الجواب: الإيمان بالقدر واجب، ومنزلته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة، لأن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان فقال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ).
والقدر: هو تقدير الله تبارك وتعالى في الأزل، أي: تقديره تبارك وتعالى ما كان وما يكون، فإنه سبحانه وتعالى حين خلق القلم قال له: ( اكتب، قال: رب وماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ).
فكل ما يقع في السماء والأرض من أفعال الله كالمطر والنبات والحياة والموت أو من أفعال العباد كالاستقامة والانحراف فإنه مكتوب، مكتوب في الأزل عند الله تبارك وتعالى، فيجب علينا أن نؤمن بذلك أن الله كتب مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، وأن هذا المكتوب شامل لما يفعله تبارك وتعالى هو بنفسه وما يفعله عباده.
قال العلماء: وللإيمان بالقدر أربع مراتب:
المرتبة الأولى: أن تؤمن بعلم الله تعالى الشامل العام للحاضر والمستقبل والماضي، وأن كل ذلك معلوم عند الله بعلمه الأزلي الأبدي، فلا يضل الرب عز وجل ولا ينسى، لما سأل فرعون موسى عليه الصلاة والسلام: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:51-52] سبحانه وتعالى، فيجب أن نؤمن بعلم الله عز وجل أنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً، فالجملة مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الأنفال:75]، والتفصيل مثل قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، وكذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34]، وكذلك قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ [البقرة:235]، عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:187]، والأمثلة على هذا كثيرة، هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقدر.
المرتبة الثانية: أن تؤمن بأن الله تبارك وتعالى كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة، فكل شيء فهو مكتوب عند الله في لوح محفوظ لا يتبدل ولا يتغير، ودليل ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إن ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إن ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]. والحديث الذي ذكرناه آنفاً: ( أن الله لما خلق القلم قال له: اكتب، قال: رب ماذا اكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة ).
المرتبة الثالثة: أن تؤمن بأن ما في الكون من حركة ولا سكون ولا إيجاد ولا إعدام إلا بمشيئة الله، يعني: إلا وقد شاءه الله سواء كان من فعله تبارك وتعالى أم من أفعال خلقه، فحركات الإنسان وسكنات الإنسان وطوله وقصره وبياضه وسواده ورضاه وغضبه واستقامته وانحرافه كل ذلك بمشيئة الله، لا يشذ عن مشيئة الله شيء، حتى الهدى والصلاح بمشيئة الله، دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، وقال الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29].
وأجمع المسلمون على هذه الكلمة العظيمة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
أما المرتبة الرابعة فهي: الخلق، أن تؤمن بأن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء، كما قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]، وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقد ذكر الله تعالى الخلق عاماً كما في هاتين الآيتين وذكره خاصاً مثل قوله: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:5-6]، وقوله: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، فكل شيء سوى الله فهو مخلوق خلقه الله عز وجل سواء في الأعيان أو في الأفعال أو في الأوصاف، فالآدمي له جثة، له جسد، من خلق هذا؟ الله عز وجل، الآدمي طويل وقصير وأبيض وأسود من قدر هذا؟ الله عز وجل، الآدمي له عمل وحركة، صالح أو غير صالح، من خلق هذا العمل؟ الله عز وجل؛ لأن عمل الإنسان من صفات الإنسان والإنسان مخلوق فصفاته مخلوقة، ودليل ذلك ما ذكرته الآن: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].
فيجب علينا أن نؤمن بالقدر على هذه المراتب الأربعة: علم الله، كتابته في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء، مشيئة الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون، خلق الله لكل موجود ومعدوم وحركة وسكون، فالمعدوم يوجده الله والموجود يعدمه الله.
وقد اختلف بنو آدم في القدر وتنازعوا فيه واختلفوا فيه: فمنهم الغالي، ومنهم الجافي، ومنهم الوسط.
فالغالي في إثبات القدر قال: إن الإنسان مجبور على عمله ليس له فيه اختيار، إن عمل صالحاً فإكراهاً عليه، إن عمل سيئاً فإكراهاً عليه، إن قام أو قعد فهو مكره مجبر؛ لأن الله تعالى شاء ذلك فيجب أن يكون.
وآخرون قصروا في هذا قالوا: إن الله يشاء كل شيء ويخلق كل شيء إلا أفعال الإنسان فليس له فيها تصرف، وهؤلاء قصروا في الربوبية.
وتوسط آخرون فقالوا: الإنسان يفعل باختياره، ويفرق بين الفعل الذي يكره عليه والفعل الذي يختاره، وهذا هو الواقع، أنت تخرج إلى السوق باختيارك، ترجع منه باختيارك، تدخل المدرسة الفلانية باختيارك، تتركها باختيارك، تسافر باختيارك، تبقي في بلدك باختيارك، هذا أمر لا ينكر، ولا يشعر أحداً أبداً أنه أكره على هذا الفعل، ولهذا لو أكره حقيقة سقط عنه الإثم إن أكره على محرم أو على ترك واجب، حتى أن الله أسقط حكم الكفر عند الإكراه فقال: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106].
ولو قلنا بأن الإنسان مكره لبطلت الشريعة كلها، وصار لا يحمد على فعل الخير ولا يذم على فعل الشر، فنحن نرد على هؤلاء الذين قالوا إنه مجبر بهذا.
أما الذين قالوا: إنه مستقل فنقول: سبحان الله! الإنسان في ملك الله وكيف يكون في ملك الله ما لا يريد؟ الإنسان مخلوق لله فكيف تكون أفعاله غير مخلوقة لله؟ هي مخلوقة لله وهي في ملك الله، لكن قد يحتج العاصي بالقدر على المعصية، فإذا زنا أو سرق أو شرب الخمر قال: والله هذا بقدر الله. نقول: هل الله أجبرك؟ هل تعلم أن الله قدر عليك أن تزني أو تسرق أو تشرب الخمر؟
أنت لا تعلم ونحن لا نعلم أن الله قدر أفعالنا أو أقوالنا حتى تقع، فإذا وقعت علمنا أنه أرادها، أما قبل أن تقع فليس عندنا علم بما قدر الله، كما قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا [لقمان:34]، فالعاصي حين أقدم على الفعل أقدم عليه باختياره ولم يعلم أن الله قد كتبه له أو عليه إلا إذا وقع، ولهذا لا ترى أحداً يعذر أحداً إذا ضربه الضارب وقال المضروب للضارب: لم ضربتني؟ قال: والله هذا بقدر الله، لا تجد أحداً يقبل هذه الحجة.
يذكر عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه رفع إليه سارق فأمر بقطع يده فقال له: مهلاً يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت هذا إلا بقدر الله، قال: ونحن لا نقطع يدك إلا بقدر الله.
المهم أنه لا يمكن أن يحتج الإنسان بالقدر على ظلم الناس وعدوانهم، وإنك لتعجب من هذا العاصي الذي يعصي الله ومعصيته لله ظلم لنفسه ثم يحتج بقدر الله على ظلم نفسه، مع أنه لو ظلمه ظالم واحتج على ظلمه بأنه قدر الله ما قبل منه، لذلك لا عذر للعاصي بقدر الله على معصيته، ولهذا أبطل الله حجة الذين احتجوا بالقدر فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] قال تعالى: كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا [الأنعام:148] وكونهم يذوقون بأس الله يدل على أنه لا حجة لهم؛ لأنه لو كان لهم حجة ما ذاقوا بأس الله.
والحاصل: أن الإنسان يجب عليه أن يؤمن بالقدر، وأن كل شيء فهو من الله، وأنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله، ولما حدث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فقال: ( ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، قالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ).
إذاً: نحن مأمورون بالعمل، وإذا عملنا ما يرضي الله يسر الله لنا، ( ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10] ) فنقول: اؤمن بالقدر واعمل بالشرع حتى يتم إيمانك.
ومن الإيمان بالقدر: الإيمان بما جاء مكروهاً للعبد كالمصائب في بدنه، في أهله، في ماله، في أصحابه، في مجتمعه، لا يخلو الإنسان من مصيبة؛ لأن الله تعالى يبتلي بالنعم ويبتلي بالنقم، هذه المصائب إذا حصلت ارض بها، ارضَ بقضاء الله إياه فإن الله سبحانه وتعالى أعلم بمصالحك، كم من إنسان أصيب بمصيبة فكانت المصيبة فتح باب لاهتدائه، المصائب صقل للقلوب إذا أراد الله سبحانه وتعالى هداية الإنسان، كما أنها بالعكس في أناس آخرين، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10] يعني: إذا أوذي في دينه وضيق عليه في دينه جعلها كالعذاب فارتد ونكص على عقبيه والعياذ بالله.
فالمهم أن الإيمان بالقدر يهون عليك المصائب؛ لأنك تعلم أنها من عند الله، وأن الله مالك كل شيء وأنت من جملة من يملكه الله عز وجل، أنت عبد الله يفعل بك ما شاء فلا تجزع، قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11] قال: علقمة في معنى: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11] قال: إنه يعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
لو أن رجلاً أصابك بأذى دافعت عن نفسك ولم ترض، لكن إذا كان الذي أصابك من المصائب من عند الله فعليك أن ترضى؛ لأنه ربك، مالكك، يفعل بك ما شاء، فإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله صارت تلك المصيبة رفعة في درجاتك وأجراً وثواباً، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
مداخلة: يا شيخ! الآية الكريمة: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3]، والآية الأخرى: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] هل لها صلة فيما سبق يا شيخ؟
الشيخ: نعم. قال الله تبارك وتعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ [الإنسان:1-3] أي: بينا له السبيل ووضحناها له سواء كان شاكراً أم كفوراً، فبين الله السبيل ثم انقسم الناس إلى شاكر وكفور، ثم بين الله في هذه السورة جزاء الكافرين وجزاء الشاكرين.
أما قوله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] فقيل إن معناه: بينا له طريقي الخير والشر، فيكون كهذه الآية أو قريباً منها.
وقيل معنى وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] أي: هديناه إلى ثديي أمه؛ لأن الصبي من حين ما يخرج من بطن أمه ثم يلقم الثدي يعرف أنه ثدي فيمصه، من قال له هذا؟ أقالته أمه؟ لو قالته ما فهم، لكن هذا من الله عز وجل هداه سبحانه وتعالى بفطرة هذا الصبي أن يعرف أن هذين العضوين في الأم فيهما غذاؤه فيمص.
والآية مادامت صالحة للقولين فهي لهما جميعاً، لأننا نحب أن نقول لإخواننا المستمعين: أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا مرجح لأحدهما على الآخر ولا منافاة بينهما فإنه يجب أن تحمل عليهما جميعاً؛ لأن الذي يتكلم بها وهو الله عز وجل عالم بما تحتويه من المعاني.
الجواب: الاستثناء في الدعاء نوعان: أحدهما جائز والثاني ممنوع.
أما الجائز فمثل دعاء الاستخارة: اللهم إن كنت تعلم أن هذا خير لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله أو عاقبة أمري وآجله فاقدره لي ويسره لي، هذا دعاء معلق.
كذلك في آية اللعان في سورة النور إذا رمى الرجل زوجته بالزنا -والعياذ بالله- قيل له: أقم البينة وإلا فحد في ظهرك أو ملاعنة، فإذا اختار الملاعنة فسيشهد على زوجته بأنها زنت أربع مرات ويقول في الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وتقول هي: إنه كاذب وتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. فهذا استثناء، هذا جائز لا بأس به.
ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يقدم إلى الناس جنائز من أهل البدع فيشكل عليه أهم كفار أم مسلمون، يقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن هذه المسألة فقال: له عليك بالشرط يا أحمد . أحمد اسم شيخ الإسلام ابن تيمية ، وعليك بالشرط يعني: اشترط، وكيفية الاشتراط أن يقول: اللهم إن كان هذا الميت مسلماً فاغفر له وارحمه، والله يعلم: إن كان مسلماً فقد دعوت بحق، وإن كان غير مسلم فقد فوضت الأمر إلى الله، هذا الاستثناء في الدعاء جائز.
النوع الثاني: استثناء لا يجوز لما يوهمه من معنىً لا يليق بالله عز وجل، مثل أن يقول القائل: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم أجرني من النار إن شئت، اللهم أدخلني الجنة إن شئت، هذا لا يجوز؛ لأن هذا الاستثناء يوهم معنيين فاسدين:
المعنى الأول: أن هذا أمر عظيم يشق على الله عز وجل، فتقول: إن شئت، كما تأمر غيرك بأمر وتشك في قدرته عليه فتقول: إن شئت حتى لا ترهقه.
الأمر الثاني: أن هذا يوهم أن الله تعالى يجيب السائل مكرهاً فيقول الرجل: إن شئت لئلا يقع علم الله تعالى على أنه مكره، أي: الله عز وجل، ومعلوم أن الله لا مكره له ولا يعجزه شيء ولا يتعاظمه شيء أعطاه، فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا فقال: ( لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، وليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ).
ثم إن فيه محظوراً آخر أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وليعزم المسألة ) وهو أنه إذا قال: إن شئت فكأن هذا الداعي مستغنٍ عن الله، يقول: إن شئت تفعل وإلا ما يهمني، فلذلك ينهى عن ذلك الاستثناء على هذا الوجه.
أما قول: (إن شاء الله) فهذا ينظر: إن قصد الإنسان بقوله إن شاء الله أن هذا الأمر يقع بمشيئة الله فهذا لا ينهى عنه، وأما إذا كان بمعنى: إن شئت فهذا ينهى عنه، ولم نجزم بأنه بمعنى إن شئت لأن الإنسان لم يخاطب الله به، بل قال: إن شاء الله على سبيل تعظيم الله عز وجل، لكن مع هذا نرى أن الأفضل أن لا يقوله، أن لا يقول: غفر الله لك إن شاء الله، ردك الله سالماً إن شاء الله وما أشبه ذلك، نقول: اجزم.
فإن قال قائل: أليس من دعاء عيادة المريض أن يقول العائد للمريض: لا بأس طهور إن شاء الله؟
فالجواب: بلى، لكن هذا من باب الخبر، ليس من باب الدعاء، يعني: أرجو الله أن يكون طهوراً لك إن شاء الله، فهو من باب الرجاء؛ لأن المرض قد يكون طهوراً للإنسان وقد لا يكون، فالإنسان إذا صبر صار طهوراً له كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما من شيء يصيب المسلم هم أو غم أو أذى إلا كفر الله به عنه حتى الشوك يشاكها )، هذا الحديث أو معناه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر