الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبق لنا أن التكليف في اللغة إلزام ما فيه مشقة، وأن ما كان فيه مشقة ولم يؤمر به على سبيل الإلزام فليس بتكليف، وما فيه مشقة وأمر به على سبيل التخيير فليس بتكليف، وهذا في اللغة.
أما في الشرع فهو إلزام مقتضى خطاب الشرع وإن لم تكن الخطاب مقتضياً للوجوب، فمثلاً: صلاة النافلة مكلف بها وإن لم تكن على سبيل الإلزام، ولكن مكلف أنت بأن تعتقد أنها من الشرع، وأنها مسنونة، وهذا نوع تكليف، يعني: لا يطلب منك أن تفعلها على أنها عادة أو على أنها ليست من الشرع، بل المطلوب منك أن تفعلها على أنها من الشرع، وأنها مسنونة لا واجبة، ولهذا صح أن نقول: إن المستحب من الأحكام التكليفية، والمكروه من الأحكام التكليفية مع أنه ليس في الفعل في المسنون ولا في الترك في المكروه إلزام، لكن الإلزام من جهة أن تعتقد بأنه مشروع، يعني: من الشرع، وأنه مسنون وليس بواجب.
والمحكوم به هو الفعل بشرط إمكانه، فلا تكليف بمستحيل كما سبق، والمحكوم به سبق لنا أنه فعل، وهو في الأوامر واضح، لكن في النواهي كيف يكون فعلاً؟
يقول المؤلف: [ومتعلقه في نهي كف النفس].
أي: النهي يكون القيام به بكف النفس، والكف فعل، ولهذا قال: (المحكوم به فعل) أي: وليس بترك.
فإذا قال قائل: إن النواهي ترك كيف تقول إنها فعل؟ نقول: متضمنة للفعل، وهو كف النفس ومنعها كما سيأتي في كلام المؤلف.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يصح التكليف بغير فعل ]؛ لأن المحكوم به لابد أن يكون فعلاً، فلا يصح التكليف بغير فعل؛ لأن عدم الفعل ليس بتكليف، ولهذا احتجنا أن نقول: إذاً النهي مكلف به وهو غير فعل، فأجاب عنه المؤلف فيما يأتي بأن متعلقه في النهي هو كف النفس، والكف هو نوع من الفعل، لأن الكف منع وكبح لها.
ثلاثة شروط، يعني: يشترط لتنفيذ الحكم الشرعي والقيام به أن يعلم المكلف حقيقته، فإن لم يعلم فإنه لا يعتبر قربة ولا حكماً شرعياً، فلو كان لا يدري ما الصلاة، وهل هذه الصلاة المأمور بها أم غيرها لم يصح، فلابد أن يعلم بحقيقة المأمور به حتى يتمكن من الامتثال.
ولابد أن يعلم أنه مأمور به، فلو فعله هكذا لم يكن شرعياً؛ لأنه لم يعلم أنه مأمور به.
ولابد أيضاً أن يعلم أن الآمر به الله؛ لتصح نية التقرب إلى الله عز وجل بفعله، وكل هذه الشروط هي لصحة القيام بالعمل المكلف به، وليست شروطاًللتكليف في الحقيقة.
فالتكليف يصح وإن لم يعلم المكلف بذلك، لكن لا يصح القيام بالمكلف به إلا بهذه الشروط، أن يعلم المكلف بحقيقته، وأن يعلم أنه مأمور به، وأن يعلم أن الآمر هو الله من أجل أن تصح نية التقرب به.
إذ من لم يعرف حقيقة الشيء كيف يفعله؟ ومن علم حقيقته ولكن لم يعلم أنه مأمور به فإنه لا يصح أن يكون قربة، ومن علم أنه مأمور به لكن يحسب أن الآمر به الأمير، كأن سمع الأمير يقول: صلوا مع الجماعة فقام وصلى، لكن لا يدري أن الآمر هو الله، فلا يعتبر هذا الفعل شرعياً يقرب إلى الله؛ لأنه ما نوى التقرب إلى الله، إذ لم يعلم أن الآمر هو الله عز وجل.
قال: [ فلا يكفي مجرده ]، يعني مجرد الفعل لا يكفي حتى يعلم الإنسان حقيقته وأنه مأمور به، ومن الله.
أي متعلق الفعل والتكليف في النهي كف النفس عما نهي عنه، مثال ذلك: نفسك تنقاد مثلاً إلى شرب الخمر وتحبه وتنازعك فيه، ولكن تمنعها عن شربه، ماذا يكون هذا المنع؟
يكون فعلاً في الحقيقة؛ لأنه كف وحبس للنفس عن هذا الفعل الذي نهيت عنه.
فإذا قال قائل: أنتم إذا قلتم إن المكلف به أو المحكوم به فعل، واجتناب شرب الخمر محكوم به وليس بفعل؟ نقول: فيه فعل وهو كف النفس عن الشرب، وكف النفس عمل، وربما يكون كف النفس عملاً أشق من الفعل.
قال: [ ويصح به حقيقة قبل حدوثه ].
يعني: مثلاً إذا أمرتك فقلت: صل صلاة الظهر، فقد أمرتك، فهذا أمر حقيقي مع أن الصلاة لم يأت وقتها بعد.
وهذه الكلمة في الحقيقة لا حاجة إليها فيما يظهر؛ لأنه لابد أن يكون المأمور به مستقبلاً بالنسبة للأمر، فحقيقة الأمر يقع قبل المأمور به، وكونك تقول: إن توجه الأمر على فعل لم يكن بعد يعتبر من باب المجاز لأنه لم يفعله الآن؟
نقول: هذا ليس بصحيح، بل هو مأمور به حقيقة وإن لم يفعل، فالأمر بالصلاة مثل: إذا أذن الظهر إذا زالت الشمس فصل الظهر، هذا أمر حقيقي مع أنه لم يكن ليباشر الصلاة الآن.
يقول: [ ولا ينقطع به ] يعني: ولا ينقطع بالحدوث، فمثلاً: إذا قلت: صل الظهر، فزالت الشمس وتوضأت واستقبلت القبلة وكبرت وقرأت، فهل انقطع الأمر الصلاة؟
الجواب: لا ينقطع الأمر بها إلا بإتمامها، ولهذا قال المؤلف: (ولا ينقطع به) أي: لا ينقطع الأمر بمجرد فعل المأمور به حتى يتمه، ولهذا لو طرأ مبطل على الصلاة في أثنائها لزمك أن تستأنف الصلاة من جديد بالأمر الأول، فقول المؤلف: (لا ينقطع به) أي: بابتدائه حتى يتم.
قال: [ وبغير ما علم آمر ومأمور انتفاء شرط وقوعه ].
يعني: لا يصح الأمر بشيء علم الآمر والمأمور انتفاء شرط وقوعه.
فما علم الآمر والمأمور انتفاء شرط وقوعه فلا يصح الأمر به، فمثلاً: من شرط الأمر أن يكون ممكناً، فإذا علم الآمر والمأمور انتفاء شرط الوقوع -وهو الإمكان- فإن الأمر هنا لا يصح، لو قلت مثلاً: طر في السماء بدون جناح أو بدون وسيلة لم يصح؛ لأن الآمر والمأمور يعلمان انتفاء شرط الوقوع وهو الإمكان، فيكون الأمر هنا عبثاً، وقد سبق في قول المؤلف: (فيصح بمحال لغيره لا لذاته وعادة في وجه).
فما علم أنه مستحيل ولا يمكن فإنه لا يصح الأمر به، إنما يصح بغير ما علم آمر ومأمور انتفاء شرط وقوعه.
وكل هذه المباحث الحقيقة مباحث إذا تأملتها هي مباحث كلامية جدلية ليس لها معنى؛ لأننا نعلم أنه من السفه أن يأمر الله تعالى بشيء يعلم هو والمأمور أنه مستحيل، هذا تحصيل حاصل لا يحتاج أن ننبه عليه، لكن لما كانت المسألة فيها جدل لا يستفاد من قراءة الشرح احتاج المؤلف إلى ذكره، ولهذا مع أن أصول الفقه على أنه فن شيق ومحبوب إلى النفس لكن تجدون فيه شيئاً من علم الكلام الذي التعمق فيه إضاعة للوقت.
أي: يصح تعليق أمر باختيار مكلف في الوجوب وعدمه، يعني بأن يقال مثلاً: أقم الصلاة إن شئت. هنا علقنا الأمر باختيار المكلف، وفي خصال الكفارة: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، هذا أيضاً فيه تعليق باختيار المكلف، فخصال الكفارة فيها تخيير، لكن يجوز أيضاً ما فوق ذلك، يجوز أن يخير المكلف بالفعل أو عدمه بالكلية؛ لأن الأمر إلى الآمر، فكما تقول مثلاً لولدك: اذهب إلى الدرس إن شئت، فكذلك يصح أن يرد خطاب من الشارع على هذا الوجه.
فلو قلت لصبيك وهو يتعشى: تعش، يكون هذا الأمر تحصيل حاصل، كيف تأمرني أن أتعشى وأنا أتعشى؟ ولو فعلت لقيل: إن هذا الرجل مشوش على عقله، يراني آكل وأتعشى ثم يقول: تعش، إلا إذا كان في أثناء الطعام ممكن يقول: تعشى، يعني: كل، فهذا ممكن.
على كل حال: الأمر بالموجود لا يرد ولا يمكن أن يوجد، وعلل في الشرح بأن ذلك تحصيل حاصل، نقول: إذا كان تحصيل حاصل فلماذا تأتي أصلاً تأتي بهذه العبارة، قد ربما تشوش على الإنسان وهو تحصيل حاصل!
أي: يشترط في المحكوم عليه أن يكون عاقلاً، فإن لم يكن عاقلاً فإنه لا يلزمه حكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم: المجنون حتى يفيق ).
ولأن الخطاب لابد أن يوجه إلى شخص يفهمه، فلو وجه إلى شخص لا يفهمه كان هذا تكليفاً بما لا يطاق، ولهذا سقطت التكليفات عن المجنون.
والذي اختل عقله وليس بمجنون، لكن يضرب الناس ويتكلم عليهم، فهو مثل المجنون.
ويشترط أيضاً فهم خطاب، فإن كان عاقلاً لكن لا يفهم لكونه أعجمياً خوطب باللغة العربية، فإنه لا يلزمه الحكم، وهذا نأخذ منه فائدة مهمة، وهي أن الحجة لا تقوم بمجرد بلوغها، بل لابد من الفهم، لكن قد يؤاخذ الإنسان إذا قصر في طلب الفهم، أما لو بلغته ولم يتمكن من الفهم ثم مات فإن الحجة لا تقوم عليه، لكن لو بقي مدة بحيث يكون مقصراً في طلب الفهم، فحينئذٍ يكون قد قامت عليه الحجة.
وقوله: (لا حصول شرط شرعي)، يعني: لا يشترط للمحكوم به حصول شروطه، بل يلزم ويثبت الخطاب به وإن لم تتم شروطه، فمن شروط العبادة أن يكون العابد مسلماً لقول الله تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ [التوبة:54]، فلابد أن يكون العابد مسلماً، ولكن هل هذا شرط في التكليف؟ لا، بل هذا شرط للصحة، ولهذا يقول: إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو بفروع الإسلام كما أنهم مخاطبون بأصله، والله أعلم.
والتكليف ليس بشرط، ولهذا يوجه الخطاب إلى الصغير فيؤمر بالصلاة ويؤمر بالصوم، لكن هو شرط للتأثيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر