إسلام ويب

إن من طبيعة الإسلام السماحة واليسر، وهذه الحقيقة تتجلى بوضوح في جميع أحكامه وشرائعه، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن كيفية إثبات هلال رمضان وبعض المسائل المتعلقة به، مبيناً خلال هذا كيف أن الإسلام يسر هذا الأمر بحيث يشترك فيه جميع الشعوب الإسلامية في أنحاء المعمورة.

ثبوت الصيام برؤية هلال رمضان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

كان آخر حديث مر بنا في الأمس القريب حديث ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا ...) إلى آخر الحديث.

هذا الحديث صريح الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربط الأمر في الدخول في شهر رمضان وصيامه برؤية هلاله، فيقول: (إذا رأيتموه فصوموا) ولا شك أن هذه الرؤية هي الرؤية البصرية وليست الرؤية العلمية، ولا يحتاج هذا إلى تدليل؛ لا سيما وقد قال في آخر الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له) وفي رواية أخرى: (فأتموا شعبان ثلاثين) فإن غم، أي: كان هناك في السماء غيم أو سحاب أو ضباب أو قتار، أو نحو ذلك من الموانع الطبيعية الكونية التي تمنع الناس عادة من رؤية الهلال بأبصارهم، إذا كان الأمر كذلك فالواجب عليهم أن يتموا شعبان ثلاثين يوماً، سواءً أفطروه أو صاموه.

مسألة: إثبات رؤية هلال رمضان بالرؤية الحسابية

وهنا يثار عادة بمثل هذه المناسبة المسألة التي كثر الخلاف فيها قديماً وحديثاً، ألا وهي: هل يجوز إثبات هلال رمضان إما بالرؤية البصرية مع الاستعانة بالآلات المكبرة، أو بالرؤية الحسابية؟ هذا خلاف معروف منذ القديم، ولكن اشتد الخلاف في العصر الحاضر بسبب وجود الآلات المقربة والمكبرة، والتي تساعد على رؤية الهلال بالعين العادية ليس بعلم الحساب كالتقويم.

والذي نراه أنه يجب على المسلمين أن يظلوا عند ظاهر هذا الحديث، وهو الذي يقتضي إثبات الهلال بالرؤية العادية بدون الاستعانة بالآلات المكبرة، أو بدون الاستعانة بالعمليات الحسابية، والسبب في هذا يعود إلى أمور:

أولاً: ظاهر هذا الحديث، حيث يقول عليه السلام: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا).

ثانياً: لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أكد هذا الظاهر من هذا الحديث بقوله في حديث آخر، ألا وهو قوله عليه السلام: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) فحكم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث على الأمة الإسلامية، بالأمية تبعاً لنبيها الأمي: النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ [الأعراف:157]، فألحق الرسول عليه الصلاة والسلام الأمة الإسلامية ولو كانت في واقعها في كثير من عصورها ليست أمية، ولكن الرسول عليه السلام ألحق الأمة بنبيها من حيث أنه وصفها بأنها أمة أمية لا تكتب ولا تحسب.

لذلك فنحن يجب أن نلتزم هذا الوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته، من هذه الحيثية وهي: من حيث أنه ينبغي الاقتصار بإثبات الهلال على الرؤية البصرية العادية والابتعاد عن العلوم الحسابية؛ هذا هو الأمر الثاني الذي يوجب علينا أن نتمسك في إثبات الهلال بالرؤية العينية البصرية العادية.

ثالثاً: هو أن الإسلام من طابعه -أيضاً- أنه سمح سهل ميسر مذلل للناس، بينما إذا تركنا هذا الأمر الميسر لكل الناس: (إذا رأيتموه فصوموا) وأردنا أن نلتزم وسيلة من الوسائل التي هي خاصةٌ ببعض الناس، الذين عندهم من الوسائل العلمية التي قد لا تتيسر لكل طائفة أو لكل شعب أو لكل أمة؛ صار الإسلام كأنه ليس ديناً عاماً ميسراً لكل الشعوب مهما كانت ثقافاتها ومدنيتها مختلفة بعضها عن بعض، فلا شك أن هذا الخطاب: (إذا رأيتموه فصوموا) يتوجه إلى كل شعب من الشعوب المسلمة، على ما بين الشعوب من تفاوت في الحضارة والمدنية والثقافة، بينما إذا التزمنا إثبات الهلال بالرؤية المجهرية -مثلاً- بالآلة المكبرة؛ انحصر الإثبات بالدولة التي تمتلك هذه الوسيلة الحديثة، كذلك إذا أردنا أن نثبت الدخول في الصيام بالعمليات الحسابية؛ انحصر أيضاً طريق هذا الإثبات بمن يعلمون علم الحساب الدقيق، وهذا ينافي شمول الإسلام ويسره لجميع الشعوب وفي جميع الأزمان والأماكن.

ولا يقال هنا بأن الرؤية المجهرية والعمليات الحسابية دقيقة جداً؛ بحيث أنه لا يبقى هناك مجال للتردد أو للتشكك؛ فإننا نقول: إن الإسلام من يسره أنه قال: إذا رأيتموه -هذه الرؤية الطبيعية التي لا تحتاج إلى تكلف- فصوموا، وسيأتي قريباً -إن شاء الله- أن هذه الرؤية تثبت بشهادة رجل مسلم عدل، وليس بحاجة إلى استحضار شهود كثيرين، وهذا من تمام التيسير لإثبات الهلال، ومع ذلك فهو يقول في آخره: (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين يوماً) انتهت المشكلة، فما تحتاج القضية إلى كثير من الجدل والمناقشة، ما دام أن الإسلام أقام إثبات هلال رمضان ككل أهلة الشهور الباقية على هذه الرؤية الميسرة لكل إنسان عادي طبيعي، وبمجرد أن يشهد شاهد مسلم على أنه رأى الهلال -كما سيأتي وكما ذكرنا- ثبت الهلال، فإن كان هناك في السماء حائل قد حال بين الرؤية وبالتالي بينه وبين الصيام؛ أتموا الشهر السابق الذي هو شهر شعبان ثلاثين يوماً، فيصبحون في اليوم الذي بعده صائمين قطعاً، فالفرق يبقى بين أن يكون شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً أو يكون ثلاثين يوماً.

حتى لو فرضنا أن الواقع الآتي: كان هناك في السحاب غمام، -غمام شفاف- بحيث أنه يحول بين الرائي بالعين المجردة وبين رؤية هذا الهلال، لكن إذا سلط الآلة المكبرة -المجهر- أزال ذلك السحاب الشفاف فرأى الهلال من ورائه، فحينما اعتمدنا على العين المجردة ماذا أصابنا من الناحية الشرعية؟ لا شيء: (.. فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) ما نكون قد خسرنا شيئاً من الناحية الشرعية؛ لأن الشرع لا يحاسب ولا يدقق مع المسلمين، بحيث أنه لو ثبت فيما بعد بطريقة ما أن الهلال كان ظاهراً لكنه لم يُرَ بسبب ذلك السحاب، ماذا يضرنا؟ قد قال: (فإن غم عليكم فأتموا الشهر ثلاثين) إذا ما أصبحنا في هذا اليوم صائمين، وقد رئي -مثلاً- الهلال بالآلة المكبرة لكنه لم ير بالعين المجردة؛ لم يضرنا ذلك شيئاً إطلاقاً؛ لأننا ما بين أن نراه بأعيننا العادية فنصوم أو لا نراه فنتم الشهر ثلاثين يوماً، وقد فعلنا أحد الأمرين حينما حاولنا أن نراه بالعين المجردة.

لذلك فأنا في اعتقادي: بأنه لا ضرورة ملحة لجعل المسلمين في العالم الإسلامي اليوم يستعيضون عن النظرة العادية بالنظرة العلمية؛ سواءً كانت بالآلة المكبرة أو كانت بالعملية الحسابية، ونحن نعتقد أن الإسلام لا يزال ينتشر في الأرض انتشاراً بالغاً، وفي الوقت نفسه نعتقد أن الأماكن التي ينتشر فيها الإسلام لا يوجد فيها شيء من هذه الآلات ومن هذه الوسائل العلمية، وسيظل هذا الحكم سائراً: (إذا رأيتموه) سائراً إلى الأبد ما وجد الإسلام على وجه الأرض، وحينئذٍ فالأولى بالمسلمين أن يوحدوا الوسيلة التي بها يثبتون هلال شعبان أو هلال رمضان ولا يختلفوا في هذه الوسائل ما دام أن الشارع وحد الوسيلة بمثل هذا الحديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) .

هذا ما كان بقي عليّ من الكلام حول هذا الحديث.

كيفية إثبات هلال رمضان

الآن حديثنا هو الحديث الخامس، وفيه بيان كيف يثبت هلال رمضان، هل يحتاج الأمر إلى عديد من الشهود، أم يكتفى على ذلك بشاهد واحد عدل؟

حديث عبد الله بن عمر في إثبات رؤية الهلال

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، وهذا الحديث في الواقع من الأحاديث الصحيحة، وقد صححه من ذكر المصنف وهم الحاكم وابن حبان، ولكن لعل الأولى كان من الناحية الحديثية والاصطلاحية تقديم ابن حبان في الذكر على الحاكم؛ لأنه قال: رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان، فلو عكس وقال: رواه أبو داود، وصححه ابن حبان والحاكم لكان أقرب إلى الاصطلاح الحديثي من ناحيتين اثنتين:

الناحية الأولى: أن ابن حبان أعلى طبقة، أي أقدم من الحاكم من حيث العصر.

والناحية الأخرى: أن تصحيح ابن حبان على ما فيه من تساهل -ذكرناه في الدرس السابق- ومع ذلك فلا يزال تصحيحه أنظف من تصحيح الحاكم ؛ لأن الحاكم يقال في تصحيحه ما قلناه بالأمس في تصحيح ابن حبان وزيادة في آخر: وهو أن الحاكم لا يصحح الأحاديث التي في أسانيدها من لا يعرف فقط، بل إنه يتعدى ذلك إلى أنه يصحح بعض الأحاديث وفي أسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع في الحديث على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مما لا يقع فيه ابن حبان، ولذلك من المقطوع به عند أهل العلم بالحديث أن الحاكم أشد تساهلاً في التصحيح من ابن حبان، وأن صحيح ابن حبان أنظف من صحيح مستدرك الحاكم ..

أولاً: لما ذكرنا من علو ابن حبان في الطبقة.

ثانياً: لأن تساهله في التصحيح أقل من تساهل الحاكم.

فقد كان الأولى أن يقدم ابن حبان في الذكر على الحاكم فيقول: رواه أبو داود؛ وصححه ابن حبان والحاكم.

وهذا الحديث في الواقع إسناده صحيح، وفيه -كما هو واضح- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثبت هلال رمضان برؤية رجل واحد ألا وهو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكان في هذا الحديث دلالة إلى المذهب الذي يقتصر في إثبات هلال رمضان على شاهد واحد، والمسألة خلافية بين الفقهاء .. فمنهم من يقول بما دل عليه هذا الحديث، ومنهم من يوجب أن يشهد اثنان فصاعداً، ومنهم من لا يقتصر بشاهدين اثنين، وإنما يوجب جماعة تحصل القناعة بصدقهم في رؤيتهم للهلال.

ونحن نقول: إن هذا الحديث يعتبر أصلاً في الاكتفاء بالشاهد الواحد لإثبات هلال رمضان، ولكن الناس يختلفون من حيث التساهل في الإخبار بما رأوا، والتشدد فيما رأوا، وحتى في الصدق، فهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان، فالأمر حينذاك يعود إلى القاضي الشرعي الذي أُنيط به إثبات هلال رمضان، فإذا جاءه شاهد وهو يعرفه جيداً، ويعلم أنه صادق، وأنه كيِّس فطن، وليس من الناس المغفلين الذين قد يقول أحدهم أنه رأى الهلال والواقع أنه رأى شعرة من حاجبه بينه وبين الأفق فتوهمها هلالاً، فإذا جاء إلى القاضي رجل مسلم يعرف صدقه ويعرف نباهته ويقظته؛ فيجوز له شرعاً أن يثبت هلال رمضان بمجرد شهادة هذا المسلم الواعي.

أما إذا لم يطمئن لخبره فتشدد وأراد شاهداً ثانياً أو ثالثاً، على حسب الأشخاص الذين يأتون ويشهدون عنده؛ فلا مانع من ذلك حتى لا يشتبه الأمر ويثبت هلال رمضان والواقع أنه لم يثبت؛ لأنه لم يأت عنده شاهد يثق بشهادته، ونحن نعلم اليوم أن هناك عند القضاة -كما كان الأمر منذ القديم- جماعة يُعرفون بالمزكين، يزكون الناس .. أتعرف فلاناً؟ إي والله أعرفه. وماذا عرفت عنه؟ معرفة سطحية جداً، فلا شك أن القاضي الحريص على إثبات شهر الصيام بطريقة مرضية مطمئنة لا يطمع بمجرد أن يقول أحدهم: فلان هذا أعرفه، رجل صادق. إلا أن يتمكن هو من معرفته بطريقته الخاصة التي يقتنع بها هو.

خلاصة القول: إن هذا الحديث يدل على أن الأصل في إثبات هلال رمضان يكفي فيه الشاهد الواحد، ولكن ينبغي أن يكون هذا الشاهد معروفاً عند الوالي المسئول الذي يعلم إثبات هلال رمضان اعتماداً منه على هذا الشاهد الواحد.

وقد سمعتم أن الذي رأى الهلال في هذا الحديث هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهو صحابي ابن صحابي، وهو معروف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم تمام المعرفة؛ فلا جرم أنه عليه الصلاة والسلام اعتمد على خبره برؤيته لهلال رمضان، وأثبت بناءً عليه شهر الصيام، لكن ليس كذلك هؤلاء الشهود الذين يشهدون في هذه الأيام؛ لا سيما إذا أردنا أن نطبق شروط المسلمين العدول المنصوص عليها في كتب الفقه، وبعضها بلا شك صواب لا ريب فيه، فإننا لا نستطيع اليوم أن نثبت هلال رمضان إلا بواسطة أفراد قليلين جداً، ولنذكر على ذلك مثلاً نضربه ونحن -كما يقال- نرمي بذلك عصفورين بحجر واحد..

لقد جاء في كتب الأحناف التنصيص بأن الذي يحلق لحيته لا تقبل شهادته، فهل الحُكام اليوم إذا جاءهم مخبر بإثبات هلال رمضان وهو حليق يقبلون شهادته أم لا يقبلون؟ يقبلون، بينما المنصوص عليه أن هذا لا يقبل شهادته؛ والسبب في ذلك أن حلق اللحية معصية، وهذه المعصية باتفاق الأئمة الأربعة، لا فرق بين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فكلهم متفقون على أن حلق اللحية معصية؛ لأن في ذلك ارتكاباً لمخالفات عديدة ثابتة في السنة، يكفي في ذلك مثلاً قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفوا الشوارب وأعفوا اللحى، وخالفوا اليهود والنصارى) اليهود والنصارى يحلقون لحاهم فأنتم خالفوهم، الذين يقتلون المسلمين اليوم. ولا مؤاخذة من الحاضرين المبتلين بهذه المعصية، فإن الدين النصيحة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم) فنحن من عامة المسلمين يجب على أحدنا أن ينصح الآخرين؛ لأن الدين النصيحة كما سمعتم، لذلك فحلق اللحية معصية باتفاق الأئمة الأربعة، ونص الحنفية فيما علمت وقد يكون آخرون نصوا على ذلك: بأن من حلق لحيته لا تقبل شهادته.

أما الآن فقد أصبح حلق اللحية أمراً عادياً، وعلى العكس من ذلك أصبح الذي يوفر لحيته موضع نظر غريب جداً من جماهير الناس وكأنه متوحش، وكأنه -كما يقولون اليوم- رجعي، ولا يحسون أبداً أن إعفاء اللحية هو من أمور الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولذلك كان الأنبياء جميعاً وبخاصة آخرهم محمد عليه الصلاة والسلام -كانوا ذوي لحى، ففي القرآن الكريم: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ [طـه:94] إلى آخر الآية، فهارون عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء كانوا محافظين على هذه الفطرة، فجماهير المسلمين اليوم بسبب غلبة العادات الغربية، حينما غزا الأوروبيون بلاد الإسلام بأبدانهم وبعاداتهم؛ انتشرت هذه العادات الفاجرة الفاسقة، وطبع بها جماهير المسلمين إلا القليل منهم ممن هداهم الله عز وجل، يعرفون أن نبيهم وأن أسوتهم الوحيدة كان ذا لحية جميلة، وأن هذا النبي الكريم أمرهم بأن يعفوا لحاهم ولا يتشبهوا بالكفار.

لما أصبح أكثر الناس اليوم مبتلين بحلق اللحية رأى هؤلاء الحكام أن يتساهلوا في الموضوع، وأن يقبلوا شهادة حليق اللحية، وأريد من هذا المثال أن أقول: إن هناك تساهلاً في تعديل الشهود، ولذلك فإذا تثبت الحاكم ولم يقتصر في إثبات هلال رمضان على شهادة مسلم واحد فلا مانع من ذلك؛ لأن هذا المسلم سوف لا يكون مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب من حيث إيمانه وصدقه ويقظته ونباهته من جهة، ومن جهة أخرى: فسوف لا يكون هذا الشاهد في الغالب معروفاً عند الحاكم كما كان عبد الله بن عمر معروفاً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

خلاصة القول: يجب على القاضي الذي يريد إثبات هلال رمضان أن يتثبت في إثبات هذا الهلال، فإن جاءه رجل يعرفه معرفة جيدة وهو مسلم عدل أثبته بشهادة هذا المسلم الواحد، كما يدل عليه هذا الحديث الصحيح.

حديث الأعرابي في إثبات رؤية الهلال

ساق بعده المصنف حديثاً آخر قد يكون بمعنى الحديث الأول، ولكننا إذا أمعنا النظر فيه وجدنا فيه تبايناً بينه وبين الأول من حيث الدلالة، ألا وهو قوله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني رأيت الهلال) هذا أول تباين واختلاف بين الرواية السابقة وبين هذه الرواية، هناك كان الذي شهد ابن عمر صحابي ابن صحابي، والشاهد هنا أعرابي جاء من البادية لا يعرفه الرسول عليه السلام، ولذلك قال في الحديث -أي: الرسول- للأعرابي: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً)، رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله.

هذا الحديث بعد أن عرفتم أن بينه وبين الحديث السابق تباين في الدلالة، بمعنى: أن في هذا توسيع قبول شهادة الشاهد أكثر من الحديث الأول؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام -إن صح الحديث، وسأتكلم عن صحته قريباً إن شاء الله- قنع من هذا الأعرابي الذي لم يعرفه سابقاً، قال له: أنت مسلم؟ قال: نعم. ما دليل إسلامك؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أيضاً أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك رسول الله. إذاً: أمر بلالاً بأن يؤذن، أي: يعلن في الناس أن يصوموا غداً، فقنع الرسول عليه السلام من هذا الرجل الذي لا يعرفه بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بمعنى: أنه عرف أنه مسلم، لكنه ما جربه ولا عرف ذكاءه وفطنته وكياسته، كما كان الأمر بالنسبة للحديث الأول الذي فيه أن الشاهد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومع ذلك قبِل شهادته، فهذا فيه تيسير واسع، ومعنى هذا أن القاضي يقنع بظاهر الشاهد دون أن يأتي بمزكين يعرفونه كما جرى على ذلك عرف القضاة قديماً، يكتفي منه بأن يعرف إسلامه، هذا أعرابي ما يعرفه سابقاً عليه الصلاة والسلام فاكتفى أن يشهد أمامه بالشهادتين، فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا، وبناءً على شهادته وإسلامه قال: يا بلال، أذن في الناس أن يصوموا غداً.

مدى صحة حديث الأعرابي

ولكن هل هذا الحديث صحيح؟ لقد ذكر المصنف أن فيه خلافاً بين علماء الحديث، وصرح بأن بعضهم صححه وهو الحافظ ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان، لكن أتبع ذلك بأن الإمام النقّاد الحافظ أبا عبد الرحمن النسائي رجح إرساله، ومعنى هذا الكلام: أن الحديث روي عن ابن عباس من طريق عكرمة عنه، فبعض الرواة رواه هكذا موصولاً عن عكرمة عن ابن عباس أن أعرابياً .. إلى آخره، ورواة آخرون أرسلوه، بمعنى: أنهم لم يذكروا في إسناده ابن عباس وإنما قالوا: عن عكرمة أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ... وعكرمة تابعي لم يدرك عصر النبوة والرسالة، فهو حينما يقول: جاء أعرابي إلى الرسول، يكون هناك فجوة وانقطاع بينه وبين هذا الحديث الذي يحدث به، فهذا الحديث يسمى على الغالب بالحديث المرسل، ويعبر عنه أحياناً بأنه منقطع، والتعبير الأول أدق.

وبعض الرواة قالوا: عن عكرمة عن ابن عباس، فهو موصول، وبعض الرواة قالوا: عن عكرمة أن أعرابياً ... لم يذكر هؤلاء الرواة بين عكرمة وبين النبي عليه الصلاة والسلام ابن عباس .. تُرى ما هو الراجح من هاتين الروايتين؟ الرواية الموصولة أم الرواية المرسلة؟

رجح الإمام النسائي الرواية المرسلة، وهذا الترجيح من الحافظ النسائي هو الراجح الواقع من ناحيتين اثنتين:

الناحية الأولى: لما عرف من دقة نقد الإمام النسائي للأسانيد، يقابله ما عرف من تساهل ابن خزيمة وابن حبان في التصحيح، فإذا تقابل تصحيح ابن خزيمة وابن حبان مع طعن أو إعلال مثل الإمام النسائي دون أن نعرف نحن في الحقيقة الواقعة؛ فلا شك أن النفس تطمئن إلى ما ذهب إليه النسائي أكثر مما ذهب إليه ابن خزيمة أو ابن حبان؛ لأن ابن خزيمة وابن حبان متساهلان في التصحيح، أما النسائي فإمام نقاد، فإذا رجح الحديث المرسل فيكون هو الصواب.

هذا من حيث المقابلة والمفاضلة بين الأئمة النقاد، لكن انضم إلى هذا أيضاً فيما بقي في ذهني من دراسة إسناد هذا الحديث: أن الدراسة العلمية تؤيد ما رجحه الإمام النسائي من أن هذا الحديث مرسل، وإذ كان الأمر كذلك فهل هناك تنافٍ وتنافر وتضاد بين تصحيح ابن خزيمة وابن حبان لهذا الحديث وبين إعلال النسائي له بالإرسال؟

الجواب: نعم؛ لأنه من المعلوم عند العلماء بمصطلح الحديث: أن الحديث المرسل هو قسم من أقسام الحديث الضعيف، فإذا قيل: الحديث الفلاني مرسل، فذلك يساوي عندهم (حديث ضعيف)، ولا شك حين ذاك أن حديثاً ضعيفاً يباين قول من قال: إنه حديث صحيح، فهذا معنى قول الحافظ ابن حجر معقباً على ما نقله من تصحيح ابن خزيمة وابن حبان للحديث بقوله: ورجح النسائي إرساله. يعني: أن الراجح أن الحديث ضعيف وعلته الإرسال.

مسألة: قبول زيادة الثقة

هاهنا مسألة حديثية فيها دقة، وكثير من المشتغلين بعلم الحديث اليوم لا يتنبهون لها لدقتها، وهي: إذا كان هذا الحديث قد رواه بعض الرواة موصولاً، أي: عن عكرمة عن ابن عباس، والبعض الآخر رووه عن عكرمة دون ذكر ابن عباس، فهنا قاعدة تذكر بمثل هذه المناسبة: أن الذي ذكر ابن عباس قد جاء بزيادة بالسند على الذي لم يذكر فيه ابن عباس -على الذي أرسله- ومن المعلوم عند علماء الحديث: أن زيادة الثقة مقبولة، فلماذا رفضت هذه الزيادة من هنا في هذا الحديث وصرح الحافظ نقلاً عن النسائي أن الراجح الإرسال؟ لماذا لم يقبل قول من قال: عن عكرمة عن ابن عباس، وهذه زيادة؟

الجواب: إن قاعدة (زيادة الثقة مقبولة) ليست على إطلاقها، وهنا موضع الدقة، زيادة الثقة تقبل حينما يكون الذي جاء بالزيادة إما مثل الذي لم يأت بها أو خيراً منه.

أما إذا كان الذي جاء بالزيادة فردٌ، والذين لم يأتوا بالزيادة جماعةٌ؛ فهنا لا ترد هذه القاعدة، وزيادة الثقة مقبولة ولا ترد هنا، وإنما هنا يرد أن هذه الزيادة شاذة؛ لأن الحديث الشاذ: هو أن يروي الثقة ما خالف فيه غيره من الثقات، أو على الأقل خالف فيه من هو أوثق منه، حين ذاك الزيادة لا تُقبل، إنما تُقبل زيادة الثقة إذا كان الزائد مثل الذي لم يزد أو أحفظ منه، أما إذا كان الزائد دون الذي لم يزد في الضبط والحفظ، أو أقل عدداً من الذين لم يأتوا بالزيادة؛ حينئذٍ الزيادة يحكم عليها بالشذوذ، ولا يقال فيها: زيادة الثقة مقبولة؛ ولهذا نجد كثيراً من الأحاديث إذا دُرست بالنظر إلى طريق رجال إسناده كلهم ثقات وهو متصل، إذا دُرس هذا السند بالذات قيل: إنه إسناد صحيح، ولكن إذا ما نظر إلى هذا الإسناد من طرق أخرى انكشف لنا أن الطريق الأول فيه راوٍ ثقة خالف فيه جماعة من الثقات، هذه المخالفة حين ذاك تجعلنا نغير نظرتنا السابقة.

أعيد الكلام .. يأتي الحديث أحياناً من طريق ثقة من الثقات بسند صحيح إليه، وهذا الثقة يرويه أيضاً بإسناد صحيح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال في هذا السند: إسناده صحيح. ولكن الثقة الذي دارت طرق الحديث عليه -اختلف الرواة عليه- فالإسناد الأول جاء عنه بإسناد صحيح -كما قلنا- ثم جاءت أسانيد أخرى وإذا بهذه الأسانيد الأخرى تبين أن في الإسناد الأول علة، ويمكن هذا التصوير من صور كثيرة جداً، ولنقل مثلاً: الإمام الزهري وهو أشهر من أن يذكر، يروي كثيراً عن سعيد بن المسيب، وهو يروي عن أبي هريرة، فيأتي ثقة يروي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، فماذا يكون هذا الإسناد؟ يكون صحيحاً، ولكن لما يتسع الباحث في دراسة هذا الحديث بهذا الإسناد، وإذا به يجد ثقاة آخرين شاركوا الثقة الأول في رواية الحديث عن الزهري لكن خالفوه في الإسناد، فقالوا مثلاً: عن الزهري عن سعيد المسيب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال .. لم يذكروا أبا هريرة، فهل يقال هنا أو هل نظل نقول: إن الحديث إسناده صحيح باعتبار أن الثقة الأول رواه عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة وزيادة الثقة مقبولة؟ أم نقول: لا. هذا الثقة الذي زاد في السند وذكر فيه أبا هريرة قد خالف الثقات الذين رووه جميعاً عن الزهري عن سعيد مرسلاً؟ يقال: نعم. رواية الثقات هنا هي الراجحة، فيكون الحديث معللاً بالإرسال.

هذا هو واقع حديث ابن عباس، فحديث ابن عباس مداره على عكرمة عن ابن عباس، رواه الثقة، وجاء الآخرون فرووه عن عكرمة مرسلاً، من أجل ذلك رجح الإمام النسائي إرساله.

وبعد معرفة أن هذا الحديث ضعيف بعلة الإرسال؛ حينئذ يظهر لنا الفرق بين دلالة الحديث الأول الصحيح وبين دلالة الحديث الآخر الضعيف، فإن الأول يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة عبد الله بن عمر المعروف عنده بالعدالة والصدق والضبط ونحو ذلك، بينما الحديث الثاني قبل شهادة الأعرابي الذي لم يعرف إسلامه إلا ساعة الشهادة، فهذا فيه تساهل كبير، فلو أن الحديث صح كان سيعطينا حكماً زائداً على الحديث الأول، لذلك فنحن لا نبني عليه حكماً، وإنما نقتصر في استنباط الحكم السابق من الحديث المتقدم من رواية ابن عمر رضي الله عنه.

تبييت النية في صيام الفرض

هنا حديث ثانٍ فيه بيان وجوب ما يعرف عند الفقهاء بتبييت النية لصوم الفرض و بخاصة صوم رمضان، لابد كل ليلة من تبييت النية، وهو قوله: وعن حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة. وفي هذا الحديث ما يشبه الكلام السابق، لكن الترجيح على خلاف ذلك؛ لأن الحافظ يقول: رواه الخمسة، وقد عرفنا من الدرس السابق أن المقصود من الخمسة من هم؟ أصحاب السنن الأربعة، والإمام أحمد هو الخامس، بينما في اصطلاح آخر رواه الخمسة: مسلم وأصحاب السنن الأربعة، هذا مصطلح المنتقى.

رواه الخمسة -أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد - قال الحافظ: ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه على حفصة، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني : (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل).

هنا يتكلم الشارح طويلاً في اختلاف الأئمة، في رفع الحديث ووقفه، وهناك كان الخلاف في وصل الحديث وإرساله، أما هنا فاختلفوا في وقفه ورفعه، فبعض الرواة قال: عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ورواة آخرون قالوا: عن حفصة قالت ... أي: حديث موقوف عليها لم ترفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فاختلف علماء الحديث وكل وما بدا له، ويؤيد المصنف قول من رجح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه قد أخرجه الطبراني من طريق أخرى -أي: مرفوعاً- فهذه الطريق الأخرى هي التي ترجح قول من رجح رفعه، وتجعل قول من رجح وقفه مرجوحاً، لكن هذا الحديث لم يذكر فيه الرسول عليه السلام رمضان، بل أطلق فقال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) ونحن قلنا في التمهيد لهذا الحديث: أنه من لم يبيت النية في صيام الفرض وبخاصة في شهر رمضان. فمن أين جئنا بهذا القيد؟

هذا القيد جيء بالتوفيق بين هذا النص وبين حديث آخر رواه الإمام مسلم وغيره من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على بعض نسائه غداة يوم فقال: (هل عندكم من طعام؟ قالوا: لا. فقال عليه الصلاة والسلام: إني إذن صائم) فأنشأ النية في تلك اللحظة، وهنا معناه صراحة أنه ما بيت النية من الليل؛ لأنه كان يريد أن يأكل، لكنه لما لم يجد عليه الصلاة والسلام طعاماً يتغدى به اغتنمها فرصة، ما دام أنه سيعيش النهار بدون طعام فجعلها صياماً لوجه الله تبارك وتعالى، فقال: (إني إذن صائم).

من هنا فرق جماهير العلماء بين صوم الفرض هل يجب فيه تبييت النية لكل ليلة؟ وبين صوم التطوع فلا يجب فيه التبييت وإنما يجوز إنشاؤه ضحوة، وهذا هو الأصح من مذاهب العلماء، وهو مذهب الإمام الشافعي، أما الأحناف فاقتصروا على القول بأنه يكفي أن ينوي لشهر رمضان كله نية واحدة، أول ما يدخل في أول ليلة من شهر رمضان فيكفي ذلك عن شهر الصيام كله بنية واحدة، لكن في هذا ما علمتم من الإهدار والإهمال لحديث حفصة أم المؤمنين.

حكم التلفظ بالنية

النيات في كل العبادات مقرها القلب، ويجب أن يعرف هذا كل مسلم يهمه اتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وما اعتاده جماهير المسلمين اليوم وقبل اليوم، وما تقرر في بعض الكتب الفقهية من أن التلفظ بالنية سنة، منهم من يقول: سنة مستحبة، ومنهم من يقول في بعض الحواشي والشروح تفسيراً لقول الماتن تحت عنوان سنن الصلاة؛ فيعد أول ما يعد: التلفظ بالنية، ويأتي المحققون والباحثون فلا يجدون في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام التلفظ بنية الصلاة مطلقاً، فماذا يفعلون بقول هذا المؤلف وهو إمام من أئمة المذهب، أو عالم من علماء المذهب، وقد حشر التلفظ بالنية تحت عنوان: سنن الصلاة؟ يضطرون أن يسلكوا طريق التأويل.

وذلك بلا شك ألطف من التخطئة الصحيحة المكشوفة من حيث تأدب بعضهم مع بعض، وإن كنا نحن نرى أن هذا وإن كان جميلاً من ناحية لكنه ليس جميلاً من ناحية أخرى، ألا وهو الصدع بالحق؛ لأن بعضهم يقول في تفسير قوله: "سُنة" يعني: سنة المشايخ، هذا التأويل في فهمي أنا للموضوع مثل المثل العامي الذي يقول: (كنا تحت المطر وصرنا تحت المزراب). يعني: كنا في خطأ نسبة هذا الأمر إلى الرسول عليه السلام؛ أن من السنة التلفظ بالنية، هذا خطأ لكنه خطأ جزئي، لكن هذا التأويل الذي هو أشبه بالترقيع فتح لنا باباً كبيراً جداً، وهو أن هناك سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهناك سنة المشايخ.

وهل المشايخ كذلك يسننون للناس؟ هذا لا يجوز، وهذا من شؤم التأويل وعدم المصارحة بالحق، وكان بالإمكان أن يقول -هذا الشارح أو ذاك المحشي-: "لم يثبت" كما يقول ابن القيم في زاد المعاد وغيره: لم يثبت عن الرسول عليه السلام ولا عن السلف ولا عن الأئمة الأربعة أن التلفظ بالنية سنة. وانتهت المشكلة، ومن ذا الذي لا يخطئ -أبى الله أن يتم إلا كتابه- ولذلك التلفظ بالنية في كل الطاعات والعبادات من البدع الدخيلة في الدين، فإذا قمت تصلي فلا تقل: نويت أن أصلي لله تعالى أربع ركعات، أو ثلاث ركعات (مقتدياً، منفرداً، إماماً) هذا كله من لغو الكلام، لا سيما وأنت تباشر به رب العالمين، وتقف بين يديه فتعبر له عن نيتك وهو يعلم السر وأخفى، وإنما يجب أن تفتتح عبادتك وصلاتك بـ(الله أكبر) وقد جاء في صحيح مسلم من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستفتح صلاته بالتكبير) ونحن بهذا نستفتح صلاتنا بالبدعة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار).

وبهذه المناسبة أريد أن أذكر: لقد قرأت آنفاً في كتاب لبعض إخواننا يقول في بعض البدع: إن أقل ما يقال في هذه البدعة أنها خلاف الأولى. وأنا الآن لا أستحضر هذه البدعة، وأنا لا أرى لإخواننا السلفيين أن يتهاونوا في التعبير عن أية بدعة مهما كانت في الظاهر أنها سهلة وأنها لا خطورة فيها، لا أرى أن يقولوا فيها: إنه خلاف الأولى؛ لأن الرسول يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار). وهذا تعميم لم يدخله تخصيص، صحيح أن الضلالات ليست بنسبة واحدة لكن أقل واحدة منها هي ضلالة، والضلالة لا يقال أنها خلاف الأولى، لذلك هذا التلفظ بالنية الذي نفتتح به الصلاة إنما نفتتح الصلاة بضلالة، بينما كان الواجب علينا أن نفتتح الصلاة بتكبير الله عز وجل.

كذلك الصيام الذي نحن بصدده الآن، وأنه يجب تبييت النية في الفرض في رمضان، ليس معنى تبييت النية أن يقول القائل بلفظه وبقلبه: نويت أن أصوم غداً لله تعالى، لا. قل في قلبك فقط، استحضر نفسك أنك صائم، واستحضر أنك غداً عازم على الصيام، هذه هي النية.

كذلك في الوضوء لا يقول القائل: نويت رفع الحدث الأصغر، وفي الجنابة: نويت رفع الحدث الأكبر، هذا كله كلام هراء، لمن تقول هذا الكلام؟ لنفسك؟ فأنت تعرف ما في نفسك. لربك؟ هو أعرف منك بنفسك إذاً اتباعاً لنبيك؟ نبيك لم يكن على شيء من هذا إطلاقاً، فكان التلفظ بالنية في كل مجالات العبادات أمر ما أنزل الله به من سلطان.

وكذا في الحج أيضاً -وهذا قد يخفى على بعض من الناس- في الحج يذكر في كتب المناسك: نويت الحج والعمرة لله؛ فهذا من هذا الباب لا يصح أن يقول نويت إطلاقاً، وإنما تلبي: لبيك اللهم بعمرة، لبيك اللهم بحجةٍ وعمرة، على حسب نيتك أما أن تقول: نويت؛ فهذا كلام لغو، إنما تقول : لبيك اللهم بعمرة، لبيك اللهم بحجة وعمرة، حسبما عزمت عليه من الحج أو العمرة.

إذاً: هذا الحديث الصحيح فيه دلالة على فرضية تبييت النية في الصيام، ولكن هذا الحديث مخصص لصيام رمضان والفرض كالنذر مثلاً، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها الذي أشرنا إليه آنفاً، وهو أول درسنا الآتي إن شاء الله تعالى، وبهذا القدر كفاية، والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الصوم[2] للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني

https://audio.islamweb.net