إسلام ويب

التشجيع سبب في نمو وازدهار الدول؛ إذ به تبرز المواهب، وهو أمر مندوب في الشرع استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضوان الله عليهم، وآثاره ملموسة مشاهدة أمام كل من يستخدمه، ونتائجه أكثر من العمل بدون تشجيع، فكيف بالتثبيط الذي هو على العكس تماماً؟!

أثر البيئة المشجعة على الشخص

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فقد روى البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاماً شاباً، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذا بي فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها أناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، قال: فلقينا ملك آخر، فقال لي: لم ترع، وقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: نِعْم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً).

الشاهد هنا من رواية هذا الحديث: ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الغلام ابن عمر، وتشجعيه عن طريق هذا الثناء، وهذا التشجيع أثمر استقامته على قيام الليل بعد ذلك، فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل) فرغبه في قيام الليل، وأنه يكون سبباً للنجاة من عذاب النار الذي أريه في منامه، فكان عبد الله بن عمر منذ أن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقالة لا ينام من الليل إلا قليلاً.

عامة الخلق جبلوا على حب التشجيع

حديثنا اليوم عن التشجيع والثناء والتحفيز بالنسبة للأطفال أو طلبة العلم أو الناس عموماً، فللمدح والثناء أثر فعال في استنهاض الهمم والإنجاز العظيم، فكلمات الثناء والامتنان، والتعبير عن الشكر تقوم بالإشعاع بالطاقة وإطلاقها، بوسعك أن تمدح جسداً ضعيفاً ليتحول بمديحك أو ثنائك أو تشجيعك إلى قوة، وأن تمدح قلباً يملؤه الخوف ليتحول إلى السكينة والاطمئنان والثقة، وتتحول الأعصاب المحطمة إلى ثبات وقوة، والمشروع الفاشل إلى نجاح وازدهار.

إن عامة الخلق جبلوا على حب الثناء والتأثر والسعادة به، حتى إن مدربي الحيوانات يقومون بتدليل ومكافئة الحيوانات التي يرعونها بتقديم الحلوى أو أي شيء تحبه اعترافاً وثناء على طاعتها لهم، كذلك الأطفال يشعرون بالمرح والسرور عندما يثنى عليهم ويمدحون، حتى يقال: إن القدرة نفسها تنمو بصورة أفضل لأولئك الذين يعشقونها، فالثناء والتشجيع يعطي المرء طاقة وحيوية، خاصة إذا تلقى هذا الثناء من إنسان يعرفه أو يعبر له عن شكره بما قام به من عمل؛ فيشعر بالرضا والانبساط.

نحن الآن على مشارف العام الدراسي الجديد، وتنبيهنا للمدرسين على وجه الخصوص، ثم للمربين عموماً وفي مقدمتهم الآباء والأمهات، فينبغي أن نتعامل مع أطفالنا من منطلق هذا التحفيز والتشجيع والمديح والثناء الصادق الذي يرفع معنوياتهم، ويشحن الطاقة الجسمية والمعنوية لديهم كي تتحول إلى سلوك وعمل، وتنمي فيهم القدرة على تحمل المسئوليات.

شخص يدعى الدكتور هنري بوذرد كان يعمل مدرساً في إحدى المدارس في (نيوجرسي)، فاخترع جهازاً لقياس الإعياء والتعب، وكان الأطفال هم موضع الاختبار، وعندما كانوا يتلقون كلمات الثناء والإعجاب والتشجيع كان يظهر الجهاز ارتفاعاً مفاجئاً يعبر عنه بوجود طاقة إضافية، وكانت طاقتهم تزداد بمجرد أن يسمعوا هذه الكلمات، وعندما كانوا يتعرضون للنقد واللوم والتوبيخ كانت تندفع طاقتهم الجسمانية إلى الهبوط بصورة مفاجئة، ورغم عجز العلم عن تفسير قوة الثناء بدليل مادي أو حسي إلا أنه استطاع أن يقوم بقياس أثر الثناء والتشجيع على طاقة الإنتاج.

بعض الأطفال كان يوماً يقول وهو محبط وحزين: إنني إذا ارتكبت أخطاء أرى الجميع ينتقدونني، وإذا أنجزت إنجازاً قيماً لا أسمع كلمة ثناء من أحد! فكان هذا سبباً من أسباب إحباطه، وكثير من الناس يتعمد هذه الطريقة ويقول: لكي نربيه ويصير رجلاً يتحمل المسئولية؛ لا نمدحه، لكن فقط نوبخه ونعنفه، فبعض الناس يركزون فقط على السلبيات والنقد، ويطلقون على الأطفال أحياناً وابلاً من السباب والشتائم، وينبغي أن نشبع جوع هؤلاء الأطفال إلى المديح وإلى الثناء، وأن نحفظ لهم كرامتهم، ونعطيهم المزيد من الاحترام والثقة، والفرصة للعطاء والإنتاج لما يناط بهم من مسئوليات؛ فيصبحون بذلك أكثر إيجابية وتعاوناً مع الآخرين.

شروط التشجيع

أهم شرط في المديح: أن يكون صادقاً بدون مداهنة أو كذب، وهذا هو الذي يترك أثراً إيجابياً في نفس الطفل، وإذا مدح الطفل بمجازفة وبكذب فإنه يكتشف ذلك، ويعرف أن هذا كذب، فالثناء ينبغي أن ينصب على الفعل، لا أن تمدح الطفل نفسه كما سنبين إن شاء الله تعالى، لا تقل له مثلاً: أنت أبرع طفل في العالم، أنت أجمل طفلة في العالم.. أو نحو هذه الأشياء، وإنما تقول له: أداؤك في هذا الامتحان كان أداء جيداً وموفقاً، وتحسنت كثيراً، فتمدح السلوك وليس الشخص نفسه، حتى يحصل الربط الإيجابي، ويكون أقوى وأقدر على التغيير في سلوكه، وقد رأينا في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كيف مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الطريقة الرائعة: (نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل)، فتأثر ابن عمر بهذه العبارة جداً إلى حد أنه كان بعدها لا ينام من الليل إلا قليلاً ينبغي أن ينصب الثناء على الفعل، وعلى السلوك الحسن الإيجابي، وليس على الشخص نفسه، فمثلاً بدل أن تقول له: أنت طالب مجتهد يا فلان، قل له: الامتحان الأخير الذي حصلت فيه على هذه الدرجة في اللغة العربية كان ممتازاً، أو النتيجة كانت ممتازة، أو أداؤك كان ممتازاً، ولا تقل له: أنت ممتاز؛ لماذا؟ حتى نلفت نظره دائماً إلى السلوك نفسه، وليس إلى شخصه.

مثلاً: بنت ساعدت أمها في ترتيب غرفة من غرف البيت، فالصواب أن يقال لها: كان عملك في إنجاز هذا الأمر رائعاً، ويشجعها بكلام ينصب على مدح السلوك، لكن لا نقول لها: أنت أفضل البنات يا فلانة، أو أنت أفضل بنت في العالم.. إلى آخر هذا، فنركز على السلوك نفسه لنلفت نظره، وليربط بين المديح والثناء، وبين السلوك الإيجابي كي يحدث تغييراً في سلوكه؛ لأن الثناء المطلق لا يؤثر نفس التأثير، فينبغي أن يكون محدداً لكي يعرف أنه لما عمل الشيء الفلاني مدح، وشيء محدد هو الذي استجلب له المدح والثناء؛ ولذلك ينبغي أن تكون المكافئة أو التشجيع عقب الفعل مباشرة، فعندما يحفظ السورة ويسمعها تسميعاً جيداً؛ فوراً يعطى الجائزة، والجائزة لا يشترط أن تكون مادية بل يمكن أن تكون مدحاً وثناء أو أن يحتضنه، أو يلعب معه، أو أي شيء آخر.

ولا يشترط أن الجائزة دائماً تكون جزاءً مادياً، كذلك العقاب يكون عقب الفعل مباشرة، ولا يؤجل ولا يسوف؛ لأنه إذا عوقب بعد فترة، أو بعد مضي يوم أو يومين مثلاً، أو إذا جوزي بعد مضي يوم سيختلط الأمر، والمفروض أن يعاقب عليه مباشرة، وهو في أثناء أو هذه المهلة يمكن يكون قد ارتكب سلوكيات خاطئة أخرى، فهو لا يعرف على ماذا يعاتب؟

إذاً: العقوبة لابد أن تكون عقب الفعل مباشرة، وكذلك الجزاء والثواب والتشجيع، وعندها سنجد أن الطفل سوف يحاول الإكثار من هذا السلوك الذي جلب له المديح أو الثناء والإعجاب والتقدير، ولو أننا ركزنا على مدح ذاته هو وليس إنجازاته أو سلوكياته فهذا سوف يزيد من أنانيته، ويزيد من حبه لنفسه، وربما أشعره بالغرور والتعالي؛ ولذلك نرى كثيراً من المتفوقين يتراجعون في مستواهم الدراسي، أو ينحرفون عن السلوك القويم بسبب المبالغة في مدحهم بمدح عام مطلق يملؤهم غروراً وكبراً، فلابد أن يتسم الثناء والمدح بالموضوعية، ولا يبالغ المربي فيه، حتى لا يفقد قيمته؛ لأنه إذا كان مبالغاً فيه، أو فيه كذب، فإن الطفل سوف يدرك جيداً هل كان المدح صادقاً ومعقولاً وموضوعياً أم فيه مجازفة وغلو ومبالغة، فيستخدم المربي الاعتدال وفي ظروف ملائمة، تشجعه على الأداء وتنمي لديه الحافز الداخلي، وتساهم في بناء شخصيته وتطويرها نحو الأفضل.

نذكر كلاماً متعلقاً بنفس هذا الموضوع من كتاب: (مبدأ الرفق في التعامل مع المتعلمين) لمؤلفه صالح بن سليمان البقعاوي يقول: إن من الأسس النافعة في التعليم والتربية: الثناء على الطالب ومدحه ليزداد اهتماماً ونشاطاً في الخير والإقبال على العلم والتزود منه، والمدح والثناء الحسن لا يكلف المعلم شيئاً، ولا يحقر بسببه شيئاً، بل الفائدة متحققة من استعماله، وحينما نقرأ سير علماء الأمة وصلحائها نجد المدح والثناء والتشجيع للطلبة على كسب العلم وتحصيله.

أمثلة من التشجيع الفعال

كان الإمام أحمد دائماً يمدح بقي بن مخلد أمام باقي الحاضرين، ويقول: هذا يقع عليه اسم طالب العلم، أي أنه يستحق أن يتشرف بلقب طالب علم؛ لأن قصة بقي بن مخلد في غاية الروعة، رحل من الأندلس إلى بغداد ليسمع مباشرة من الإمام أحمد رحمه الله، وكان الإمام أحمد محددة إقامته في تلك الفترة، وممنوع من مخالطة الناس، فاحتال بعد الاتفاق مع الإمام أحمد على أن يرتدي ملابس المتسولين، ويأتي كل ليلة ليسأل الصدقة، ثم يدخل في الممر كأنه ينتظر أن يؤتى له بالطعام أو الصدقة، ففي أثناء تلك الفترة يخرج إليه الإمام أحمد ويحدثه كل يوم بحديث، فلما انقشعت المحنة كان الإمام أحمد يعظمه جداً، وكان يقول في مجلسه: هذا يقع عليه اسم طالب العلم.

وكان الإمام البخاري رحمه الله تعالى يفعل ذلك -أي: التشجيع- مع الوراق، فقد كان يملي عليه الإمام الأحاديث وهو يكتب في الورق، فكان يكثر جداً من الإملاء، فيخشى أن يمل الرجل رغم أنه كان يأخذ أجراً على هذا، فكان يلاطفه ويواسيه ويشجعه بالاستمرار كي لا يمل، يقول الوراق: (فأملى عليّ يوماً -أي: الإمام البخاري - أحاديث كثيرة فخاف مللي، فقال: طب نفساً فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، وأهل الصناعات في صناعاتهم، والتجار في تجاراتهم، وأنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه)، يقول له: طب نفساً، وهذا تشجيع وثناء عليه، وتسلية له ومواساة على هذه المشقة التي يتحملها، طب نفساً، فإن أهل الملاهي مع ملاهيهم، ذهب كل مع من يحب، أهل الملاهي يجلسون مع الملاهي، وأهل الصناعات في صناعاتهم في طلب الدنيا، والتجار في تجاراتهم، وأنت لست مع الملاهي ولا مع الصناع ولا مع التجار، وإنما أنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا

فـالبخاري علم أن التشجيع والثناء والمواساة والمدح يجعل هذا الرجل ينجو من الملل أو الضجر، ويتلقى هذه التكاليف بصدر رحب.

الإمام مالك رحمه الله تعالى كتب رسالة إلى إمام مصر الليث بن سعد، فيها الثناء والمدح له، ومما قال فيها: وأنت في إمامتك، وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك. فالإمام مالك يهيئ الليث بالثناء عليه ومدحه قبل أن ينصحه؛ لأنه نصحه بعد ذلك، وبقصد النصيحة دخل من هذا المدخل.

الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى دخل في يوم مطير على تلاميذه، وكان يخشى عليهم من خوف الملل أو الضجر من طول الوقت، فأقبل أبو حنيفة رحمه الله تعالى عليهم بوجه بشوش وقال لهم: أنتم مسار قلبي وجلاء حزني.

ودخل الإمام الشافعي يوماً على الإمام أحمد بن حنبل فقال: يا أبا عبد الله ! كنت اليوم مع أهل العراق في مسألة كذا وكذا، كنت أناقشهم أو أناظرهم في مسألة فقهية فلو كان معي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع إليه أحمد ثلاثة أحاديث، فقال: جزاك الله خيراً، مع أن الشافعي شيخ الإمام أحمد ، لكنه مع ذلك أتاه وطلب منه هذه الأحاديث، وأظهر الافتقار لما معه من العلم والحديث.

حتى أهل الخير من أهل الهمة مهما بلغ أحدهم من المنزلة يحتاجون إلى التشجيع ليفعل فيهم أثره.

مر رجل مع صاحب له بجوار بيت أبي حنيفة ليلاً، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: هذا أبو حنيفة لا يكاد ينام من الليل، يعني: يقوم الليل كله، فقال أبو حنيفة لنفسه: والله لا يُتحدث عني بما لا أفعل، فمن ساعتها بدأ يواظب على قيام معظم الليل رضي الله تعالى عنه.

كان رجل من أهل الأذى للناس، وكان له منصب معين يتمكن منه من أذية الناس، فقابله شخص بالثناء عليه، وبأنه سمع شكره مستفيضاً، ووصفه بالجميل، ومدحه بالرفق؛ فكان ذلك سبباً إلى أن منع ذلك الفاسق عن كثير من شره وأذاه للناس، فممكن أن تمدح الظالم للحد من شره، لكن تمدحه بصدق دون أن تغره بما هو فيه من ظلم فيتمادى في ظلم الناس، ودون أن تداهنه وتكذب في مدحه، لكن ممكن أن تأتي بشيء من الخير الذي تراه فيه، كأن تقول له: أنت من أسرة طيبة، وأناس أفاضل معروفون بحب الخير، فهذا ليس كذباً، إن كان هو بالفعل هكذا، لكن هو الفرع الخبيث في هذه الشجرة، فالشر ينقمع في نفسه، ويكف عن أذية الناس.

فالبيئة المشجعة حول الإنسان دائماً ما تحفزه على المزيد من الإنتاج.

تشجيع النفس عند تثبيط الآخرين

الناس يختلفون في التأثير بالتشجيع والتثبيط والتخذيل، فأحياناً يتعرض الإنسان لتخذيل أو تثبيط ربما يتفاعل معه بطريقة سلبية أو يتفاعل معه بطريقة إيجابية، قد يكون الشخص ضعيف الشخصية جداً بحيث إنه ينهار تماماً، وربما غير مسار حياته كله؛ بسبب عبارة تخذيل، أو مدرس حط من قدره أو احتقره، وهذه طريقة سلبية في التفاعل مع التخذيل، وهناك طريقة إيجابية يكون فيها ارتقاء الإنسان بسبب التخذيل، ويتفاعل معه بالعكس بتحدي.

أذكر أن مدرسة كانت تنتقد إحدى الطالبات في الثانوية، وكلما تقابلها تقول لها العبارة المعروفة: قابليني لو أفلحت بنفس هذه الأساليب الشيطانية المدمرة، حتى أنها كانت متربصة بها وهي داخلة الامتحان، وتتوعدها وتقول لها: تعالي قابليني لو نجحت حتى من الثانوية العامة، فكيف تفاعلت تلك الطالبة مع هذا التخذيل والتحطيم من المدرسة الجاهلة التي تحتاج إلى تربية؟

أخذت الموضوع بتحدي، فاجتهدت جداً في الدراسة، ودخلت نفس الكلية ونفس التخصص والمادة التي كانت المدرسة تتحداها فيها، وتفوقت إلى أعلى ما يمكن من المراتب في هذا العلم، وكان السبب التفاعل الإيجابي مع التثبيط، بتحدي وليس بخضوع واستسلام وتخاذل، فالإنسان يحاول دائماً أنه يحول الظروف إلى صالحه، هذا هو الإنسان العاقل؛ لأن الظروف لا تستطيع أنت تغييرها، فحاول أن تحولها إلى صالحك.

كان بعض الأكابر له مملوك سيئ الخلق فض غليظ لا يناسبه طبعه، فقيل له: لم لا تتخلص منه فإنه مؤذ وسيئ الطبع، وفيه نفور شديد؟ لماذا أنت متمسك به، ويمكن أن تبيعه وتتخلص من هذا العبد الغليظ؟

فقال: إني أدرس عليه مكارم الأخلاق؛ فأنا أروض أخلاقي وأتدرب على الصبر والتحمل، وكيف أحسن خلقي حتى مع من يؤذونني أو أبغضهم أو يبغضونني؛ فانظر كيف حول الظروف إلى صالحه!

وهذا شيء حقيقي فعلاً؛ فإن الإنسان لولا المخالطة لن يتعلم ولن يستفيد، والإنسان المعزول تماماً عن الناس لا يكون عنده كفاءة في التعامل مع المسئوليات أو إدارة الأمور أو التكيف مع المحيطين به، فالاختلاط بالناس فيه فوائد مع ما فيهم من الأذى؛ فلا بد أن يعود الاختلاط بهم على الإنسان بفائدة؛ لأنه يرى الأخلاق السيئة في صورتها السيئة، فحينما يتمرن على مصاحبة مثل هذا المملوك السيئ الخلق، ومعاشرته والصبر عليه والتحمل، لا شك أن هذا سوف يقوي من إمكاناته الشخصية.

يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولكل شيء فائدة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، يقول: احتكاكي بالجهال استفدت منه، وتعرفون أنه عانى من هؤلاء الناس معاناة شديدة حتى أحرقوا كتبه، وآذوه أذى شديداً، يقول: احتكاكي بالجهال والباغين نفعني منفعة عظيمة، ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل منفعة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فطري، وتهيج نشاطي؛ فكان ذلك سبباً إلى تواليف لي عظيمة، ولولا استثارتهم نشاطي واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف، يعني: الصراعات الفكرية، وصراعه مع المقلدين وغيرهم جعله يقرأ ويصنف مما أنتج هذه التصانيف الرائعة التي صنفها، ودائماً الحسود أو المؤذي إذا تفاعل معه الشخص المبغي عليه أو المجني عليه بالحسد أو الأذى تفاعلاً إيجابياً تحصل له الثمرة الإيجابية، فهناك بعض الأشعار في شأن الحسد لها نفس هذا المعنى، يقول بعضهم:

يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما كعود زاده الإحراق طيبا

عود البخور كلما ازداد إحراقه كلما شاعت رائحته أكثر وأكثر، فكذلك الإنسان عليه أن يحول التخذيل أو التثبيط أو العوامل البيئية من حوله إلى عوامل إيجابية.

أذكر قصة للأديب المعروف عباس محمود العقاد ، وكلما ذكرت اسم العقاد أتحسر في الحقيقة على العقاد، فقد كان من الأذكياء، ولكنه للأسف الشديد ضيع عمره في أنواع من المعارف والعلوم غير المثمرة إلا قليلاً مما خدم به المصنفات الإسلامية كالعبقريات ونحوها.

لكن على أي الأحوال هو أنموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك ادخل معه في التحدي، وتحداه وحول النتيجة التي يريدها منك إلى نتيجة إيجابية.

يقول العقاد : استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريق الإفادة؛ فإن الأستاذ الأول كان يقصد أن يفيدني لأنه كان يشجعني، والآخر أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة على الحالين، وكان أحد الأستاذين هو الشيخ فخر الدين محمد التشناوي ، وكان يميل إلى التجديد والابتكار في التعبير، ويمنح أحسن الدرجات للتلميذ المتصرف في مناحي الكلام، وأقلها للتعبير الذي يؤخذ من نماذج الكتب، والذي يكتب موضوع إنشاء يعطيه أقل، والذي يبتكر من عنده تعبيرات وإنشاءات فهذا يعطيه درجة أعلى، وكانت دروسه تلتهب حماسة ووطنية، ولها تأثيرها البليغ في نفوس التلاميذ خصوصاً في زمن كانت تئن فيها البلاد من وطأة الاحتلال.

أما الأستاذ الثاني فمدرس الحساب، فقد كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولاسيما المسائل العقلية في دروس الحساب، وبعد أن ذكر بعض المواقف مع ذلك الأستاذ قال: ولكن الدرس الأكبر الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي كان بسبب مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية، كنت شديد الولع بهذه المسائل، لا أدع مسألة منها دون حل مهما يبلغ إعضالها، وكان الأستاذ يحفظ منها عدداً كبيراً محلولاً في دفتره، يعيده على التلاميذ في كل سنة، والمدرس كان يحفظ المسائل مثل اسمه، وقلما يزيد عليها شيئاً من عنده، وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست موجودة في دفتر المدرس، فعانينا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم امتحاناً لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين، لم أصدق صاحبنا، ولم أكف عن المحاولة في بيتي، فقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر، وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام، وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان، فقلت: لقد حللت المسألة، قال الأستاذ: أية مسألة؟ قلت: المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية، قال: أو صحيح؟! تفضل أرنا همتك يا شاطر، وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني، ومن طول ما راجعتها، وكررت مراجعتها وانتظرت ما يقول، فإذا الأستاذ ينظر إليّ شزراً وهو يقول: لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان، وإذا بالتلاميذ على نفحة الأستاذ قائلين: ضيعت وقتنا، ما الفائدة من كل هذا العناء؟

ثم عقب العقاد على هذا الحدث بقوله: كانت هذه الصدمة خليقة بأن تكسرني كسراً لو أن اجتهادي كان محل شك عندي، أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح قول القائل: كل ما لم يقتلني يزيدني قوة؛ لأني لم أحفل بعدها بإنكار زميل ولا رئيس، وعلمت أن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه أياً كان القائلون.

فلا شك أن هذا درس وعبرة فيها فوائد جمة، فهو نموذج من نماذج التعامل مع التثبيط بطريقة إيجابية؛ لأنه واثق من موقفه، ولا يشك في أنه اجتهد وأنجز إنجازاً له قيمة، وأن زملاءه كانوا منافقين يداهنون المدرس، وأن المدرس لم يكن منصفاً في رده وما قصده، لكن مع ذلك انظر كيف تفاعل مع هذه المسألة؟!

يحضرني أيضاً قصة العلامة الألباني رحمه الله تعالى، وهي: أنه لما كان في مقتبل صباه نشط لتحقيق مسألة حكم بناء المساجد على القبور، وحكم الصلاة في المساجد المبنية على القبور، خاصة أضرحة الأولياء، فالعلامة الألباني رحمه الله تعالى جمع الأقوال من مكتبة أبيه في البيت، وأبوه كان حنفياً، فرجع إلى كثير من مراجع الأحناف وعمل بحثاً قيماً انتهى به إلى أن الصلاة في هذه الأماكن مكروهة كراهة تحريمية، ثم ذهب وكله نشاط وهمة وأمل في سماع كلمة ثناء من شيخه الشيخ البرهاني ، فعرض عليه البحث، وكان ذلك في الأيام الأخيرة من رمضان في تلك السنة، فقال له: بعد العيد إن شاء الله نتقابل وأكون قد قرأت البحث فلما قابله بعد العيد سأله عن البحث، فقال: لقد أضعت وقتك في غير فائدة، فإنك ما رجعت للمراجع المعتبرة عند أهل العلم، فيقول الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: فاستنكرت هذا التعليق، وأيقنت أن هذا الشيخ لم يقرأ البحث أصلاً؛ لأنه سرد أسماء كثيرة من المراجع أكثر بكثير مما ذكره شيخه، قال: فدفعني هذا إلى المزيد من البحث، ومن التحري في المسألة إلى أن خرج الكتاب المشهور المبارك: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، فالشاهد: أن الموقف كان تفاعلاً مع المثبط بطريقة إيجابية، فالذي يثبطك تحداه؛ لأن المثبط واحد من اثنين: إما أنه جاهل في التربية، وإما أنه حاقد يريد أن يحطم نفسية هذا الطالب، ويسيء إليه، وللأسف الشديد، ففي الحالتين لا يمكن أن يكون مستحقاً بأن يتأثر من كلامه؛ لأنه لا يقبل موقف الحاسد أو الحاقد أو الذي يريد به سوء، وأيضاً الجاهل لا يؤخذ منه ولا يبنى على موقفه.

التشجيع في الإسلام

إن التشجيع رفع الإسلام شأنه إلى حد أنه جعله فريضة على غير القادر على إقامة فروض الكفاية، مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد، طلب العلم، الولاية، الإمامة، فأمثال هذه الفروض من فروض الكفاية يقول فيها العلماء: إنها واجبة على الكفاية، إن قام بها البعض سقط الوجوب عن الآخرين، وإن لم يقم بها أحد أثموا جميعاً، يأثم القادر لأنه قصر، ويأثم غير القادر لأنه قصر فيما يستطيعه، وغير القادر على أداء هذه الفروض الكفائية يأثم أيضاً، لماذا؟ لأنه قصر فيما يستطيعه، وما الذي يستطيعه؟! يستطيع التفتيش عن القادر، وحمله على العمل، وحثه وتشجيعه وإعانته على القيام به، بل إجباره على ذلك.

فإذا:ً إذا لم يقم الفرض الكفائي يأثم القادر وغير القادر؛ يأثم القادر لأنه قادر ولم يفعل، وغير القادر لأنه لم يشجع القادر، قال الله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:84]، والتحريض هو نوع من الأنواع وأسلوب من الأساليب.

حتى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان يعطي بعض الموظفين أموالاً ويعطيهم أشياء من الدنيا كي ينصاعوا للإصلاحات التي كان عزم عليها في ذلك الوقت.

وسأذكر أسلوب التربية عندعمرو بن العاص الذي كل أهل الأرض في كفة، وأهل مصر في موقفهم مع عمرو بن العاص في كفة أخرى، لماذا؟ لأن لـعمرو بن العاص دين في أعناق مصر لا يستطيعون سداده، ولو عملوا عليه ليلاً ونهاراً؛ فـعمرو بن العاص هو الذي بسببه أشرق نور الإسلام في مصر بعد الوثنية والنصرانية والفساد كله، أشرقت هذه البلاد بنور الإسلام، ومنها انطلق غرباً وجنوباً ببركة جهاد عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه ومن معه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

ولما فتحت مصر كانت العاصمة الإسكندرية، ولا تزال آثار سور عمرو بن العاص موجودة، حتى السور الذي كان بناه للإحاطة بالإسكندرية ما زال موجوداً.

الشاهد: أن عمرو بن العاص له منة أخرى علينا فوق أنه كان سبباً في دخول أهل مصر إلى الإسلام؛ فقد صبغ لساننا باللسان العربي ولله الحمد، وفتح الله على يديه على أهل مصر بلغة القرآن الكريم، لكن عمرو بن العاص كان عالماً بشخصية الموظفين المصريين، فمنع تعيين أي موظف في الدولة الإسلامية لما فتحها -حتى من الأقباط- إلا إذا كان يتقن اللغة العربية، فبالتالي في سنوات معدودات تم -ولله الحمد- تعليم أهل مصر لغة القرآن الكريم، بينما نرى تقصير الدولة العثمانية عندما حكمت العالم الإسلامي قرابة سبعة قرون، وما عربت نفسها وللأسف الشديد، بل كانت الكتب تترجم بلغة تركيا.

فالشاهد: أسلوب التربية الذي سلكه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه. وقد سلك المسلمون في شتى العصور أسلوب تشجيع الموهوبين وكبيري الهمة بكافة صور التشجيع، وكانوا ينفقون الأموال الجزيلة لنفقة النابغين من طلاب العلم الذين أوقفوا أنفسهم على طلب العلم؛ كي يغنوهم عن سؤال الناس أو الاشتغال عن العلم بطلب المعاش.

الإمام أبو حيان محمد بن يوسف الغرناطي يقول فيه الصفدي : لم أره قط إلا يصنع أو يكتب أو ينظر في كتاب، ولم أره على غير ذلك، وكان له إقبال على أذكياء الطلبة يعظمهم وينوه بقدرهم، وكان المعلمون في الكتاتيب والمساجد وفي الأزهر الشريف إذا لمسوا في طفل النجابة وسرعة التعلم احتضنوه، وساعدوه على طلب العلم، وزودوه بالمال من مالهم الخاص أو من أموال الأوقاف.

وفي طليعة المشجعين لطلبة العلم الخلفاء والأمراء، روى البخاري في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدخل ابن عباس رضي الله عنهما وهو غلام حدث مع أشياخ بدر، قال ابن عباس : فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقالوا: لم لا نأت بأولادنا الصغار ونجلسهم معك؟ فلماذا تدخل ابن عباس وهو صغير في مجلس الكبار من الأشياخ الذين حضروا غزوة بدر؟ فقال بعضهم: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟

فقال عمر : إنه من حيث علمتم، أي: أنه من أهل البيت، وابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، يقول ابن عباس : فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، فهم ابن عباس وتفطن إلى أنه هذه المرة استدعاه خصيصاً كي يري هؤلاء القوم منزلة ابن عباس، فقال: ما تقولون في قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس ؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، أي: هذه السورة فيها نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذاته الشريفة، قال: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]وذلك علامة أجلك، فقد أديت الرسالة، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] أي: تأهب للقاء الله عز وجل، واختم حياتك بالتسبيح بحمد الله والاستغفار، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.

فانظروا عمر رضي الله عنهما كيف أراد أن يقوي ثقته، وينمي همته، ويربأ فيها عن احتقار الذّات، أو الشعور بالدونية والنقص.

وروى البخاري في الصحيح أيضاً أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم، فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو صغير السن، فقال ابن عباس في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! هذا وهو صبي صغير، والكبار لم يعرفوا، قال عمر : يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فأجابه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فانظر عبارة: (يا ابن أخي قل، ولا تحقر نفسك).

هذه من الأسس التربوية المهمة جداً، فبعض الناس يتصور أن عمر بن الخطاب بالقوة والشدة في الدين والبأس سوف يتعامل مع الطفل بما يرعبه، لكن لا، انظر كيف كانوا كلهم أساتذة في التربية رضي الله تعالى عنهم؟!

قال عمر: يا ابن أخي! قل، ولا تحقر نفسك، فمن ثم سار ابن عباس على هذه السنن منذ طفولته غير مبال بتثبيط من هو أقصر منه همة.

التشجيع في طلب العلم

من أسوأ الأشياء أن يصاحب الطالب شخص دائماً يأخذه إلى أسفل إما من أصحاب السوء الكسالى، أو من المثبطين الذين يحاولون تحطيم طاقاته وتحقيره وتعجيزه، يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: قد قبض الرسول عليه الصلاة والسلام، فهيا نذهب إلى مجالس علماء الصحابة وفقهائهم كي نستفيد ونتعلم؛ لأن هذا هو المتاح الآن بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له صاحبه هذا: واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، يعني: أنت غلام صبي صغير تذهب تتعلم لكي تحمل العلم للناس، هل الناس يحتاجون إلى مثلك، وأنت صبي صغير، وأنت ترى في القوم عمر وأبا بكر ومعاذاً وغيرهم من الصحابة.

فقال له صاحبه : واعجباً لك يا ابن عباس ! أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم، قال: فتركت ذاك، أي: أهملت هذا الكلام ولم أرعه، ولم يبال بهذه الكلمة المثبطة، انظر كيف التعامل مع التثبيط، قال: فتركت ذاك وأقبلت على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه، وهو قائل -نائم في وقت القيلولة- فأتوسد ردائي على بابه يسف الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟! هلا أرسلت إليّ فآتيك، فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني! صاحبه الأول الذي كان يثبطه رآه قد صار إماماً، والناس ملتفون حوله يتعلمون منه، قال: فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألونني فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني، يقول الشاعر:

فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق تطوي المراحلا

ولا تنتظر في السير رفقة قاعد ودعه فإن العزم يكفيك حاملا

وهذا ابن شهاب رحمه الله تعالى كان يشجع الأولاد الصغار فيقول: لا تحتقروا أنفسكم لحداثة سنكم؛ فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم.

وكان الخليفة هارون الرشيد رحمه الله يغدق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء حتى قال ابن المبارك : فما رأيت عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للمحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم، ويروي الحديث، ويجمع الدواوين، ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة، كل هذا بسبب تشجيع الخليفة هارون الرشيد للعلم ولطلبة العلم.

وبلغ حب بعض الأمراء للعلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يعتبر العلماء في رعايته الخاصة، ومن هؤلاء الأمراء: المعز بن باديس، أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعول على آرائه، ومنحه أسمى الرواتب.

كذلك فعل الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن الذي أنشأ بيت الطلبة، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين منهم، أي: سمع أن بعض الناس في الحاشية يتداولون كلاماً بينهم مفاده: كيف يغدق هذا الإغداق والعطاء على طلبة العلم النابغين؟ ففزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين! أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته -أي: من احتاج منكم رجع إلى قبيلته- وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجؤهم، إليّ فزعهم وإليّ ينسبون .

وبلغت عناية المنصور بالطبيب أبي بكر بن زهر حداً عجيباً، فقد كان أبو بكر يقيم عند الخليفة مدداً طويلة، ولا يرخص له بالسفر إلى أهله، حتى قال شعراً في شوقه إلى ولده الصغير، فلما سمع المنصور هذا الشعر أرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم بدراسة بيت أبي بكر وحارته، وتشييد مثله في مراكش، ففعلوا ما أمرهم به، وبنى له شارعاً، وفيه بيوت مشابهة للشارع الذي كان هو ساكن فيه، وبنى له بيتاً مثل بيته تماماً، فنقلوا عيال أبي بكر إليه، فلما رآه ابن زهر اندهش وحصل عنده من السرور ما لا مزيد عليه، ولا يستطاع التعبير عنه! فهل سمع بمثل هذا في إكرام العلم والعلماء؟! فالإسلام حليف العلم في كل العصور، ليس فقط علوم الشرع الشريف لكن حتى العلوم الحديثة، فإن العلم -بالذات في هذا العصر- أقوى مؤيد لدين الإسلام؛ لأن العلم منحاز بكل قوته إلى الإسلام، وقد تكلمنا مراراً على كتاب موريس بوكاي الذي فصل فيه الكلام على هذه الحقيقة.

في القرن السادس عشر قامت محاولة ناجحة في عهد الخلافة العثمانية لتجميع النابغين من جميع الأمصار والقرى، وتوفير الرعاية التي جعلت كل نابغة يعطي ما عنده من فن وعلم، مما ساعد على ازدهار الدولة العثمانية حضارياً وعسكرياً حتى صارت تهدد بغزو أوروبا.

يحكي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى قصة يقول: قرأت مرة أن مجلة إنكليزية كبيرة سألت الأدباء عن الأمر الذي يتوقف عليه نمو العلوم وازدهار الآداب؟ وجعلت لمن يحسن الجواب جائزة قيمة، فكانت الجائزة لكاتبة مشهورة قالت: إنه التشجيع، وقالت: إنها في تلك السن -بعد تلك الشهرة والمكانة- تدفعها كلمة التشجيع لتمضي إلى الأمام، وتقعد بها كلمة التثبيط عن المسير، أي: مهما بلغ الإنسان من مكانة في علم أو عمل أو نحو ذلك، فإن كلمة التشجيع لها أثر طيب جداً، فليس التشجيع فقط مع الصغار، ولذلك كان من الذوق إذا أحسن إليك شخص لابد أن تعبر عن شكرك له، وقد وصل الأمر إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله)، ومن لم يشكر الله فقد كفر بالنعمة.

فالإنسان يشكر لمن يعلم أنه أحسن إليه، نجد بعض الناس عنده هواية إذا قرأ كتاباً، وكان الكتاب حافلاً بالفوائد، وربما تكون فيه غلطة أو خطأ أو تقصير أو مسألة فيها نظر في أثناء الكتاب قام يشنع عليه، وهذه مدرسة قد ابتلينا بها في هذا العصر، أصحابها كالذباب لا يقع إلا على تلك الأشياء، فهو يترك كل الأشياء النظيفة وكل الفوائد ويركز اهتمامه فقط على الأخطاء، وكأن هذا الشخص لا يساوي إلا هذا الخطأ. هذا من الجحود، وهذا ليس من الإنصاف، كيف والله سبحانه وتعالى حتى مع أهل الكتاب يقول: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75] فحتى مع هؤلاء لابد من الإنصاف.

الشاهد: أن هذا الجحود صار الآن ظاهراً في مدارس معينة أو مدرسة محددة كل وظيفتها النظر فقط إلى القمامة، والبحث فقط في القمامة، لكن كل الحدائق الخضراء والبساتين والزهور والرياحين والأشياء الجميلة يتركونها، لا يعمدون إلا إلى القمامة، يتقصدون أخطاء الناس ويتصيدون الزلات، قال السلف قديماً: (إن المنافق يطلب الزلات، والمؤمن يطلب المعاذير)، لن أفصل في هذا حتى لا نخرج عن موضوعنا، لكن لعلها عبرة لهواة التفتيش في القمامة. إذا وجدت هفوة في كتاب فينبغي أن تقول: لقد استفدت من كتابك في كذا وكذا، لكن هناك نظر في المسألة الفلانية حبذا لو راجعتها، ربما يكون فاتك تحقيقها، أو نحو هذا الكلام اللطيف، لكن، الغلظة والشدة منهج وأسلوب حياة طغى -للأسف الشديد- على كثير من هؤلاء الناس.

أثر التثبيط في خنق المواهب

تكلم الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى عن أثر التثبيط في خنق المواهب، وحرمان الأمة من عبقرية أصحابها وإبداعهم، وهو يقصد بالمثبطين هنا بعض أبناء العائلات التي احتكرت الوظائف العلمية، فكانوا يخشون أن تتحول عنهم إلى غيرهم، فكلما رأوا طالب علم مجد ونابغة من غير هذه العائلات يخذلونه ويثبطونه إلى أن يترك طلب العلم، لكي يبقى العلم حكراً على هذه العائلات وهذه الأسر.

يقول الشيخ: إن الشيخ محمد أمين بن عابدين لما نشأ، وآنس المثبطون منه الميل إلى العلم، وعرفوا فيه الذكاء المتوقد، والعقل الراجح؛ خافوا منه، فذهبوا يقنعون أباه -وكان أبوه تاجراً- ليسلك به سبيل التجارة، ويتنكب به طريق العلم، وجعلوا يكلمونه ويرسلون إليه الرسل، ويكتبون إليه الكتب، ويستعينون عليه بأصحابه وخلطائه، ولكن الله أراد بالمسلمين خيراً، فثبت الوالد، فكان من هذا الولد المبارك ابن عابدين صاحب الحاشية، وهو أوسع كتاب في فروع الفقه الحنفي.

يقول الشيخ: بل أرادوا أن يصرفوا عن العلم أستاذنا العلامة محمد بن كرد علي -وهذا إمام من أئمة السلفية الكبار- فبعثوا إليه بشقيقين من آل فلان، شقيقان قد ماتا فلست أسميهما، على رغم أنهما قطعا عن العلم أكثر من أربعين طالباً، صرفوهم عن العلم إلى الاشتغال بالدنيا لهذا السبب، فما زالا بأبيه ينصحانه أن يقطعه عن العلم، ويعلمه مهنة يتكسب منها، فما في العلم نفع ولا منه فائدة، يلحان عليه ويلازمانه حتى ضجر فصرفهما، فننبغ ولده هذا الأستاذ كرد علي حتى صار صاحب النهضة الفكرية في الشام، وقائدها، ووزير معارف سوريا الأسبق، ومفخرتها، والذي من مصنفاته: خطب الشام، وغرائب الغرب، والقديم والحديث، والمحاضرات، وغابر الأندلس وحاضرها، والإدارة الإسلامية، والإسلام والحضارة العربية، والمقتبس، ومن مصنفاته: المجمع العلمي العربي بدمشق، ومن مصنفاته: هؤلاء الشعراء والكتاب من الشباب.

ولعل في الناس كثير كانوا -لولا الاحتقار والتثبيط- كـابن عابدين وكـكرد علي.

وها هو العلامة الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى مات وما له مصنف على جلالة قدره، وكثرة علمه، وقوة قلمه، وشدة بيانه، وسبب ذلك: أنه صنف لأول عهده بالطلب رسالة صغيرة في المنطق، كتبها بلغة سهلة عذبة، تنفي عن هذا العلم تعقيد العبارة، وصعوبة الفهم، وعرضها على شيخه؛ فسخر منه، وأنبه، وقال له: أيها المغرور! أبلغ من قدرك أن تصنف؟ وأنت وأنت -يعيره- ثم أخذ الرسالة فسجر بها المدفئة، فكانت هي أول مصنفات العلامة سليم البخاري وآخرها!

يقول: وأول من سن سنة التشجيع في بلدنا هو العلامة مربي الجيل الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله، نسبة إلى الجزائر في العراق، الفيلسوف المؤرخ الجدلي الذي من آثاره المدارس الابتدائية النظامية في الشام، والمكتبة الظاهرية، والأستاذ محمد كردي علي بيك كان من تلامذته، وخالي الأستاذ محب الدين الخطيب -محب الدين الخطيب خال الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله- ومما كتب الشيخ طاهر الجزائري في ذم التثبيط رحمه الله يقول: وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط الهمم في هذا الوقت الذي يتنبه فيه الغافل، وكان الأجدر بهم أن يشفقوا على أنفسهم، ويشتغلوا بما يعود عليهم وعلى غيرهم بالنفع، ولم ير أحداً من المثبطين قديماً أو حديثاً أتى بأمر مهم، فينبغي للجرائد الكبيرة أن تكثر من التنبيه على ضرر هذه العادة، والتحذير منها؛ ليخلص منها من لم تستحكم فيه، وينتبه الناس لأربابها ليخلصوا من ضررهم.

وكان الشيخ في حياته يشجع كل عامل، وهذا من السنة، فالرسول عليه الصلاة والسلام لما رآهم عند بئر زمزم يصبون الماء قال لهم: (هكذا فاعملوا بارك الله لكم، وجزاكم الله خيراً) أو كما قال، والشاهد التشجيع والثناء على من يفعل خيراً بالخير، وكان الشيخ لا يثني أحداً عن غاية صالحة؛ حتى لقد أخبرني أحد المقربين منه أنه قال له: إذا جاءك من يريد تعلم النحو في ثلاثة أيام فلا تقل له: إن هذا غير ممكن -انظر إلى هذا الأسلوب التربوي- لا تقل له: هذا غير ممكن؛ فتفل عزيمته، وتكسر همته، ولكن أقرئه، وحبب إليه النحو، فلعله إذا أنس به واظب على قراءته.

أثر التشجيع في ولادة المواهب والعبقريات

إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة حتى تظهر وتثمر ثمارها، وتؤتي أكلها، ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء، وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والتشجيع من منوال الحياكة إلى منصب الإفتاء وكرسي التدريس تحت القبة.

نشأ الشيخ محمد بن إسماعيل الحائك خياطاً عامياً، ولكنه كان محباً للعلم وللعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، ولا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فالشيخ يؤنسه لأنه يأتي مبكراً، ويجلس في أول الصف، حتى إذا غاب يسأل عنه الشيخ، فهذا أثر فيه تأثيراً شديداً؛ لأنه صار محل اهتمام هذا الشيخ، فاشترى الكتب وصار يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها، وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل والوقائع فيجيبهم بما يعجز عنه فحول العلماء، فانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيى من عمله، ويحيى الناس بعلمه، كان يشتغل بالخياطة وفي نفس الوقت يفيد الناس، وكان يمر كل يوم في دار العماديين الذين كانوا محتكرين الفتوى في القيمرية وهو على أتان -وهي الحمارة- له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر فوجد على الباب أخاً للمفتي فرد عليه السلام، وقال له ساخراً: إلى أين يا شيخ؟ أذاهب أنت إلى اسطنبول لتأتي بولاية الإفتاء؟!

يسخر منه، لأنه في السابق كان يعين المفتي بمرسوم من اسطنبول، وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله، وسار في طريقه حتى إذا ابتعد عنه سار في الأزقة، حتى عاد إلى داره فودع أهله وأعطاهم نفقتهم، وسافر إلى مكان مجهول، وما زال يفارق بلداً ويستقبل بلداً، حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف الناس من زيه أنه عربي، فيحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنَّوا الجنة الكبرى بعد، فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً، واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها ولم يدروا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون، فهل لك في أن تراها لعل الله يفتح عليك بالجواب، قال: نعم، قال: سر معي إلى المشيخة، قال: باسم الله، ودخلوا على ناموس المشيخة -الذي يسمى الآن السكرتير- فسأله الشيخ إسماعيل عن المسألة، فرفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء؛ لأنه يلبس ملابس رثة، وكأنه يقول: هذا الفقير جاء يريد الجواب عن السؤال الذي عجز عنه شيوخ الإسلام في دار الخلافة! ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، ثم ألقاها إليه الموظف وانصرف إلى عمله، فأخرج الشيخ نظارته، فوضعها على عينه، فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته الدواة النحاسية الطويلة التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة، والدفاع عن النفس -القلم كان كبيراً قوياً يستعمل في الكتابة وفي الدفاع عن النفس- فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سود عشر صفحات ما رجع في كلمة منها إلى كتاب، بل من ذاكرته، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام وقرأها كاد يقضي دهشة وسروراً، وقال له: ويحك! من كتب هذا الجواب؟ قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت، قال: علي به، فدعوه وجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه، إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ ولم يحفظ منها شيئاً، ودخل على شيخ الإسلام فقال له: السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله! ولكن شيخ الإسلام سر بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله، حتى قال له: سلني حاجتك؟ قال: إفتاء الشام وتدريس القبة، قال: هما لك، فاغد علي غداً، فلما كان من الغد ذهب إليه وأعطاه فرمان التولية، ومعه ألف دينار، وعاد الشيخ إلى دمشق، فركب أتانة وسار حتى مر بدار العماديين، فإذا بأخي المفتي الذي كان يسخر منه على الباب فسخر منه كما سخر، وقال: من أين يا شيخ؟ فقال الشيخ: من اسطنبول، أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني، ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلم الشيخ عمله في حفلة حافلة.

همم الرجال إذا مضت لم يثنها خدع الثناء ولا عواد الذام

أي: أن الهمم العالية لا يثنيها ولا يثبطها ولا يحبطها خدع الثناء، فالمدح لا يغرها، حتى تصل مرحلة الانتفاع، (ولا عواد الذام)، يعني: ولا نوائب الذي يعيب ويحتقر.

ومن هذا الباب: قصة الشيخ علي كزبر، وقد كان خياطاً في سوق المسكية على باب الجامع الأموي، فكان إذا فرغ من عمله ذهب فجلس في الحلقة التي تحت القبة فاستمع إلى الشيخ حتى يقوم فيلحق به ويخدمه، وكان الشيخ يعطف عليه لما يرى من خدمته إياه، فيشجعه ويحثه على القراءة، فقرأ ودأب على المطالعة حتى صار يقرأ بين يدي الشيخ في الحلقة، ولبث على ذلك أمداً وهو لا يفارق دكانه ولا يدع عمله، حتى صار مقدماً في كافة العلوم، فلما مات الشيخ حضر في الحلقة الوالي والأعيان والكبراء ليحضروا أول درس للمدرس الجديد؛ فافتقدوا المعيد فلم يجدوه، ففتشوا عليه فإذا هو في دكانه يخيط، فجاءوا به فقرأ الدرس وشرحه شرحاً أعجب الحاضرون وطربوا له، فعين مدرساً، ولبث خمسة عشر عاماً يدرس تحت قبة النسر، وبقيت الخطبة في أحفاده إلى اليوم.

وكان هذا مروراً عابراً مختصراً؛ لأن الكلام في هذا الموضوع أوسع من هذا بكثير، لكن أردت أن أعجل بهذه الوصية قبل أن يبدأ العام الدراسي؛ لأننا نسمع بمذابح ومجازر لهمة الأطفال، وبالتحقير والتشنيع، وإن شاء الله عما قريب أرجو أن نصل بهذه النصيحة إلى المدرسين حتى يتقوا الله في مستقبل المسلمين المتمثل في أبنائهم وطلابهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , التشجيع وأثره في التربية للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net