سبق لنا أن المانع هو الذي يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، وسبق لنا أنه ينقسم إلى قسمين: مانع حكم ومانع سبب، ولكن لاحظوا أن المنتهى واحد؛ لأن مانع السبب يمنع تأثير السبب في المسبب، وإذا لم يؤثر السبب في المسبب امتنع الحكم، ولهذا نعتبر هذا التقسيم تنميطاً فقط، وإلا فلا حاجة إليه؛ لأن المدار كله على منع الحكم، سواء كان منعاً للحكم مباشرة، أو منعاً للسبب الذي يتخلف حكمه بتخلفه، والنتيجة واحدة، فمثل الحكم (كأبوة في قصاص)، يعني: لو قتل الأب ولده فسبب القصاص موجود وهو القتل العمد العدوان، لكن الحكم وهو الاقتصاص من هذا الرجل بعينه تمنعه الأبوة، فالأبوة إذاً تأثيرها الآن في الحكم؛ لأن السبب قائم.
وسبق لنا بالنسبة لهذه المسألة كمسألة فقهية أن القول الراجح: أن الوالد يقتل بالولد؛ وذلك لأن الدليل الذي استدل به المانعون غير صحيح، والتعليل الذي عللوا به غير قائم.
انتبهوا لهذه المسألة، هذه أيضاً مسألة فقهية فيها معركة، يعني: إنسان يملك النصاب، ولكن عليه دين بمقدار ما عنده من المال، فهل عليه زكاة في هذا المال أو لا؟ مثال ذلك: إنسان عنده مائتا درهم، وهو نصاب، لكن عليه دين بمقدار مائتي درهم، فهل عليه زكاة في المائتي درهم التي عنده؟
يقول المؤلف: لا؛ لأن الدين يؤثر في السبب الذي هو ملك النصاب، فالسبب من أصله غير قائم، لأن هناك ما يمنع قيامه وهو الدين الذي ينقص النصاب.
وعلى هذا فإن من عليه دين أكثر مما عنده أو يساوي ما عنده فليس عليه زكاة في هذا، فإذا قدر أن تاجراً كبيراً عليه مليون درهم وبيده مليون درهم يتجر بها، فإن الذي بيده ليس فيه زكاة، لوجود الدين الذي يمنع انعقاد سبب الزكاة وهو ملك النصاب، وهذا الذي ذكره المؤلف هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، أن الدين الذي ينقص النصاب يمنع وجوب الزكاة؛ لأنه مؤثر في السبب الذي هو ملك النصاب.
فإذا قال قائل: ما دليل هذا القول؟
يقولون: الدليل: هو أن الزكاة إنما وجبت مواساة؛ أي: ليواسي الغني الفقير، والمدين لا يتحمل ماله المواساة؛ لأن ما بيده مستحق للغريم الذي يطلبه، فهو بنفسه محتاج، فكيف نقول: يجب عليك أن تزكي.
إذاً: ليس هناك دليل من الكتاب والسنة على سقوط الزكاة بالدين الذي يمنع النصاب، لكن في التعليل، ولننظر هذا التعليل هل يكون عليلاً أو يكون قائماً.
القول الثاني في المسألة: أن الدين لا يمنع الزكاة، فمن عنده مائتا درهم وعليه مائتا درهم يجب عليه أن يزكي.
واستدل هؤلاء بعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة على من ملك نصاباً بدون تفصيل، مثل حديث أبي بكر في الصدقات، قال: (في الرقة في مائتي درهم ربع عشر)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء أو كان أثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر).
ولو كان الدين مانعاً من الزكاة لقال النبي صلى الله عليه وسلم: وليس على من عليه دين زكاة، كمال قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله، ومما تدعو الحاجة إلى بيانه، وما أكثر الناس المدينين، ها هم الصحابة رضي الله عنهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، ومع ذلك يوجب الشرع عليهم الزكاة، وهم مدينون لمن أسلم إليهم، كان الصحابة رضي الله عنهم أهل الزرع فقراء، يستلف الواحد منهم دراهم بشيء من الثمر السنة والسنتين، فتبقى ثمارهم مستحقة لدائنيهم، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ منهم الزكاة، ولا يسأل: هل عليهم ديون أو ليس عليهم ديون؟
إذاً: لو كان الدين مسقطاً للزكاة لبينته السنة بياناً واضحاً ظاهراً؛ لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه، ومما تتوافر الدواعي على نقله، ومما يكثر بين الناس.
صار الدليل على هذا عموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في كل نصاب.
ثانياً: مع وجود هذه العمومات عدم الدليل على التخصيص، مع شدة الحاجة إلى بيانه، وتوافر الهمم على نقله، ومع ذلك لم ينقل ولم يذكر إطلاقاً.
ثالثاً: أن ظاهر السنة العملية أن الدين لا يمنع الزكاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل العمال ليقبض الزكاة من المواشي ومن الثمار، ولا يقول لأي عامل: اسأل هل عليه دين أم لا؟ ولو كان الدين مانعاً لأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يسألوا، كما قال لهم: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)، إلى هذا الحد، يعني: إلى حد الزكاة إذا وجبت يقول: لا تأخذوها كلها، اتركوا الثلث أو الربع لصاحب البستان يؤدي الزكاة بنفسه؛ لأنه قد يكون له أقارب أو معارف يحب أن ينفعهم بصدقته، فإذا أخذتموها كلها ووضعتموها في بيت المال العام حرمتم الحق الخاص لصاحب الملك؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نص على هذه المسألة التي قد تكون قليلة الوقوع بالنسبة للدين، ولم يذكر شيئاً عن الدين، دل على أن الدين غير مؤثر إطلاقاً.
فالجوب عن هذا أن نقول: هذا التشبيه غير سديد؛ لأن المائتين اللتين في يده ملكه يتصرف فيهما كما يشاء، فيتصرف بالبيع والشراء وكل شيء، لكن لا يتصرف بهما على وجه يضر بالغريم؛ لأن ذلك خطأ، لكن بيع وشراء معناه أن ملكه عليها تام.
فإذا قال قائل: هل تبيحون لهذا أن يؤدي الزكاة ويأخذ من الزكاة؟
قلنا: نعم، يأخذ من الزكاة لقضاء دينه، ويعطي زكاة ما عنده من المال، ولا مانع، كما نقول في شخص عنده خمسة آلاف درهم وليس عليه ديناً، لكن الخمسة الآلاف لا تكفيه لمئونته نصف سنة، فله أن يأخذ من الزكاة ما يكفيه لمدة سنة، نصف سنة من الذي عنده، ونصف سنة من الزكاة، فسيأخذ من الزكاة خمسة آلاف، فنحن نقول: أنت عليك الزكاة لمالك، ولك أخذ الزكاة لحاجتك.
قد يقول قائل كما يقوله العامة -والعامة ما شاء الله عند إلزامهم بالمال يكونون فقهاء- يقولون: لو كان للإنسان دين على شخص غني، هل توجبون الزكاة في هذا الدين الذي عند شخص غني؟
نقول: تجب الزكاة؛ لأن هذا الدين يستطيع أن يطلبه من صاحبه فيسلمه له بدون إثم.
يقول: وتوجبون الزكاة على المدين في مقدار دينه؟
فإن قلنا: نعم، يقولون: إذاً أوجبتم زكاتين في مال واحد؟
وبيان ذلك: شخص يطلب إنساناً مائتي درهم، وهذا الإنسان المطلوب يملك مائتي درهم، فالمطلوب عنده مائتا درهم وهو مدين.
نقول: يجب على من له الدين أن يزكي هذا الدين؛ لأنه دين على مليء (غني)، ويجب على من عليه الدين أن يزكي كل ماله الذي من جملته أنه مطلوب لزيد بمائتين، إذاً المائتان التي لزيد زكيت مرتين، العامة يقولون: الآن أوجبت زكاتين في مال واحد، فمن أين لك هذا؟ هل الله أوجب زكاتين في مال واحد؟ أو أوجب صلاتين في وقت واحد؟
إن قلت: لا، إذاً يغلبك الآن في الحجة، ولكن تتخلص منه بكل سهولة، تقول: إن وجوب الزكاة على من له الدين لا تتعلق بمال الرجل المدين، بل تتعلق بذمته، ولذلك لو تلف المال الذي بيد المدين لم يسقط دين الطالب، بل يبقى في ذمته.
إذاً: وجوب الزكاة على الدائن لا يتعلق بالمال الذي بيد المدين حتى نقول إنه مال واحد وجبت فيه زكاتان، بل تتعلق بذمة المدين؛ ولهذا لو تلف المال كله لم يسقط حق الدائن، ولما انفكت الجهة زال توارد الحكم على شيء واحد؛ لأن الزكاة على المدين تتعلق بالمال، والزكاة لصاحب الدين تتعلق بالذمة، فلما انفكت الجهة لم يكن توارد الحكم على محل واحد، وبذلك نسلم من إيراد العامي علينا هذا الإيراد الذي قد يشتبه حتى على طلبة العلم، والله الموفق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر