أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
قال تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:31-38].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31]، أي: أنشأنا وخلقنا وأوجدنا بعد قوم نوح الغارقين الهالكين قرناً، أي: أمة أخرى، فيخبر تعالى أنه بعد إهلاك قوم نوح بالغرق أو بالطوفان أنشأ جيلاً أو قرناً أو أمة أو قوماً يعبدون الله عز وجل، ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31].
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، ألا وهو هود أو صالح عليهما السلام، فابن جرير والطبري وابن كثير وكل المفسرين يذكرون الوجهين، والذي ذكرته لكم هو لعلها إشارة إلى القبيلتين أو القومين، إذ وضعهم واحد، فالشرك والكفر والتكذيب بالبعث من دأبهم، فيكون الكلام صالحاً لقوم هود وقوم صالح عليهما السلام.
وقد ذكرت في الهامش في نهر الخير فقلت: وقيل: هم قوم صالح؛ بقرينة قوله تعالى: فأخذتهم الصيحة ، وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح، إذ قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83]، أي: في الصباح، ورُجِّح هذا لأن العبرة فيها أكثر من غيرها، يعني: أن العبرة في قوم صالح أكثر من العبرة في قوم هود.
إذاً: يجوز لك أن تقول: إن المراد بالرسول في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا [المؤمنون:32] هو هود أو صالح عليهما السلام.
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ [المؤمنون:32]، وما قال: (فأرسلنا إليهم)؛ لأنه من نفس القبيلة، إذ لو أرسله من قبيلة أخرى لقال: فأرسلنا إليهم، لكن قال: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ [المؤمنون:32]، أي: من بينهم ومنهم، فبم أرسله؟ بقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، فهذه هي الرسالة، أي: أرسله برسالة إليهم وهي أن يعبدوا الله وحده، إذ لا يوجد لهم إله غيره، اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، هل لهم إله غير الله خلقهم ورزقهم وخلق الكون والحياة لهم؟! والله لا إله إلا الله.
وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، كيف لا تتقون سخطه وعقابه وعذابه وأنتم تعصونه وتعبدون غيره وهو خالقكم ومالك أمركم؟! إن أمركم عجب، أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، أي: أفلا تتقون الله بعبادته دون عبادة غيره، وذلك بترك هذه الأوثان والأصنام، والإيمان به تعالى وبرسوله، وبالعمل بطاعته؟!
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، فهذه هي الرسالة التي يحملها هود أو صالح إلى أقوامهم، فبم أجاب الملأ؟ بالأمس عرفتم أن الملأ هم أشراف البلاد وأغنياؤها، وهم أهل السلطة فيها، والملأ مأخوذ من ملأ العين بالنظر إليه ولأبهته وكماله.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ [المؤمنون:33]، أي: بلقاء الله تعالى في الدار الآخرة، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فهذه هي علة الكفر والعناد، أي: الترف، فلهذا قوم صالح كانوا مترفين، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، والترف يكون في الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب، ويؤدي إلى الفخر والمباهاة وعدم المبالاة.
وهنا لطيفة لا ننساها: الذين يترفون أكثرهم يهلكون، إذ الترف يسبب لهم العصيان والفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا أمر لا جدال فيه، فإذا كثر المال وتلون الطعام والشراب واللباس أدى بصاحبه إلى الفسق ثم الفجور ثم الكفر العياذ بالله، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فبسبب إترافنا لهم قالوا هذه المقالات.
فماذا قالوا؟ قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:33]، أي: أن هذا الرسول بشر مثلكم، فكيف تطيعونه؟ وكيف تسمعون كلامه؟ وكيف تمشون وراءه؟ وكيف تستجيبون له؟ ما هو إلا بشر وإنسان مثلكم، وهذا كما قال قوم نوح لنوح، إذ قالوا عنه: بأنه بشر لا ملك، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، وهذا تعليل الجحود والمعاندة، وهو أنه يأكل ويشرب مثلهم، فلماذا لا يكونون كالفقراء؟! ولم يترأسون ويترفعون؟! لكنه الجحود والمعاندة، وهذا الذي تنتجه هذه الأباطيل.
مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، فكيف يكون رسولاً لله يأمركم باتباعه وطاعته وترك عبادة آلهتكم والانقطاع عنها؟ إنه يريد منكم ماذا؟
فهل سمعتم هذا الكلام؟ كلام من هذا؟ إنه كلام الطغاة والملحدين والمشركين والكافرين، وذلك من أجل صرف الأمة عن الله عز وجل وعبادته، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، ما بقيت لكم حياة أبداً.
أَيَعِدُكُمْ [المؤمنون:35]، وهذا الاستفهام إنكاري، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا [المؤمنون:35]، كما هو الواقع، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، أي: أحياء؟ هكذا يعلمونهم، وهذا الكلام يقوله الملاحدة والله الآن، إذ الملاحدة في العالم بأسره -الذين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه- يضحكون ويسخرون ويقولون: كيف العظام تعود إلى إنسان كما كان؟! إنها نظرية واهية.
لكنه العمى، فالذي أوجدكم في هذا القرن يوجدكم في قرن آخر، وذلك بأي واسطة أو بأي سبب، ثم ألستم موجودين؟ من أوجدكم؟ أما مضى زمان وأنتم غير موجودين ثم وجدتم، ثم يأتي زمان والله لا يبقى منكم أحد؟! لم تقولون إذاً: لم يوجدنا؟ كيف يوجدنا في المستقبل؟ إنها نظرية باطلة وسخيفة لا قيمة لها، لكن لكي يسيطرون على العوام ويجذبونهم إليهم يستخدمون هذه الأساليب الماكرة.
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، يعني: يعيدكم أحياء؟!
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، ليس المعنى: نحيا بعد الموت، إذ هم مكذبون به وينكرونه، وذلك بدليل: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، من قبورنا أحياء، نَمُوتُ [المؤمنون:37]، أي: نكون أمواتاً ثم يحيينا، أو نموت بأنفسنا ونحيا بأنفسنا، فلا يذكرون الله عز وجل، نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، كيف تموت وتحيا وحدك؟! جرب فمت، أو أغمض عينيك ومت، ما تستطيع.
ولكن الشيطان أبا مرة هو الذي يلقي في نفوسهم هذه الأباطيل ويحملهم على التبجح بها والنطق بها، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا [المؤمنون:37]، أي: ما، هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37].
قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39]، كما قالها قبله نوح عليه السلام، وبالتالي فهذا هود عليه السلام.
عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون:40]، أي: من الزمن أو فترة من الزمن، ولعلها ثلاثة أيام أو أربعة أيام إذا كانوا قوم صالح، أو سبع ليال وثمانية أيام إذا كانوا قوم هود.
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:40-44]، عجيب هذا القرآن.
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، وقد عرفنا أن الرسول إما أن يكون هودا أو صالحاً، ولا حرج في هذا أو ذاك؛ لأن الله ما سمى هنا، وقد أرسل هوداً أولاً، وذلك لما دمر الله عاداً نزح المؤمنون من الجنوب إلى الشمال وتكونت لهم أمة ودولة في مدائن صالح.
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، وعرفتم لماذا قال: منهم، ولم يقل: فيهم؟ أي: ليسوا من قوم آخرين أو أمة أخرى، بل هو منهم وفيهم، فبم أرسل الرسول؟ بكلمة: اعْبُدُوا اللَّهَ [المؤمنون:32] أي: أطيعوه فيما يأمركم وينهاكم، وادعوه توكلوا عليه واستغيثوا به وارهبوه وخافوه، إذ لا يوجد لكم إله غيره، والله لا إله غيره سبحانه وتعالى.
أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، أي: عذاب الله وغضبه وسخطه عليكم، وأنت مصرون على عبادة غيره، معرضون عنه؟ لم؟ فبم أجابوا؟ ومن الذي أجاب؟ فقراء أو أعيان؟ الملأ، وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا [المؤمنون:33]، لو كانوا مؤمنين وما كذبوا فإنهم سيقولون بالحق والخير وإن كانوا أغنياء أو أشراراً أو سادة، لكن العلة هي أنهم كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة.
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، أي: يذكر علة كفرهم وتكذيبهم وعنادهم، فلهذا نحذر من الترف، فإذا أغناك الله فكل كما يأكل المؤمنون، والبس كما يلبس المؤمنون واركب كما يركبون، واحذر الترف فإنه يحمل القلب على القسوة والعصيان والعياذ بالله، وهذا أمر مفروغ منه لا جدال فيه.
وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فماذا قالوا؟ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، فكيف تطيعونه؟ وكيف تستجيبون له؟ وكيف تتركون آلهتكم وعبادة آبائكم وأجدادكم؟ إنه ليس بملك، وإنما هو رجل مثلكم يشرب مما تشربون، ويأكل مما تأكلون.
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، وهذا خطيبهم يقول ذلك، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، ولستم بأحياء ولا بأفراد صالحين أبداً، وإنما ستخسرون حياتكم كلها، أَيَعِدُكُمْ [المؤمنون:35]، والاستفهام ينكر على هود أو صالح، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، من قبوركم أحياء؟ فكيف تصدقونه وتقبلون منه؟!
ثم قال تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ [المؤمنون:36]، أي: بعد بعداً كبيراً، لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36]، فالذي يعدكم به لا يكون ولن يكون، فهو مستحيل، إذ كيف تحيون بعد موتكم وتجزون؟!
إِنْ هِيَ [المؤمنون:37]، أي: ما هي، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37] أبداً، وقد كنا أمواتاً فأحيانا، ثم بعد ذلك نموت ولن نبعث بحال من الأحوال.
وأخيراً: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: ما هود أو صالح إلا رجل كذب على الله تعالى، إذ ما بعثه الله ولا أرسله ولا أوحى إليه، وإنما هو رجل افترى على الله كذباً، أي: يكذب على الله ويقول: قال الله وقال الله والله ما قال.
وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:38]، أبداً، فلا نصدقه ولا نمشي وراءه، فماذا فعل هود أو صالح؟ رفع يديه إلى الله، رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39].
وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم العقوبة والعياذ بالله.
وقوله تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المؤمنون:33]، أي: وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله ورسوله، وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة، وقد أترفهم الله تعالى بالمال وسعة الرزق، فأسرفوا في الملاذ والشهوات، وماذا قالوا؟ قالوا: ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:33]، أي: ما هذا الرسول إلاّ بشر مثلكم، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ [المؤمنون:33]، من أنواع الطعام، وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، من ألوان الشراب، أي: فلا فرق بينكم وبينه، فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم وينهاكم؟!
وقالوا: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، أي: خاسرون حياتكم ومكانتكم -إن أنتم أطعتم هذا الرجل- وقالوا: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا [المؤمنون:35]، أي: فنيتم وصرتم تراباً، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، أي: أحياء من قبوركم.
وقالوا: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ [المؤمنون:36]، أي: بَعُد بُعْداً كبيراً ما يعدكم به هود، إنها ما هي، إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا [المؤمنون:37]، أي: نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، جيل يموت وجيل يحيا ]، وهذه اللطيفة التي لابد منه، وقد قلت لكم: كنا أمواتاً فحيينا ثم نموت، لكن التفسير الصحيح هو هذا، أي: نموت ونحيا، فجيل يموت وجيل يحيا، وهكذا بلا نهاية؛ لأنهم ينفون البعث الآخر، ما هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، أي: يموت الجيل الموجود ويأتي جيل بعده.
قال: [ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، وقالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: اختلق الكذب على الله وقال عنه: أنه يبعثكم ويحاسبكم ويجزيكم بكسبكم وعملكم.
وقالوا: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم، وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم وإلحادهم، وما سيقوله هود عليه السلام سيأتي في الآيات بعد هذه ].
أولاً: بيان سنة الله تعالى في إرسال الرسل وما تبتدئ به دعوتهم وهو: لا إله إلا الله ]، بيان سنة الله في إرسال الرسل، لماذا يرسلهم؟ وإلى من يرسلهم؟ وما هي المهمة التي يرسلهم بها؟ هي أن يقول للناس: اعبدوا الله خالقكم ورازقكم، ولا تعبدوا معه غيره، وهذا بعد الإيمان الصادق، ومن ثم يطيعون الله في أمره ونهيه، فيسعدون ويكملون في الدنيا قبل الآخرة، ثم يسعدون ويكملون في الآخرة، فهذه هي مهمة كل الرسل، إذ يأتون إلى الناس يعلمونهم أن لهم خالقاً رازقاً هو الله يجب أن يعبدوه وحده، وعبادته بطاعته فيما يأمر وينهى، وتلك الأوامر كلها تكملهم وتسعدهم، والنواهي كذلك تبعدهم عن الشقاء والخسران، وهذه سنة الله تعالى.
[ ثانياً: أهل الكفر لا يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم ]، أهل الكفر والشرك والظلم والخبث والشر والفساد كلهم والله ما يصدر عنهم إلا الباطل والشر والفساد، ولا يعول عليهم في شيء أبداً، وهذه سنة الله تعالى، إذ لا يقولون إلا الباطل والشر والفساد حفاظاً على ما هم عليه، وهذه سنة الله عز وجل.
[ ثالثاً: الترف سبب كثيراً من المفاسد والشرور، ولهذا يجب أن يُحْذَرْ بالاقتصاد ]، الترف يسبب الكثير من الفساد والشر والظلم والخبث، فلهذا يجب أن نحذر الترف، وألا نرضاه لأنفسنا، وألا نقره بيننا؛ لأنه يسبب التمرد والعصيان والخروج عن طاعة الله عز وجل، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33].
[ رابعاً: تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروباً من الاستقامة ]، في الآيات تقرير عقيدة البعث والجزاء، أي: الدار الآخرة، وما يتم فيها من جزاء، فلأهل الخير الجنة والنعيم، ولأهل الشر النار والجحيم، فالآية تقرر هذا، وهذه الحقيقة كما علمنا أن السور المكية كلها تعمل على هذه الحقيقة، أي: تقرير لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الدار الآخرة حق، وذلك ليتم الجزاء فيها، وذلك بعد أن يتم العمل في هذه، إذ هذه الدار دار عمل خيراً أو شراً، بينما الدار الآخرة دار جزاء جهنم أو جنة، وهذه حقيقة مسلمة لا جدال فيها أبداً عند أولي البصائر والنهى، إذ هذه الدار ليست دار نوم أو دار راحة، وإنما هي دار عمل، والعمل إما أن يكون خيراً أو شراً، وإما أن يكون طاعة لله ورسوله أو معصية لله ورسوله، والجزاء يتم هناك، إذ هذه الدار ليست بدار جزاء أبداً، وإنما اعملوا والجزاء يوم القيامة بعد الموت، فأهل الإيمان وصالح الأعمال يدخلهم ربهم دار السلام في الملكوت الأعلى، وأهل الشرك والكفر والفسق والفجور أصحاب النفوس الخبيثة فينزلهم إلى أسفل سافلين في دركات الجحيم والعياذ بالله.
قال: قال الشيخ في النهر غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين: [ إن قيل: كيف قالوا: نموت ونحيا وهم منكرون للبعث؟ قيل في الجواب: أولاً: إما أن يكون مرادهم: نكون نطفاً ميتة ثم نحيا ]، فُسِّر قوله تعالى ما حكاه عنهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، ما معنى: نموت ونحيا؟ في هذا تفسيرات أو وجوه عديدة، الوجه الأول: نكون نطفة ميتة ثم نحيا، وهو واقع، فقطرة المني ميتة، وهذا الوجه الأول.
[ ثانياً: إما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير ]، يصح أن يكون في كلامه تقديم وتأخير، والأصل إن هي إلا حياتنا الدنيا نحيا ونموت، ولا بأس بهذا أيضاً، قال: [ كقوله تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران:43] ] فبدأ بالسجود، وهم قالوا: نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، أي: نحيا أولاً ثم نموت ثانياً.
[ ثالثاً: إما بموت الآباء وحياة الأبناء ]، وهذه هي النظرية الأخيرة، نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، بمعنى: نموت نحن ويحيا أبناؤنا، أو يموت أبناؤنا ويحيا أحفادنا، فهذه ثلاثة أوجه جائزة.
[ خامساً: تُكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلاً من البشر؟! ]، وتكأة عامة المشركين هي: كيف نعود أحياء فنجزى ونحاسب؟ كيف يكون هذا الرجل رسولاً؟! والتكأة هي ما يتكئ عليها، إذ هم يعتمدون على هذه النظرية: كيف بعدما نصبح عظاماً نخرة نحيا ونحاسب ونجزى؟ إن هذه النظرية لا نقبلها، وذلك حتى يبقوا على فسقهم وكفرهم وفجورهم، بل وإلى اليوم يستخدمون هذه التكأة.
قال: [ تكأة عامة المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلاً من البشر، وذلك دفعاً للحق وعدم قبوله ]، كلهم يقولون: كيف يكون الرجل رسولاً؟ لم لا يكون ملكاً؟ والله تعالى نسأل أن يثبتنا على الإيمان واليقين، وأن يجعلنا من عباده الموحدين الصالحين، وأن يجمعنا في دار السلام مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر