وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة واللتين بعدها ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال فداه أبيه وأمي وصلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
فاللهم حقق لنا هذا الخير الكبير.
وها نحن مع سورة الأعراف المكية، والتي تعالج القواعد والأصول الدينية الحقة، وهي: التوحيد، وتقرير النبوة، والإيمان بالبعث، والجزاء في الدار الآخرة، وحق التشريع لله عز وجل.
فلنستمع إلى هذه الآيات مرتلة، ثم نأخذ في شرحها، وبيان ما تحويه من النور والهدى إن شاء الله تعالى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:26-28].
يَا بَنِي آدَمَ [الأعراف:26] عرفنا من آدم، وأنه كما قال تعالى خلقه من طين، من حمأ مسنون، ثم بعد حين نفخ فيه من روحه عز وجل، وأسجد له ملائكته، وخلق حواء من ضلعه الأعوج، وتم هذا في الملكوت الأعلى في الجنة دار السلام، فوق السماء السابعة، ولا التفات أبداً إلى وسوسة من يقول: خلق الله آدم في الأرض، فكيف يقول: اهبط؟! فإلى أين يهبط من الأرض؟ هل إلى أرض أخرى؟ فأين هي هذه الأرض؟
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26] أولاً: آدم وحواء كساهما الله في الجنة، وأهبطهما وعليهما الثياب الساترة للجسم، ثم علم من شاء من عباده صنع اللباس من أدوات معينة، وبآلات معينة، فلهذا ثق بأن الإنزال كان أولاً حيث أنزل آدم وحواء وعليهما لباس من دار السلام، ثم لما تناسلا وتكاثر أولادهما، علمهم الله عز وجل كيف يصنعون اللباس من الصوف، والوبر، والشعر، والقطن، ومما خلق الله من مواد في هذه الأرض.
فقوله: أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ امتنان منه، والإنزال يكون من علٍ، والله فوق عرشه، وفوق سماواته بائن من خلقه، فأمره وتقديره وهدايته لمن شاء، كل ذلك من عنده، وأسهل ما تتصور أن الصوف يؤخذ من الحيوانات، والحيوانات من خلقها؟ وحياتها متوقفة على الماء، والماء من أنزله؟ والنباتات من القطن وغيره، أليس الماء هو السبب في وجودها؟ فلهذا قل: آمنت بالله، وصدق ما أخبر الله تعالى به في قوله: قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا واللباس: هو ما يلبس، وما يستر الجسم، ويقيه الحر والبرد، ويستر أولاً سوأته وعورته، فكل لباس بين الناس الله هو الذي أنزله.
والريش: هو ريش الطيور، وهو جميل، وحسن اللون، فاللباس إذا كان زائد على ستر العورة يقال له: ريش؛ لجماله وحسنه، وتشبيهاً بريش الطيور الجميلة المختلفة، فما كان لستر العورة ولدفع البرد والحر لباس، وما كان للتجميل والتحسين، ولباس الأعياد والمناسبات، يقال فيه: ريش.
وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] هذه جملة مستأنفة، فهل المراد من لباس التقوى الدروع وأدوات الحرب؛ لأنه يتقى بها العدو؟ هذه الأشياء تدخل في المعنى، ولكن المراد أن من أطاع الله ورسوله حفظه الله، وجمّله، وحسنه، ورفع قدره، وأعلى منزلته، فلهذا لباس التقوى أجمل وأكثر حسناً وبهاء من لباس على جسم صاحبه فاسق، أو فاجر، أو فاحش، أو ضال، أو كافر، فالترغيب في تقوى الله عز وجل، ولباس التقوى خير من لباس القطن والحرير، فقد أكرمنا الله وستر أجسامنا، ولو شاء لتركنا عراة كالبهائم، وامتن علينا بهذه النعمة لنحمده ونشكره، فنقول: الحمد لله، وبالإجماع وفي كل الملل والنحل أن كشف العورة محرم، ولا يصح أبداً إلا ممن فسد عقله، وفسدت فطرته، وانمحى اسمه من ديوان الناس، وأصبح كالبهيمة يمشي عارياً.
وقد هبطت البشرية حتى أصبح هناك نادياً يقال له: نادي العراة يوجد في أوروبا، ولا التفات إلى هذا، لأن الوضع العام وفطرة الناس حتى الذين في الجبال يتيهون يسترون عوراتهم بما شاء الله أن يستره؛ لأن الله أنزل لنا هذا اللباس.
وأما الرياش والريش فهو بحسب قدرة الإنسان وحاجته، ومع هذا لباس التقوى خير.
وفي هذا يقول الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسياً
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصياً
إذاً: اللباس امتن الله به علينا فلنحمده ونشكره، مع العلم بأن الله حرم على ذكورنا لباس الحرير والذهب، وخص هذا بالمؤمنات، أما الرجال فليس لهم أبداً أن يلبسوا الحرير ولا الذهب، وهذا ما عليه إجماع أهل العلم، أما النساء فقد أحل الله لهن الزينة مطلقاً فيلبسن الذهب والحرير، ومع هذا لباس التقوى خير، فإذا كان رجل عليه ثياب فاخرة وهو فاجر أو فاسق، فهل المؤمنون ينظرون إليه نظرة تعجبهم؟ والله ما يريدون أن ينظروا إلى وجهه، وإذا كان العبد تقياً براً صالحاً، ولو كان عليه ما عليه من الثياب يريدون أن يدخلوه في قلوبهم.
هؤلاء الأحياء أولياء الله، وهم المؤمنون المتقون الذين يحبون ما يحب الله، ويكرهون ما يكره، وحسبنا أن يقول ربنا: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26] فالله هو الذي خلق الخير وأخبر به.
ثم قال تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26] ذلك المذكور من آيات الله الدالة على وجوده، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته، حتى يؤمن الناس به، فهذا الخلق وهذا التدبير من آيات الله الدالة على وجوده رباً لا رب غيره، وإلهاً لا إله سواه، وأنه المعبود الحق، وأن غيره من المعبودات معبودات باطلة، فيؤمنون به لعلهم يذكرون، فإذا شاهدوا هذه الآيات وتدبروا فيها، قالوا: آمنا بالله، وإذا قالوا: آمنا بالله، فقد طلبوا طريقه ومعرفته ليحبهم ويحبونه.
وهكذا لو تذكر الكفار والمشركون من العرب والعجم، وتأملوا في الخلق والكون؛ لبحثوا عن الخالق المدبر، فهذه مظاهر حكمة وعلم، فأين صاحبها؟ فيجدون من يرشدهم إلى الله عز وجل، لكن الذي يأكل ويشبع، ولا يفكر ماذا أكل؟ ومن أين أكل؟ ومن الذي أطعمه؟ فهو كالبهيمة لا يفكر.
وإلا لو يجلس المرء تحت شجرة فقط ينظر إلى هذه الشجرة من أنبتها؟ ومن جاء بها؟ ومن نشر ظلها؟ ومن أوجد أوراقها؟ ولماذا هذا؟ ويسأل، يقال له: إنه الله، خالق العالمين، ورب كل شيء، وهكذا يقول تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26] فيؤمنون ويشكرون.
أولاً: إبليس هو الذي أُبلس وأخرج من الجنة قبل آدم، فآدم ما أخرج منها إلا بعد حادثة الأكل من الشجرة، فهذا العدو الذي هو الآن يحاربنا ليلاً ونهاراً، ولا يريد أن نسلم قلوبنا لله عز وجل، لما أُبلس وانقطع عن الخير بسبب آدم، قال: لأفعلن به ما فعل بي، فزين له الأكل من الشجرة، فلما أكل منها مع زوجته انكشفت سوأتهما وزالت الأنوار عنهما، وحينئذ أهبطهما الله إلى الأرض.
فما هم بأهل ليبقوا في الملكوت الأعلى إلا في الحياة الثانية النقية الطاهرة، فها هو تعالى ينادينا، والنداء يجعل المنادى يقبل عليك ويسمع منك، فإذا ألقيت إليه بالخبر وجد مكاناً له، بخلاف إذا لم تناده، فهذا سر نداء الله عز وجل؛ إذ فطرتنا إذا نادانا المنادي أقبلنا عليه، بخلاف إذا لم ينادنا.
يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27] هذه النصيحة من الله، فمن يقوى عليها؟ ومن يأتنا بها؟
يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أي: احذروا أن يصرفكم الشيطان عن الإيمان والتقوى لتصبحوا كفرة وفجرة وفساق، يزغرد ويولول وتصبحوا أولياء له؛ إذ مهمته هي هذه، فما دمت قد شقيت بسببكم، إذاً أحملكم على الشقاوة لتشقوا معي.
يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أي: لا تقبلوا تزيين المعصية التي يزينها لكم، سواء زين لكم ترك واجب، أو زين لكم ارتكاب محرم، فطريقته مع آدم هي نفس طريقته مع الناس، فالجرائم التي ترتكب من زنا، ولواط، وسرقة، وشرب خمر، وقتل، وغيبة، ونميمة، تتم بواسطة الشيطان، فالعاقل هو من إذا وسوس له الشيطان بالمعصية لعنه واستعاذ بالله عز وجل منه، فمهمته ألا يرى مؤمناً على الأرض ولا مؤمنة.
لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أي: لا تقبلوا فتنته، اعرف الحق واعرف الباطل، فإذا جاء يوسوس لك ليحملك على الباطل فاستعذ بالله وانج، وإذا جاء ليصرفك عن الحق فابتعد عنه واتركه واستعذ بالله، واعلم أنه هو الذي وسوس لك هذه الوسوسة، واترك ما زين وحسن، فتكون قد استجبت لأمر الله عز وجل.
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ والأم والأب إذا غلبت تقول: أبوين، ولكن لا تقل: أمي، فالتغليب للذكور دائماً أولى، فالأبوان هم الأم والأب.
إذاً: كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أية جنة هذه؟ فالذين ينقلون عن اليهود وبني إسرائيل يقولون: الجنة في جبل من جبال صنعاء، أو جبال التبت! وهذا كلام باطل وهراء.
فالجنة المعهودة في الذهن وفي القلب، والتي أخبر الله عنها مئات الآلاف من أنبيائه ورسله، وبعد ذلك كله فقد أرتادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما عرج به إلى السماء، والذي يقول: خلاف هذا، فقد كفر، وهو أعمى وأحمق، ولا وجود لإيمانه أبداً.
فالله يقول وقوله الحق: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فعبده هو محمد صلى الله عليه وسلم، لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فالمسجد الحرام في مكة، بعدما أجريت له صلى الله عليه وسلم عملية غسل القلب، وحشوه بالنور والحكمة؛ ليصبح أهلاً لأن ينادي أهل السماء ويتكلم معهم.
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1] ومن المسجد الأقصى إلى الملكوت الأعلى، إلى الجنة دار السلام، ويؤكد لكم هذا قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النجم:13-15] فجبريل عليه السلام قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم في مكة في جياد، ورآه مرة أخرى في الجنة عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:14-18].
فالخرافة والتضليل اليهودي والإسرائيلي، وأن هذه الجنة كانت في الأرض عبارة عن بستان خرافة وضلال.
كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا [الأعراف:27] هل نزعه بيديه؟ ما دام حملهم على المعصية فهو السبب في نزع هذا اللباس، من أجل ماذا فعل هذا؟ لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ما كانا يشعران بالسوءة والفرج أبداً، كان النور يغشيهما، ولم يخطر ببالهما شيئاً اسمه عورة أو غريزة أو كذا، فأراد العدو أن ينزع هذا من قلوبهما، وأن يحملهما على ما هو عليه، فكشف سوأتهما، فأصبح يرتعدان، ويغطيانها بشجر الجنة.
ومن هنا ما زال إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم يحمل النساء على كشف عوراتهن؛ لأجل العهر والزنا، فما زال إبليس يعمل على كشف السوءات، فكلما كشفت النساء سوءاتهن، وخرجن متبرجات عاريات إلا انتشر الزنا، وعمت الفاحشة، وجاء الدمار والهلاك.
فزين لآدم الأكل من الشجرة ليريهما سوآتهما؛ حتى يرغب في الجنس، وحينئذ تقع الفتنة، أما قال تعالى: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:27]؟ فلهذا لا يحل أبداً لمؤمن ولا مؤمنة الرضا بذلك، فلا تخرج المؤمنة كاشفة عن سوأتها وعورتها وجمالها أبداً، ومن فعلت ذلك فهي مدفوعة بدفع إبليس عليه لعائن الله، ومن ساعد على ذلك ورغبها وكتب لها ذلك، فهو أيضاً مدفوع بدفع إبليس عليه لعائن الله.
قال: لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا .
ثم قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] فإبليس الذي يدفعنا إلى الزنا والعهر والباطل نحن لا نراه؛ لأننا لسنا مؤهلين لرؤيته، فهو من عالم ونحن من عالم، مثل الجراثيم والمكروبات التي لا ترى إلا بالمجاهر والمناظير نحن لا نراها، ولكن آثارها موجودة وهي الأمراض.
إذاً الشيطان وأولياؤه من الكفار موجودين، والدليل على وجودهم العهر والكفر والباطل والشر والضلال والخبث، هذه مظاهر أكثر من مرض الأجسام.
إِنَّهُ يَرَاكُمْ أي: إبليس وأولياءه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ، فالآن هو يتمعض أو يتمغص من كلامنا هذا لعنة الله عليه، وهو يرانا ويسمعنا.
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ قبيله: أي جماعته من جنسه مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ .
إِنَّا الله جل جلاله هو الذي يخبر بهذا الخبر.
إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ حسب سنتنا في الخلق أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27] أولاً.
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
وهي ترتعد المسكينة، فما وجدت ما تستر به فرجها، ومع هذا يقولون: الله أمرنا بهذا.
