبد الله، وأنه آتاه الكتاب، وجعله نبياً ومباركاً، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حياً، وأنه بر بوالدته، ولم يكن جباراً شقياً، فأشار تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:34]، ذاك الذي سمعتم عيسى.

    [ أي: هذا الذي بينت لكم صفته، أخبرتكم خبره هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [مريم:34]، وما أخبرتكم به هو قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] أي: يشكون، إذ قال اليهود في عيسى: إنه ابن زنا، وأنه ساحر، وقال النصارى: هو الله، وابن الله، وثالث ثلاثة، حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة.

    وقوله تعالى: مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ [مريم:35]، ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد، وكيف يصح ذلك له أو ينبغي، وهو الغني عما سواه، والمفتقر إليه كل ما عداه وأنه يقول للشيء: كن فيكون؟!

    فعيسى عليه السلام كان بكلمة الله له: كن فكان، وهو معنى قوله تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:35].

    وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير، والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته؛ نزه بقوله: سُبْحَانَهُ [مريم:35] أي: تنزيها له عن صفات المحدثين.

    وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36]، هذا من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، أخبرهم أنه عبد الله، وليس بابن لله، ولا بإله مع الله، وأخبرهم أن الله تعالى هو ربه وربهم، فليعبدوه جميعاً بما شرع لهم، ولا يعبدون معه غيره، إذ لا إله لهم إلا هو سبحانه وتعالى.

    وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق المفضي بسالكه إلى السعادة، ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى الخسران.

    وقوله تعالى في الآية: فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [مريم:37] أي: في شأن عيسى، فمن قائل: هو الله، ومن قائل: هو ابن الله، ومن قائل: هو وأمه إلهين من دون الله، والقائلون بهذه المقالات كفروا بها، فتوعدهم الله تعالى بالعذاب الأليم، فقال: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [مريم:37] بنسبتهم الولد والشريك لله، والويل: واد في جهنم، فهم إذاً داخلوها لا محالة.

    وقوله: مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم:37] يعني به: يوم القيامة، وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقدر قدرها.

    وقوله تعالى في الآية: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [مريم:38] يخبر تعالى أنه هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن يبصروا آثاره الدالة عليه؛ فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا، والمتصاممين عن سماع الحجج والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد؛ هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصاراً وسمعاً، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر.

    وقوله تعالى: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38] يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين، أي: عن طريق الهدى، وهو سبب عدم إبصارهم للحق، وسماعهم لحججه التي جاءت رسل الله، ونزلت بها كتبه.

    وقوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن ينذر الكفار والمشركين، أي: يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم وضلالهم يوم القيامة، حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة؛ وذلك عندما يتوارث الموحدون مع المشركين، فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة، والمشركون يرثون منازل الموحدين في النار، وعندما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار، وينادي مناد: يا هل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم، هذا معنى قوله تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [مريم:39] عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم.

    وقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40] يخبر تعالى عن نفسه بأنه وارث الأرض ومن عليها، ومعنى هذا: أنه حكم بفناء هذه المخلوقات، وأن يوماً سيأتي يفنى فيه كل من عليها، والجميع سيرجعون إليه، ويقفون بين يديه، ويحاسبهم بما كسبت أيديهم ويجزيهم به؛ ولذا فلا تحزن أيها الرسول! وامض في دعوتك تبلغ عن ربك، ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك المشركين ].

    فهذا هو القرآن العظيم، وهل هذا يقرأ على الموتى؟

    وهل يحرمه الأحياء فلا يجتمعون عليه ولا يقرءونه، ويجتمعون ليقرأ على الموتى؟!

    هذه زلة وما أعظمها، وهذه خطيئة وما أكبرها، وهذا مظهر من مظاهر الجهل الذي لا فوقه جهل، فهذا كتاب ليحيي الموتى، لا لنقرأه على الموتى، ونترك الأحياء أمواتاً!

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات:

    أولاً: تقرير أن عيسى عبد الله ورسوله، وليس كما قال اليهود، ولا كما قال النصارى ]، اليهود قالوا: ساحر وابن زنا، والنصارى قالوا: هو الله، وثاني اثنين مع الله.

    [ثانياً: استحالة -الاستحالة بمعنى: المحال- اتخاذ الله الولد، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون ]، ومع هذا النصارى إلى اليوم يفهمون هذا الكلام! فالذي يقول للشيء: كن فيكون مهما كان هل يتخذ له ولداً في حاجة إليه؟! أعوذ بالله من الجهل المعظم.

    [ ثالثاً: تقرير التوحيد على لسان عيسى عليه السلام ]؛ لقوله: فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم:36].

    [رابعاً: الإخبار بما عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليه السلام ]، فالنصارى مختلفون ومقسمون إلى ثلاث طوائف كبيرة والآن يتقاتلون وليسو متحدون.

    ومع الأسف نحن كذلك اختلفنا! فلا يصح أبداً أن نتمذهب، ونقول: هذا مالكي، وهذا شافعي، وهذا حنبلي، وهذا حنفي، مع أنهم على حق، ولكن لا ينبغي هذا، فنحن مسلمون وأتباع النبي صلى الله عليه وسلم، أما هذا رافضي وهذا زيدي، وهذا كذا، فهذه -والعياذ بالله- فتنة الحياة الدنيا، فهيا نقول: مسلمون، لو تسألني طول حياتي ما أقول لك: أنا مالكي أبداً، ولا أقول: حنبلي ولا شافعي، أنا مؤمن مسلم فقط، والذي يبلغني عن أئمة الإسلام أعمل به إذا صح عندهم، وكتاب منهاج المسلم ألفناه هل هو على مذهب معين؟ هل يعبد الله به أو لا يعبد؟ يعبد به، وبيان العبادات كلها؛ حتى تجتمع كلمة المسلمين، فقد مضت فترة من الزمن لو تقدم كتاب حنبلي والله ما يقرأه المالكي أو الشافعي، ولو تقدم كتاب حنفي ما يقرأه الحنبلي ولا الشافعي كأنه باطل والعياذ بالله تعالى!

    وهذا من فعل الثالوث الأسود؛ لأنهم هم مصابون بالفتنة، فلم نبق نحن متحدين وهم متفرقون، وهذا من مكرهم.

    [ خامساً: بيان سبب الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به ]، وهو يوم اشتداد الحسرة، يوم يخلد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.

    [ سادساً: تقرير فناء الدنيا ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم -من قبورهم-، وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي تعالجها السور المكية في القرآن الكريم ].

    وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765794272