إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة - وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعثللشيخ : حسن أبو الأشبال الزهيري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الإيمان بيوم القيامة واجب، لا يتم إيمان المؤمن إلا به، فإن الله سبحانه قدر المعاد ليحاسب كل إنسان على ما عمل، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة بإثبات أوصاف يوم القيامة، وما فيه من حساب وجزاء، وثواب وعقاب، وجنة ونار.

    1.   

    باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت والميزان والحساب والصراط

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، والميزان، والحساب والصراط يوم القيامة ].

    ذكر الإمام اللالكائي في هذا الباب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أحد طرقه، قال: [ (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس، إذ جاء رجل ليس عليه عناء سفر -يعني: لا يبدو عليه مشقة السفر- وليس من أهل البلد -أي: ليس من أهل المدينة- يتخطى حتى برك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجلس أحدنا للصلاة -أي: على هيئة التشهد- ووضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ]. وهذا فيه بيان لما أبهم في الرواية الأخرى، قال: (حتى أسند ركبتيه إلى ركبتيه) فقوله: إلى ركبتيه الضمير يعود على من؟

    اختلف بعض أهل العلم فقالوا: إلى ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام. والبعض يقول: بل وضع يديه على ركبتي نفسه.

    وقالوا: لأن وضع التلميذ يده على ركبتي أستاذه يتنافى مع الأدب.

    لكن في حقيقة الأمر يعلم أنه جبريل، ويعلم أنه ليس تلميذاً لمحمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك ليس من حرج أن يضع جبريل عليه السلام يده على ركبتي النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: [ (ثم وضع يده على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! ما الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان -هذا هو الإسلام- قال: فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم. قال: صدقت. قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وتؤمن بالجنة والنار، والميزان، وتؤمن بالبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: فإذا فعلت هذا فأنا مؤمن؟ قال: نعم. قال: صدقت) ].

    الشاهد من هذا الحديث كله: قوله: (ما الإيمان يا محمد؟! قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالبعث بعد الموت، وأن تؤمن بالجنة والنار) وغير ذلك مما ذكر، فهذا جماع وجوب الإيمان بالجنة والنار والبعث بعد الموت، والميزان والحساب والصراط.

    1.   

    سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور والحشر والنشر

    قال: [ سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصور، والحشر، والنشر ].

    عن أبي هريرة وأبي سعيد: [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم الصور) ] وفي رواية: (كيف أنتم؟) أي: ما حالكم لو أن صاحب الصور -وهو إسرافيل عليه السلام- قد التقم الصور بفيه، أي: قد وضع فمه على البوق لينفخ فيه. قال: [ (وأصغى سمعه، وأحنى جبهته ينتظر متى يؤمر أن ينفخ) ] أي: ينتظر الأمر الموجه إليه. (وأحنى جبهته). أي: لينظر إلى جهة العلو متى يؤمر أن ينفخ، ينتظر الأمر الموجه إليه، فإذا كان هذا قد أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرناً وزيادة فهذا يدل على تمام قرب الساعة. قال: [ (قالوا: يا رسول الله! كيف نقول -أي: والحالة هذه؟- قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا) ].

    [ عن عبد الله بن عمرو بن العاص

    رضي الله عنهما: (أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما الصور؟ -أي: ما كنه الصور وما حقيقته؟- قال: قرن ينفخ فيه) ]. والقرن كالبوق ينفخ فيه، لكنه بوق عظيم لا مثيل له في حياة الناس.

    وقد جاء من حديث ابن عباس : (ما طرف صاحب الصور مذ وكل، مستعداً ينظر حول العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان) ] .

    أي: ما غمضت عين إسرافيل وهو صاحب الصور منذ أن أوكله الله عز وجل بالنفخ في الصور، مستعداً لهذه المهمة التي أوكل بها.

    قال: (ينظر حول العرش) وبين النبي عليه الصلاة والسلام علة أنه أحنى جبهته تحت العرش ونظر إلى جهته. قال: (مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه) يعني: هو لم يطرف مخافة أن يصدر إليه الأمر في وقت طرفة عينه، يقول: (كأن عينيه كوكبان دريان).

    [ عن عبد الله بن عمرو قال: إن الملكين النافخين في السماء الدنيا مستعدان ينظران متى يؤمران ينفخان في الصور. قال: ورأس أحدهما بالمشرق ورجلاه في المغرب، ورأس الآخر بالمغرب ورجلاه بالمشرق ]. وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص

    ، وأغلب الظن أنه أخذه من كتب الإسرائيليات، فهذا النص في غاية النكارة خاصة وأن النصوص أثبتت أن النافخ في الصور واحد لا اثنان.

    [ عن ابن عباس في قول الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68] ]، وهذه نفخة الصعق.

    وقد وقع الخلاف بين أهل العلم في عدد النفخ، والصواب الذي عليه جماهير أهل السنة: أن النفخ ثلاث نفخات:

    النفخة الأولى: تسمى نفخة الفزع. والنفخة الثانية: تسمى نفخة الصعق. والثالثة: تسمى نفخة البعث.

    لما سئل ابن عباس في قول الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [الزمر:68] قال: [ نفخ فيه أول مرة فصاروا عظاماً ورفاتاً، ثم نفخ فيه الثانية فإذا هم قيام ينظرون ].

    وفي حقيقة الأمر: أن هذه هي النفخة الثانية والثالثة، وليست الأولى والثانية، وابن عباس لم يتكلم عن نفخة الفزع.

    وعن أبي هريرة مرفوعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة ! أربعون سنة؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت) ] يعني: أبيت أن أجزم بشيء من ذلك، وليس عندي فيه نص، وهذا من أمور الغيب، هذا فيما يتعلق بـأبي هريرة ، وقد ورد في غير الصحيح بإسناد صحيح من غير طريق أبي هريرة أن هذه الأربعين إنما هي أربعون سنة، فما بين النفختين -نفخة الصعق ونفخة البعث- أربعون سنة.

    قال: [ (ثم ينزل الله تبارك وتعالى ماءً) ]، أي: في خلال هذه الأربعون سنة، أو في نهاية هذه الأربعين.

    قال: [ (فينبتون كما ينبت البقل) ] يعني: ينبت الخلق من هذا الماء كما ينبت البقل، منه ما هو أحمر، ومنه ما هو أبيض، ومنه ما هو أصفر. قال: [ (وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظماً واحداً -كل شيء في الإنسان يبلى إلا عظمة واحدة وهي عجب الذنب- ومنه يركب الخلق يوم القيامة) ] يعني: من عجب الذنب تبدأ إعادة الإنسان في الحياة والبعث مرة أخرى، فنقطة الانطلاق والتكوين والبعث والإعادة والإحياء تبدأ من عجب الذنب، وعجب الذنب: هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب وهي كحبة الذرة في نهاية العمود الفقري، وهي التي يسميها العامة: رأس العصعص، وهو أول ما يخلق من الآدمي، كما أنه هو الذي يبقى منه؛ ليعاد تركيب الخلق عليه مرة أخرى.

    يعني: هذه القطعة الصغيرة جداً هي التي تتكون ابتداءً في رحم الأم، فإذا مات الإنسان أكل منه كل شيء وبلي منه كل شيء إلا عجب الذنب، ومنه يركب الخلق مرة أخرى في الإعادة والإحياء.

    وفي رواية في الصحيحين: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجم الذنب) بالميم أو الباء سواء. العلماء يقولون: الروايتان صحيحتان.

    وفي رواية: (إن في الإنسان عظماً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة). يعني: يعاد من هذه العظمة التي لا تأكلها الأرض أبداً.

    قال: (قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟! قال: عجب الذنب).

    تحريم الله لأجساد الأنبياء على الأرض

    هذه الأحاديث بلا شك يستثنى منها أجساد الأنبياء، فهذه الأحاديث عامة في كل إنسان دون الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء). ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر مناقب موسى عليه السلام، قال: (مررت ليلة أسري بي إلى بيت المقدس بقبر موسى عليه السلام، فرأيته قائماً في قبره يصلي عند الكثيب الأحمر، ولو أني وإياكم ثم لأريتكم قبره هناك) يعني: لو أنا وأنتم هناك في هذا الموطن الآن لأريتكم قبر موسى. فأخبر عليه الصلاة والسلام أن موسى قائماً في قبره يصلي، بمعنى: يدعو، أو صلاة لا يعلم كنهها إلا الله عز وجل، فهذه الأحاديث تبين عقيدة الإعادة والبعث بعد الموت.

    وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق).

    وقال عليه الصلاة والسلام: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة) هذا في نفخة البعث، فأول من يبعث هو النبي عليه الصلاة والسلام. وفي رواية: (فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري: أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل).

    وفي رواية: (أم أنه لم يصعق اكتفاءً بصعقة الطور)؛ لقول الله تعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا [الأعراف:143] يعني: هل جعل الله عز وجل صعقة الطور فيها كفاية وغنية لموسى عليه السلام، فاستثناه من صعقة يوم القيامة، فكان في الأحياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، أو أنه أفاق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام؟

    النفخ في الصور من أهوال يوم القيامة

    قول الله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68] فيه استثناء. يعني: هناك من الخلق من يستثنى من هذا الصعق، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. والنفخة الأولى في قوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر:68] وهي نفخة الإماتة. قوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] هي نفخة البعث، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ [الزمر:69] أي: حينئذ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:69-70].

    قال الله تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، وهذه هي النفخة الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت فيها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله، كما هو مصرح به، مفسر في حديث الصور المشهور الطويل، وسيأتي معنا بإذن الله، ثم يقبض الله أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم -الذي كان أولاً وهو الباقي آخراً- بالديمومة والبقاء، فيقول: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] ثلاث مرات، فلما لم يجبه أحد يجيب المولى عليه الصلاة والسلام وجل نفسه: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]. أي: واحدٌ قهر كل شيء، وحكم بالفناء على كل شيء، ثم يحيي الله عز وجل أول من يحيي إسرافيل.

    إذاً: إسرافيل لا يدخل تحت الصعقة الثالثة؛ لأن الله تعالى يحييه لينفخ في الصور، فالله عز وجل يحييه ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث.

    إذاً: النفخة الثالثة: هي نفخة البعث. والثانية: نفخة الصعق. والأولى: نفخة الفزع.

    قال الله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] أي: أحياء بعد أن كانوا عظاماً ورفاتاً ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14].

    والساهرة: هي الأرض المنبسطة التي لا نتوء فيها ولا جبال ولا مرتفعات ولا منخفضات، أرض غير الأرض التي يعرفها الناس، كما قال العلماء: أرض لم يقع بها خطيئة ولم يرق فيها دم، أرض بغير خطيئة وبغير معصية، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14].

    قال الله تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52]، وقال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم:25]، وهذه هي دعوة البعث.

    1.   

    حديث عبد الله بن عمرو في أمارات الساعة

    روى الإمام أحمد بسنده: عن عبد الله بن عمرو . قيل له: إنك تقول: الساعة تقوم إلى كذا وكذا. كأنه يريد أن يحدد قيام الساعة؛ ولذلك عبد الله بن عمرو تبرأ من هذا وقال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، لأنني ما حدثتكم بهذا فكيف تفترون علي، إنما حدثتكم عن قيام الساعة بعلاماتها وأماراتها.

    قال: لقد هممت ألا أحدثكم شيئاً، إنما قلت: سترون بعد قليل أمراً عظيماً، ومهما طال الليل والنهار فإن الساعة قريب.

    ثم قال عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال في أمته فيمكث فيهم أربعين -لا أدري أربعين يوماً أو عاماً أو شهراً أو ليلة- فيبعث الله عيسى بن مريم، كأنه عروة بن مسعود الثقفي ، فيظهر فيهلكه الله عز وجل، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة) هذه السنوات السبع بعد هلاك المسيح الدجال يكون الناس على الود والتحاب والإخاء والألفة، ليس بين اثنين عداوة.

    قال: (ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته) هذا الريح الباردة من علامات الساعة الكبرى، وأنها تقبض روح كل عبد مؤمن فقط، (حتى لو أن أحدهم -أي من المؤمنين- كان في كبد جبل لدخلت عليه). هذه الريح تدخل عليه وإن كان في جبل لتأخذ روحه.

    قال: (سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) يبين علامات القوم الأشرار الذين تقوم عليهم الساعة.

    بلا شك أن هذه الريح الشامية إذا جاءت وقبضت روح كل عبد مؤمن لا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال: (فيتمثل لهم الشيطان -أي: لهؤلاء الأشرار- فيقول: ألا تستجيبون؟ -أي: ألا تستجيبون لي إذا أمرتكم؟- فيأمرهم بالأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارة أرزاقهم، حسن عيشهم).

    ولذلك اغتر شرار الخلق بما هم عليه من شر، يظنون أنهم على شيء وليسوا على شيء، يقولون: علامة ذلك أن الله تعالى وسع علينا في أرزاقنا، ومتعنا في عيشنا، تماماً كما يقول الكفار اليوم، وبعض المسلمين يظن أن السعة في الرزق هي علامة رضا الرب، وليس الأمر كذلك.

    قال: (وإذ هم على ذلك إذ ينفخ في الصور) وبينما هم يتنعمون في أرزاقهم ومعاشهم ينفخ إسرافيل في الصور (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له) أي: لا يسمع هذه النفخة أحد إلا أصغى لهذا الصوت. وهذه نفخة الفزع النفخة الأولى.

    قال: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق). نفخة الصعق، أول من يسمعه رجل يلوط حوضه. يعني: يصلح شأن دابته، وهو كذلك إذ تأتيه الصعقة فيموت، ثم لا يبقى أحد إلا صعق؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في هذه النفخة (يسمعها الرجل وهو يلوط حوضه فلا يلوطه حتى يموت) يعني: يموت قبل أن يلوط الحوض. قال: (وإن المتبايعين يتبايعان الثوب فيسمعان الصعقة فلا يتمان بيعهما). يموتان. (وإن الرجل ليحلب اللقحة فيسمع الصعقة فلا يدرك لقحته) يعني: لا يتم حلب شاة أو حلب ناقة.

    قال: (ثم لا يبقى أحد إلا صعق، ثم ينزل الله عز وجل مطراً كأنه الطل أو الظل فتنبت منه أجساد الناس، فهذا قول الله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]. ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) ينادي مناد: أيها الناس! -بعد الصعقة الثالثة- هلموا إلى ربكم، فهذا قول الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24].

    قال: (ثم يقال: أخرجوا بعث النار) إذا اجتمعوا في موقف الحشر والنشر والحساب قال: (فيقال: يا رب! كم بعث النار؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون) يعني: لا ينجو إلا واحد من الألف، و(999) كلهم هلكى في النار. قال: (فيومئذ تبعث الولدان شيباً) أي: من هول يوم القيامة تبعث الولدان الصغار شيباً. قال: (ويومئذ يكشف عن ساق). أي: هذا يوم يكشف الله تعالى للخلائق عن ساقه. وهذا الحديث أخرجه مسلم .

    أما قوله: وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69]. أي: أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق تبارك وتعالى للخلائق لفصل القضاء، وَوُضِعَ الْكِتَابُ [الزمر:69] أي: يوضع الكتاب، كتاب الأعمال وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ [الزمر:69] ليشهدوا على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله تعالى، وجيء بالشهداء كذلك -أي: من الملائكة الحفظة- على أعمال العباد من خير وشر، وقضي بينهم بالحق والعدل، وهم لا يظلمون، كما قال الله تعالى، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، فإن الله عز وجل لا يخفى عليه ما يفعله العباد.

    وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]. وقال: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر:70] -أي: من خير وشر - وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ [الزمر:70] سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير آيات سورة النازعات التي تتحدث عن يوم القيامة

    قال سبحانه وتعالى: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ * يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ [النازعات:1-10] أي: في القبر، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً [النازعات:11] أي: في هذا القبر عظاماً بالية، قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:12] يعني: يا ويلها! لو أننا عدنا بعد هذه الموتة إلى البعث مرة أخرى، فإنما هذا عود وكرة خاسرة، فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ [النازعات:13].

    قال ابن مسعود وابن عباس ومسروق وابن جبير وأبو صالح وأبو الضحى والسدي: النازعات غرقاً. أي: الملائكة، حين تنزع أرواح بني آدم، فمنها من تأخذ روحه بعنف فتغرق في نزعها، ومنهم من تأخذ روحه بسهوله وكأنما حلته من نشاط، وهي قوله تعالى: وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات:2].

    قال ابن عباس في النازعات: هي أنفس الكفار تنزع ثم تنشر ثم تغرق في النار.

    وأما قوله: والسابحات سبحاً قال ابن مسعود : هم الملائكة. وقيل غير ذلك.

    وعن مجاهد قال: السابحات: هي الموت. وقال قتادة: هي النجوم. وقال عطاء : هي السفن.

    فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا روي عن غير واحد: أنهم قالوا: هي الملائكة. وقال الحسن : لأنها سبقت إلى الإيمان والتصديق به، وعن مجاهد قال: هي الموت، وعن عطاء قال: هي الخيل التي تسبق في سبيل الله عز وجل في الجهاد.

    أما (المدبرات أمراً) فقال غير واحد: هي الملائكة. زاد الحسن : سميت بذلك؛ لأنها تدبر الأمر من السماء إلى الأرض، يعني: بأمر ربها عز وجل، ولم يختلفوا في هذا، ولم يقطع ابن جرير بالمراد من ذلك، إلا أنه حكى أن المدبرات هي الملائكة.

    أما قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات:6-7] قال: هما النفختان: الأولى والثانية. يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [النازعات:6] هي نفخة الفزع، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات:7] هي نفخة الصعق. وهذا قول ابن عباس .

    وقال مجاهد والحسن وقتادة والنحاس وغير واحد: هما النفختان الأوليان. وعن مجاهد قال: أما الأولى فهي قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ [النازعات:6]، فكقوله جلت عظمته: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [المزمل:14]. مجرد إرجاف، مثل الزلزال، وهو فزع شديد جداً.

    ولذلك إذا حصل زلزال تجد أن كل الناس في غاية الذعر والرعب، فهذا هو الفزع؛ ولذلك سميت النفخة الأولى بنفخة الفزع؛ لما يصيب الناس من ذعر ورعب وفزع.

    قال: أما الثانية: وهي الرادفة التي تتبعها، فهي كقوله تعالى: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة:14]. هذه نفخة الصعق.

    وعند الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب : قال النبي عليه الصلاة والسلام: (جاءت الراجفة) أي: النفخة الأولى. (تتبعها الرادفة) أي: النفخة الثانية (جاء الموت بما فيه) أي: من أهوال، (فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟) أي: أهذا أمر ينجيني من هول هذا الموقف؟ قال: (إذاً: يكفيك الله ما أهمك من شأن دينك ودنياك). لو كنت صادقاً مخلصاً في أنك وجهت كل دعائك للنبي عليه الصلاة والسلام فإن الله يكفيك هول هذا الموقف. اللهم صل على نبينا محمد!

    وعند الترمذي : (كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه) .

    والصلاة هنا بمعناها اللغوي: الدعاء؛ لأنه لا يجوز صرف الصلاة الشرعية للنبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذا شرك بالله؛ ولذلك كثير من العوام يعتقد أن الفرض حق الله، وأن السنة للنبي صلى الله عليه وسلم. يعني: يصلي الفرائض لله، ويصلي السنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شرك، الصلاة الشرعية كلها لله عز وجل، أما الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء فأعظم الدعاء هو ما وجه للنبي عليه الصلاة والسلام.

    أما قوله: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [النازعات:8] أي: خائفة. كما قال ابن عباس وقتادة وغير واحد.

    أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات:9] أي: أصحابها خاشعون، متذللون مما عاينوا من الأهوال.

    قوله: يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ [النازعات:10] مشركو مكة يقولون، ومن قال بقولهم بإنكار المعاد، يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى الحافرة، وهي القبور، وبعد أن تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم وتنخر؛ ولهذا قالوا: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً [النازعات:11]. وفي قراءة، (ناخرة) أي: بالية. أنبعث مرة أخرى؟

    وعن ابن عباس ومحمد بن كعب وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والسدي وقتادة قالوا: الحافرة: هي الحياة بعد الموت. وقال ابن زيد: الحافرة: هي النار وما أكثر أسماءها! قال: هي النار وهي الجحيم وهي سقر وهي جهنم وهي الهاوية وهي الحافرة وهي لظى وهي الحطمة وغير ذلك.

    قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [النازعات:12] قالت قريش: لئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن. قال الله تعالى: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:13-14] أي: فإنما هو أمر من الله واحد لا مثنوية فيه ولا تأكيد، فإذا الناس فيه قيام ينظرون، وذلك أن يأمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فإذا الأولون والآخرون قيام بين يدي الرب تبارك وتعالى ينظرون، كما قال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52].

    وقال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر:50]، وقال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل:77].

    أما قوله: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات:14] أي: بأرض بيضاء عفراء كخبزة النقي، وقد سبق أن بينا أن تبديل الأرض غير الأرض. يعني أن تصير الأرض يوم القيامة كأرض بيضاء عفراء كخبزة النقي، وقد سبق هذا في حديث أخرجه مسلم، كما في قول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]. يعني: بعد تبديل الأرض غير الأرض.

    ويوم القيامة نؤمن به دون أن نخوض فيه بتأويل ما لم يبلغنا التفصيل؛ لأن الدار الآخرة يحكمها قانون ثالث، والقوانين الثلاثة قوانين إلهية، ولا تخضع دار البرزخ ولا الدار الآخرة للعقل مطلقاً؛ لأن الجنة لا يعقل ما فيها من خيرات؛ لأنك مهما توهمت وتخيلت نعيم الجنة فالجنة فوق ذلك بكثير، كما أنك لو أردت أن تتوهم أو تتخيل نعيم القبر أو عذابه فإن نعيم القبر وعذابه فوق تخيلك وتصورك، بخلاف نعيم الدنيا فإنك تنعم وتعيش هذا النعيم، فتعرف قدره وتعرف لذته؛ لأنك محكوم بقانون هذه الحياة.

    1.   

    تقسيم القيامة إلى قيامتين وبيان عودة الأرواح إلى أجسادها

    إعادة الأرواح إلى الأجساد في القيامة الكبرى

    ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القيامة قيامتان، وتكلم عن القيامة الكبرى فقال: الأمر الأول في هذه القيامة إعادة الأرواح إلى الأجساد.

    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ويكون -أي: إعادة الأرواح إلى الأجساد- بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذا غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الملكين للميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى، فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها وتحل بها.

    يعني: أن الأرواح في الصور لا تتعداه ولا تتخطاه، فإذا نفخ في الصور ذهبت الأرواح إلى الأجساد فتركبت فيها.

    وفي الحديث القدسي: يقول الله عز وجل: (ليس أول الخلق بأهون علي من إعادته)، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم:27]، وقال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وقال تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:15-16]، وقال تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78-79].

    يسوق رحمه الله هذه الآيات وهذا الحديث لإثبات أن هذه الإعادة ليست من باب تجديد الأجساد، وإنما هي من باب إعادتها وخلقها خلقاً جديداً كما خلقها الله عز وجل أول مرة؛ ولذلك جاء في الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الناس يحشرون فيها حفاةً عراة غرلاً) فالناس هم الذين يحشرون وليس سواهم.

    قال ابن تيمية : وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون. يعني: مبدأ البعث بعد الموت قد جاءت أدلته في الكتاب والسنة وأجمع عليه المسلمون، وهذا يدل على أن من أنكر البعث فقد نقض إيمانه وإسلامه من الأساس.

    قال: فأما كتاب الله تعالى فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيم، وذكرها بأوصاف عظيمة توجب الخوف والاستعداد لها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    وقال تعالى: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3] -اسم من أسماء القيامة- وقال تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:1-5].

    والأوصاف ليوم القيامة في القرآن كثيرة جداً، كلها مروعة ومخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها فلن نعمل لها، إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به، وحتى يذكر له أوصاف هذا اليوم التي توجب العمل لهذا اليوم.

    وأما السنة: فالأحاديث فيها كثيرة جداً في إثبات الحوض والصراط والثواب والعقاب والجنة والنار، وقد انعقد إجماع المسلمين إجماعاً قطعياً على الإيمان بيوم القيامة؛ ولهذا كان من أنكره كافراً بالله عز وجل، إلا إذا كان غريباً عن الإسلام أو جاهلاً فإنه يعلم، فإن أصر على موقفه من إنكار البعث بعد الموت فهو كافر.

    كما أثبتت الكتب السماوية هذا الأمر، فما من نبي إلا حذر أمته البعث والقيامة، والعقل يوجب ذلك كذلك، إذ لا يتصور عاقل أن يستوي الناس أو أن يستوي الطيبون والأشرار، الصالحون والطالحون، العاملون صالحاً والعاملون سوءاً، لا يستويان قط، بل لا بد أن يجازى هذا وأن يعاقب ذاك؛ ولهذا قال الله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115-116].

    وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، وإن كان الخطاب لشخص النبي عليه الصلاة والسلام إلا أنه عام لجميع الخلائق.

    قيام الناس لرب العالمين في القيامة الكبرى

    الأمر الثاني مما يكون يوم القيامة: يوم يقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً. حفاة أي: لا يلبسون في أقدامهم شيئاً. عراة: لا يلبسون على أجسادهم شيئاً. غرلاً: وهي القلفة التي أخذت من المرأة والرجل في أثناء الختان. هذه القطعة التي أخذت من ذكرك وأنت صغير ترد إليك وتبعث بها، ويعيدك الله تعالى كما بدأك، فإذا كنت تؤمن بالله عز وجل فلابد أن تعلم أن هذه القلفة منذ ستين أو أربعين أو خمسين أو عشرين سنة أو أكثر من ذلك أو أقل قد دفنت أو ألقيت على المزابل، فذابت وانتهى أمرها منذ عشرات السنين، وبعد ذلك تموت ثم تبعث وتبعث معك هذه القطعة من اللحم، أفلا يدل هذا على أن الله تعالى قادر على الإحياء بعد الإماتة؟ بلى. فإذا كان الله تعالى قادراً على إنشائك من العدم فإعادتك أهون عليه!

    أما قوله: (فيقوم الناس من قبورهم) إن مات إنسان ولكنه لم يدفن في القبر، كأن مات في البحر وأكلته الأسماك والحيتان، أو مات وأكلته الوحوش في البرية، أو سقط عليهم سقف البيت فماتوا تحت السقف ولم يقبروا، أليس الله تعالى قادراً على أن يعيد هذه الأبدان ويحييها ويحاسبها، فيقذف الكافر في النار، ويدخل المؤمن الجنة؟ بلى، سبحان الله!

    يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، لأن الله عز وجل يناديهم، كما قال تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ [ق:41-42]، والصيحة هذه صيحة البعث، فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6].

    قال: أما قوله: (حفاة عراة غرلاً) فقد ذكرناها، كما قال الله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، فيعاد كاملاً لا ينقص منه شيء. يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالاً ونساءً، (حفاة عراة غرلاً).

    ولذلك استغربت عائشة رضي الله عنها هذا فقالت: (يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عائشة ! يا ابنة الصديق ! الأمر أشد من ذلك) وفي رواية: (الأمر أشد من أن يهمهم ذلك) يعني: من أن ينظر بعضهم إلى بعض، فكل إنسان له شأن يغنيه، كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه خوفاً من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل ولا الرجل إلى المرأة، فالأمر أشد وأعظم من ذلك بكثير.

    ومع هذا فإن الناس يكسون بعد ذلك، وأول من يكسى بعد عري هو إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

    أما دليل القيامة الصغرى فهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لما سألوه عن الساعة فنظر إلى أصغر طفل معهم وقال: إن يعش هذا حتى يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم)، أي: قامت عليكم قيامتكم الصغرى، والحديث أخرجه الإمام مسلم .

    قال شاعرهم:

    خرجت من الدنيا وقامت قيامتي غداة أقل الحاملون جنازتي

    وعجل أهلي حفر قبري وصيروا خروجي وتعجيلي إليه كرامتي

    كأنهم لم يعرفوا قط صورتي غداة أتى يومي علي وليلتي

    وأما القيامة الكبرى فتعاد فيها الأرواح إلى الأجساد التي كانت تعمرها في الدنيا، وهذه القيامة التي أخبر الله تعالى بها في كتابه، وأخبر بها رسوله في سنته، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [يس:51] إلى قوله: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52] وقال تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ [القمر:7]، وقال تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    1.   

    كلام ابن أبي العز في الإيمان بالمعاد

    قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية:

    والإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وأقام الدليل عليه، ورد على المنكرين في غالب سور القرآن، وذلك أن الأنبياء كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم. يعني: توحيد الربوبية هذا أمر كان المشركون يقرون به، أما الإلهية فلا، فكلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم النبيين، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وأشار إلى السبابة والوسطى لقربهما، وأنه ليس بينه وبين الساعة نبي ولا رسول، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    وقد أخبر الله عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الأنعام:130]. يعني: هل ما جاء أحد من الرسل والأنبياء وحذروكم من هذا اليوم وأخبروكم بيوم القيامة؟ فماذا قالوا حينئذ؟ قالوا: بلى. الرسل أخبرونا وأنذرونا، قامت علينا الحجج والبراهين ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.

    وأمر الله تعالى نبيه أن يقسم على المعاد، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]. يعني: اقسم لهم يا محمد! أنها آتية لا ريب فيها.

    وقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس:53]؟ يستخبرونك يا محمد! هذا المعاد وهذا البعث حق كما تزعم؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53].

    جاء أبي بن خلف إلى النبي عليه الصلاة والسلام وفي يده عظم قد أرم وقال: (يا محمد! أتزعم أن الله تعالى يحيي هذه العظام بعد أن رمت وبليت؟) ثم فت العظام بيده فصارت رماداً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده يحييها الله عز وجل، ويميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار).

    وقال الله عز وجل: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]، وأخبر الله تعالى عن اقترابها فقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1]، وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج:1-2] إلى قوله: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7].

    وذم الله تعالى المكذبين بالمعاد فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام:31]، وقال تعالى: أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18]، وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [النحل:38] أنه يبعث من يموت.

    إلى أن قال الله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39]، وقال الله تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59]، وقال تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:97-99]. وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]. قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا [الإسراء:50] أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ [الإسراء:51].. إلى أن قال الله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:52].

    فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل، فإنهم قالوا أولاً: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]؟ فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، أو ما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم: كنا على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟

    أو للحجة تقريراً آخر وهو: لو كنتم من حجارة أو حديداً أو خلقاً أكبر منهما قادراً على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها كالحجارة والحديد بالإفناء والإحالة والصيرورة من شيء إلى شيء آخر، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم يسألون سؤالاً آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت، فأجابهم بقوله: قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الإسراء:51] الذي خلقكم أول مرة هو الذي يعيدكم مرة أخرى، فلما غلبتهم الحجة ولزمهم حكمها انتقلوا إلى سؤال آخر، يتعللون بعلل المنقطع وهي قولهم: متى هو؟ إذا كنت صادقاً فيما تزعم فمتى هذا البعث والإعادة بعد الموت، فأجيبوا بقول الله تعالى: عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].

    والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال فتستحيل تراباً -يعني: تصير تراباً- ثم ينشئها الله نشأة أخرى كما استحالة النشأة الأولى، فإنه كان نطفة ثم علقة ثم عظاماً ولحماً، ثم خلقاً سوياً. يعني: مر بأطوار، فما المانع أن تكون هذه الأطوار في آخر الحياة كذلك؟

    وثبت في الصحيح: (كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خلق ابن آدم ومنه يركب)، وفي حديث آخر: (إن السماء تمطر مطراً كمني الرجال، ينبتون في القبور كما ينبت النبات).

    قال ابن القيم عليه رحمة الله:

    وإذا أراد الله إخراج الورى بعد الممات إلى المعاد الثاني

    ألقى على الأرض التي هم تحتها والله مقتدر وذو سلطان

    مطراً غليظاً أبيض متتابعاً عشراً وعشراً بعدها عشران

    فتظل تنبت منه أجسام الورى ولحومهم كمنابت الريحان

    حتى إذا ما الأم حان ولادها وتمخضت فنفاسها متدان

    أوحى لها رب السماء فشققت فبدا الجنين كأكمل الشبان

    وتخلت الأم الولود وأخرجت أثقالها أنثى ومن ذكران

    والله ينشئ خلقه في نشأة أخرى كما قد قال في القرآن

    هذا الذي جاء الكتاب وسنة الـ ـهادي به فاحرص على الإيمان.

    قال ابن أبي العز :

    فالنشأتان نوعان تحت جنس يتفقان ويتماثلان، يتماثلان من وجه ويفترقان ويتنوعان من وجوه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداء فرق.

    قال السلمان حفظه الله: النفخات ثلاث: الأولى نفخة الفزع، وهي التي يحدث فيها تغير العالم. قال تعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [النمل:87].

    الثانية: نفخة الصعق. قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر:68]، وهذه النفخة هي التي فيها الهلاك لكل شيء.

    الثالثة: نفخة البعث والنشور. قال الله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    ويقول أيضاً: فيقوم الناس في قبورهم حفاة عراة غرلاًت. قال: الحفاة: الذين ليس على أرجلهم نعال ولا خفاف، والعراة: الذين ليس عليهم لباس، غرلاً. أي: غير مختونين، والغرلة: هي القلفة، ويلجهم العرق، أي: يصير لهم كاللجام الذي يربط به فم الدابة.

    والمعنى: أن الناس يغرقون في عرقهم على قدر أعمالهم، حتى يكون منهم من يلجمه العرق إلجاماً.

    وعن مسلم من حديث المقداد بن أسود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين) قيل: الميل: هو الميل الذي تكتحل به المرأة، وقيل: هو ميل الأرض. أي: المسافة.

    قال: (فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق قدر أعمالهم، منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاماً).

    قال بعض العلماء: ظاهر الحديث التعميم، أي: هذا في كل إنسان، ولكن الأحاديث الأخرى دلت على أنه مخصوص بالبعث وهم الأكثر، ويستثنى من هؤلاء الذين يغرقون في عرقهم: الأنبياء والشهداء ومن شاء الله عز وجل من الصالحين، فأشدهم في العرق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار كما تقدم تقريره في بعث النار.

    ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عظم الهول، وذلك أن النار تحف بأرض الموقف وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض؟ وماذا يرويها من العرق حتى يبلغ منها سبعين ذراعاً، مع أن كل واحد لا يجد إلا موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه؟!

    إن هذا شيء يبهر العقول، ويدل على عظيم قدرة الله عز وجل، ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة، وأنه ليس للعقل فيها مجال، ولا يعترض عليها بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما تؤخذ بالقبول، وتدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دل على كفرانه وحرمانه، نسأل الله تعالى العصمة والسلامة.

    وفائدة الإخبار بذلك أن يتنبه السامع، فيأخذ بالأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، وأن يبادر بالتوبة إلى الله عز وجل من التبعات، وأن يلجأ إلى الكريم الوهاب بعونه على أسباب السلامة، وأن يتضرع إليه في سلامته من دار الهوان وإدخاله في دار الكرامة.

    ومما ينبغي للإنسان: أن يجلس عندما يريد النوم ساعة يحاسب فيها نفسه على ما خسره وربحه في يومه وليله، ثم يجدد توبة نصوحاً بينه وبين الله، فينام على تلك التوبة ويعزم عزماً كل ليلة، فإن مات في ليلته مات على توبة، وإن استيقط استيقظ مستقبلاً للعمل، مسروراً بتأخير الأجل، وليس للعبد أنفع من هذه التوبة، لا سيما إذا أعقب ذلك بذكر الله تعالى، واستعمال السنن التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند النوم حتى يغلبه النوم، ومن أراد الله به خيراً وفقه لكل خير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    نصائح للمبتلى بالعادة السرية

    السؤال: لقد من الله عز وجل علي بالهداية منذ حوالي (10) سنوات، ولكن منذ ذلك الحين وأنا لا أستطيع أن أتوب عن العادة السرية، فما العلاج؟

    الجواب: العلاج يا أخي الكريم! أن تستحضر مراقبة الله عز وجل، وأنك حين تفعل هذه المعصية أو غيرها من المعاصي توقن أن الله تعالى ينظر إليك وأنت تفعل هذا، فأول علاج لجميع المعاصي هو استحضار عظمة الله عز وجل وجلاله، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في معنى الحديث: (وإن أحدكم لو خاف من ربه كما يخاف من رجلين عظيمين في قومه) يعني: لو أن واحداً من البشر ينظر إليك وأنت تصنع بنفسك هذا فهل تتم هذا الفعل؟

    الجواب: لا. فستنصرف عنك فوراً بمجرد أن تظن أو تتيقن أن أحداً من الخلق ينظر إليك، فنظر الله تبارك وتعالى أسرع وأعظم، فلا تجعل الله تعالى أهون الناظرين إليك.

    الأمر الثاني: أن تعتقد أن هذا حرام، وأما من رخص في الاستمناء فرخص فيه في وقت الضرورة الملحة جداً، وذكروا لذلك أمثلة:

    الأول: الغزو والبعد عن الأهل والنسوة وغير ذلك، وأن ذلك يوقعه في مشقة وعنت شديدين جداً.

    الثاني: أن يخير العبد بين الوقوع في الزنا الذي يقام به الحد وبين الاستمناء. يعني: أن تعرض عليك الفتنة عرضاً فلا يكون أمامك إلا واحد من اثنين: إما أن تهرب من هذه الفتنة فتستمني فتنطفئ شهوتك، فمهما عرضت عليك الفتنة فأنت لا تقبلها؛ لأن الشهوة قد انطفأت وزالت. فهذه أمثلة ذكرها بعض أهل العلم لجواز الاستمناء.

    أما حرمته فدليل ذلك: قول الله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون:5-6]، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:7].

    أي: الظالمون المتعدون لحدود الله عز وجل، والذي يبتغي كما قال عبد الله بن عمر جلد عميرة فهو معتد؛ لأن الصحابة كانوا يسمون الاستمناء: جلد عميرة، والجلد نوع من أنواع العقوبات والتعزيرات، فتسمية السلف للاستمناء بالجلد فيه نوع عقوبة، وأنا أنصح السائل وغيره ممن ابتلي بهذا أن يحافظ على الأذكار، وأن يداوم على قراءة القرآن الكريم، والنظر في سنة النبي الأمين، والانشغال ببحث المسائل العلمية في ليل ونهار وفي وقت فراغه، وألا يصاحب إلا الأخيار، وأن يهجر مجلات الجنس -وما أكثرها في هذه البلاد وغيرها- كمجلات الكواكب وغيرها، وأن يهجر الصحف القومية؛ لأنها صارت مجلات جنسية وصحفاً جنسية بالدرجة الأولى، فضلاً عن أنها صحف نفاق وصحف عري وفجور ودعوة إلى الانحلال والوقوع في الجنس المحرم.

    ثم أنصح هذا السائل وإخوانه ممن ابتلي بهذا ألا ينفرد بنفسه، لا في نومه ولا في يقظته؛ لأنه إذا انفرد بنفسه لعب الشيطان برأسه، وليكن معه من يعينه من إخوانه وأصدقائه على تقوى الله عز وجل ويبتعد عن صحبة السوء؛ فإنهم يعينونه على طاعة الله، ويذكرونه دائماً بالله عز وجل، وهكذا علاج كل معصية.

    الأموات لا يحسون بنفخة الفزع

    السؤال: هل الميتون في القبور يحسون بالنفخة الأولى وهي نفخة الفزع وأيضاً نفخة الصعق؟

    الشيخ: الذي ينقدح في ذهني -والله تعالى أعلم- أنهم لا يشعرون بشيء من ذلك؛ لأن النفخة الأولى متعلقة بالأحياء لا بالأموات، وأما النفخة الثالثة فإنها ستكون لجميع الخلق؛ لأنهم يكونون في عداد الموتى، وإذا ثبت أن هذا الكلام غير صحيح فأنا أرجع عنه.

    استغفار الملائكة يكون للمؤمنين دون الكافرين

    السؤال: يقول الله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ [الشورى:5]. هل استغفار الملائكة هنا للمؤمنين والعاصين وللكافرين سواء؟

    الجواب: للكافرين لا.

    حكم كون الأذان من شخص وإقامة الصلاة من شخص آخر

    السؤال: هل يجوز للإنسان أن يؤذن لصلاة ولا يصليها مع الجماعة الأولى، ويقوم بإقامة الصلاة رجل آخر؟

    الجواب: نعم. ليس بلازم أن من أذن هو الذي يقيم، ولكن عمل أهل العلم جرى على ذلك، فقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (من أذن فهو يقيم)، وهذا حديث ضعيف باتفاق. يقول الإمام الترمذي: ولكن عليه العمل، عمل به الشافعية ومالك وابن حنبل وسفيان والليث .

    فإن قيل: كيف يكون الدليل ضعيفاً وعليه العمل؟ الجواب: يعني: يقول لك: لك أن تفترض أن هذا الدليل لم يأت أصلاً، ولم يرد إلينا حديث بهذا المعنى ولا بهذا اللفظ، لكن ورد إلينا مشروعية الأذان، فإننا سنقول: إن الذي يؤذن هو الذي يقيم.

    ولذلك هذا الحديث من باب الضعيف، ولكن الأمة عملت بمقتضاه، وهذا العمل ليس بواجب في كل الأحايين، بدليل أنه يجوز أن يجتمع عدة مؤذنين في مسجد واحد، كما هو حاصل في مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد القدس الكبير، ومسجد الشام، ومسجد عمرو بن العاص قبل أن يوجد مكبرات للصوت، تجد كل مؤذن في ركن من الأركان أو في ناحية من النواحي، لكن الذي يقيم واحد منهم فقط، ولو أن واحداً من غير المؤذنين أقام الصلاة صح ذلك منه.

    حكم من لم يدرك صلاة الجماعة بسبب النوم

    السؤال: يقول: أخذتني نومة بعد الأذان بخمسة وأربعين دقيقة، فأيقنت أن الناس قد انصرفوا من الصلاة في المسجد فصليت في البيت فهل علي من حرج؟

    الجواب: لا حرج عليك، بل أنت مأجور أجر الجماعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718743

    عدد مرات الحفظ

    766203536