حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الله عز وجل في حقه صلى الله عليه وسلم: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[النور:63]، وقال عز وجل:
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
[الحشر:7]، وقال تبارك وتعالى:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
[النساء:80]، وقال:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
[الأحزاب:21].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني)، وقال: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)، فمن سنته صلى الله عليه وآله وسلم -سواء السنة القولية أو الفعلية- إعفاء اللحية، يقول أنس رضي الله عنه: (كانت لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمر يده على عارضيه).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته)، معنى شمط: ابتدأ ظهور شعيرات قليلة بيضاء، (وكان إذا ادهن لم يتبين)، فكان الطيب يخفي لون الشعيرات البيضاء القليلة، (وإذا شعث رأسه تبين) أي: إذا تفرق شعر رأسه بان الشيب، (وكان كثير شعر اللحية صلى الله عليه وآله وسلم).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية).
وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية).
وإذا كان المحب مولعاً أبداً باتباع حبيبه والاقتداء به، فماذا نقول لمن ظهرت عليهم آثار المعصية وشذوا عن الشرع المطهر ورفضوا إعفاء اللحية؟! نقول: حسابهم على الله، لكن ما بال هؤلاء يفرضون على كل من يحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يقتدي به في هذه السنة فلا يجدون علامة يؤذونه بها إلا أن يقولوا: هذا ملتحي! لأنه متمسك بسنة الرسول عليه الصلاة السلام.
فتجد الإنسان يمتحن بسبب لحيته، وربما يفصل من العمل بسبب لحيته! ما الجريمة التي ارتكبها مثل هذا؟ لماذا لا تأخذونها من جانب الحرية الشخصية التي تتشدقون بها في تقليد الكفار لماذا تعطى لكل فاسد وفاسق إلا المسلم المتبع لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! فويل لهم مما يصنعون من الصدّ عن سبيل الله تبارك وتعالى، وامتحان الناس بسبب حرصهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا ظهرت هذه الموضة أو فعلها بعض الممثلين أو لاعبو الكرة أو غيرهم، واقتدى بهم الشباب في ذلك، فهذا شيء جيد، وهذه عصرية وتنوّر وتقدم وحضارة، أما إذا فعلوها اقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام نالوا الأذى والابتلاء بسبب ذلك!
عن يزيد الفارسي قال: (قلت لـ
وهذا الحديث فيه فائدة نذكرها وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي)، فمن زعم أنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنامه، فلا يجزم بأن الذي رآه في المنام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا إذا وافقت صفاته في المنام الصفةَ المحكية عنه في صفاته الخَلْقية صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أم معبد : رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف اللحية).
وقال أبو معمر قلنا لـخباب بن الأرت رضي الله عنه: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم. فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟ ! -يعني هذه صلاة سرية لا يسمع فيها صوت القراءة فبم كنتم تعرفون قراءته؟ ! -وفي رواية قال: من أين علمت؟ قال: باضطراب لحيته)، معنى ذلك: أنك إذا رأيت الإنسان من وراء ظهره، وكانت لحيته تتحرك، فهذا يعني أنها لحية كبيرة، حيث أنها تتحرك إذا حرك شفتيه بالقراءة.
وفي قصة صلح الحديبية : (أن
وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلّل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي عز وجل)، وتخليل اللحية بابٌ عَقَده الفقهاء في أبواب الوضوء، وعن عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته).
كل ما سبق من الأحاديث -وغيرها كثير- تدل على عِظَم لحيته الشريفة وطولها، فعجباً ممن يدعي أنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يعفي لحيته؟! فكأن المحبة عندهم شيء لا يكلف، وبعضهم يدعي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وينكر عليك مثلاً إذا لم تصلّ على النبي عليه الصلاة والسلام بعد الأذان، ويقول: أنت تبغض رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنت لا تحب النبي، أنا أحب النبي وأنا أصلي عليه صلى الله عليه وسلم، ففي مثل هذه الأشياء يُعتبر الإنسان مأجوراً، أما من يفعلون كثيراً من البدع، ويستدلون بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشدقون بها، فإنما زيّن لهم سوء أعمالهم، فمن أحب رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب صورته وأبغض صورة أعدائه، ومن كان يصلي عليه مدّعياً محبته فعليه أن يعفي لحيته إن كان صادقاً في هذه المحبة.
هذا كلّه بغضّ النظر عن حكم الوجوب، لكن هذه ثمرة المحبة، فالإنسان ينقاد لمن يحبه ظاهراً وباطناً، ويُرى ذلك في سلوكه، فيحب كل ما نُسب إلى محبوبه، كما يقول عنترة :
وأهوى من الأسماء ما شابه اسمها أو مثله أو كان منه مقارباًً!
فكل محبوب يحب ما كان منسوباً إلى حبيبه من الصورة والسيرة واللباس والهيئة، حتى يحب داره وجداره وكساءه ورداءه، كما يقول بعض الشعراء في ذلك:
ولقد أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبُّ الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
فالذي يؤمن بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، هذه المحبة لا محالة إذا كانت صادقة يجد المحب نفسه مضطراً اضطراراً مدفوعاً بهذا الحب الصادق إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شؤونه كلها، كما قال عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران:31]، فالذي يظهر اللحية تديناً بذلك وتشبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم حقه أن يُعظّم.. حقه أن يُحترم.. أن يُحب، لا أن يحارب وأن يُضطهد وأن يؤذى وأن يسجن.. إلى غير ذلك!
فإن لم تدفع المحبة صاحبها إلى الاتباع فهي دعوى وليست محبة صادقة، وفي مثل هذا يقول الشاعر:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ.
يقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: بينما أنا أمشي بالمدينة، إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك؛ فإنه أتقى وأبقى، أي: أتقى لله؛ لأنه تواضعاً، وأبقى للثوب حتى لا يتلف بجرَّه على الأرض، فالتفتُّ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إنما هي بُردة مَلْحاء، يعني: مُبتذلة لا اعتداد بشأنها ولا توجد شبهة في مثل هذه البردة القديمة أن تكون مَدّعاة للتكبر والخيلاء، وهذا تبرير لتساهله في طول هذه البردة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما لك فيَّ أُسوة؟ فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
معناها: أنه مع وجود هذا العذر الذي ذكره، وهو أن هذه البردة مبتذلة لا يخشى أن تكون مدعاة للتكبر أو الخيلاء، لكن النبي عليه السلام بيّن له أن الصواب هو التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو المحبوب عند الله عز وجل في كل الشؤون، وإن كان اتباعه في بعض الأمور غير واجب، ولكن المحب لا ينظر إلى الفرق بين الواجب وبين السنة، فيبادر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس يتساءل: هذا حرام أم مكروه؟ فإذا قيل له: مكروه. كان ذلك سبباً للتمادي فيه! سبحان الله! وأنت تسأل: هل اللحية سنة حتى تجتنبها أم واجبة حتى تتبعها؟ فهل الصحابة كانوا يفعلون ذلك؟!
فإذا كان الإنسان يريد أن يقتدي بمحبوبه فإن المحبة تدفعه لذلك، والمحب في شغل شاغل عن البحث في الفرض والسنة، فإذا فَعَله الرسول عليه الصلاة السلام كان الصحابة يقولون: سمعنا وأطعنا، ويقتدون به، وهنا مع ما ذكره ذلك الصحابي من العذر، وأن هذه البردة مبتذلة ورثّة، ولا يحتمل فيها الفخر ولا الخيلاء ولا التكبر، لكنه مع ذلك أرشده النبي عليه الصلاة والسلام إلى ما ينبغي أن يفكر به أهل الاتباع وأهل المحبة.
فالسؤال الآن موجه لحليق اللحية: ماذا يكون جوابك إذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تسرد له المعاذير، فإذا أجابك وقال لك: أما لك فيَّ أسوة؟؟!
بل ماذا يمكن أن يكون شعورك؟! تخيل أن الرسول عليه الصلاة السلام قد رآك، وإذا رأى وجهك لا لحية فيه أبغض هذا المنظر، وكَرِهَ النظر إليه، فحوّل وجهه غضباً وكراهية إلى الجهة الأخرى وهو يقول لك: ما حملك على هذا؟ أو وهو يقول لك: ويلك! من أمرك بهذا؟!
وهذا السؤال قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قاله لمن حلق لحيته، فقد روى ابن أبي شيبة : أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية.
وهذه الحالة التي استنكرها الرسول صلى الله عليه وسلم لعلّها أهون مما يحصل الآن من بعض الناس، حيث يحلقون اللحية والشارب، وهذا تشبه واضح بالنساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير قال: أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجزّ لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يشير إلى ربه كسرى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني أن أوفّر لحيتي وأُحفي شاربي، هذا واضح في أنه أمر من الله، فيضاف إلى الأدلة في قائمة الأمر بإعفاء اللحية.
ولما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث به عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزّقه، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزّقوا كل مُمزّق، فما قامت للفرس بعدها قائمة، ولم يكن للدولة الكسروية مُلْك بعد ذلك.
ثم كتب كسرى بعد تمزيق الكتاب إلى باذان -وهو عامله على اليمن- أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جَلْدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه -وهو بابويه ، وكان كاتباً حاسباً- مع رجل آخر من الفرس، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما كَرِهَ رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، وقال: ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا بهذا ربنا، يعنيان: كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي رواه ابن جرير الطبري عن يزيد بن أبي حبيب مرسلاً، وحسّنه الألباني .
فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر الذي جاءه من السماء: إن ربي قتل ربكما الليلة، حيث عاجل الله كسرى -لعنه الله- بالعقوبة، وسلّط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجع الرسولان حتى قدما على باذان .. إلى آخر الحديث.
فالذي يظهر من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كره النظر إلى ذينك الرجلين، وهذا الموقف يُحرّض كل مؤمن على ألا يفعل فعلاً يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سواء كان حلق اللحية أو غير ذلك مما يخالف السنة.
فانظر إلى الجماعات الوطنية والأحزاب السياسية، تجد كل واحد من هؤلاء الأفراد يحرص على أن يرضي زعيم الحزب، وألا يؤذي شعوره أو يفعل شيئاً يكرهه، ويتبعه في سيرته وصورته ولباسه وهيئته، ولا يأتي بفعل يؤذيه.
فالعجب من هؤلاء الذين يحلقون لحاهم: كيف يزعمون محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يأتون هذا الفعل الذي يتأذى منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يجد أحدهم في ذلك حرجاً في نفسه؟!
نذكر هنا قصة رجل من الشعراء يسمى: مرزا قتيل ، كان يكتب شعراً في الحكمة والمعرفة، وهناك رجل إيراني كان يقرأ كتابات هذا الشاعر، فأُعجب به جداً، واعتقد في قلبه أن هذا الرجل الذي يكتب هذه الأشعار الدينية والمواعظ والحكم هو رجل عظيم جداً في دينه، فزكى روحه وجسده، فرحل إليه وسافر من بلده حتى يتشرف بلقائه، فلما وصل إلى بابه رآه يحلق لحيته، فقال مستنكراً ومتعجباً: يا سبحان الله! أتحلق لحيتك؟ ! فقال مرزا قتيل -تبعاً للفلسفة المنتشرة هذه الأيام-: نعم، أحلق لحيتي ولكن لا أجرح قلب أحد. يعني: أجرح وجهي بحلق اللحية، لكن لا أجرح قلب أحد!! وهذا إظهار للمعصية في ثوب مزين ومزخرف كما يفعل كثير من الناس اليوم؛ يقولون: أنتم تهتمون بالشعور ولا تهتمون بشعوري، يعني: تهتمون بالشعر وتجرحون شعور الناس.
فردّ عليه هذا الرجل الإيراني العامي بالبداهة قائلاً: بلى، إنك تجرح قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكلام هذا الرجل حق، كما رأينا في قصة هذين الفارسيين لما رآهما النبي صلى الله عليه وسلم كره النظر إليهما، وآذاه منظرهما، وجرح ذلك قلبه حتى إنه حوّل وجهه عنهما وصرخ فيهما: ويلكما! من أمركما بهذا؟.
فلما سمع ذلك مرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق قال بالفارسية شعراً معناه: جزاك الله خيراً، فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي.
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتفوا الشيب؛ فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحط عنه بها خطيئة).
قال النووي رحمه الله: يُكره نتف الشيب، ونقل عن الغزالي والبغوي وآخرين كراهته، ثم قال: ولو قيل يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد، ولا فرق بين نتفه من اللحية والرأس.
وعن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: [يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من لحيته ورأسه] فالذي يحلق لحيته قد كره الأسود فضلاً عن الأبيض الذي هو نور المسلم.
من الفوائد التي يناسب ذكرها أيضاً في هذا المقام: إذا تقاتل شخصان، فوصل بأحدهم الأمر إلى أن شد لحية الآخر ونزعها من الجذور ولم تعد تنبت.
يقول العلماء: اللحية إذا جُني عليها فأُزيلت بالكلية، ولم ينبت شعرها، فعلى الجاني دية كاملة كما لو قتل صاحبها.
قال الإمام ابن مفلح رحمه الله: واحتمل أن يلزمه كمال الدية، قدمه في الرعاية والفروع؛ لأنه أذهب المقصود، أشبه ما لو أذهب ضوء العين.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله، فهذه من سنن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
يقول القاري معلقاً على هذه العبارة: فالاقتداء بالحبيب بعد الخليل يورث الأجر الجليل والثواب الجزيل، والأولى أن يقول: فالاقتداء بالخليل بعد الخليل؛ لأن الخُلّة أعلى من المحبة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.
وقد وقع الخلاف في الإحفاء، هل المقصود به: استئصال الشارب تماماً؟ وهذا ذهب إليه بعض العلماء، فمنهم من يرى أن المقصود بالجزّ والحفّ: المبالغة في القص.
سُئل الإمام مالك عن من يحفي شاربه، فقال: ينبغي أن يُضرب من صنع ذلك، فليس حديث النبي صلى الله عليه وسلم كذلك، ولكن يبدي حرف الشفة والفم.
يعني: هذا معنى قص الشارب، وهو: أن يأخذ فقط ما كان على طرف الشفة العليا، وقال لمن يحلق شاربه: هذه بدعة ظهرت في الناس.
وكان عمر رضي الله عنه إذا غضب فتل شاربه ونفخ، وهذا يدل على أنه لم يكن يحلق شاربه.
وقال الحافظ : والمعروف عن عمر أنه كان يفتل شاربه، وأيضاً روي أن خمسة من الصحابة كانوا يأخذون شواربهم مع ترك الشفة. أي: يستأصلون ما زاد ونزل إلى حافة الشفة.
وفي حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه -وهو حديث صحيح- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لم يأخذ من شاربه فليس منا و(من) هنا تبعيضية، ومعناها: أن المطلوب أن يأخذ من شاربه، لا أن يأخذه ويستأصله كله.
وعن جابر رضي الله عنهما قال: ما كنا نُعفي السبال إلا في حج أو عمرة أي: ما كانوا يتركون الشوارب ويطلقونها إلا في حج أو عمرة.
وقال البخاري : كان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين، والمقصود بـ(هذين): مواضع اتصال الشارب باللحية.
وقال الغزالي : لا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، يترك أو يقص، وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، ولا بأس أيضاً بتقصيره فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
من قال: إن السبالين -اللذان هما جانبا الشارب- من الشارب فإنه ذهب إلى أنه يشرع قصّهما معه، وقيل: بل هما من جملة شعر اللحية، ويا ليت هذا هو الخلاف الذي نحتمي به الآن!
وعن الشعبي : أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك، وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم، ولا يزيد على ذلك.
وقال مالك : يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة -وهو الإطار- ولا يجزه فيمثّل بنفسه.
وقال القرطبي : القصّ: أن يأخذ ما طال على الشفة بحيث لا يؤذي عند الطعام، ولا يجتمع فيه الوسخ، وفيه حديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ من شارب المغيرة على قياسه، حيث يقول المغيرة : وكان شاربي وفى، فقصّه لي على سواك، أو قال: أقصّه لك على سواك.
واختلف العلماء في معنى: (على سواك) فبعض العلماء قالوا: يعني على أثر سواك، يعني: بعدما تسوك مباشرة قال له ذلك، والأرجح والله أعلم: أنه أخذ سواكاً فوضعه تحت الشعر، ثم قص ما جاوزه إلى السواك، وفي بعض الروايات: فوضع السواك تحت الشارب وقص عليه.
وأخرج البزار من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً وشاربه طويل، فقال: ائتوني بمقص وسواك، فجعل السواك على طرفه، ثم أخذ ما جاوره.
نشير إشارة سريعة إلى بعض الأضرار التي تنتج عن حلق اللحية:
فمن حلق لحيته يعتبر معترض على خلق الله، ويرى أن الزينة في خلاف ما خلق الله، وأن تغيير خلق الله شيء أحسن.
والإنسان حتى لو لم تظهر له الحكمة في كثير من الأشياء فينبغي أن يكون واثقاً بأن الله عز وجل حكيم في خلقه وفي صنعه، قد أتقن كل شيء، كما قال الله تعالى في سورة النمل: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ
[النمل:88] وقال موسى:
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى
[طه:50].
أما بالنسبة للشعر الذي أُمر الإنسان بإزالته كالإبط وغيره، فإن الغدد التي تحت هذا الشعر هي غدد عَرَقية ولست غدداً دهنية، فالحلق أو النتف في هذه الحالة ضروري لنشاط ونظافة هذه الغدد العرقية، وهذه الغدد العرقية الموجودة في هذين الموضعين تختلف تماماً عن الغدد الدهنية الموجودة في الوجه، فالغدد الموجودة في الوجه هي غدد دهنية، فهناك خلاف بينهما في التركيب والوظائف والمحتويات والإفرازات، فنتف شعر الإبط وحلق العانة يمنع حصول التهابات في الغدد العرقية لاسيما الالتهابات الصديدية، والإبط يُعتبر من أكثر المواضع تعرضاً لمرض القمال.
فهناك فرق من الناحية الطبية والوظيفية بين الغدد العرقية الموجودة في هذين الموضعين والغدد الدهنية الموجودة في الوجه، وشعر اللحية له دور هام، فوجوده ينشط الغدد الدهنية الموجودة في الوجه، كما أن الشعر الطويل للّحية يعمل كدرنقة لتنشيط وحيوية هذه الغدد.
وأيضاً: يترتب على حلق اللحية كثير من الأمراض مثل: التهاب الجريبات الناشئ عن الحلق، ويؤثر على الخلايا الملونة الموجودة في الجلد، والتي قد تصل إلى حصول بعض الأورام.
ويؤدي حلق اللحية إلى الإصابة بالمرض المعروف: وهو حَبّ الشباب، ونسبة الإصابة بهذا المرض مرتفعة فيمن يحلقون لحاهم بالنسبة لغيرهم.
وحلق اللحية يسبب تهيج الجلد، ويساعد على الإصابة بالأورام والأمراض الفيروسية فضلاً عن أمراض الصدفية والحزاز.
أيضاً: حلق اللحية يؤدي إلى انسداد الغدد الدهنية؛ لأن قطع الشعر يترتب عليه انسداد الغدد الدهنية بفعل بقايا الشعر المقطوع.
هناك إحصائيات مأخوذة من مراجع طبية محايدة لا دين لها، وبعض هذه المراجع يقول كاتبوها: نسبة الإصابة بالشلل عامة وشلل أعصاب الوجه خاصة مرتفعة في حالقي لحاهم عنها في غيرهم.
سُئلت لجنة الإفتاء في رئاسة إدارات البحوث العلمية في السعودية عن حكم الصلاة خلف الإمام حالق اللحية، بَينَّوا تؤجروا؟
فكان الجواب:
حلق اللحية حرام؛ لما رواه أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خالفوا المشركين، ووفّروا اللحى وأحفوا الشوارب)، ولما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جزّوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس)، والإصرار على حلقها من الكبائر.
ولعلّي أوجه هذا الكلام الذي ذكره العلماء: وهو أن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب منها صُقل قلبه -يعني: جُلّي عنه- وإن زاد زادت، فذلك قوله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
[المطففين:14].
وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت.
فما في شك أن الإنسان إذا أصرّ وداوم على حلق اللحية كلما نبتت حَلَقها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، ومن تاب واستغفر وأعفى لحيته تاب الله عليه، لكن طالما أنه يتعاهدها دائماً بالحلق والانتهاك والاستمرار في ذلك فهذا من الران، حتى أنهم في الجيش أحياناً يوقف العسكر طابور، ثم يؤتى بورقة ويضعها على اللحية، فإذا أصدرت صوتاً فمعنى ذلك أنه لم يحسن ممارسة هذه المعصية!
فيعاقب الجندي على ذلك، ولذا فإن البعض يصرّ على فعلها كل يوم أو ربما مرتين في اليوم!
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة. والعبارة مشهورة عن ابن عباس .
وأيضاً: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، فهذا وجه قول العلماء هنا: الإصرار على حلقها من الكبائر، ثم يقولون:
فيجب نصح حالقها والإنكار عليه، ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني.
وسوف نقف وقفة يسيرة على الفتيا السابقة فنقول: إمامة الصلاة هي من الأمانة، فإذا جاهر الإنسان بالمعصية كحلق اللحية، ولم يكن له عذر في ذلك، فهذا يدخل في قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
[الأنفال:27].
فالعلماء يطلقون صفة الفسق على المجاهر بالمعصية، الذي لا يبالي بمن يلومه، بل ربما يستصوبها ويستحسنها، فمن لا يتأدب بآداب الشريعة ولا يهتم بأمر دينه فكيف يؤتمن على أعظم شعائر الدين؟! وفي تقديمه للإمامة تعظيم له وليس هو من أهل التعظيم، وتقديمه كقدوة، فإن هذا يحمل الناس على الاستهانة بالمعصية، فالأولى بالإمامة مع الشروط المنصوص عليها في السنة أن تكون في الخيار المتصفون بالهيئة الشرعية ظاهراً، والإمام المصر على هذه المعصية أحرى به أن يتنحى لمن هو أقوم بحدود الشريعة.