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قبيحة من قول أو عمل قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28].
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً الفاحشة: هي كل قول أو عمل قبيح، وخاصة إذا اشتد قبحه، فالكلمة القبيحة هي فاحشة، وبعد ذلك كله فاحشة الزنا واللواط والبخل أيضاً، فقرنوا البخل مع الزنا، والعياذ بالله.
جماعة عقبة بن أبي معيط وأبي جهل والوليد وغيرهم في كرب من هذه الآيات في مكة.
قوله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26] ] يواري: أي يغطي ويستر، فيوارى الميت بالتراب؛ حتى لا يعرف وتكشف عورته.
يُوَارِي سَوْآتِكُمْ السوءة ما يقبح النظر إليه، فيجب أن يتعلم الناس.
وَرِيشًا المراد بالريش هنا لباس الأعياد والأعراس وأيام التجميل، هذا الرياش.
[ هذا النداء الكريم المقصود منه: تذكير للمشركين من قريش بنعم الله وقدرته عليهم؛ لعلهم يذكرون، فيؤمنون ويسلمون بترك الشرك والمعاصي، من نعمه عليهم أن أنزل عليهم لباساً يوارون به سوآتهم.
وَرِيشًا : لباساً يتجملون به في أعيادهم ومناسباتهم.
ثم أخبر تعالى أن لباس التقوى خير لصاحبه من لباس الثياب؛ لأن المتقي عبد ملتزم بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله يأمران بستر العورات، والمحافظة على الكرامات، ويأمران بالحياء، والعفة، وحسن السمت، ونظافة الجسم والثياب، فأين لباس الثياب مجردة عن التقوى من هذا اللباس؟
وقوله تعالى: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ أي: من دلائل قدرته الموجبة للإيمان به وطاعته.
وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: رجاء أن يذكروا هذه النعم فيشكروا بالإيمان وطاعته.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى، وفي الآية الثانية ناداهم مرة ثانية فقال: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27] يحذرهم من إغواء الشيطان لهم، مذكراً إياهم بما صنع مع أبويهما من إخراجهما من الجنة بعد نزعه لباسهما عنهما فانكشفت سوءاتهما، الأمر الذي سبب إخراجهما من دار السلام، منبهاً لهم على خطورة العدو من حيث أنه يراهم هو وجنوده، وهم لا يرونهم ].
فعليك بالسلاح الحاد، وهو ذكر الله دائماً.
[ ثم أخبر تعالى أنه جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، وذلك حسب سنته في خلقه، فالشياطين يمثلون قمة الشر والخبث، فالذين لا يؤمنون قلوبهم مظلمة؛ لانعدام نور الإيمان فيها، فهي متهيئة لقبول الشياطين، وقبول ما يوسوسون به، ويوحونه من أنواع المفاسد والشرور كالشرك والمعاصي على اختلافها، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين، وكبرهان على هذا الولاء بينهم أن المشركين إذا فعلوا فاحشة خصلة ذميمة قبيحة شديدة القبح ونهوا عنها احتجوا على فعلهم بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأن الله تعالى أمرهم بها، وهي حجة باطلة لما يلي:
أولاً: فعل آبائهم ليس ديناً ولا شرعاً ] حتى يحتج به.
[ ثانياً: حاشى لله تعالى الحكيم العليم أن يأمر بالفواحش، إنما يأمر بالفواحش الذين يأتونها وهم الشياطين وأولياؤهم من الإنس، ولهذا رد الله تعالى عليهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ووبخهم معنفاً إياهم بقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28] ].
[ أولاً: التذكير بنعم الله تعالى المقتضي للشكر على ذلك بالإيمان والتقوى ].
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ [الأعراف:26] ذكرهم بالنعمة؛ ليشكروا فيؤمنوا ويطيعوا ويتقوا.
[ ثانياً: التحذير من الشيطان وفتنته لاسيما وأنه يرى الإنسان والإنسان لا يراه ].
لو كنا نراه كنا سنعرف كيف نتصرف وكيف نهرب، لكن لا نستطيع رؤيته، فلهذا الحذر الحذر، والسلاح الوحيد هو ذكر الله عز وجل.
[ ثالثاً: القلوب الكافرة هي الآثمة، وبذلك تتم الولاية بين الشياطين والكافرين.
رابعاً: قبح الفواحش وحرمتها ].
فكل فاحشة حرام سواء كانت قولاً أو فعلاً.
[ خامساً: بطلان الاحتجاج بفعل الناس؛ إذ لا حجة إلا في الوحي الإلهي ] وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[ سادساً: تنزه الرب تعالى عن الرضا بالفواحش فضلاً عن الأمر بها ].
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر