إسلام ويب

إن الخوف ولارجاء للمؤمن بمثابة الجناحين للطائر، فلابد أن يجتمع كل من الخوف والرجاء في قلب المؤمن حتى يحلق في سماء الإيمان، ومن المعلوم أن الخوف من الله سياط للقلوب تمنع العبد من مواقعة الذنوب، وتجعله يقبل على طاعة علام الغيوب، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.

الخوف من الله .. حقيقته وفضله

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

أما بعد:

فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

يقول المصنف رحمه الله: الترغيب بالخوف وفضله.

هذا الباب عقده المؤلف رحمه الله في الترغيب في أن يعيش المسلم خائفاً من الله تبارك وتعالى خاشياً له، ويذكر تحته ما جاء من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ببيان هذا الخوف من الله عز وجل.

وعلى ما ستسمعون من أحاديث كثيرة تشهد لهذا الباب، ففي ذلك دلالة قاطعة على أن المسلم كلما كان إسلامه أقوى وأتم؛ كلما كان خوفه من الله تبارك وتعالى وخشيته له أعظم، ونحن إذا نظرنا إلى بعض الآيات التي جاءت في كتاب الله عز وجل، فضلاً عن الأحاديث التي ستأتي في هذا الباب؛ لوجدناها دائماً وأبداً تذكر عباد الله الأتقياء الصلحاء بالخوف من الله تبارك وتعالى، وكلما كان أحدهم أقرب إلى الله عز وجل وأعلى منزلةً عنده؛ كلما كان أتقى وأخشى لربه عز وجل، فهؤلاء رسل الله صلى الله عليهم وسلم قد وصفهم الله تبارك وتعالى بأنهم: يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ [الأحزاب:39] كذلك وصف الله العلماء بقوله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] . وجاء في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الرهط وغيرهم أنه قال: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).

هذا في البشر، وهناك وصفٌ من الله تبارك وتعالى لخلقٍ من خلقه اصطفاه على كثير من عباده ألا وهم الملائكة المقربون، وصفهم ربنا عز وجل بقوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] هؤلاء الملائكة الموصوفون في القرآن الكريم بأنهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] مع ذلك هم موصوفون -أيضاً- بأنهم يخافون ربهم من فوقهم، فإذا كان الأمر هكذا؛ فإن الملائكة والرسل والعلماء، كل هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء يخشون الله تبارك وتعالى، وكما ذكرت آنفاً كلما كان أتقى كان أخشى، كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له).

لذلك فمن العبث ومن الكلام الباطل المعسول أن يُنقل عن بعض المتصوفة، سواء كانوا نساءً أو رجالاً، أن أحدهم كان يقول في مناجاته لربه تبارك وتعالى: "ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك.." إلى آخر الخرافة المزعومة، لا يتصور من إنسان عرف الله حق معرفته ألا يخشى من ربه تبارك وتعالى، بل -كما ذكرنا- كلما كان مقرباً إلى الله كلما كان أخوف من الله وأخشى لله عز وجل، وما المقصود من مثل هذه الخرافة الصوفية إلا أن يُحمل الناس أن يعيشوا هكذا، ليس هناك خوف منهم لله يحملهم على تقواه، ولا -أيضاً- عندهم رغبة فيما عند الله يطمعهم في أن يزدادوا تقىً من الله.

الخوف من الله سبب للابتعاد عن المعاصي

فهذا الفصل ستسمعون فيه أحاديث كثيرة، فيه بيان أن المؤمن من طبيعته أنه يخشى الله، وأن هذه الخشية تكون سبباً لمغفرة ذنوبه، وأمانه من عذاب ربه عز وجل، حتى ولو حصلت منه هذه الخشية في لحظة من حياته، بينما كانت حياته كلها يحياها ويعيشها في بعد من الله تبارك وتعالى.

الحديث الأول في هذا الباب حديث صحيح، وهو قوله: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...) فذكرهم إلى أن قال: (ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم، وتقدم بتمامه.

هذا الحديث حديث معروف الصحة، ومخرج في الصحيحين، وكان قد تقدم معنا في موطن واحد أو أكثر في كتاب الزكاة؛ لأن فيه جملة: (ورجل تصدق بيمينه فأخفاها...) إلى آخره، فهناك ساق المؤلف هذا الحديث بتمامه، والآن اقتبس منه هذه الجملة التي يترجم بها في هذا الباب الذي ذكرناه، ذلك أن من أولئك السبعة رجلاً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجلاً -أيضاً- دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، فذاك الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما بكى خوفاً من الله، وهذا الرجل الذي دعته المرأة الجميلة ذات المنصب، لما دعته قال: إني أخاف الله، فخوفه من الله عز وجل عصمه، وخوف ذاك من الله عز وجل حينما ذكره فبكى خشيةً منه، جعل كلاً منهما من أولئك السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.

والحديث الذي بعده حديث ضعيف، أما الحديث الثالث فهو صحيح أيضاً وكان قد تقدم معنا في أول هذا الكتاب، فذاك الحديث هو من حديث ابن عمر، وأما هذا فهو من حديث أبي هريرة، ومخرجه غير مخرج ذاك، فستسمعون بعض الاختلاف بين هذا وذاك، فلا يشكلن الأمر عليكم؛ لأن الرواة يزيد بعضهم على بعض، يحفظ هذا شيئاً لا يحفظه ذاك، والعكس بالعكس.

يقول: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم يرتادون لأهلهم).

شرح حديث الثلاثة النفر الذين سدت عليهم الصخرة فم الغار

أول جملة نفاجأ بها في هذه الرواية هذه الزيادة: ( يرتادون لأهلهم )، لأن الحديث الذي سبقت الإشارة إليه وكان تقدم معنا في أول الكتاب، ليس فيه هذه الجملة.. (بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يتمشون إذ أصابهم مطر....) إلى آخر الحديث، لم يذكر في ذاك الحديث حديث ابن عمر ما الذي أخرج هؤلاء في الطريق وفي الصحراء حتى أصابهم المطر فلجئوا إلى الغار، وهنا يبين لنا السبب فيقول: ( يرتادون لأهلهم ) أي: يطلبون الرزق والمعاش، يضربون في الأرض كما أمر الله عز وجل، فهذا هو الذي خرج بهم ذلك المخرج... (فأصابتهم السماء، فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة، فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ووقع الحجر) هذا أيضاً تعبير لم يرد هناك: (عفا الأثر، ووقع الحجر، ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم، فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت امرأة تعجبني فطلبتها فأبت عليَّ، فجعلت لها جعلاً، فلما قربت نفسها تركتها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان، فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر، وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً يوماً، فعمل إلى نصف النهار، فأعطيته أجره فسخطه ولم يأخذه، فوفرتها عليه حتى صارت ذلك المال، ثم جاء يطلب أجره فقلت: خذ هذا كله، ولو شئت لم أعطه إلا أجره الأول، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزال الحجر وخرجوا يتماشون) رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمر، هكذا في نسختي، فمن كانت عنده كذلك فليصححها وليجعلها من حديث ابن عمر، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عمر بنحوه، وتقدم -أي: في أول الكتاب- في الإخلاص في العمل لله عز وجل.

نعود إلى الحديث ونتفقه في بعض فقراته ونشرح ما قد يغمض منها..

(خرج ثلاثة فيمن كان قبلكم) أي: من أهل الكتاب (يرتادون لأهلهم فأصابتهم السماء) هذا من أسلوب العرب، أن يطلق السماء على اعتبار أنها موضع المطر على المطر (فأصابتهم السماء) أي: أصابهم مطر، على حد قول الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قومٍ>>>>>رعيناه وإن كانوا غضابا

إذا نزل السماء بأرض قوم، أي: قامت الساعة، وإنما المقصود بالسماء هنا المطر.

فأصابتهم السماء، أي: المطر.. فلجئوا إلى جبل، أي: إلى غار في جبل، هذا من الاختصار الذي جاء في هذا الحديث، وبيانه في حديث ابن عمر المشار إليه والمتقدم في أول الكتاب.

(فلجئوا إلى جبل فوقعت عليهم صخرة) أي: سدت عليهم الغار كما في ذاك الحديث: (فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر) أي: بسبب نزول الأمطار لو فقدهم أهلهم لم يستطيعوا أن يتتبعوا أثرهم؛ لأن الأثر انمحى بسبب الأمطار والسيول، فكأن أحدهم يقول: إننا انقطعنا عن الدنيا، فلا أحد يعرف أين صرنا.. (عفا الأثر ووقع الحجر) أي: الصخرة التي سدت عليهم الغار.. (ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم) ولا يعلم بمكانكم هنا إلا الله، وأنا مررت عليها ولم أنتبه لها، وهكذا يقع فيه القارئ أو المصحح؛ لأنه يقرأ أحياناً من ذهنه.

مشروغية التوسل بالعمل الصالح

قال: (ولا يعلم بمكانكم إلا الله، فادعوا الله بأوثق أعمالكم) كما كنا شرحنا هناك يومئذٍ فيه شرعية التوسل بالعمل الصالح (ادعوا الله بأوثق أعمالكم) هناك يقول ابن عمر : إن الرسول عليه السلام قال: (انظروا أعمالاً عملتموها صالحةً لله فادعوا الله بها) على وزان قول الله تبارك وتعالى في القرآن : وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [لأعراف:180] .

ففي هذا الحديث حديث أبي هريرة زائد حديث ابن عمر نص على شرعية توسل العبد إلى الله تبارك وتعالى بعمل صالح له، وكما تعلمون جميعاً -إن شاء الله- لا يكون العمل صالحاً إلا بشرطين اثنين:

الشرط الأول: أن يكون خالصاً لوجه الله عز وجل، فلو أن مسلماً صام وقام وصلى في الليل والناس نيام، وهو لا يقصد بذلك وجه الله، وإنما ليقال عنه: إنه متعبد .. زاهد .. صالح، كان عمله هباءً منثوراً؛ لأنه لم يخلص فيه لله عز وجل.

الشرط الثاني: أن يكون العمل الذي أخلص فيه لله عز وجل مشروعاً، ولا يكون مشروعاً إلا إذا كان قد ورد في الكتاب والسنة، وهذا له أدلة كثيرة، ومن الأدلة الجامعة للشرطين قول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] .

فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً [الكهف:110] أي: على وجه الكتاب والسنة، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110] أي: لا يقصد بهذا العمل الصالح غير وجه الله عز وجل، وإلا فيكون قد أشرك فيه مع الله، وحينئذٍ يرد عليه، بل ويضرب به وجهه.

فحينما يقول أحدهم وهم في الغار: (فادعوا الله بأوثق أعمالكم) أي: بأخلص عمل صالح فعلتموه، وشعرتم بأنكم فعلتموه وأنتم راغبون به ما عند الله عز وجل.

فإذاً: هذا الحديث فيه شرعية التوسل بالعمل الصالح، والآية السابقة فيها شرعية التوسل باسم من أسماء الله تبارك وتعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [لأعراف:180] وهنا ادعوه بعمل صالح لكم.

مشروعية توسل المسلم بدعاء أخيه الصالح

وهناك توسل آخر مشروع ثابت في الكتاب والسنة، ألا وهو توسل المسلم بدعاء أخيه الصالح الذي يظن فيه الصلاح، ويأمل أن يستجاب منه الدعاء، فهذا أيضاً مشروع، وما سوى ذلك من التوسلات التي اشتهرت في القرون المتأخرة بتأخرهم عن الكتاب والسنة علماً وعملاً، فليس لها أصل إطلاقاً، ولم يقل بشيء منها أحدٌ من الأئمة المجتهدين، وقد فصّلت القول على هذه التوسلات المشروعة وغيرها من الغير مشروع في رسالتي الخاصة في التوسل، ويمكن الرجوع إليها لمن شاء التوسع.

استجماع القصة من مجموع الروايات الواردة فيها

(فقال أحدهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كانت امرأة تعجبني فطلبتها) في حديث ابن عمر أنها كانت قريبة له: (كان لي ابنة عم) يقول هناك: (أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء) وهذا أوضح من حديث: (تعجبني) ما مبلغ هذا الاستحسان والعجب؟ قال: (أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء) وسيظهر أثر هذا الحب الشديد في خوفه من الله عز وجل حينما أمسك نفسه عنها: (فطلبتها فأبت عليَّ، فجعلت لها جعلاً) أي: تعويضاً في تسليمها نفسها له، فيعطيها مقابل ذلك مالاً، وكان هذا المال مائة دينار كما جاء في بعض طرق حديث ابن عمر.

(فلما قربت نفسها) يقول هناك: (فلما وقعت بين رجليها، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها) وهنا يقول: (فلما قربت نفسها تركتها) هنا فيه إجمال وهناك تفصيل، وهكذا يمكن استجماع القصة بأكمل وجه من مجموع الروايات التي وردت فيها، قال هذا الداعي الأول يخاطب ربه: (فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك، فافرج عنا) أي: إن كنت تعلم أني أعرضت على هذه الفتاة وزيادة عن ذلك أنني تركت لها المال الذي قدمته إليها في سبيل أن أحظى منها بشهوتي، فتركت ذلك كله لوجهك وخوفاً منك، ولكنه يخشى أن يكون واهماً في أن يكون ترك ذلك خوفاً من الله، ولذلك يقول: (فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك، فافرج عنا، فزالت ثلث الحجر) أي: تزحزحت الصخرة التي سدت عليهم فم الغار بمقدار ثلث المسافة التي فيها يمكنهم أن يخرجوا من الغار. (وقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا) يصف هنا مدى خدمته لأبويه مهما تطلَّب ذلك صبراً منه، حتى كان يأتي بالإناء الذي فيه الحليب، فإذا وجدهما نائمين لا يوقظهما محافظةً على راحتهما ونومهما، وإنما يظل قائماً حتى يستيقظا فيجمعا بين راحة النوم والشرب من الحليب.

في حديث ابن عمر يفصل هذه الفقرة من هذا الحديث فيقول: (فنأى بي ذات يوم الشجر) أي: خرج في طلب المرعى والكلأ والحشيش، فأبعد عن القرية كثيراً، وهذا خلاف عادته، فما رجع إلا وقد أمسى، قال: (فحلبت كما كنت أحلب، وجئت بالحلاب فوجدتهما قد ناما)، فهذا وصف دقيق جداً لحالته النفسية بين حق أبويه وحق أولاده، قال: (فوجدتهما قد ناما، فقمت عند رءوسهما أخشى أن أوقظهما من نومهما والصبية يتضاغون من الجوع عند قدمي) فهو متردد بين إيقاظهم من أجل أن يبدأ بإسقائهما قبل الصبيان، وفي هذا إزعاج لهم إذا ما أيقظهم، ومن جهة أخرى فالصبية يصيحون جوعاً، فكأنه يقول: ماذا أفعل؟ أوقظهما؟ لا. لا بد أن يتقدموا على الأولاد، أترك الأولاد؟ الأولاد يصيحون ويبكون، قال في حديث ابن عمر : (فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر) هذا هو جهاد في سبيل إرضاء الوالدين.

يقول في تضرعه وفي مناجاته لربه: (اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي والدان فكنت أحلب لهما في إنائهما، فإذا أتيتهما وهما نائمان قمت حتى يستيقظا، فإذا استيقظا شربا، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا، فزالت ثلث الحجر) أي: الثاني.

وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أني استأجرت أجيراً يوماً فعمل إلى نصف النهار) في هذا الحديث هذه الفائدة، وهناك في حديث ابن عمر ليس فيه بيان مقدار العمل، هنا يوجد تحديد أنه عمل إلى نصف النهار.. (فأعطيته أجراً، فسخطه ولم يأخذه، فوفرتها عليه حتى صارت ذلك المال) هنا أيضاً إيجاز واختصار (حتى صارت ذلك المال) ما هو هذا المال؟

جاء بيانه في حديث ابن عمر أنه قال: (فلم أزل أزرعه) أي: أجر ذلك الرجل الذي كان فرقاً من أرز، وعاء صغير اسمه الفرق، كان أجره هذا الفرق من أرز، فلما لم يقبل هذا العامل هذا الأجر وانصرف مغضباً، قال هذا السيد صاحب الأرض: (فلم أزل أزرعه) أي: ذلك الفرق من الأرز (حتى جمعت منه بقراً ورعاءها) هذا هو الذي وفره الرجل من ذلك الفرق، وفر وجمع بقراً ورعياناً معه، فيقول في حديث ابن عمر : (ثم جاءني فقال: يا عبد الله! أعطني حقي -وحقه الفرق من الأرز- فقلت له: انظر إلى تلك البقر، فاذهب وخذها، قال: يا عبد الله! لا تستهزئ بي، إنما لي عندك فرق من أرز) أنت تقولي لي: خذ فرقاً من البقر!: (قال: اذهب وخذها فإنما تلك البقر من ذاك الفرق) يقول هنا في دعائه: (فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك رجاء رحمتك وخشية عذابك فافرج عنا).

قبل ذلك يقول: (فقلت: خذ هذا كله، ولو شئت لم أعطه إلا أجره الأول) هذه نكتة مهمة جداً، الرجل ترك عنده أجره الذي هو الفرق من أرز، ولم يتفق معه على أن ينميه له ويزرعه له، لكن هو كرم منه وسخاء، فزرع هذا الفرق من الأرز، والله بارك، فحصد وزرع واشترى بقراً، الله أعلم بالمدة، مع بركة الله عز وجل في هذا المال، ثم جاء هذا يطلب حقه، ما هو الحق؟ فرق من أرز، يقول: فأعطيته كل الذي وفرته بسبب هذا الفرق، ولو شئت لم أعطه إلا حقه، أي: هذا الفرق، أي: إنه قادر على ألا يعطيه ما وفره إياه في هذه المدة الطويلة، ولكنه رأى من كرم نفسه أن يقدم له كل ذلك الحاصل من المال الأول، فيقول: (فإن كنت تعلم أنني فعلت ذلك.. هناك يقول: ابتغاء مرضاتك، وهنا يقول: رجاء رحمتك وخشية عذابك- فافرج عنا، فزالت الحجر وخرجوا يتماشون) رواه ابن حبان في صحيحه بهذا اللفظ، وفيه كما رأيتم بعض الفوائد التي لا تذكر في حديث ابن عمر، وفي الدرس الآتي -إن شاء الله- أحاديث أخرى في هذا الباب، فنكتفي بهذا المقدار، والحمد لله رب العالمين.

شرح حديث: (... إذا أنا مت فأحرقوني)

حديثنا في هذه الليلة يبدأ بالحديث الرابع من باب الترغيب في الخوف وفضله، والحديث صحيح كما سيدلكم تخريجه.

قال المؤلف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك. ففعلت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغُفر له).

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له) رواه البخاري و مسلم، ورواه مالك و النسائي بنحوه.

هذا الحديث يتضمن من غرائب الحوادث والوصايا التي كانت تقع في الزمن السابق ما قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فكان يقع فيه من الغرائب والعجائب التي إما أنه لم يعد يقع مثلها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لحكمةٍ أرادها الله، وإما أنه قد يقع شيء منها ولكن لا يبلغنا خبرها؛ لأنه ليس لنا هناك من يستقصي هذه الأخبار إلا الخالق لأصحابها وأصحاب العلاقات بها، ثم هو يوحي بها إلى نبينا المعصوم عليه الصلاة والسلام، ثم هو يبلغها أمته موعظةً وذكرى.

من أجل ذلك أخرج البخاري و مسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

الشاهد هو الفقرة الوسطى من هذا الحديث، ألا وهي قوله عليه السلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) وإن من خير ما يحدث به أحدنا اليوم عن بني إسرائيل هو ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما صحت الأسانيد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام.

فهذا الحديث -كما سمعتم- فيه عجيبة من تلك العجائب، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت ) في رواية أخرى: (لم يعمل خيراً قط) وفي هذه الرواية الأولى استمر في إسرافه على نفسه، وظلمه لها، حتى حضره الموت، أي: لم يكن من أولئك الذين يقضون شطراً من حياتهم في الإسراف في الفسق والفجور، ثم قبيل وفاتهم يرجعون إلى الله تبارك وتعالى ويتوبون إليه، هذا الإنسان لم يكن كذلك، وإنما استمر في إسرافه وفي ظلمه لنفسه ومعصيته لربه حتى حضره الموت، لكنه لم يكن من أولئك الناس المغرورين الذين يسيئون العمل ثم يرجون من الله تبارك وتعالى المغفرة، هكذا كثير من المسلمين اليوم مع الأسف الشديد، يتواكلون على مغفرة الله عز وجل، ولا يتعاطون من الأعمال الصالحات ما بها يستحقون مغفرة الله تبارك وتعالى، فهذا الرجل كان معترفاً بتقصيره وبجنايته على نفسه، ومع ذلك فيبدو من هذه القصة العجيبة أنه كان إيمانه لا يزال حياً في قلبه، وكان لا يزال فيه شيء استحق به أن ينال مغفرة الله تبارك وتعالى، مع أنه سلك سبيلاً ربما لم يسلكه أحدٌ قبله ولا أحدٌ بعده، ذلك أنه أوصى بهذه الوصية الجائرة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (فلما حضره الموت، قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني) ولم يقنع بهذا، ثم قال: (اطحنوني) تصوراً منه أن الحرق قد لا يأتي على عظامه كلها، فيبقى هناك شيء قائم من هذه العظام، فتأكيداً لما خيل له من وسيلة للنجاة من عذاب الله عز وجل، قال لهم: (اطحنوني) وهذا باعتبار ما كان، كان إنساناً قوياً، فمات فأمرهم بأن يحرقوه بالنار، ثم أكد لهم ذلك بأن يطحنوه، ثم يأخذوا الحاصل من ذلك الحرق والطحن وهو أن يصبح رميماً، قال: (ثم ذروني في الريح).

وفي رواية أخرى فيها توضيح كما سمعتم وسيأتي أيضاً: أنه أمر بأن يذَرُّوا، أو يذْروا -روايتان- نصف الرماد هذا في البر ونصفه في البحر، مبالغة في أن يضيع على الله عز وجل في زعمه الضال، قال: (ثم ذروني في الريح) لماذا أوصى بهذه الوصية الجائرة الغريبة؟

حلف وبين فقال: (فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً) أي: من المسرفين على أنفسهم، (فلما مات فعل به) وهنا يظهر نوع من الطاعة من الأولاد للآباء، طاعة متناهية، ولكن يظهر أنه لم يكن عندهم في شرعهم أن مثل هذه الوصية هي وصيةٌ جائرة لا يجوز الإيصاء بها، وإذا ما أوصى بها جائرٌ كهذا فلا يجوز للموصى له أن ينفذها؛ لأنها مخالفة لشريعة الله عز وجل، فتنفيذ هؤلاء الأبناء لوصية أبيهم هذا يحمل على وجه من وجهين:

الأول: أنه ربما لم يكن في شرعهم أن هذا لا يجوز.

الوجه الآخر: أنه إذا كان ذلك في شرعهم فهؤلاء لم يكونوا على علم بذلك، ولذلك بادروا فنفذوا وصية أبيهم هذه.

قال عليه الصلاة والسلام في تمام الحديث: (فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك) بعد أن تفرقت ذرات هذا الإنسان المحرق بالنار والمذرو في الريح وفي البحر، قال لكل من البحر والأرض اليابسة: اجمعي ذرات فلان، وقال لها: كوني فلاناً، فكانت بشراً سوياً، فقال سبحانه وتعالى مخاطباً لهذا الإنسان بعد أن أعاده كما كان: (ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، أو قال: مخافتك، فغفر له) وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مت فحرقوه ) انتقل من الخطاب إلى الغائب، قال: (إذا مت فحرقوه، ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا به ما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر الله تعالى له).

درء التعارض بين حديث: (إذا أنا مت فحرقوني) وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)

في هذا الحديث مثل رائع وعظيم جداً كتفسير لبعض النصوص من الكتاب والسنة كقوله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [لأعراف:156] وكقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري : (سبقت رحمتي غضبي) مثل هذا الإنسان إذا ما سُئل أي عالم في الدنيا -عالم حقيقي- عن إنسان أوصى بمثل هذه الوصية ونفذت فيه، هل يكون مسلماً أم كافراً؟ لابد أن يكون الجواب: هو كافر، والحجة واضحة بينة؛ ذلك لأن هذا الإنسان في هذه الوصية يذكرنا بذاك الذي ذكره الله عز وجل في القرآن مشيراً إليه بقوله: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ... [يس:78-79] إلى آخر الآيات، فهذا الإنسان كأنه لا يؤمن، كأنه من هذا الجنس الذي قال : مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] مع ذلك نجد أن الله عز وجل قد غفر لهذا الإنسان، فإذا سُئل عالم عن مثل هذا الإنسان يوصي بمثل هذه الوصية فلا يسعه إلا أن يحكم عليه بأنه كافر كفراً يخلد صاحبه في النار لا يخرج منها أبداً، وإذا الأمر كذلك فكيف يمكن أن نتلقى هذا الحديث بالقبول، وظاهره يخالف ما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لأنه منصوص هذا المعلوم في القرآن الكريم حين قال رب العالمين: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فهذه الآية صريحة الدلالة، أي: بتعبير علماء الأصول هي قطعية الثبوت قطعية الدلالة، ودلالتها أن الله عز وجل يمكن أن يغفر أي ذنب مهما كان عظيماً، إلا الشرك بالله تبارك وتعالى فإن الله لا يغفره إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]؟

قد يقول قائل كتوفيق بين هذا النص القرآني القطعي الثبوت والدلالة: التوفيق بينه وبين هذا الحديث من ناحيتين:

الناحية الأولى: إن الآية قالت: إن الله لا يغفر الشرك، والكفر غير الشرك.

وبمعنى آخر: إن ما جاء في هذا الحديث ليس فيه شرك، وإنما هو الكفر؛ لأن هذا الإنسان مؤمن بالله عز وجل، وإيمانه بالله حمله على هذه الوصية الجائرة؛ لأنه شعر بأنه يستحق هذا العذاب، فخلاصاً من عذاب الله عز وجل له أوصى بها، فهو يخاف الله وليس يؤمن به فقط، بل ويخاف الله، فكان من أثر خوفه من الله أن أوصى بهذه الوصية.

فإذاً: هو مؤمن بالله ولم يشرك مع الله أحداً، فالتوفيق بين الحديث وبين الآية بأن تبقى الآية على ظاهرها: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، أما الكفر الذي ليس شركاً فيمكن أن يقال: إن الله يغفره، والدليل على ذلك هذا الحديث. قد يقول قائل هذا، ويبدو لأول وهلة بأن هذا التوفيق مقبول ومعقول، لكن الأمر ليس كذلك؛ لأن هناك حقيقة شرعية يجب أن نكون على علم بها:

أولاً: لأنه شرع يجب أن يفهم على وجهه وعلى حقيقته.

ثانياً: لأن هذا الفهم يساعدنا على التوفيق بين كثيرٍ من النصوص التي يبدو بينها تعارض وتضارب، ما هي هذه الحقيقة الشرعية؟

هي: أن كل كفر شرك، ومعلوم لدى جميع الناس على الأقل الفقهاء أو طلاب العلم أن كل شرك كفر، لكن العكس ليس معلوماً عندهم، المعلوم عندهم أن كل شرك كفر، لكن أن كل كفر شرك فهذا غير معلوم عند جماهير الناس، مع أن هذا حق مثلما أنكم تنطقون، أي: كل كفر شرك كما أن كل شرك كفر، لا فرق بينهما إطلاقاً.

ومن الأدلة على ذلك: المحاورة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الكهف بين المؤمن والمشرك، قال الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ [الكهف:32-34] قال صاحب الجنتين وهو كافر مشرك كما ستسمعون لصاحبه المؤمن: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:34-36] هذا بالتعبير العام أو بالعرف العام أشرك أم كفر؟ هذا كفر؛ لأنه أنكر البعث والنشور: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف:35-37] صاحبه المؤمن: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:38] ختم موعظته ومحاورته لصحابه بأنه لا يشرك كشركه: وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:38] ففي هذا بيان أن الرجل صاحب الجنتين -أي: البستانين- حينما شك في البعث والنشور أشرك بالله عز وجل، لذلك قال له صاحبه المؤمن: أنت كفرت وأشركت، أما أنا فلا أشرك بربي أحداً، وتمام القصة -أيضاً- تؤكد هذا؛ لأن في نهاية الآيات: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف:42] ما الذي أشرك؟ الظاهر أنه أنكر البعث والنشور، فأين الشرك؟ هنا النكتة، الشرك أن كل كافر بأي سبب كان كفره فقد اتخذ إلهه هواه، فمن هنا جاء الشرك بالنسبة لكل نوع كفر به صاحبه، من هنا قلنا: إن هناك حقيقة شرعية وهي: أن كل كفر فهو شرك، وهذا في السياق الذي ذكرناه لكم أكبر دليل على ذلك.

وعلى هذا فلا يصح التوفيق بين الآية السابقة الذكر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] وبين هذا الحديث على الوجه الذي حكيناه آنفاً؛ ذلك لأن معنى الآية بعد هذا الشرح هو: إن الله لا يغفر أن يكفر به، أي: سواء كان الكفر شركاً لغةً أو لم يكن، فالله عز وجل لا يغفر الكفر مطلقاً؛ سواء كان شركاً أو ليس بشرك، وهذا البيان -كما قلت لكم- يفتح لنا حل مشاكل كثيرة، فإذا ما عرفنا أن الشرك في لغة الشرع هو الكفر والكفر هو الشرك؛ فحينئذٍ تعود الآية دلالة صريحة على أن الله عز وجل لا يغفر الشرك بكل أنواعه، اللهم إلا إذا كان شركاً عملياً وليس شركاً قلبياً.

الحديث الذي هو كالحديث السابق هو قول المؤلف الحافظ المنذري رحمه الله : وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً كان قبلكم رغسه الله مالاً) أي: وهبه الله أعطاه مالاً.. (فقال لبنيه لما حضر: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنني لم أعمل خيراً قط، فإذا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته) رواه البخاري ومسلم أيضاً.

يفسر تلك اللفظة الغريبة فيقول: (رغسه) بفتح الراء والغين المعجمة بعد سين مهملة (رَغَسه) قال أبو عبيدة : معناه: أكثر له منه، أي: من المال وبارك له فيه.

فهذا الحديث كالحديث السابق، وكان من رواية أبي هريرة فيما أذكر، وهذا مما يدل على أن الحديث مع صحة إسناده من طريقه الأولى فهو ليس حديثاً غريباً فرداً، بل قد اشترك في روايته جماعة من الصحابة، ذكر منهم المؤلف اثنين، الأول: أبو هريرة، والآخر: أبو سعيد هنا.

وكنا تساءلنا: ما الجواب عن هذا الحديث الذي ظاهره أن هذا الموصي بالوصية المذكورة فيه وهي وصية جائرة، ظاهر هذا أن الرجل كفر بالله عز وجل، وشك في قدرة الله تعالى على أن يبعثه وأن يحييه وأن يحاسبه ذلك الحساب الذي يستحقه؟

ولقد أوردنا جواباً في الدرس الماضي ولا نرتضيه بطبيعة الحال، ووعدنا أن نأتي بالجواب الصحيح المقنع إن شاء الله..

هذا الرجل لما أوصى بهذه الوصية أن يحرق وأن توزع ذرات جسده بعد أن احترقت في البحر وفي الهواء، لاشك أن هذا الفعل يدل على الكفر، فكيف أن الله عز وجل لم يعامله بمقتضى كفره، بل غفر له؟ وقد قلنا في الدرس السابق: إن الكفر لا يغفر، بدليل الآية السابقة : إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فكيف غفر لهذا؟

قلنا: قد يقول البعض: إن الآية تنفي أن يغفر الله الشرك، فهذا ما أشرك وإنما كفر، فوضحنا لكم بأنه لا فرق شرعاً بين الكفر والشرك، فكل كفر شرك وكل شرك كفر، خلافاً لما يذهب إليه بعض العلماء قديماً وحديثاً، وعلى هذا فالآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48] أي: أن يكفر به، سواءً كان نوع الشرك من الناحية اللغوية شركاً فعلاً أن يتخذ مع الله شريكاً، أو كان كفراً بأن يجحد شيئاً مما شرعه الله أو أخبر الله به، ومن لم يرتض ذلك الجواب، فما هو الجواب الصحيح؟

هو ما أجاب به الإمام الخطابي والحافظ ابن حجر العسقلاني وغيرهما من الشراح والحفاظ، قالوا: إن هذا الرجل...



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المؤمن بين الرجاء والخوف للشيخ : محمد ناصر الدين الألباني

https://audio.islamweb.net