التكليف له معنيان لغوي وشرعي:
فاللغوي هو: إلزام ما فيه مشقة، ولهذا يقول القائل: هذا الفعل كلفني، يعني: شق علي، فلو قلت لشخص: احمل هذه الصخرة، فحملها مع التعب قلنا: هذا تكليف، ولو قلت لشخص: احمل هذا القلم فحمله، فهذا ليس بتكليف؛ لأن التكليف لغة: إلزام ما فيه مشقة.
ويختلف هذا أيضاً باختلاف الناس، رب شاق على شخص ليس شاقاً على غيره، ضعيف البدن والمريض قد يشق عليه أن يحمل شيئاً يسيراً يحمله غيره بكل سهولة.
فالحكم يدور مع علته، متى كان شاقاً على شخص فهو تكليف، وإذا لم يكن شاقاً عليه فليس بتكليف وإن شق على غيره.
أما شرعاً فقال: [ وشرعاً: إلزام مقتضى خطاب الشرع ].
والملزم هو الله عز وجل، إذاً: فهو الذي يكلف عباده، ولهذا قال الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
فإلزام مقتضى خطاب الشرع هو التكليف، ولا فرق بين أن يكون هذا المقتضى واجباً أو مسنوناً، حتى إلزام مقتضى خطاب الشرع في أمر مسنون يعتبر تكليفاً، مع أن المسنون يجوز للإنسان فعله وتركه، لكن هو مكلف به من حيث قبوله شرعاً لله وأنه من شرع الله، ومن حيث قبوله مسنوناً لا واجباً، أما من حيث الفعل فليس بمكلف به لأنه ليس بواجب، وليس فيه إلزام، ولهذا قال المؤلف: (إلزام مقتضى خطاب الشرع)، ولم يقل (فعل ما دل عليه الشرع).
وعليه: إذا أمر الله بشيء على سبيل الوجوب، فمقتضى هذا الأمر أولاً قبوله، ثانياً: اعتقاد أنه واجب، ثالثاً: فعله، وكل هذه الثلاثة واجبة، والإنسان مكلف بها.
أما إذا كان مستحباً فوجه التكليف به أن يعتقد بأن الشارع أمر به فيقبله، والثاني: أن يعتقد أنه سنة لا واجب، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أن راتبة الظهر مثلاً فريضة كصلاة الظهر؛ لأنه مكلف من قبل الشرع أن يعتقد المسنون مسنوناً، ولا يجوز أيضاً أن يعتقد أن صلاة الظهر مسنونة ولو صلاها؛ لأنه ملزم من قبل الشرع أن يعتقد بأنها واجبة، ولهذا قال المؤلف: إلزام مقتضى خطاب الشرع.
وقوله: (خطاب الشرع) المراد بخطاب الشرع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا إشكال فيه، وهل الإجماع والقياس من مقتضى خطاب الشرع؟
نقول: نعم؛ لأن الإجماع والقياس قد دل على اعتبارهما الكتاب والسنة، فهما من مقتضى خطاب الشرع باعتبار دلالة الشرع على اعتبارهما دليلاً، فإذا دل الإجماع على شيء فهو كدلالة القرآن عليه، لكن ليس بالنص، بل باللازم؛ لأن القرآن دل على أن الإجماع حجة، وإذا دل القياس الصحيح على شيء فهو من مقتضى دلالة القرآن والسنة؛ لأن القرآن والسنة دلا على اعتبار القياس.
المحكوم به هذا من مقتضيات خطاب الشرع، والمحكوم به إما فعل وإما ترك؛ لأن أدلة الأحكام إما أوامر تقتضي الفعل، وإما نواه تقتضي الترك، والأوامر التي تقتضي الفعل لابد أن يكون الفعل الذي اقتضته ممكناً.
أي أن المحكوم به إذا كان فعلاً فلابد من شرط الإمكان؛ لأن الشرع لا يأمر بالمحال، سواء كان محالاً لذاته أو محالاً لغيره.
مثال المحال لذاته: لا يمكن أن يأمر الشرع بأن يجمع الإنسان بين النقيضين، أي: لا يمكن أن يوجه خطاباً فيقول: افعل شيئاً ليس فيه حركة ولا سكون؛ لأنه مستحيل لذاته، ولا يقول: افعل شيئاً تكون فيه قائماً قاعداً في آن واحد، فهذا أيضاً مستحيل، والشرع لا يمكن أن يأمر بمستحيل لذاته أبداً؛ لأن المستحيل لذاته غير ممكن الحصول، وإذا كان الله تعالى يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فكيف يكلفها بشيء مستحيل؟
قال الله تعالى: أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [المؤمنون:61-62] يعني: مع مسارعتهم في الخيرات لا يمكن أن نكلفهم شيئاً لا يستطيعونه، فمعنى (وُسْعَهَا) أي: طاقتها.
لغيره، إذ من الجائز أن الفقير يأخذ دراهم من زيد أو عمرو ويخرج مقدار الزكاة التي كلف بها، وكذلك الصوم في حال العجز ممكن أن الإنسان يكلف نفسه ويشق عليها مشقة عظيمة ويصوم، لكن الله عز وجل لا يمكن أن يأمر بهذا الشيء المحال، والذي اقتضى ذلك من الله سبحانه وتعالى هو أن رحمته سبقت غضبه، ولو كلف الإنسان بما لا يستطيع ثم لم يفعله فعاقبه على ذلك لكان الغضب سابقاً للرحمة، ولكن الله تعالى برحمته لا يكلف المحال.
وقول المؤلف: [ فعل بشرط إمكانه، فيصح بمحال لغيره لا لذاته ] فيه شيء من النظر؛ لأننا نقول: إن شرط الإمكان متعلق به سواء كان عدم الإمكان لكونه محالاً لذاته أو لغيره، فالمؤلف رحمه الله يقول: لا يصح الأمر بمحال لذاته، لكن يصح الأمر بمحال لغيره، فإن أراد أنه يصح عقلاً فمسلم، ولهذا يصح أن أكلف شخصاً بأن يحمل صخرة زنتها عشرة أطنان، فهذا يمكن عقلاً؛ لكنه غير ممكن من جهة أنني أنا لا أستطيع، ولهذا لو جاءت الرافعة الكبيرة فإنها ترفع هذه الصخرة.
إذاً: ليس مستحيلاً لذاته لكن مستحيلاً لغيره؛ فعلى كلام المؤلف يصح أن يوجه الأمر الذي على هذا الوجه، ولكن الصحيح أنه لا يصح حتى وإن كان لغيره، ولهذا لو أنك قلت لشخص: احمل هذه الصخرة وزنتها عشرة أطنان، قال: أنت مجنون؟ كيف أحمل صخرة تزن عشرة أطنان؟ هذا لا يمكن!
يعني: يصح بمحال عادة في وجه، أما إذا استحال عقلاً فلا يمكن، لكن إذا كان عادة لا يمكن فيصح أن يوجه الأمر إلى ذلك، وفيه نظر، لأني قلت لكم: إن المحال لا يمكن أن يتوجه به أمر لا سيما من الله عز وجل؛ لأن الله أحكم الحاكمين، فكيف يوجه أمراً للعباد وهو أمر مستحيل في العادة، لكن على كلام المؤلف يمكن.
وربما نتنزل مع كلام المؤلف ونقول: إن أراد أنه يوجه من قبل الشرع فليس بصحيح، وإن أراد أن يوجه من أي واحد فيمكن، أي يمكن أن نقول للشخص: يا فلان! إذا كان بعد صلاة الجمعة وانتشر الناس بالسوق فلابد أن تمشي على يديك بين الناس، فهذا مستحيل عادة، أي يستحيل عادة أن واحداً يخرج من باب المسجد يوم الجمعة، ويمشي على يديه، أول من يمسكه الذي إلى جنبه، يقول: هذا الرجل أصيب بالجنون؛ لكن على كلام المؤلف يصح أن يوجه الأمر بمستحيل عادة.
والذي يظهر لي أنه باعتبار أمر العباد فيما بينهم يمكن، ولكن باعتبار حكمة الله عز وجل أو باعتبار الأمر الوارد من الله فإنه لا يمكن؛ لأن مثل هذا الأمر يعتبر سهفاً، وفيه أيضاً مشقة على النفس، والله عز وجل يقول: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
وقول المؤلف: (في وجه) معناه أن المقدم غيره، كما قال في المقدمة، (ومتى قلت: (في وجه) فالمقدم غيره) أي: يكون ضعيفاً، وإذا قال (في قول) فالخلاف متساو.
فإذاً: (في وجه) يكون المقدم غيره، وهو الذي اخترناه؛ أنه لا يمكن أن يتوجه الخطاب بشيء مستحيل عادة من قبل الله عز وجل، أما من قبل البشر الناقصين في حكمتهم فهذا يمكن أن يتوجه الخطاب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر