إسلام ويب

مختصر التحرير [49]للشيخ : محمد بن صالح العثيمين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أقسام الحكم الوضعي المانع، وهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، والمانع قد يكون مانعاً للحكم، كمنع الأبوة القصاص، وهي مسألة مشهورة فصل فيها الشيخ بما فيه فائدة جليلة.

    1.   

    مبحث المانع

    تعريف المانع لغةً وشرعاً

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    قال المؤلف: [والمانع ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته].

    بعد أن تكلم المؤلف على الشرط والسبب والعلة ذكر القسم الرابع وهو المانع، وذكرنا أن المانع في اللغة الحاجز بين الشيئين، كالجدار، والحدود بين الأملاك، وما أشبه ذلك.

    يقول: [ما يلزم من وجوده العدم] أي: عدم الممنوع، [ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم] هذا المانع، يعني: الشيء الذي إذا وجد عدم به الممنوع، ولكن إذا عدم قد يوجد وقد لا يوجد؛ ولهذا قال: (لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته).

    مثال ذلك: القرابة سبب من أسباب الإرث، فإذا كان قريب المسلم كافراً امتنع الإرث، إذاً الكفر هنا مانع؛ لأنه لزم من وجوده العدم، أي لزم من وجود الكفر عدم الإرث.

    وهل يلزم من عدم الكفر وجود الإرث؟

    قال المؤلف: (لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته)، فلا يلزم من عدم الكفر وجود الإرث؛ لأنه قد يعدم الكفر لكن يوجد مانع آخر كالرق مثلاً، فحينئذ عدم المانع وهو الكفر، ولم يوجد الإرث لوجود مانع آخر وهو الرق؛ لأن الإرث يمنعه ثلاثة أشياء: الرق، والقتل، واختلاف الدين، فإذا وجد اختلاف الدين بأن كان الوارث كافراً والموروث مسلماً قلنا: لا إرث؛ لوجود المانع.

    فلو عدم الكفر ومات مسلم عن مسلم، فهل يثبت الإرث؟

    الجواب: لا يلزم، قد يوجد مانع ثان، قد يكون الوارث رقيقاً مملوكاً، والمملوك لا يرث، إذاً لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، لكن نقول: (لذاته).

    واحترز بقوله: [لذاته] عما إذا لم يوجد إلا مانع واحد، فإنه إذا عدم هذا المانع وجد الشيء، مثاله: مات رجل مسلم عن ولد كافر حر غير قاتل، فإنه لا يرث لوجود الكفر، وهو مانع، لأنه يلزم من وجود المانع العدم.

    فلو مات مسلم عن ولد مسلم حر غير قاتل، فإنه يرث؛ لأنه ارتفع المانع، وليس هناك إلا هذا المانع الذي ارتفع فثبت الإرث.

    ولو مات عن ولد مسلم لكنه رقيق، لا يرث، إذاً لم يلزم من عدمه الوجود، فهنا عدم الكفر وهو مانع، ولكن لم يلزم من عدمه الوجود؛ لوجود مانع آخر، وهو الرق.

    وخلاصة الكلام: أن المانع هو الذي إذا وجد امتنع الشيء به، وإذا عدم قد يوجد وقد لا يوجد، فإن لم يبق إلا هذا المانع وجد، وإن وجد مانع آخر امتنع بالمانع الآخر.

    1.   

    المانع للحكم

    ثم قال المؤلف: [وهو إما لحكم كأبوة في قصاص، أو لسببه كدين مع ملك نصاب].

    يقول المؤلف: المانع تارة يمنع الحكم، وتارة يمنع السبب، فالذي يمنع الحكم كأبوة في قصاص، يعني: أنه لو قتل الأب ابنه، فهل يقتص منه ويقتل؟ يقول المؤلف: لا؛ لوجود مانع يمنع الحكم، مع أن السبب موجود وهو القتل، لكن الحكم وهو القصاص لم يوجد؛ لأن من شرط القصاص عدم الأبوة. فكانت الأبوة مانعة للسبب أم مانعة للحكم؟

    القتل العدوان هو السبب، والحكم هو القصاص، لكن الأبوة مانعة من الحكم.

    على هذا لو أن الرجل كان له ابن مؤذ متعب، فجاء يوماً من الأيام وأضجعه وذبحه بالسكين عمداً عدواناً، فهل يقتل الأب؟

    المؤلف يقول: لا يقتل، لأن الأبوة مانعة من القصاص، فلا يقتل، وهذا المانع مانع للحكم لا للسبب الذي هو القتل العمد؛ لأنه القتل العمد حصل، لكنه مانع للحكم.

    1.   

    تفصيل مذاهب العلماء في مسألة قتل الوالد بولده

    وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء:

    فمنهم من قال: إنه لا يقتل الأب بالابن، واستدلوا بأثر ونظر، أما الأثر: فاستدلوا بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقاد الوالد بالولد)، وبالنظر قالوا: لأن الوالد هو السبب في إيجاد الابن، فلا ينبغي أن يكون الولد سبباً في إعدامه.

    وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا قتل ابنه يقتل به، إذا علمنا أنه عمد عدوان.

    هناك تعليل ثان قالوا: ولأنه يبعد أن يقتل الأب ابنه عمداً عدواناً، فيكون استبعاد هذا الأمر شبهة؛ لأنه يحتمل أن الأب أخطأ، أراد أن يصلح البندق مثلاً وسارت وقتلت الابن؛ لأنه بعيد أن الإنسان يقتل ابنه، فلما كانت الشبهة موجودة كانت سبباً لمنع القصاص، هذا دليل أثري وتعليلان نظريان.

    وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا تعمد الأب قتل ابنه تعمداً لا شبهة فيه فإنه يقتل به، واستدلوا بأثر ونظر

    أما الأثر فعموم الأدلة الدالة على أن النفس بالنفس، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس)، وهذا عام.

    وقال: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)، وهذا أيضاً عام.

    وفي القرآن الكريم: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ [البقرة:178] إلى آخره، ثم قال: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]، وهذا عام.

    أما الدليل النظري فقالوا: إن قتل الإنسان لابنه من أكبر قطيعة الرحم، وأكبر العدوان، وإذا كان الرجل يقتص منه إذا قتل الأجنبي فإن القصاص إذا قتل قريبه من باب أولى؛ لأن هذا أعظم عدواناً وأعظم ظلماً فكان أولى بالقصاص.

    وأجابوا عن أدلة القائلين بالمنع، قالوا: أما الحديث فضعيف لا أصل له، فلا يقوى على تخصيص الأدلة العامة.

    وأما النظر فإن قولكم: إن الأب سبب في إيجاد الابن فلا ينبغي أن يكون سبباً في إعدامه، نجيب عنه: بأن الابن ليس هو السبب في إعدام أبيه، بل السبب في إعدام أبيه هو الأب نفسه، لأنه هو الذي قتل عمداً، والقتل العمد يوجب القصاص، فيكون الأب هو السبب في إعدام نفسه.

    وأما قولكم: إنه يبعد أن يقتل ابنه عمداً فنحن معكم إذا كان شبهة ألا نقتل الأب، لكن إذا علمنا أنه عمد عدوان بأن جاء بابنه وأضجعه وجعل يحد السكين، ثم ذبحه، فليس في هذا شبهة.

    خالد بن عبد الله القسري لما خطب الناس في عيد الأضحى وقال: يا أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحي بـالجعد بن درهم -وكان الجعد بن درهم رأس التعطيل- إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً! وكان عنده حول المنبر، وكان من عادة الخلفاء أن يكون الخليفة هو الإمام، وأن تذبح الضحايا في مصلى العيد اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثم نزل وذبح، فهل فيه شبهة أنه قتله خطأً؟ لا، إذا فعل الأب بابنه مثل هذا وقال: هذا الابن أتعبني ولا ينفع إلا أن أريحه وأستريح منه، ثم جاء بالسكين يحدها وأضجعه وذبحه، فلا شبهة هنا، إذاً ما الذي يخرجه عن عموم الأدلة وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ [البقرة:179] ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، وأيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ومنها النفس بالنفس)؟!

    فالصحيح: أنه إذا لم يكن شبهة فإنه يقتل به، والحمد لله ما فاتنا شيء، هذا الرجل فوت ابنه حياته فنفوت عليه حياته، ولا يبقى في النفس من هذا شيء.

    المهم أن الأبوة في القصاص مانع للحكم، ولا للسبب؛ لأن السبب موجود، وهو القتل العمد، والأبوة منعت الحكم بالقصاص، ولهذا قال: (كأبوة في قصاص)، والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765789678