الجواب: إننا نحمد الله عز وجل ونشكره أن يسر لنا هذا المنبر العظيم الذي استفاد منه كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها كما ذكره هذا السائل ونوه به في سؤاله، فنسأل الله تعالى أن يجعله منبر خير وبركة وعلم نافع وتوجيه صالح.
سؤال الأخ عن التوحيد وأقسامه سؤال مهم؛ لأن التوحيد هو الذي بعثت به الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، قال الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] .
والرسل حكى الله عنهم على وجه التفصيل أنهم كانوا يقولون لأقوامهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، والنبي عليه الصلاة والسلام جاء بتحقيق هذا التوحيد تحقيقاً تاماً يمنع العبد من الإشراك بالله؛ الشرك الصغير والكبير.
وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن أقسام التوحيد ثلاثة وذلك بالتتبع والاستقراء: أولها: توحيد الربوبية. والثاني: توحيد الألوهية. والثالث: توحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت الثلاثة في آية واحدة من كتاب الله في قوله تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فقوله تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [مريم:65] هذا توحيد الربوبية، وقوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65] هذا توحيد الألوهية، وقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65] هذا توحيد الأسماء والصفات، أي: لا تعلم له سمياً أي: مسامياً يضاهيه ويماثله عز وجل.
أقسام التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية: وهي إفراد الله عز وجل بالخلق والملك والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، لا أحد يقوم بهذا على وجه الإطلاق والعموم والشمول إلا الله رب العالمين، فهو المتفرد بالخلق، المتفرد بالملك، المتفرد بالتدبير، قال الله عز وجل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] ، فالآية هذه فيها حصر الخلق والأمر في الله وحده، وذلك بتقديم الخبر (ألا له الخلق)، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر كما قرر ذلك علماء البلاغة، فالخلق كله له، والأمر كله له عز وجل لا يشركه أحد، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13-14].
وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22-23].
فبين الله عز وجل أن هولاء الشفعاء الذين اتخذهم عبادهم شفعاء عند الله شركاء مع الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض على وجه الاستقلال بها دون الله، (وما لهم فيهما من شرك) أي: لا يملكون شركةً مع الله عز وجل، فليسوا مستقلين في شيء، وليسوا شركاء مع الله في شيء، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] يعني: ما لله أحد من هؤلاء يساعده ويعينه عز وجل، بل هو مستغنٍ عن جميع خلقه، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، وذلك لكمال سلطانه، وعظيم ملكه عز وجل، لا أحد يشفع عنده فيتوسط بشيء لأحد من خير أو دفع ضر إلا بإذنه عز وجل، وفي هذا قطع لجميع ما يتعلق به المشركون الذين يدعون أنهم يعبدون هذه الأصنام ويتخذونها شفعاء عند الله، قال: لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ [طه:109]، ومن المعلوم أن الله لن يأذن لهذه الأصنام أن تشفع، ولا يأذن لأحد أن يشفع لعابد هذه الأصنام، قال الله تبارك وتعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26].
وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وحينئذ تنقطع كل الآمال التي يتعلق بها هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله غيره، يرجونه نفعاً أو دفع ضر فإن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6].
إذاً: توحيد الربوبية: إفراد الله عز وجل بأمور ثلاثة: بالخلق، والملك، والتدبير، فلا خالق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، وما يوجد من المخلوق من صنع الأشياء، وما يوجد من المخلوق من الملك، وما يوجد للمخلوق من التدبير، فكله تدبير ناقص، وهم أيضاً غير مستقلين به، بل ذلك من خلق الله عز وجل، أما المنفرد بذلك على وجه الاستقلال فهو الله سبحانه وتعالى، فللمخلوق خلق وإيجاد لكنه ليس كخلق الله، فالله تعالى موجد الأشياء من العدم، والمخلوق لا يستطيع أن يوجد الشيء من العدم، وإنما يستطيع أن يركب شيئاً مع شيء، أو يغير صورة شيء إلى شيء، كما لو غير النجار الخشبة إلى باب، والحداد الصفائح الحديد إلى أبواب، وما أشبه ذلك، لكنهم لن يخلقوا هذه المادة، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:73-74].
كذلك الإنسان له ملك، قال الله تعالى: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6]، وقال تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور:61] ، ولكن هذا الملك ملك مقيد محدود ليس بشامل، وليس للإنسان فيه مطلق التصرف، بل هو محدود، فما بيدي من الملك ليس لك، وما بيدك من الملك ليس لي، ثم إنه ملك محدود لا نستطيع أن نتصرف فيه إلا على حسب ما جاءت به الشريعة، وكذلك للإنسان تدبير يدبر مملوكه، يدبر زوجته، يدبر أهله لكنه تدبير ناقص، ليس بشامل، ولا للإنسان فيه مطلق الحرية، وبهذا عرفنا أن المنفرد بالخلق والمنفرد بالملك والمنفرد بالتدبير هو الله عز وجل وحده، هذا قسم من أقسام التوحيد، وهذا التوحيد لم ينكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يقرون به غاية الإقرار، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] وهكذا الآيات الكثيرة كلها تدل على أن المشركين الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستباح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم كانوا يقرون بهذا التوحيد، لكن ذلك لم ينفعهم؛ لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، توحيد العبادة الذي هو حق الله خاص، وهو القسم الثاني وهو توحيد الألوهية المستفاد من قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] .
والعبادة مبنية على شيئين: المحبة والتعظيم، فبالمحبة يكون الرجاء وفعل الأوامر طلباً للوصول إلى محبة الله عز وجل وثوابه.
والتعظيم هو الأساس الثاني للعبادة وبه يترك الإنسان المناهي التي نهى الله عنها؛ لأنه بتعظيمه لله يترك مناهيه ويخاف من عقابه.
ثم إن العبادة لها شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله.
والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فللعبادة -إذاً- ركنان ولها شرطان، أما ركناها: فالمحبة والتعظيم، وهما الأساس، وأما شرطاها: فهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودليل ذلك قوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [البينة:5]، وقوله تعالى في الحديث القدسي: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
ودليل المتابعة قوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )، وقال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) أي: مردود على صاحبه؛ لأنه لم تتحقق فيه المتابعة.
وإذا نظرنا إلى حال كثير من المسلمين اليوم وجدنا أنهم ليسوا على توحيد خالص في باب الألوهية والعبودية؛ فمنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الأولياء، ومنهم من يطوف بالقبور رجاءً لنفعها ودفعاً للضرر، ومنهم من يؤله الحكام ويجعلهم في منزلة الألوهية، يطيعهم فيما حرم الله فيستحله، وفيما أحل الله فيحرمه، وهذا هو اتخاذهم أرباباً، قال الله تبارك وتعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، ويروى عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( يا رسول الله! إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فتلك عبادتهم ).
وهذا القسم من التوحيد هو الذي خالف فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنكروه عليه، وقالوا فيه: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5] ، وسبحان الله أن يكون التوحيد عجاباً، وأن يكون شركه صواباً، فالعجب العجاب الذي لا ينقضي هو أن يشرك هؤلاء بالله ما لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يستجيب لهم إلى يوم القيامة، وقد استباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم دماء هؤلاء المشركين ونساءهم وذرياتهم وأموالهم وقاتلهم على ذلك أشد المقاتلة حتى يعبدوا الله عز وجل، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
أما القسم الثالث: فهو توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفى الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه ورسوله، إثباتاً بلا تمثيل، ونفياً بلا تعطيل، وهذا هو الذي انقسمت فيه الأمة الإسلامية إلى أقسام متعددة، فمنهم السلف وهم فقط أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إثباتاً بلا تمثيل، ونفوا ما نفى الله عن نفسه نفياً بلا تعطيل، وسكتوا عما سكت الله عنه ورسوله، فمن ذلك أنهم أثبتوا لله كل ما وصف به نفسه، كل صفة أثبتها لنفسه من: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكلام، والعزة، والحكمة، والرحمة، والعجب، والضحك، وأثبتوا لله الوجه، واليدين، والعينين، وأثبتوا لله القدم، والساق، وكذلك كل ما وصف الله به نفسه أثبتوه لله عز وجل لكن بلا تمثيل، يقولون: نثبت هذا ونقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ، فيقولون: لله يد لكن ليست كأيدينا، ووجه لكن ليس كوجوهنا، وعينان لكن ليستا كأعيننا، وهكذا بقية الصفات، ويقولون أيضاً: الله استوى على العرش، (علا) عليه علواً يليق بجلاله عز وجل، لكنه ليس كاستوائنا نحن على السرير، أو على الدابة، أو على الفلك؛ لأن الله تعالى يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] .
هذا هو مذهب السلف: إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، ونفي ما نفى الله عن نفسه من الأسماء والصفات، والسكوت عما سكت عنه، وبعد ذلك تنازع الناس نزاعاً طويلاً عريضاً لا ينبني على أصل؛ لا من المعقول ولا من المنقول، فأثبت قوم الأسماء، وأثبتوا من الصفات صفات قليلة، وليس على الوجه الذي يثبته عليها أهل السنة والجماعة، بل يخالفونه في كيفية هذا الإثبات، وأثبت قوم الأسماء ونفوا الصفات كلها، إلا الحياة والعلم والقدرة، ونفى قوم الأسماء والصفات، ونفى قوم الإثبات والنفي، واضطربوا في ذلك اضطراباً كثيراً، لكن من هؤلاء من تصل بدعته إلى حد الكفر المخرج من الملة، ومنهم من دون ذلك، ولكن الحق فيما ذهب إليه السلف وهم أهل السنة والجماعة: إثبات كل صفة أثبتها الله لنفسه بدون تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، ونفي كل صفة نفاها الله عن نفسه، والسكوت عما سكت الله عنه، هذه هي الطريقة السليمة الثابتة سمعاً وعقلاً وفطرة، وللناس في هذا كتب ورسائل معلومة، ومن أحسن ما رأيته تقريباً لهذا الأصل العظيم ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكتبه تلميذه ابن القيم فإنهما كتبا في هذا الباب كتابات عظيمة مفيدة، وما رأيت أحداً كتب مثل كتابتهما، وغالب من يكتب في هذا الباب تجدهم يقلد بعضهم بعضاً، ولهم مقلدون متبوعون لا يخرجون عن كلامهم ولو تبين الحق.
والحقيقة أن الواجب على المرء أن يتبع ما دل عليه كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، وأنه ليس بمعذور إذا خالف ذلك من أجل قول فلان وفلان، قد يخطئ فلان وفلان من المتبوعين خطأً يعذر فيه، لكن التابع الذي تبين له الحق لا يعذر في اتباعه لهؤلاء الذين أخطئوا.
وإنني من هذا المنبر؛ منبر نور على الدرب في إذاعة المملكة العربية السعودية أدعو جميع إخواني الذين درسوا هذا العلم؛ علم التوحيد علم العقائد أدعوهم إلى تقوى الله عز وجل، وأن يسلكوا ما سلكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الخلفاء الراشدين وغيرهم في هذا الباب العظيم الخطير؛ لأن هذا الباب مبناه على الخبر المحض، ليس للعقول فيه مجال إلا على سبيل الإجمال، فإن العقول تهتدي إجمالاً إلى أن الله موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، لكن لا تدرك هذا على وجه التفصيل، وإنما يؤخذ ذلك من الكتاب والسنة، وإذا كان هذا هو الواقع وإنما يتعلق بصفات الله وأسمائه خبر محض فإنه يجب علينا ألا نحيد عما جاء به الكتاب والسنة قيد أنملة، ولا سمك شعرة، بل يجب علينا قبول ما جاء به الكتاب والسنة من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل.
ولقد رأينا أن الذين يحيدون عن هذا السبيل ويتخبطون خبط عشواء في بعض أسماء الله وصفاته، رأينا أنهم يضلون كثيراً، ويؤدي بهم الحال إلى الشرك وإلى الحيرة، كما نقل ذلك عن كثير من زعمائهم، حتى إن الفخر الرازي وهو من رؤسائهم قال فيما نقل عنه إما منشداً وإما آثراً:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلاً، ولا تشفي عليلاً، وجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقراً في الإثبات: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10]، وأقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
ويقول الآخر:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك العوالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وهذا يدل على أن هؤلاء المتكلمين الذين ذهبوا يحكمون على الله تعالى بعقولهم فيما يصفونه به كانوا في حيرة شديدة، وأن من بلغ منهم الغاية في علم الكلام رجع إلى الحق وهو ما كان عليه سلف هذه الأمة من إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ونفي ما نفى الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والسكوت عما لم يرد به إثبات ولا نفي، وهذا هو الأدب مع الله ورسوله، فعلينا جميعاً أن نتوب إلى الله عز وجل، وأن نرجع إلى منهج سلفنا الصالح في هذا الباب العظيم الخطير، ونسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والتوفيق لمنهج السلف الصالح، وأن يتوفانا على ما يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم.
وأرجو من الأخ السائل ألا يستطيل هذا الجواب؛ لما فيه من الفائدة العظيمة، والحاجة الشديدة إليه، وليكن على ما كان عليه السلف الصالح، ثبت الله الجميع على ذلك، إنه جواد كريم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر