الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة].
شرع المصنف -رحمه الله- في بيان أحكام الإحداد، والإحداد هو: عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، فهي عدة تختص بالوفاة، وتختص بنوع من النساء، وأصل الحد: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع الغير من الدخول، والإحداد يمنع المرأة من الزينة، ومما ينبغي على المحتدة أن تجتنبه: الطيب، والحلي، ومحاسن الثياب، والخروج من البيت على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- بيانه.
وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه.
منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيباً فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: ((والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) ، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد.
وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه. والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة.
ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه.
ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام.
ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت.
كذلك أيضاً: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عَظَّم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا يُنسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم.
ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزناً دائماً، ولم يجعله منقطعاً مخالفاً للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاماً كاملاً، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ(الصندقة)، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وقد كانت إحداكن تجلس حولاً كاملاً في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضاً لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة.
كذلك أيضاً: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشراً قال بعض العلماء: لو كانت حاملاً يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشراً، وقالوا: (لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوماً، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم.
ثم إن الحداد يكون للنساء ولا يكون للرجال، ولا يكون بين أفراد الرجال، حتى لا تعطل المصالح اليومية، هذا كله مما يحدثه الناس بخلاف شرع الله عز وجل، ولا يمكن أن يعد ذلك من دين الله في شيء؛ لأنه لم يثبت به شرع ولم يثبت به نص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا أصبح أمراً ظاهراً، فإن الواجب تبيين حكمه إعذاراً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا مما أحدثه الناس، ومما لا أصل له في دين الله وشرعه.
والحداد يشرع للمرأة إذا كان قد توفي عنها زوجها، أو توفي قريبها إذا كانت مدة الحداد عليه المدة التي ذكرناها وهي الثلاثة الأيام.
قوله: (يلزم) أولاً يدل على مشروعية الحداد كما ذكرنا.
وثانياً: أن هذه المشروعية على سبيل الوجوب، فالمرأة يجب عليها الحداد، وهذا بإجماع السلف والخلف رحمهم الله، خلافاً للحسن البصري والأوزاعي رحمة الله عليهما، فهذان العالمان الجليلان قالا بعدم وجوب الإحداد، والصحيح ما ذهب إليه أئمة السلف ودواوين العلم، ولكن لعل الإمام البصري والأوزاعي لم يبلغهما ما ورد صريحاً في السنة من الأمر بالحداد، فقد يكونا قد قالا بمشروعيته لظاهر القرآن: (يتربصن) دون أن يفهما منه اللزوم، ولكن السنة أمرت وألزمت بالحداد وأوجبته، فالواجب العمل بهذه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك أيضاً في قوله: (يلزم الحداد) الحداد هو: اجتناب المرأة التي توفي عنها زوجها الطيب وزينة اللباس وما في حكمهما مدة معلومة، وبناء على ذلك فحقيقته الشرعية: اجتناب مخصوص -وهو اجتناب الطيب، ومحاسن الثياب والحلي، والزينة في البدن وفي الملبس- من شخص مخصوص -والمراد به: المرأة التي توفي عنها زوجها، فلا يشمل غيرها كما سيأتي إن شاء الله- مدة مخصوصة. وهي أربعة أشهر وعشرة أيام على ما بينته السنة إلا إذا كانت حاملاً، فالمدة هي إلى وضع الحمل، فلو أنها بعد وفاة زوجها بدقيقة واحدة وضعت حملها خرجت من عدتها؛ وذلك لصريح حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها: (أنها توفي عنها
(مدة العدة) العدة هنا: عدة الوفاة، وهي -كما ذكرنا- أربعة أشهر وعشراً، أو مدة وضع الحمل، لكن هناك من العلماء من يرى الحداد للمطلقة طلاقاً بائناً، ويرى عليها الحداد مدة العدة من طلاقها، والصحيح: أن الحداد يختص بعدة الوفاة فقط، ودليلنا على هذا ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث -وفي لفظ آخر: فوق ثلاثة أيام- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) فقال: (لا يحل) فدل على أن الحداد لا يجوز إلا في عدة الوفاة فقط، فاجتهاد بعض العلماء بأن المطلقة طلاقاً بائناً تقاس على المعتدة عدة الوفاة ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تفعل هذا الفعل إلا في عدة الوفاة، فدل على اختصاص الفعل بعدة الوفاة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضاً (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها.
إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل.
كذلك أيضاً من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثاً) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي. الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق.
ثانياً: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل ، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة.
من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟
وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام.
كذلك أيضاً في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة.
إذاً: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر).
وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:234] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب.
وهناك جواب من وجه ثانٍ: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزاً ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضاً عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلهاً، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكماً خاصاً، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سبباً في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سبباً في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح.
فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع.
(في نكاح صحيح) فلا يلزم الحداد إلا إذا وجد النكاح الصحيح، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوجها) والوصف بالزوجية مقترن بالوصف الشرعي، فكل من وصف شرعاً بأنه زوج وتوفي شرع الحداد عليه، والزوج الذي يوصف بكونه زوجاً شرعياً لا يمكن أن يوصف بذلك إلا بعقد صحيح، وهو العقد الذي توفرت فيه شروط صحته مما تقدم معنا في كتاب النكاح:
أن لا يكون هناك مانع يمنع من نكاح المرأة، وأن يكون هذا العقد بولي، وشاهدين، ومهر، وإيجاب وقبول صادرين من المعتبر، إذا ثبت هذا؛ فإنه حينئذٍ إذا وقع العقد صحيحاً وبعد العقد ولو بلحظة توفي عنها زوجها لزمها الحداد؛ لأن الله يقول: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، وهي زوجة بمجرد صحة العقد.
وأما إذا كان النكاح فاسداً أو كان وطء زناً -والعياذ بالله- فهذا لا حداد فيه؛ لأن النكاح الفاسد لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء، وكذلك إذا كان وطء شبهة فإنه لا يلزم فيه الحداد.
ولو أنه نكح نكاح متعة فإن نكاح المتعة نكاح فاسد، وإذا توفي عنها بعد هذه المتعة لا نقول بوجوب الحداد عليها؛ لأنه نكاح فاسد.
(أو أمة أو غير مكلفة) يشمل المجنونة، فإن المجنونة لا يلزمها الحداد، وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنها لا تخاطب ولا تلزم بالحداد؛ لأن التكليف لا يناط بها، قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة.. وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ويشمل هذا الرجال والنساء، فإذا كانت مجنونة فإنها لا تلزم بالحداد.
أي: ويجوز أن يكون الحداد من امرأة طلقها زوجها طلاقاً بائناً، وهي الطلقة الثالثة والأخيرة له، في هذه الحالة إذا طلقها تمتنع من الطيب، وتمتنع من الخروج من البيت، ويلزمونها بالحداد كما تحتد من الوفاة، هذا عند من يقول بوجوبه، وأما المصنف فقال: (يباح) أي: أنه لا يجب عليها، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور، ولكن لو أنها امتنعت من هذه الأشياء قال المصنف: (يباح) وقال بعض العلماء: لا يباح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل)، وهذا نص واضح، (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) وهذا هو الصحيح، فإن السنة حجة في هذا الأمر على أن الحداد خاص بمن سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يزاد على ذلك ولا ينقص منه، فالقياس هنا يقدح فيه بقادح، وهو قادح فساد الاعتبار، وفساد الاعتبار: أن يكون القياس في مقابل النص من القرآن أو السنة، أو في مقابل الإجماع، فالنص قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر) فإذا طلقت المرأة وكان طلاقها بائناً فإنها تدخل تحت هذا العموم؛ لأنها لا يحل لها أن تحد على غير زوجها.
يعني: لو أنه طلقها طلاقاً رجعياً فإنها لا تمتنع من الزينة ومن اللباس والطيب، والواقع أن الرجعية في الأصل الأفضل والأكمل لها أن تتجمل وتتزين لزوجها؛ لأن هذا يدعو إلى الرجوع والعدول عن فراقه لها، والله تعالى أمرها أن تعتد في بيت الزوجية؛ لأن هذا يعين على رجوع زوجها لها، فالمطلقة الرجعية الشرع يقصد رجوع زوجها إليها، ويحبب في ذلك ويرغب فيه؛ كما قال تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]، فجعله من اليسر والسماحة.
فلو قلنا للمطلقة الرجعية: لا تلبس الثياب الجميلة، ولا تتطيب، وتفعل ما تفعله المحتدة ازداد زوجها نفرة منها، وحينئذٍ يقع خلاف مقصود الشرع، ولذلك حكي الإجماع على أن المطلقة طلاقاً رجعياً لا يلزمها حداد؛ لأن ذلك مخالف لمقصود الشرع، ومخالف للسنة من قصد رجوع الزوج إلى زوجته وتحبيبها إليه.
(وموطوءة بشبهة) كرجل وطئ امرأة بشبهة، ثم توفي عنها، فإنه لا يلزمها أن تحد عليه؛ لما قدمنا من أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم خصا الحداد بالمرأة التي توفي عنها زوجها، والموطوءة بشبهة أو بنكاح فاسد كلتاهما لا ينطبق عليهما هذا الوصف الشرعي من كونهما زوجة على الوجه المعتبر شرعاً.
قال رحمه الله: [أو زناً].
وهكذا لو كان زناً -والعياذ بالله- فالمرأة المزني بها لو توفي عنها الزاني فإنها لا تحد عليه.
قال رحمه الله: [أو في نكاح فاسد أو باطل].
كنكاح المتعة، وهكذا لو حكم ببطلانه، وكان بطلانه محل خلاف، كمن يبطل النكاح بدون ولي، وبدون شاهدين، فإن كان فيه تأويل فقد قدمنا هذه المسألة وبينا ما يترتب عليه من آثار، وأما إذا لم يكن فيه تأويل فالذي عليه العمل أنه يفتي بما ظهر له، فيحكم ببطلانه على الظاهر؛ لأنه يعتقد هذا ويلزم به.
وهكذا لو أنه تسرى بجارية من جواريه فوطئها ثم توفي عنها، فلا نقول لإمائه: يلزمكن الحداد؛ لأن الحداد مختص بالزوجات، والإماء لسن بأزواج، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:5-6]، فجعل ملك اليمين غير الزوجة، فدل على أن ملك اليمين لا ينطبق عليها الحداد، وإنما ينطبق على الزوجة، وقد قال: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234] فخص الحداد بالزوجات، وملك اليمين ليس بزوجة، ولذلك لا يتعلق الحداد بالإماء.
(اجتناب) يعني: ترك، (يدعو) يعني: يغري، وفي هذه الجملة قصد المصنف -رحمه الله- أن يبين حقيقة الحداد، وذلك بعد أن بين من هي المرأة التي يلزمها الحداد، وشرع في بيان كيفية الحداد، وهذا من التسلسل والترتيب المنطقي، أنك تبدأ أول شيء بالشخص الذي يتعلق به الحكم، وبعض العلماء في بعض المسائل يبدأ بحقيقة الأمر، ثم يبين بمن يتعلق الأمر، وكلاهما مسلك صحيح، لكن هذا يختلف بحسب اختلاف الأبواب والمسائل.
وأما بالنسبة لقوله رحمه الله: (والإحداد) فحقيقة الحداد: أن تجتنب كل ما يدعو ويغري الرجل بالمرأة، ويشمل هذا: زينتها في جسدها، كالطيب ووضع الحناء، ودهن الشعر بالأدهان المطيبة، والاكتحال، وهكذا لو وضعت الحناء في بعض الأعضاء دون بعضها، وهذا حكم عام سواء كان لبعض الأعضاء أو لكل الأعضاء من التجمل العام كالشامبو الموجود في زماننا ونحوه مما يمكن أن تغتسل به ويكون طيباً للبدن، أو كان لبعض البدن، فالحكم في هذا كله أنه يجب اجتنابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المرأة المحتدة أن تتقي الطيب والحلي، والثياب الجميلة من المعصفر والمزعفر، وكذلك أيضاً: تتقي الخروج من المنزل، فهذان الأمران أحدهما: يتعلق بالمرأة وشارتها وهيئتها، والثاني: يتعلق بالمسكن ولزومه، فبين -رحمه الله- أن الأصل يقتضي أن المرأة تلزم بترك كل ما يرغب في نكاحها.
وهذا الذي يدعو ويرغب في نكاحها يعبر عنه بالزينة، والزينة: هي الجمال والحسن، وما يتزين به هو الشيء الذي يزيد من جمال الإنسان وحسنه وبهائه، وهذا الشيء ربطه بعض العلماء بقاعدة وهي: (الرجوع إلى العرف) فكل ما عده العرف زينة يغري بالمرأة ويحبب فيها فإنه يدخل في هذا الأصل ويمنع، يعني: ننظر في كل بيئة وفي كل مكان وعرف ماذا يعدون الزينة، فإذا كان هذا الذي تضعه وهذا الذي تلبسه، وهذا الذي تريد أن تتجمل به يعد في العرف زينة فإنه يحكم بعدم جواز تعاطيها له، سواء تعلق باللباس أو تعلق بالجسد، فالكل في حكم واحد، وينبغي اجتنابه.
قال رحمه الله: (والإحداد: اجتناب ما يدعو إلى جماعها).
(ما يدعو إلى جماعها) يعني: يرغب في المرأة؛ لأن المحاسن والتجمل والتحسن والزينة تدعو إلى جماع المرأة وترغب في المرأة، وهذا يشمل -مثلاً- زينتها في عينيها كالكحل، وزينتها في وجهها كتحمير الخدين كما ذكره العلماء رحمهم الله، وتصفير الوجه في بعض الأحيان، وكذلك زينتها في شعرها مثل وضع الطيب في الشعر، أو ما وجد الآن من الصابون المطيب في الشعر وفي الجسد، وكذلك أيضاً ما يدعو إلى جماعها ويرغب فيها مثل الحناء، أن تحني يديها ورجليها، فهذا يغري بالمرأة، وهو جمال متعلق بعضو خاص، وكذلك ما كان زينة لبعض الأعضاء كالخاتم للأصابع، والقلادة للصدر والأقراط والفتخات، ونحو ذلك مما يكون من الخلخال في القدمين، كل هذا تتقيه المرأة؛ لأنه يرغب فيها ويتشوف الرجال إليها إذا كانت متجملة. قال تعالى:أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فجعل الحلية تزيد من زينة المرأة وجمالها.
قوله رحمه الله: (ويرغب في النظر إليها).
كما ذكرنا، سواء كان ذلك في وجهها أو بدنها أو ثيابها، فالثياب الجميلة مثل الثياب الصفراء واللامعة البراقة، والبيضاء البراقة الجميلة، أو ذات الخطوط المزركشة والمنقوشة بالنقش الذي يغري ويحبب ويجذب الأنظار، هذا النوع كله تتقيه المرأة وتجتنبه.
كذلك الثياب المطيبة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن المعصفر، وكذلك أيضاً ما هو موجود في زماننا من وضع بعض الأصباغ التي فيها طيب على الثياب فتتقيها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المعصفر والمزعفر، والمعصفر من الثياب هي التي توضع في العصفر، وهو نبت في اليمن طيب الرائحة إذا وضع في الثوب كان جمالاً وزينة وطيباً له، فإذا غسل به بدت رائحته زكية، وهو نوع من أنواع الأطياب، ونوع من أنواع الزينة في الثوب، فهو يجمع بين طيب اللون وطيب الرائحة.
على شرط أن يكون زينة، أما إذا كان لا يتزين به ولا يزيد في الزينة فلا يؤثر.
والطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتطيب المحتدة، قال: (ولا تمس طيباً إلا نبذة من قسط أو أظفار عند طهرها) كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها، فقوله: (ولا تتطيب) نهي، والنهي يدل على التحريم، وهذه العبارة استخدمت في الحج، قال: (ولا تمسوه بطيب) فدل على أنه محذور على المرأة المحتدة أن تمس الطيب، والطيب سمي طيباً لطيب رائحته، وقيل: لأن النفوس تطيب لشمه، وتجد الإنسان يستزيد من شمه، والطيب يشمل جميع أنواع الطيب، سواء كانت من الأدهان أو كانت من المشمومات كالبخور ونحوها، وقد أخذت أم حبيبة الطيب بعد ثالث يوم من حدادها على أبيها، وبينت وقالت: (والله ما لي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحل).. فدل على أن الأصل أنها تمس الطيب، ولا يجوز للمرأة المحتدة أن تمس الطيب، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
إذا قيل: إن الأصل أنها لا تمس الطيب فهذا يشمل أن تتعاطى الأسباب لشم الطيب كأن تشم الطيب في غيرها فتتشوف لشمه، ولذلك قال بعض العلماء: يمنع عليها أن تشم من الغير لأنها ممنوعة من شم الطيب، والصحيح أن المحظور عليها الوضع، وأما الشم فقال بعض العلماء: لا بأس به إذا شمته من الغير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ولا تمس طيباً) فجعل الحكم متعلقاً بالتطيب لا بشم الطيب، وبناء على ذلك قالوا: إنه يجوز، وبعض العلماء يقول -وهو الصحيح- إنه يجوز لها أن تشم الطيب.
لكن أجيب عن هذا بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تمسوه بطيب) أجمع العلماء على أن المحرم لا يجوز له أن يشم ولا أن يضع، ولذلك قالوا: إن الأصل أن تتقي المرأة اشتمامه، فلا تتطيب بشمه اتفاقاً، ولا تضعه في بدنها.
كذلك أيضاً: الأدهان مثل الزيوت أو ما يعرف في زماننا بالشامبو الذي يوضع في الرأس في الشعر، فإذا كان فيه طيب فإنها لا تضعه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمس طيباً) فإذا وضعت هذا النوع من الطيب في شعرها فقد مست الطيب.
وكذلك أيضاً بالنسبة للضرورة، قال بعض العلماء: حتى ولو اضطرت لكسب معيشتها، كأن تكون تبيع الطيب، قالوا: إنها تتقي بيعه والتعامل به حال حدادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها، وبيعه من الأسباب التي تؤدي إلى المس؛ لأنها إذا باعت لابد وأن تكون في محلها تتعاطى هذا الطيب.
والتحسين: التجميل، والشيء الحسن هو الجميل. أي: لا تحسن شارتها وهيئتها ولا تتجمل في بدنها وثيابها، فلا تلبس الثياب الجميلة، ولا تلبس الثياب المزركشة التي عليها النقوش، والتي تعد زينة للابسها، ولا تتزين في نفسها بوضع الحناء كما ذكرنا، أو بوضع ما يصفر الوجه أو يحمره ونحو ذلك من الأصباغ، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن وضع الكحل في عين المحتدة منع عليه الصلاة والسلام من ذلك، ومنع أم سلمة رضي الله عنها من ذلك، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن تحسن نفسها، ولا أن تحسن أعضاءها، ولا تتجمل.
كذلك الحناء وهي معروفة، فلا يجوز للمرأة المحتدة أن تضع الحناء؛ لأنه نوع من الزينة ونوع من الجمال سواء وضعته في بعض الأعضاء أو في أكثر الأعضاء.
الأصباغ التي توضع في البدن للزينة لا يجوز للمرأة المحتدة أن تضعها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها عن جميل الثياب، ونهاها عن الطيب، ونهاها عن الحلي لمعنى يفهم من مجموع هذا وهو ألا تتجمل، وألا تفعل ما يدعو إلى نكاحها ويرغب فيها.
وهذا نص حديثه عليه الصلاة والسلام: (ولا الحلي..) فنهى عليه الصلاة والسلام عن لبس الحلي، وجمهور العلماء على أنها لا تلبس الحلي لا في رأسها -كأن تضع على رأسها ما يمسك الشعر من الذهب أو الفضة أو نحوهما- ولا تضع في أذنيها الأقراط، ولا تضع في رقبتها القلائد، ولا تضع في أيديها الأسورة والخواتيم، ولا الدمالج، والدملج يوضع في أسافل القدمين، فهذه كلها يحظر على المرأة المحتدة أن تتجمل بها، إلا أن بعض العلماء اجتهد وقال: يجوز لها أن تلبس الخواتم إذا كانت من الفضة، واختاره بعض العلماء، واختلفوا في هذا الاستثناء، قالوا: لأن الفضة في الغالب زينة الرجال، وليست من زينة النساء، فهي إذا وضعت الفضة ليست بالمتجملة، ولكن هذا ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص فقال: (ولا الحلي) فهذا نص يدل على أنه لا يجوز لها أن تلبس الحلي، والفضة من الحلي، ولذلك لا يجوز لها أن تلبس كل ما يصدق عليه أنه حلي سواء كان ذهباً أو فضة أو ألماساً أو جواهر أخر، كل ذلك تتقيه المرأة وتجتنبه.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها- ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه منع أن تكتحل المرأة المحتدة، وقد اشتكت إليه أنها تشتكي عينها.
قال العلماء: إن وضع الكحل يزيد من جمال العين، وهو زينة من الزينات، لكن رخص في وضعه في الليل ومسحه في النهار عند وجود الضرر، وقيل: هذا خاص بالصبغ فإنها تضمد به في الليل دون النهار.
قال رحمه الله: [لا توتيا]
هذا نوع من أنواع الزينة، على كل حال: لكل زمان ما يعرف في بيئته وزمانه أنه زينة.
قال رحمه الله: [ولا نقاب].
فلا تضع النقاب؛ لأنه يزيد من جمال المرأة وزينتها.
قال رحمه الله: [وأبيض ولو كان حسناً].
ما كان من الثياب البيضاء والصفراء، والألوان الباهتة البراقة الجميلة منعت منها المرأة؛ لما فيها من زيادة البهاء والجمال، (لا توتيا.... ولا نقاب...)، استثناء، وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، ولا نقاب أي: لا يحظر عليها لبس النقاب، ولا يحظر عليها لبس الأبيض.
وقال بعض العلماء: تتقي الأبيض والثياب الباهتة الصفراء الجميلة، والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة المحتدة أن تلبس المعصفر، وقالوا: إن هذا أصل في المنع من الثياب البراقة والجميلة، والأصل عند العلماء أن الثياب الجميلة والبراقة تمنع منها، وكذلك المنقوشة نقشاً يلفت النظر ويزيد من زينتها وحسنها تمنع منها ولا يجوز لها أن تلبسها في الحداد، لكن الأبيض خفف فيه بعض العلماء كما أشار المصنف رحمه الله، وبعض العلماء قال: تتقي الأبيض؛ لأنه يزيد من الجمال وهو من خير الثياب.
لكن من حيث الأصل العام فالثياب البراقة والبيضاء الجميلة لا شك أنها تلفت النظر، مثل الحرير، أي أنها تكون بيضاء لكن فيها نوع من الزينة، أما أن تكون بيضاء خالصة فاختار المصنف -رحمه الله- الجواز.
وبعض العلماء منع من الثياب البراقة كالصفراء والبيضاء الجميلة التي تكون خامتها ملساء جميلة تلفت النظر فلا تلبسه المرأة المحتدة لما فيه من الزينة والجمال.
وتجب عدة الوفاة على المرأة المحتدة في المنزل، ولذلك قال تعالى: مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240] فأمر المعتدة في عدة الوفاة ألا تخرج من بيت الزوجية، وقد نسخت هذه الآية بالنسبة للمدة ولم تنسخ بالنسبة لحكم عدم الخروج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـفريعة بنت مالك بن سنان رضي الله عنها لما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فأمرها بلزوم البيت، وأنها لا تخرج، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تخرج من حاجة، وإلا فإنه لا يجوز لها الخروج في حال الحداد.
(فإن تحولت) يعني: انتقلت من بيت الزوجية (خوفاً) مثل أن تكون مع زوجها في صحراء، ويخشى أن يأتيها من يؤذيها في عرضها، أو يأتيها السبع، فحينئذٍ يجوز لها أن تتحول، واختلف العلماء: هل إذا تحولت تنظر إلى أقرب مكان بالنسبة لبيت الزوجية، أم أنها إذا تحولت حل لها أي مكان؟
وجهان للعلماء:
وفائدة هذا الخلاف: أننا إذا قلنا: تنظر أقرب مكان لو أن امرأة في ضاحية من ضواحي مكة، وخافت من البيت -مثلاً- فهي ضعيفة وفي مكان منفرد ليس فيه أحد، وكان معها زوجها يقوم عليها، ثم لما توفي عنها زوجها خافت، وخشي عليها ففي هذه الحالة إذا قلنا: تنتقل إلى أقرب مكان فإنها تنتقل إلى مكة، ويلزمها أن تحد في مكة على القول بأنها تنتقل إلى أقرب مكان؛ لأنه إذا تركت هذا المكان فينظر إلى أقرب مكان يمكن أن تحتد فيه.
ومنهم من قال: تخير، فيجوز لها أن تنتقل إلى أي مكان، وهذه المسألة لها نظائر:
منها: إذا قلنا: إن الزكاة تختص بالموضع الذي فيه المال، فهل إذا لم يجد فقيراً في المكان الذي فيه المال هل ينتقل إلى أقرب مكان إليه أم أنه يخير في جميع الأمكنة؟ هذه المسألة لها قاعدة عند العلماء رحمهم الله، والذي اختاره بعض العلماء أنه إذا قويت الشبهة من أن مقصود الشرع القرب نظر إلى الأقرب، وأما إذا كان الأمر على الإطلاق فإنه إذا تخلف المقيد حل للمكلف أن ينتقل إلى الكل على حد سواء، وبناء على هذا فإنه يقوى هنا أن يقال: إنها تنتقل إلى أي مكان سواء كان قريباً من بيت الزوجية أو بعيداً، مثلاً: لو كان عندها قريب قريب من الموضع الذي توفي فيه زوجها، وقريب في موضع آخر بعيد، فإنه يجوز أن تنتقل إلى البعيد، ويجوز لها أن تنتقل إلى القريب على حد سواء، ولا تلزم بواحد منهم.
(أو قهراً).
أن تقهر بالقوة والكره، يقال لها: لا تجلسي في هذا البيت، ويقع بعض الأحيان -نسأل السلامة والعافية- كأن يكون هناك شحناء، وتكون امرأة تزوجها رجل وهي ليست بقريبة، وجاءت إلى أقرباء الزوج فغاروا منها -وهذا الكلام يقع مع اختلاف البيئات والأعراف والتقاليد- فإذا توفي الزوج الذي كان يحفظها تسلط عليها أهل زوجها فقهروها وأجبروها بالقوة أن تخرج من بيت الزوجية، وقالوا: نريد أن نبيع البيت، ونريد أن نتصرف في البيت ويخرجونها.
فإذا غلبت بقوة وقهر وأكرهت على الخروج، فإن الإكراه يسقط التكليف؛ لأن الله تعالى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فأسقط الله بالإكراه الردة وهي أعظم شيء، فمن باب أولى أن يسقط ما دونه مثل الحداد.
(أو بحق).
مثل أن تحتد في بيت ليس لزوجها، وإنما قال له شخص: هذا البيت اسكنه ما دمت حياً، فجاء وسكن في البيت، وسكنت معه زوجته ثم توفي، فالزوجة في البيت، والرجل يريد بيته، والبيت ليس ببيت الزوج، فحينئذٍ تخرج من البيت بحق؛ لأن البيت بيته له الحق أن يخرجها، وله الحق أن يبقيها، فإن أبقاها ففضل وكرم، وإن أخرجها فماله وحقه، وما على المحسنين من سبيل.
وهكذا لو انتهت الأجرة، كما لو كان مستأجراً فمكثت شهراً، ثم انتهت الإجارة، فقال صاحب البيت: اخرجي؛ فإنها تخرج.
(انتقلت حيث شاءت).
أي: أنها لا تنظر إلى أقرب مكان للبيت الذي جاءها فيها النعي.
ولها أن تخرج لرزقها وحاجتها نهاراً، مثل أن تكون عندها عمل أو وظيفة، أو تحتاج إلى كسب المعيشة لها ولأولادها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تخرج تترزق وتنفع أولادها، فإذا احتاجت لذلك فإنها تخرج، ولا بأس بذلك في النهار، ثم في الليل تأوي إلى بيت الزوجية وتحتد فيه.
وإن تركت الإحداد أثمت؛ لأن الله أمرها أن تحتد، فإذا لم تمتثل ما أمرت به أثمت إذا كانت عالمة، وإذا كانت جاهلة لم تأثم، وكذلك لو كانت غير عالمة بوفاة الزوج، كأن يتوفى عنها زوجها وتمكث أربعة أشهر بعد الوفاة ولم يأتها خبر، ثم يأتيها الخبر بعد سنة فلا شيء عليها، لكن إذا قصدت وعلمت فإنها آثمة، ولا يلزمها أن تقضي فلو أنها -مثلاً- تطيبت أثناء الحداد ولبست جميل الثياب فهي آثمة، ومن عصى الله ورسوله فإنه يخشى عليه، فإن المعاصي بريد إلى ما هو أعظم، ولربما استدرج صاحبها إلى الكفر والعياذ بالله.
سواء علمت أو لم تعلم، فإذا مضى الزمان عليها فإنها لا تلزم بقضاء ما فرطت فيه وامتنعت فيه من الأيام التي خلت.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر