قال أبو عبيد : حدثنا يحيى بن سعيد عن أبي الأشهب عن الحسن قال: قال رجل عند ابن مسعود : أنا مؤمن. فقال ابن مسعود : أفأنت من أهل الجنة؟! فقال: أرجو، فقال ابن مسعود : أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟ ].
هذا الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان قال صاحب الحاشية: إن سنده منقطع له شواهد تقويه وتشده.
وقوله: [ قال رجل عند ابن مسعود : أنا مؤمن ] أي أنه لم يستثن، فكأنه يزكي نفسه، فلم يقل إن شاء الله، فقال ابن مسعود : [ أفأنت من أهل الجنة؟!] أي: تستطيع أن تقول: إنك من أهل الجنة؟! قال: أرجو. فقال: لماذا لم تقل في الإيمان: أنا مؤمن أرجو، أفلا وكلت الأولى إلى مشيئة الله كما وكلت الأخرى إلى مشيئة الله؟! وذلك لأن شعب الإيمان متعددة، فلا يجزم الإنسان بأنه قد عملها، فالإنسان محل النقص والتقصير، يتطرق إليه النقص والخلل في أداء الواجبات وفي ترك المحرمات، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، ولا يزك نفسه، ولهذا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه عليه على الرجل وقال: أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى؟! لأنه استثنى في الثانية ولم يستثن في الأولى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن سعيد عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: بينا نحن نسير إذ لقينا ركباً، فقلنا: من أنتم؟ فقالوا: نحن المؤمنون؟ فقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟! ].
أي: أنكر عليهم قولهم: نحن المؤمنون دون أن يستثنوا، وقال: أولا قالوا: إنا من أهل الجنة؟! أي: من جزم بأنه مؤمن فليجزم بأنه من أهل الجنة، وفي هذا إنكار عليهم، فكما أنك لا تجزم بأنك من أهل الجنة فلا تجزم بأنك مؤمن بإطلاق وأنك أديت ما عليك، بل أنت محل النقص والتقصير، فينبغي أن تستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن سعيد ومحمد بن جعفر كلاهما عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن إبراهيم عن علقمة قال: قال رجل عند عبد الله : أنا مؤمن، فقال عبد الله : فقل: إني في الجنة، ولكن آمنا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].
علقمة من أصحاب عبد الله بن مسعود، وقد أنكر عبد الله بن مسعود على من قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن، فقال عبد الله : فقل: إني في الجنة! يعني: إذا جزمت بأنك مؤمن فاجزم بأنك في الجنة، ولكن قل: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو أصل الإيمان، ولهذا قيل لبعض السلف: أنت مؤمن؟ فقال: أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. أي: هذا أصل الإيمان، أما أن يجزم بأنه مؤمن كامل الإيمان فلا.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن محل بن محرز قال: قال لي إبراهيم : إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].
لعل إبراهيم هنا هو إبراهيم النخعي، يقول: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، يعني: تجزم بأنك مؤمن لكن لا تجزم بأنك أديت الواجبات وتركت المحرمات فتقول: أنا مؤمن بإطلاق، ولهذا قال: قل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ].
طاوس هو طاوس بن كيسان اليماني التابعي الجليل، وهنا روى ابن طاوس عن أبيه طاوس أنه قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. وهذا هو أصل الدين، أما أن تقول: أنا مؤمن وتسكت فلا، فلا تزك نفسك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الرحمن عن حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136] ].
أي: هذا أصل الإيمان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن إبراهيم قال: قال رجل لـعلقمة : أمؤمن أنت؟ فقال: أرجو إن شاء الله ].
علقمة هو من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قيل له: أمؤمن أنت؟ فلم يجزم واستثنى وقال: أرجو إن شاء الله. وذلك لأن الإنسان محل التقصير، فلا يجزم بأنه أدى ما عليه، فالخلل والتقصير حاصل في أداء الواجبات وترك المحرمات، ولهذا قال: أرجو إن شاء الله، وهذا مذهب جمهور أهل السنة والجماعة.
هذا تعقيب من المؤلف رحمه الله على هذه الآثار ليبين وجه ذلك، فقال: [ولهذا كان يأخذ سفيان] أي: سفيان الثوري [ومن وافقه الاستثناء فيه] يعني: في الإيمان، فإذا قيل له: أمؤمن أنت؟ يقول: إن شاء الله، ولا يجزم، ويكره أن يقول: أنا مؤمن ويسكت، ووجه ذلك قوله: [ وإنما كراهتهم عندنا أن يبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم به في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله ]، فهذا وجه كونهم يستثنون، فهم يستثنون ولا يجزمون لأنفسهم بأنهم قد أدوا ما أوجب الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم، ويخشون من تزكية النفس؛ لأن الإنسان محل تقصير، فمتى قال: (أنا مؤمن) ولم يستثن فقد زكى نفسه، وشهد لنفسه بأنه تام كامل الإيمان عند الله، وهذا لا يستطيع الإنسان أن يجزم به.
قال: [ وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين ] أي: بالنسبة للأحكام فإنهم يقولون: إن الناس كلهم مؤمنون، الفاسق والعاصي والمطيع كلهم يسمونهم مؤمنين [ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] فولي المرأة الذي يعقد النكاح لها يشترط أن يكون مؤمناً، ولو كان فاسقاً ولو كان عاصياً، فالولاية ليست هي مجرد اسم الإيمان، وتصح ذبيحة المؤمن ولو كان عاصياً، والشهادة كذلك، وفي النكاح يزوج الرجل ولو كان عاصياً.
وقوله: [ وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان ] أي: هذه الأحكام إنما تتعلق بأصل الإيمان، أعني الولاية، والذبائح، والشهادات، والنكاح، أما الجزم بأن الإنسان مؤمن وأنه أدى ما عليه فهذا لابد من الاستثناء فيه، قال: [ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي قال: من قال: أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن؛ لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون ].
والجمهور من السلف والصحابة والتابعين يرون الاستثناء، وبعض العلماء كـالأوزاعي يرى أن الأمر واسع، فلك أن تستثني ولك ألا تستثني.
ولهذا روى أبو عبيد بالسند عن الأوزاعي أنه قال: من قال: أنا مؤمن -يعني: بدون استثناء- فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن. يعني: فهو مخير، واستدل بقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، وقد علم أنهم داخلون، فدل على أنه لا بأس بالاستثناء، فمن استثنى فقد استدل بالآية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وهذا عندي وجه حديث عبد الله حين أتاه صاحب معاذ فقال: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر، فمن أيهم كنت؟ قال: من المؤمنين. إنما نراه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين، فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] ].
قول المؤلف: [وهذا عندي وجه حديث عبد الله] هو ابن مسعود- [حين أتاه صاحب معاذ فقال له: ألم تعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أصناف: مؤمن ومنافق وكافر] هؤلاء: ذكرهم الله في أول سورة البقرة، فذكر المؤمنين باطناً وظاهراً في أربع آيات، والكفار ظاهراً وباطناً في آيتين، والمنافقين -وهم الكفار باطناً والمؤمنون ظاهراً- في ثلاث عشرة آية.
فقال له صاحب معاذ : فمن أيهم كنت؟ فقال: من المؤمنين: ولم يقل من المؤمنين إن شاء الله. يقول المؤلف وجه ذلك أنه على مذهب الأوزاعي يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء، قال: [فإنما نراه أنه أراد أني كنت من أهل هذا الدين لا من الآخرين] فمقصوده: أني كنت من أهل الإيمان، لا من الآخرين المنافقين والكافرين؛ لأن الإيمان في مقابل الكفر والنفاق، وليس مقصوده أنه يشهد عند الله أنه مؤمن كامل الإيمان أو أنه يزكي نفسه، ولهذا قال: [ فأما الشهادة بها عند الله فإنه كان عندنا أعلم بالله وأتقى له من أن يريده ] أي: من أن يريد أنه كامل الإيمان، فكيف يكون ذلك والله يقول: فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والشاهد على ما نظن أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن على تزكية ولا على غيرها، ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله، لا يزيد على هذا اللفظ، وهو الذي كان أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين ].
أي أن الشاهد على أنه يريد أصل الإيمان ولا يريد التزكية أنه كان قبل هذا لا يقول: أنا مؤمن يريد به تزكية ولا غيرها، قال: [ولا نراه أنه كان ينكره على قائله بأي وجه كان، إنما كان يقول: آمنت بالله وكتبه ورسله لا يزيد على هذا اللفظ]؛ لأن هذا أصل الإيمان، وأما إطلاق الإيمان بدون استثناء يريد به التزكية فهذا لا يمكن أن يظن به، وقوله: [ولا نراه أنه كان ينكر على قائله بأي وجه كان]؛ لأن الأوزاعي وجماعة يرون الاستثناء وعدمه سواء، وهو الذي أخذ به إبراهيم وطاوس وابن سيرين فكلهم يرون أنه يجوز الاستثناء وعدم الاستثناء.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ثم أجاب عبد الله إلى أن قال: أنا مؤمن، فإن كان الأصل محفوظاً عنه فهو عندي على ما أعلمتك ].
أي: في الأول كان ينكر أن يقول: أنا مؤمن، ثم أجاب فقال: أنا مؤمن، فإن صح هذا عنه وثبت فهذا وجهه، وهو أنه يريد أصل الإيمان، أو يريد أن الأمر واسع على ما ذهب إليه إبراهيم وطاوس وابن سيرين والأوزاعي .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد رأيت يحيى بن سعيد ينكره، ويطعن في إسناده؛ لأن أصحاب عبد الله على خلافه ].
هذا الأثر ضعيف؛ لأن في سنده رجلاً لم يسم، ولهذا يقول المؤلف: فقد رأيت يحيى بن سعيد ينكر هذا الأثر عن عبد الله، وهو أنه لما سئل قال: أنا مؤمن وسكت، فهذا لم يثبت عن عبد الله ؛ لأن يحيى بن سعيد أنكر هذا الأثر وطعن في إسناده، لأن أصحاب عبد الله بن مسعود على خلاف ذلك، وأنه لابد من الاستثناء، لكن لو صح فهو يحمل على أن المراد أصل الإيمان أو أن المراد أن الأمر واسع على مذهب ابن سيرين وطاوس وإبراهيم والأوزاعي، لكنه لا يصح؛ لأنه مطعون في سنده، ويدل على ذلك أن أصحاب عبد الله على خلاف ذلك.
مما يؤيد أن هذا الأثر لم يصح عن ابن مسعود، وأنه مطعون في سنده أن مذهب الفقهاء الذين يتسمون بهذا الاسم بلا استثناء -أي: الذين يقول الواحد منهم: أنا مؤمن ولا يستثني، ومقصودهم الإيمان العام بالدخول فيه لا الإيمان الكامل- منهم عبد الرحمن السلمي وإبراهيم التيمي وعون بن عبد الله وعمر بن ذر والصلت بن بهرام ومسعر بن كدام.
ثم أيد ذلك بتأييد بعده فقال رحمه الله تعالى: [ ألا ترى أن الفرق بينهم وبين إبراهيم وبين ابن سيرين وطاوس إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً وكان الآخرون يتسمون به ].
يقول: مما يؤيد هذا أن الفرق بينهم -أي: بين الذين يطلقون الإيمان وبين الذين يستثنون- إنما كان أن هؤلاء كانوا لا يتسمون به أصلاً، وكان الآخرون يتسمون به، أي أن الذين منعوا من قول: (أنا مؤمن) إنما يقصدون إذا قصد كمال الإيمان واستكماله، فلابد من أن يقول: إن شاء الله، ومن أجاز وقال: أنا مؤمن إنما مراده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلا يلزمه الاستثناء، فيقول: أنا مؤمن، يعني: دخلت في الإيمان وتسميت به، وأما من أراد (أنا مؤمن) أي: استكملت الإيمان فلابد من أن يستثني.
أي: أما قول: أنا مؤمن إيماناً كاملاً كإيمان الملائكة وإيمان النبيين فمعاذ الله أن يقوله أحد من أهل العلم، وكيف يجزم الإنسان بأن إيمانه كإيمان النبيين والملائكة؟!
فمن قال: أنا مؤمن وسكت ليس مقصوده الإيمان الكامل كإيمان الملائكة والنبيين، وإنما مقصوده التسمي بالإيمان والدخول فيه، فلهذا قال: [فأما على مذهب من قال: كإيمان الملائكة والنبيين فمعاذ الله، ليس هذا طريق العلماء].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد جاءت كراهيته مفسرة عند عدة منهم ].
أي: جاءت كراهية إطلاق الإيمان بدون استثناء مفسرة عن عدة من علماء السلف.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشيم -أو حدثت عنه- عن جويبر عن الضحاك : أنه كان يكره أن يقول الرجل: أنا على إيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام ].
وهذا الأثر دليل على أنه يكره أن يقول الإنسان: أنا مؤمن كإيمان جبريل وميكائيل، والمراد به المنع، أي: يمنع ويحرم، وقد تروى الكراهية عند السلف ويراد بها كراهة التحريم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سعيد بن أبي مريم المصري عن نافع عن عمر الجمحي قال : سمعت ابن أبي مليكة وقال له إنسان: إن رجلاً في مجالسك يقول: إن إيمانه كإيمان جبرائيل، فأنكر ذلك وقال: سبحان الله! كيف يقول ذلك والله قد فضل جبريل عليه السلام في الثناء على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21] ].
أي: لما قال: إن إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل أنكر عليه وقال: سبحان الله! متعجباً من ذلك، ثم قال: كيف يقول: إيماني كإيمان جبرائيل والله تعالى فضل جبريل بالثناء على محمد فقال: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]؟! أي أنه سبحانه وصفه بهذه الأوصاف، ووصف نبيه بقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ [الحاقة:40-41]، ومسألة تفضيل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم مسألة خلافية بين أهل العلم، أصلها: هل الأنبياء وصالحوا البشر أفضل من الملائكة أم الملائكة أفضل؟ والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة، لكن ليس المقام مقام بحث هذه المسألة، إنما المقصود الإنكار على من قال: إيماني كإيمان جبريل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال أبو عبيد : حدثنا عن ميمون بن مهران أنه رأى جارية تغني فقال: من زعم أن هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب ].
ميمون بن مهران رأى جارية تغني -والغناء معلوم أنه فسق، ولاسيما الغناء الذي يلهب النفوس- فقال: من زعم أنه هذه على إيمان مريم بنت عمران فقد كذب؛ لأن مريم بنت عمران صديقة، وإيمانها كامل، وهذه الجارية فاسقة إيمانها ناقص، فكيف يكون إيمان هذه الجارية الفاسقة التي تغني مثل إيمان مريم بنت عمران؟!
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكيف يسع أحداً أن يشبه البشر بالملائكة، وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب، وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم فعل بالملائكة من ذلك شيئاً فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29-30]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2]، وقال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
فأوعدهم النار في آية، وآذنهم بالحرب في أخرى، وخوفهم بالمقت في ثالثة، واستبطأهم في رابعة، وهو في هذا كله يسميهم مؤمنين، فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟! إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه ].
هذا التعقيب على الأثر تعقيب جيد من المؤلف رحمه الله، ومناقشة حادة للمرجئة، وبيان واضح في بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون: إن إيمان الملائكة وإيمان البشر واحد، وإيمان أفسق الناس وأتقى الناس واحد، فهنا المؤلف يناقشهم مناقشة حادة قوية مبنية على فهم النصوص من كتاب الله وسنة رسوله، فيقول: كيف يسع أحداً أن يقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة؟! فالمرجئة يقولون: إيمان البشر مثل إيمان الملائكة، فيقول الواحد منهم: إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وكإيمان أبي بكر وعمر! فالمؤلف يتعجب مع استفهام إنكار ممن يستسيغ أن يشبه البشر بالملائكة ويقول: إن إيمان البشر مثل إيمان الملائكة! والملائكة إيمانهم كامل، فهو مطيعون لله، قال الله تعالى عنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، فهم لا يعصون الله طرفة عين، أما بنو آدم فيعصون الله في الأرض ويقصرون في الواجبات، ويرتكبون المحرمات، فكيف يشبه بني آدم الذين فيهم العصاة والظلمة والفساق بالملائكة ويقول: إن إيمانهم مثل إيمان الملائكة الذين: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]؟ وقد عاتب الله المؤمنين في غير موضع من كتابه أشد العتاب وأوعدهم أغلظ الوعيد، ولا يعلم أنه توعد الملائكة أو أغلظ لهم أو فعل بهم من ذلك شيئاً، فقال في عتاب المؤمنين من البشر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فالذي يأكل المال بالباطل يعاتب، وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29] وهذا عتاب: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، ثم قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:30]، فتوعده الله بالنار وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:30]، ولم يتوعد الملائكة بشيء من ذلك، وقال أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:178-179]، هذا وعيد، ولم يتوعد به الملائكة، وقال في الوعيد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3]، والمقت هو أشد البغض، ولم يقل هذا في الملائكة، وقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فهم مع أفعالهم هذه هل هم مؤمنون كاملو الإيمان أم عندهم أصل الإيمان؟! فكيف نشبه هؤلاء العصاة بالملائكة؟! ولهذا قال: [فما تشبه هؤلاء من جبريل وميكائيل مع مكانهما من الله؟!] أي: كيف نشبه هؤلاء الذين توعدهم الله بإصلاء النار، وتوعدهم بالمقت، وآذنهم بالحرب بجبريل وميكائيل مع قربهما ومكانتهما من الله؟!
ثم قال: المؤلف رحمه الله: [إني لخائف أن يكون هذا من الاجتراء على الله والجهل بكتابه] أي: إني لخائف على المرجئة الذين يقول أحدهم: إيمان أفسق الناس مثل إيمان الملائكة من أن يكون هذا من الجرأة على الله ومن الجهل بكتابه.
أما من يوجب الاستثناء في الإيمان فلهم مأخذان:
المأخذ الأول: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، وهو غير معلوم للإنسان، والإنسان لا يدري ما يختم له، إذاً: يجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهذا مأخذ الكلابية، واستدلوا بقول الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، قالوا: يجب على الإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ووجه ذلك أن الإيمان المعتبر عند الله هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان لا يدري هل يموت على الإيمان أو على غير الإيمان، فيجب عليه أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وتوسعوا في هذا حتى قالوا: إن الله يحب من علم أنه يموت على الإيمان ولو كان كافراً، وإن الله يبغض من يموت على الكفر ولو كان مؤمناً، أي أن الكافر الذي علم الله أنه يموت على الإيمان يحبه الله ولو في وقت كفره، وهذا باطل ليس بصحيح، والذي يطيع الله وقد علم أنه يموت على الكفر، يبغضه الله ولو كان مطيعاً، فيقولون: إن إبليس لما كان مطيعاً مع الملائكة كان مبغوضاً لله وعدواً لله؛ لأن الله يعلم أنه يموت على الكفر، والكافر الذي عاش في زمن كفره كافراً، لكن الله علم أنه سيختم له بالإيمان يحبه الله في زمن كفره؛ لأن العبرة بما يموت عليه الإنسان، وهذا ليس بصحيح بل هو باطل؛ فالمؤمن المطيع يحبه الله في حال طاعته، فإذا عصى صار مبغوضاً من الله.
والمأخذ الثاني: قالوا: الإيمان مطلق يتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، وهذا من تزكية النفس، ولأنه لو جوز للإنسان أن يشهد لنفسه بالإيمان لجوز له أن يشهد لنفسه بالجنة، ولا يجوز للإنسان أن يشهد لنفسه ولا لغيره بالجنة، إلا لمن شهدت له النصوص، فلو جاز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن بإطلاق لجاز له أن يقول: أنا في الجنة، والثاني ممتنع فيكون الأول ممتنعاً، وهذا هو مأخذ كثير من السلف.
أما من يحرم الاستثناء في الإيمان ويقول: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، فهم كل من يجعل الإيمان شيئاً واحداً من المرجئة وغيرهم، فالمرجئة يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: إن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فقد شك في إيمانه، ويسمون أهل السنة والجماعة الشكاكة.
فأنت تعلم أنك مؤمن كما تعلم أنك قرأت الفاتحة، فأنت إذا قرأت الفاتحة هل تقول: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله؟! لا تقول ذلك، فكذلك لا تقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن كنت تعلم من نفسك أنك مؤمن وأنك مصدق؛ لأن الإيمان شيء واحد، ولا يشك الإنسان في الموجود، وإنما يشك في الشيء الذي لم يحدث، أما الإيمان الذي حصل في قلبك فكيف تشك فيه؟
لكن قال لهم جمهور أهل السنة والجماعة والصحابة والتابعين: إن الاستثناء يجوز في حالات، فيجوز في الاعتبار ولا يجوز في الإنكار، وهذا هو الصحيح، فالذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله إن قصد الشك في أصل إيمانه فهذا ممنوع، وإن قصد أن واجبات الإيمان متعددة، وأنه لا يجزم الإنسان بأنه قد أدى ما أوجب الله عليه وترك ما حرم الله عليه؛ لأنه محل نقص وتقصير، ولا يزكي نفسه؛ فلا بأس بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك -أيضاً- إذا استثنى وقال: أنا مؤمن إن شاء الله وقصد عدم علمه بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فلا بأس بذلك، وكذلك إذا قصد التبرك بذكر اسم الله جاز له أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، والدليل على جواز الاستثناء قول الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ [الفتح:27]، مع أنه معلوم دخولهم، ومع ذلك استثنى الله، وفي الحديث الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم فيه الزائر إلى القبر قال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، ففي هذا استثنى مع أنه يجزم بأنه سيلحق الموتى، فلما قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)؟ دل على الجواز، وكذلك -أيضاً- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأتقاكم له)، ومع أنه يجزم بأنه هو أتقى الناس وأخشى الناس، إلا أنه استثنى فقال: (أرجو) فدل على الجواز.
فالخلاصة في هذا أن من الناس من يوجب الاستثناء، وهذا مذهب طوائف من الكلابية، ويقولون: يجب على الإنسان أن يستثني؛ لأن الإنسان لا يعلم بما يموت عليه، والعبرة بما يموت عليه، وقد توسعوا في الاستثناء وزاد بعضهم حتى صاروا يستثنون في الأشياء الواضحة التي لا استثناء فيها، فيقول بعضهم: صليت إن شاء الله، توضأت إن شاء الله، ونقول: هذا لا يستثنى فيه، فأنت صليت وتوضأت، فلا إشكال، إلا إن قصد القبول عند الله، وقد غالى بعضهم حتى كان يقول في الجمادات: هذا حبل إن شاء الله، هذا دلو إن شاء الله، هذا كتاب إن شاء الله! فإذا سئل: لماذا تقول إن شاء الله؟ قال: لو شاء الله أن يغيره لغيره، فهذا غلو.
وطائفة تمنع وتحرم الاستثناء، وهم المرجئة، وأما أهل الحق فيقولون: يجوز الاستثناء باعتبار ويمتنع بالاعتبار، فالحالة التي لا يجوز الاستثناء فيها إذا قصد الشك في أصل إيمانه، والحالات التي يجوز الاستثناء ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا أردت أن الاستثناء راجع إلى تزكية النفس وإلى تعدد الأعمال الواجبة في الإيمان، وهي فعل الواجبات وترك المحرمات، وأنك لا تجزم بأنك أديت ما عليك ولا تزكي نفسك، فتستثني.
الحالة الثانية: إذا قصدت عدم علمك بالعاقبة وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله، فتستثني وتقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
الحالة الثالثة: أن تقصد التبرك بذكر اسم الله، فتقول: أنا مؤمن إن شاء الله، نسأل الله للجميع العلم النافع والعمل الصالح والثبات على دينه حتى الممات.
الجواب: بعض الناس يقول: الإسلام مجرد الكلمة، يعني النطق بالشهادتين، وهذا مروي عن الزهري، وهو أنه قال: الإسلام هو الكلمة والإيمان العمل، وليس مقصوده أنه لا يجب إلا الشهادتان.
والقول الثاني: أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا مروي عن بعض أهل السنة، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة، ومذهب الإمام البخاري في صحيحه.
والقول الثالث: قول جمهور أهل السنة، وهو الصواب، وهو أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، فإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان وإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ففسره بأركان الإسلام الخمسة، ولما سأله عن الإيمان فسره بأركان الإيمان الباطنة الستة، وهذا هو الراجح من الأقوال، وسيأتي -إن شاء الله- بيانه بالتفصيل.
الجواب: كلام الشافعي واضح في نقله الإجماع عن الصحابة والتابعين والأئمة أن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، وما نقله الإمام أبو عبيد من الآثار والنصوص من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال العلماء وأقوال السلف وأقوال الصحابة واضح، ولكن طريقة أهل الزيغ -والعياذ بالله- التشكيك، فهم يريدون ألا تثبت الآثار والنصوص، فمرة يطعنون في النصوص، ومرة يطعنون في الآثار، ومرة يطعنون في أقوال العلماء، ومرة يطعنون في كتب أهل السنة، حتى إن بعض أهل الزيغ يقول: رسالة الإمام أحمد في الصلاة غير ثابتة، ورسالته في الرد على الزنادقة غير ثابتة، وما روي عن فلان عن فلان في كذا ليس بثابت، فهم لا يريدون أن تثبت حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم على الناس، فتجدهم يشككون في كتب أهل العلم، وفي نسبتها إليهم، وكذلك في أقوال أهل العلم، وفي الإجماع، ويطعنون في الآثار وفي النصوص حتى ينطلي زيغهم وانحرافهم على الناس، وقول الإمام الشافعي رحمه الله واضح، وقد مر بنا كثيرٌ من كلام الإمام أبي عبيد رحمه الله في ذلك، فقد ذكر من النصوص ومن الآثار ومن كلام أهل العلم الكثير، فكيف يطعن فيها كلها؟! هب أنه لم يثبت واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، فكيف ترد هذه النصوص الكثيرة؟! والنصوص الكثيرة لا يستطيع أحد أن يردها، ولو فرضنا أنه رد النصوص من السنة فكيف يرد نصوص القرآن الواضحة القطعية؟!
الجواب: هذه طريقة أهل الزيغ وأهل الانحراف نسأل الله السلامة والعافية، حيث يشبهون ويأخذون بعض النصوص ويتركون البعض الآخر، ويتأولونها على غير تأويلها حتى تنطلي شبههم على العوام وعلى الجهال وعلى المبتدئين فيظنون أنهم على الحق وهم مبطلون، وهذه سلسلة معروفة من أهل الزيغ والضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا شك في أن هذا تناقض، فهو يقول: الإيمان قول وعمل واعتقاد، ثم يقول: إن المطلوب أصل الإيمان، والتناقض والاضطراب في أقوالهم واضح؛ لأنهم أهل زيغ لم يقصدوا الحق، نسأل الله السلامة والعافية، أما من قصد الحق فإنه يعمل بالنصوص ويضم بعضها إلى بعض ولا يحرف ولا يؤول تأويلاً باطلاً.
وكلام ابن نصر لا إشكال فيه، فهو واضح موافق لأهل السنة والجماعة.
وأصل الدين وأساس الملة هو الإيمان بالله ورسوله، والشهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، ولا بد لتحقيق الإيمان من عمل، وإلا صار كإيمان إبليس وفرعون، فمن ادعى أنه مؤمن وأنه موحد فلا بد لهذه الدعوى من دليل يثبتها، وهو العمل، وأما مجرد النطق باللسان ففاعله لا فرق بينه وبين إيمان إبليس وفرعون.
الجواب: الحكم بكفر تارك الصلاة معروف عند أهل السنة والجماعة.
الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله، والدليل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ثم قال في آخر الرسالة: واعلم أن الإنسان لا يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت، والدليل قوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، فما الفرق بين النوعين؟
الجواب: كلام الشيخ رحمه الله واضح في أنه يجب على المسلم أن يلتزم بشرع الله ودينه، وأن يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الحاكم الجائر المغير لشرع الله والمبدل لدينه من أوله إلى آخره قد قلب الدين رأساً على عقب، وقد ذكر العلماء -كالحافظ ابن كثير والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في رسالة تحكيم القوانين- أن من غير أحكام الشريعة كلها رأساً على عقب بلا استثناء فقد بدل الدين, وهو مبدل لدين الله عز وجل، وأما من حكم في بعض المسائل أو في بعض الجزئيات بالهوى -أما لرشوة أو لمال أو لرغبة أو لرهبة، أو لأجل أن ينفع المحكوم له أو يضر المحكوم عليه- فهذا كفره إنما يكون كفراً أصغر؛ لأنه يعلم أنه على الباطل، ويعلم أنه مبطل، ولكن غلبه الهوى فحكم بغير ما أنزل الله طاعة للهوى والشيطان.
أما من اعتقد أنه يجوز له أن يحكم بغير ما أنزل الله فهذا كافر كفراً أكبر؛ لأنه استحل أمراً معلوماً من الدين بالضرورة بطلانه، وهو الحكم بغير ما أنزل الله، فهو أمر محرم مجمع على تحريمه, فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله فقد كفر، ولكن من حكم ببعض المسائل أو ببعض الجزئيات طاعة للهوى والشيطان وهو يعلم أنه مبطل وعاصٍ مستحق للعقوبة فكفره كفر أصغر، وليس كفراً أكبر، والمسألة فيها تفصيل معروف لأهل العلم في كتبهم، والتفصيل يحتاج إلى وقت طويل.
الجواب: هذه المسائل كلها تحتاج إلى تفصيل، ولا يستطيع الإنسان أن يجيب عنها بجواب مجمل، ولا بد من أن تدرس كل قضية منها من جميع نواحيها، وينظر في الحامل للشخص على هذا، وينظر في صنعه هذا هل هو في قضية أو في قضايا، وما الذي حمله على الإلزام.
وأما تبديل الدين فهذا كفر، ومن حكم في طاعة الهوى والشيطان في بعض المسائل فإن كفره يكون كفراً أصغر.
الجواب: من قاتل وهو يعلم ذلك ولا شبهة له فهو محارب لله ولرسوله وللمؤمنين ولمن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، ولمن يتحاكم إلى شرع الله ودينه، فهذا لا شك في أنه كافر، وهو عدو لله، نسأل الله العافية.
الجواب: نعم هذا هو قول المرجئة، فهم يقولون: إن الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضى الإيمان ومن لوازم الإيمان، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: العمل جزء من الإيمان، لا ثمرة له؛ لأن الثمرة خارجة عن الشيء، وكذلك اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء، وكذلك من قال: إنه شرط كمال، أو شرط صحة، إذ الشرط غير المشروط وخارج عنه، فمن قال: إن الأعمال شرط كمال أو شرط صحة أو ثمرة الإيمان أو مقتضى الإيمان أو لازم الإيمان فقوله مثل قول المرجئة؛ لأن اللازم غير الملزوم، والثمرة غير الشيء، والشرط غير المشروط، والمقتضى غير المقتضي.
الجواب: لا يلزم ذلك، وقد يقال: إن هذا قول المرجئة، فقد يسب شخص الله ورسوله بسبب خصومة بينه وبين شخص آ خر وهو لا يعتقد ذلك بقلبه فيكفر بهذا السب والعياذ بالله، ولو خاصم شخص شخصاً ثم سب الدين وهو لا يعتقد ذلك فإنه يكفر أيضاً، فالأول ليس عنده عقيدة سب الله ورسوله أو الاستهزاء بالله ورسوله، ولكنه يكفر بذلك، والدليل على هذا أن جماعة من الناس في غزوة تبوك سبوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء بأنهم يأكلون كثيراً ويكذبون، وهم جبناء عند اللقاء، فقالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء أرغب بطوناً ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فنزلت الآية الكريمة: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] فأثبت لهم الكفر بعد الإيمان بهذه المقالة، فقد يكفر الإنسان ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، فلو أن شخصاً مزق المصحف استهانة به أو داسه بقدمه متعمداً أو لطخه بالنجاسة كفر، وساب الله ورسوله يكفر، وإذا استهزأ بالله أو بكاتبه أو برسوله فإنه يكفر، وإذا سجد لصنم وقال: إنما وضعت رأسي أمامه فإنه يكفر، ولهذا ناقشهم ابن القيم رحمه الله وقال: إن مشايخ الصوفية يطلبون من أتباعهم أن يسجدوا أو يركعوا لهم إذا جاءوا، فإذا قيل لهم: كيف تسجدون لغير الله؟! قالوا: إن هذا إنما هو وضع الرأس أمام الشيخ احتراماً له وتواضعاً، فقال ابن القيم : ولو سميتموه ما سميتموه، فإن من سجد للصنم فقد وضع رأسه للصنم احتراماً له وتواضعاً، فالمقصود أنه لا يوجد تلازم بين العمل وبين القلب، وإنما المرجئة هم الذين يقولون: إن السجود للصنم ليس بكفر، ولكنه دليل على ما في القلب من الكفر، وسب الله أو سب الرسول ليس كفراً، وإنما هو دليل على ما في القلب، ودليل على الكفر، والسجود للصنم ليس كفراً بذاته، لكنه دليل على الكفر.
والصواب أن نفس السب كفر ونفس السجود للصنم كفر، فالتلازم وربط الكفر بالقلب مذهب المرجئة، فإنهم يقولون: إنه لا يكفر بالعمل بل لا بد من التلازم بينه وبين القلب.
والصواب أن الكفر بالقلب بالاعتقاد، ويكون بالقول باللسان، ويكون بالعمل، كالسجود للصنم، ويكون بالإعراض والترك والرفض لدين الإسلام، فلا يتعلمه ولا يعمل به، فإذا رفض دين ورفض أن يعبد الله كفر بهذا الرفض والترك.
قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22] فالرفض والترك والإعراض عن دين الله بعدم تعلمه وعدم العمل به كفر ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، ولا يلزم أن يعتقد ذلك بقلبه، فمجرد الرفض والإعراض عن دين الله كفر وردة، والسجود للصنم كفر وردة ولو لم يعتقد ذلك بقلبه، وسب الله أوالرسول كفر وردة، ولو لم يعتقد ذلك بقلبه.
فالسب كفر مستقل، واعتقاده بالقلب كفر مستقل، فاعتقاد الكفر كفر مستقل، وعمل الكفر كفر مستقل، وقوله الكفر باللسان كفر مستقل، والإعرض عن دين الله والرفض والترك له كفر مستقل.
الجواب: أهل البدع لا يسلم عليهم، بل يهجرون إذا كانوا مظهرين لبدعتهم، فقد كان السلف يهجرونهم ولا يسلمون عليهم ولا يكلمونهم، ومسألة الهجر للعصاة والمبتدعة فيها تفصيل لأهل العلم، والصواب في هذه المسألة هو ما قرره العلماء والمحققون -كشيخ الإسلام ابن تيمية- أن الهجر كالدواء، ويستعمل كالدواء، فإن كان العاصي أو المبتدع إذا هجرته ترك بدعته ومعصيته فاهجره، ولا تكلمه ولا تسلم عليه حتى يترك بدعته، وأما إذا كان الهجر يزيده شراً فلا تهجره، وبعض العصاة يفرح إذا هجرته، فتجده في المرة الأولى يترك بعض الشيء، فإذا كررت هجرته زاد في المعاصي، فهذا لا تهجره، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين هجروا كعب بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع خمسين ليلة، ولم يهجروا المنافقين؛ لأن هؤلاء الثلاثة مؤمنون، فنفعهم الهجر، وزادهم إيماناً وتقوى وتابوا إلى الله، وأنزل الله توبتهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118] ولم يهجروا المنافقين الذين تخلفوا نفاقاً، ثم جاءوا وحلفوا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم علانيتهم ووكل سرائرهم إلى الله. فالهجر كالدواء، فأهل البدع إذا كان الهجر يثنيهم عن بدعهم فإنهم يهجرون، فلا تسلم عليهم ولا تكلمهم ولا تجب دعوتهم، وأما إذا كان الهجر يزيدهم شراً فسلم عليهم وانصحهم.
الجواب: الغناء فسق، وهو الغناء الذي يلهب النفوس، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، جاء في تفسير الآية أن ابن مسعود حلف أن لهو الحديث: الغناء. وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري : (ليكونن في أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وإن كان الحديث رواه البخاري معلقاً، إلا أن الحديث موصول وثابت، وفي الباب نصوص وأحاديث أخرى، وأحيل السائل إلى إغاثة اللهفان لـابن القيم، فإنه ذكر أدلة كثيرة في هذا، ويرجع -أيضاً- إلى كتب التفسير.
الجواب: الذي تقضيه هو آخر صلاتك، فإذا فاتتك ركعتان من صلاة العشاء وأدركت ركعتين فإن الذي أدركت مع الإمام هو أول صلاتك، والذي تقضيه هو آخرها، وعلى هذا لا تجهر في الركعتين الأخريين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). وفي لفظ: (فاقضوا)، وإذا فاتته ركعة من صلاة الفجر جهر بها.
الجواب: التوثيق عند المحدثين هو القبول لرواية الشخص، فيوثقونه حتى يؤخذ بروايته، وأما التزكية فإن الشخص المزكى يكون حاضراً أمامه، وهذا منهي عنه، فهو يزكيه ولا يريد رواية الحديث، وهذا لا ينبغي، بل يقول: أحسبه والله حسيبه، ولا يذكر ما يترتب عليه، وأما إذا كان يترتب على ذلك رواية الحديث فلا بد من أن يذكر ماله وما عليه، ويذكر ما يتعلق برواية الحديث، وما يتعلق بأمانته وديانته، وأما إذا لم يكن محدثاً فلا يزكيه، بل يقول: أحسبه والله حسيبه، وكذلك إذا كان أمامه؛ لأن هذا قد يحمله على العجب والكبر.
الجواب: هذا فيه تفصيل، فإذا نطق بالشهادتين ثم توفي والله يعلم من قلبه أنه ملتزم فهذا يكفيه، وهذا هو الواجب عليه عند الله؛ لأنه لم يتمكن من العمل، فقد مات قبل أن يأتي وقت الصلاة.
وأما من نطق بالشهادتين ثم رفض العمل -كأن جاء وقت الصلاة وتركها- فالصواب أنه يكفر إذا تركها حتى خرج الوقت متعمداً وليس له عذر.
وإن نطق بالشهادتين، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ثم دخل وقت الصلاة فقيل له: صل، فقال: الصلاة غير واجبة فقد كفر بجحوده ونقض توحيده، وإن قال إنها واجبة، ولكن لن أصلي، وترك حتى خرج الوقت وليس له عذر فالصواب أنه يكفر كفراً أكبر، وقال بعض المتأخرين من الفقهاء: إنه يكفر كفراً أصغر، والصواب الذي تدل عليه النصوص أنه يكفر كفراً أكبر؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث بريدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، والذي يحبط عمله هو الكافر.
الجواب: الخوارج يرون أن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، لكن يقولون: إذا ترك واجباً أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله؛ لأن الإيمان لا يتجزأ، فهم يقولون: الإيمان يشمل الأعمال كلها كما يقول أهل السنة من أن الإيمان قول وتصديق وعمل، ولكن إذا ترك واجباً أو فعل كبيرة ذهب الإيمان كله، وأما أهل السنة فإنهم يقولون: الإيمان هو التصديق والأعمال، وإذا ترك واجباً أو فعل كبيرة فلا يكفر، ولا يذهب الإيمان، بل يضعف الإيمان وينقص.
الجواب: إذا أقر والتزم بذلك فقد لزمه الدخول في كل الإيمان، ولكنه لا يستكمل الإيمان حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، هذا هو المراد، فالمراد أنه يطلق عليه اسم الإيمان، ولكن لا يطلق عليه الإيمان الكامل حتى يؤدي الواجبات وينتهي عن المحرمات، فإن أدى الواجبات وانتهى عن المحرمات فهذا هو المؤمن الكامل الإيمان، وإن قصر في بعض الواجبات وارتكب بعض المحرمات فهذا يطلق عليه أنه ناقص الإيمان، وإن فعل من أمور الردة شيئاً يصير به مرتداً أو كافراً انتقض إيمانه، نعوذ بالله، كما لو سب الله أو سب الرسول أو سجد للصنم أو دعا غير الله أو ذبح لغير الله أو نذر لغير الله، نسأل الله السلامة والعافية.
الجواب: كل شيء يزيد فهو ينقص، وليس هناك شيء يزيد إلا وهو ينقص، وإذا كان الإيمان يزيد بالطاعة فإنه ينقص بالمعصية, وهذا معروف.
الجواب: نعم، وهذا واضح، فمثلاً: لو شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم يصح إيمانه، ولو شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم يصح إيمانه، وكذلك من صلى بغير وضوء لا تصح صلاته؛ لأن الوضوء شرط في صحة الصلاة، والشهادة لله تعالى بالوحدانية لا تصح إلا بالشهادة لنبيه بالرسالة، والشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة لا تصح إلا بالشهادة لله بالوحدانية، وكذلك الصلاة، فالصواب: أنها شرط في صحة الإيمان، لا يصح الإيمان إلا بها، وأما الواجبات الأخرى التي ليست شرطاً فإنه يضعف الإيمان بتركها وينقص.
الجواب: تكون الأعمال من مسمى الإيمان.
الجواب: الصواب أن من ترك الصلاة لم يبق في قلبه ذرة ولا برة من الإيمان، وإنما ينتهي منه، لأن الإيمان لا ينتهي إلا بالكفر, وترك الصلاة كفر, وأما المعاصي فلو عظمت وكثرت لا تذهب الإيمان، بل تضعفه حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة أو مثقال شعيرة، ولو كثرت الذنوب، إلا إذا جاء الكفر وقضى على الإيمان فلم يبق منه شيء، وترك الصلاة كفر يقضي على الإيمان، فنعوذ بالله.
الجواب: من عمل كفراً وحكم عليه بالكفر كفر باطناً وظاهراً، وحكم عليه بالخلود في النار، ولكن لا بد من إقامة الحجة عليه، فلا يكفر الشخص الذي عمل الكفر حتى تقوم عليه الحجة، ويكون عالماً بهذا الشيء، والمقصود أن من فعل كفراً أكبر حكم عليه بأنه كافر باطناً وظاهراً، والعياذ بالله، وهو مخلد في النار، نسأل الله السلامة والعافية، والنصوص هي التي دلت على هذا، ولا نقول هذا الكلام من عندنا، وإنما هو من كلام الله وكلام رسوله، فمن كفره الله ورسوله فهو كافر كفراً أكبر، ومخلد في النار؛ لأن الله حكم على الكافرين بالخلود في النار، فالله تعالى هو الذي كفرهم وهو الذي حكم عليهم بالخلود.
الجواب: الأعلى هو الأفضل، يعني: أفضله، ويدل على ذلك اللفظ الآخر (أفضلها) فهي أفضلها وأوجبها وأهمهما، فهي أول الإيمان، وهي أفضل الإيمان، وهي أوجب الإيمان، ولا معارضة ولا تنافي في ذلك، ولا بد من الإخلاص عند النطق بها، فلو قالها بلسانه وهو لا يعتقد معناها بقلبه لا تنفعه.
الجواب: لا يصح هذا الكلام، وإنما الكفر كفران: كفر اعتقادي وكفر عملي، فالكفر الاعتقادي يخرج من الملة، مثل من كذب الله أو كذب الرسول، أو أبغض الله أو أبغض رسوله، أو أبغض شيئاً مما جاء به الرسول، أو سر بضعف الإسلام والمسلمين، أو بضعف دين الرسول، أو كره انتصار المسلمين وعلو الإسلام وظهوره، فهذا كفر اعتقادي صاحبه من أهل الدرك الأسفل في النار، فنعوذ بالله.
والكفر العملي ينقسم إلى قسمين: قسم ينافي الإيمان بالكلية، كما لو كان شركاً في العبادة أو ناقضاً من نواقض الإسلام, مثل السجود للصنم, ومثل تعلم السحر وتعليمه، ومثل سب الله وسب الرسول، وكفر عملي لا يخرج من الملة، وهو الذي لا يكون شركاً في العبادة ولا ناقضاً من نواقض الإسلام، وإنما هو معصية، كما جاء في الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) فهذا النفاق الأصغر، ومثله الكفر، كما في الحديث: (ثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت) فهذا كفر أصغر ومعصية، ومثل قوله: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) فهذه الأعمال كلها كفر أصغر، وهي معاص؛ لأنها ليست شركاً في العبادة ولا نواقض من نواقض الإسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر