إسلام ويب

إنّ طاعة الله تعالى هي حياة الأرواح، وزاد القلوب، وهي الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والنديم في السمر. فقد سعى إليها الأولون سعياً حثيثاً، وشمروا لها تشميراً؛ رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً، وقد حفظت لنا كتب التراجم أخبار نساء عابدات قانتات سبقن كثيراً من الرجال، فما أحوجنا إلى معرفة أخبارهن؛ لتكون لنا زاداً في طريق سيرنا إلى الله تعالى.

الحث على طاعة الله تعالى

الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته، فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه ووطائه ومن بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام، وما له في الرجوع، فرجع حتى أهريق دمه، فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).

هذا الحديث قال عنه المنذري في الترغيب والترهيب: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وابن حبان في صحيحه من رواية ابن مسعود ، والحديث حسنه الألباني ، وقال الشيخ شاكر في تحقيق المسند: إسناده صحيح.

قوله: (عجب ربنا من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه) (ثار) أي: نهض ووثب بعلو همته، كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، والوطاء هو الفراش، واللحاف هو ما يتغطى به (من بين حبه) أي: حبيبه (إلى صلاته) أي: ينهض إلى الصلاة والتنفل والقيام لله تبارك وتعالى، (فيقول الله جل وعلا: أيا ملائكتي! انظروا إلى عبدي! ثار عن فراشه) أي: نهض وقام عن فراشه (ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقه مما عندي) أي: رغبة فيما عندي من الجنة (وشفقة مما عندي) أي: خوفاً من عذابه تبارك وتعالى.

والثاني يقول فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل غزا في سبيل الله فانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع) أي: علم ماذا ستكون عقوبته عند الله عز وجل إن هو فر من الأعداء، وعلم -أيضاً- ما له من الثواب الجزيل إذا رجع يقاتل ويجاهد هؤلاء الأعداء، (فرجع حتى أهريق دمه) أي: فرجع يحتسب نفسه عند الله، وقاتلهم منفرداً حتى أهريق دمه، (فيقول الله لملائكته: انظروا إلى عبدي! رجع رجاء فيما عندي وشفقة مما عندي حتى أهريق دمه).

وهناك أحاديث أخرى في نفس معنى هذا الحديث، منها: حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم، -وذكر أولهم- رجل إذا انكشفت فئة قاتل وراءها، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا، كيف صبّر لي نفسه؟!) أي: حبس لي نفسه، فقوله: (انكشفت فئة) يعني: انهزمت في أثناء القتال، وقوله: (قاتل وراءها) أي: قاتل بنفسه منفرداً حتى يردها ابتغاء وجه الله عز وجل، (فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول -أي: يقول الله عز وجل-: (انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه؟!).

ثم قال: -(ورجل له امرأة حسنة، وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول)- أي: فيقول الله تبارك وتعالى: (يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! ورجل كان في سفر، وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء) يعني: يذكر الله تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويصلي له في ضراء وسراء.

هذا الحديث رواه الطبراني في الكبير وقال: إسناده حسن، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله ثقات، وحسنه الألباني .

هؤلاء الثلاثة يضحك الله إليهم، اثنان منهم قاما الليل، أحدهما قامه وسط أهله وترك زوجته الحسناء وفراشه الوثير، والآخر قامه في سفر بعد أن كابد السفر وهوله، ومن ضحك الله إليه لا يمكن أن يدعه من الإنعام والإكرام. ( فهؤلاء ثلاثة يحبهم الله ويضحك إليهم ويستبشر بهم: أحدهم الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يقتل، وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول الله تعالى: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي نفسه! والذي له امرأة حسناء وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله تعالى: يذر شهوته ويذكرني ولو شاء رقد! والذي كان في سفر وكان معه ركب فسهروا ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء).

ومن هذا الباب -أيضاً- قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يشنؤهم الله) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم) والسرى هو المشي ليلاً حتى يحبوا أن يمسّوا الأرض. أي: يحبون أن يناموا على الأرض من شدة الإرهاق في السفر، قال: (فينزلون، فيتنحى أحدهم) أي أنه يشاركهم في الإرهاق والتعب وعذاب السفر، ومع ذلك إذا هجعوا وناموا فإنه يتنحى ولا ينام طمعاً فيما عند الله (فيتنحى أحدهم، فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم، والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن) والظعن هو الانتقال أو السفر ( والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان).

هذا الحديث عزاه السيوطي في (الجامع) للإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، ورواه الموطئي -أيضاً- بلفظ آخر بإسناد جيد، وقال الألباني : رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وابن المبارك وابن نصر وابن أبي شيبة والطحاوي ، وصححه الألباني .

قوله: (والذين يشنؤهم: التاجر الحلاف، والفقير المختال، والبخيل المنان) (يشنؤهم) أي: يبغضهم الله تبارك وتعالى (التاجر الحلاف) أي: الذي ينفق سلعته ويروجها بالحلف الكاذب، فيصدق الناس قوله بسبب حلفه بالله تبارك وتعالى، ويغفل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة) فالحلف قد ينفق السلعة، لكنه يمحق بركة هذا المال الذي جاء بالحلف.

وقوله في الحديث: (التاجر الحلاف) فيه ذم للشخص الذي يكثر الحلف حتى ولو كان صادقاً، وأما من يحلف أحياناً وهو صادق، وأحياناً لا يحلف فإنه لا يكون كثير الحلف، فالتاجر الذي يبالغ في الحلف ويكثر منه يبغضه الله تبارك وتعالى ولو كان صادقاً، أما إذا كان كاذباً فهو حلف يهلكه ويغمسه في النار، ومن كان صادقاً لا يخلو من الذم؛ لأنه ينبغي للإنسان أن لا يكثر من الحلف، وإنما يجعل الحلف لعظائم الأمور، أو يقلل منه بشرط أن يكون صادقاً.

وهناك أيضاً رواية ثالثة قريبة من هذه الروايات، وهي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر في رواية أخرى: (ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله، فأما الذين يحبهم الله: فرجل أتى قوماً فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم) أي: سألهم بالله أن يتصدقوا عليه، ومعلوم أن الإنسان إذا سئل بالله وجب عليه أن يعطي السائل، يقول عليه الصلاة والسلام: (من سألكم بالله فأعطوه)، ويقول الله سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] فالسائلون والناس لو عرفوا هذا لانتفعوا كثيراً، فمن سألك بالله وجب عليك أن تعطيه أيَّ شيء، ولا ترده على الإطلاق.

فهذا الرجل أتى هؤلاء القوم، وسألهم بالله ولم يسألهم لقرابة بينه وبينهم (فمنعوه) أي: فمنعوه الصدقة ولم يجيبوه (فتخلف رجل بأعقابهم) أي: تخلف في نهاية القافلة أو القوم، وكان رجلاً صادقاً في طاعته لله تبارك وتعالى، فأراد أن لا يُرى أنه تصدق (فتخلف رجل بأعقابهم، فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه) فهذا يحبه الله (وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به وضعوا رءوسهم، فقام أحدهم يتملقني ويتلو آياتي)، فهذه فضيلة ظاهرة لقيام الليل خاصة في السفر ومع شدة المشقة (ورجل كان في سرية فلقي العدو فهزموا،فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له، والثلاثة الذين يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم).

فهذه بعض الأحاديث التي فيها الحث على طاعة الله تبارك وتعالى، والاجتهاد في ذلك مع إخلاص النية.

حث الرجل أهله ومن يعول على طاعة الله تعالى

هناك أحاديث أخرى فيها الترغيب على أن يحث الرجل أهله ومن يلوذ به على طاعة الله عز وجل، وتُعلي همته في ذلك، منها:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته) فهذا فيه أنّ من فعل ذلك دخل في دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (رحم الله رجلاً! قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى نضحت في وجهه الماء) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم ، وصححه -أيضاً- النووي وغيره.

قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن أبت) أي: إن أبت زوجته (نضح في وجهها الماء)، وأيضاً (فإن أبى) أي: أبى زوجها (نضحت في وجهه الماء) والمقصود الماء أو ما يقوم مقامه، فإذا كان سينفعل ويثور إذا نضحت في وجهه الماء البارد فيمكن أن تستبدله بأي عطر أو طيب أو أي شيء له رائحة طيبة، بحيث لا يستفزه ذلك وتعين الشيطان عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: (من استيقظ من الليل، وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً، كتبا ليلتئذٍ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإيقاظ نسائه ويقول: (أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).

وجاء في الحديث الآخر أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ على ابنته فاطمة وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما، فأمرهما بقيام الليل، فأجابه علي رضي الله عنه قائلاً: (يا رسول الله! أرواحنا بيد الله، يبعثها متى شاء) فانصرف صلى الله عليه وسلم وهو يضرب فخذيه ويقول: (وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]).

الحث على طاعة الله تعالى في المواسم المباركة

إنّ هذه الأحاديث هي مقدمة هذا الموضوع الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى، وهو موضوع الحث على طاعة الله تبارك وتعالى والاجتهاد فيها، خاصة في هذا الموسم العظيم، وهو موسم يغفل عنه أكثر الناس مع أنه لا يقل أهمية عن رمضان أو عن العشر الأواخر من رمضان.

وهذا الموسم هو عشر ذي الحجة، والناس في هذا الموسم على قسمين: فمنهم من ييسر الله له الرحيل إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، ومنهم من يعذر ولا يستطيع الذهاب، فربما رحل بقلبه، وهذا الفريق الثاني الذي لم ييسر الله له السفر إلى بيت الله الحرم قد أقام الله عز وجل له موسماً للطاعات فيه ثواب جزيل جداً إذا اغتنمه، فعلى الإنسان أن يعمره بالصلاة والصيام والصدقة وذكْر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وسائر أنواع الخير، وأن يجتهد في ذلك، وينبغي الاستعداد لهذا الموسم قبل مجيئه، وأن يفرغ الإنسان نفسه لطاعة الله عز وجل حتى لا يكون من الخاسرين في هذا السوق العظيم.

يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله عز وجل من أيام العشر، قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه يجاهد في سبيل الله عز وجل فلم يرجع من ذلك بشيء).

لقد أقسم الله تعالى بليالي عشر ذي الحجة فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2] وهي ليالي العشر من ذي الحجة، والعمل في أيام العشر ثوابه العظيم، فهذه فرصة من الفرص النادرة التي يكون فيها الفضل العظيم من الله تبارك وتعالى، فنحتاج إلى إيقاظ الهمم حتى تسمو نفوسنا إلى طاعة السابقين واجتهادهم، فإن العلماء يذكرون أن أعظم طريقة في إصلاح القلوب وتزكية النفوس هي أن يعايش الإنسان إنساناً أو شيخاً أو قدوة يقتدي به في أحواله، ويعرف السنن من سلوكياته، فإذا عَزَّ هذا -كما في هذا الزمان الذي نعيشه- فإن البديل هو أن يكثر الإنسان من مطالعة أحوال الصالحين، خاصة في القرون الخيِّرة الأولى وما تلاها من حياة من تبعوهم بإحسان، فيطالع أخبارهم حتى يستثير همته، ويكون له فيهم أسوة، فهذا الذي يخرج الأمة المجاهدة، والأمة العابدة، والأمة العاملة لدينها، والتي تحقق العبودية لله وتعرف ما هو هدفها من هذه الحياة، وكيف تستثمره، لا الأمة التي جعلت هدفها هي الأهداف التي يحققها لاعبو الكرة، ولا الأمة التي هدفها أن تصير الأولى في العالم في اللعب واللهو وتنسى الجهاد في سبيل الله.

انشغال المسلمين بالدنيا واللهو ونسيانهم قضايا الأمة الكبيرة

مما يؤسف له أنّه حصل موقف يتحسر فيه المرء على حال المسلمين، فقد قال مراسل الـ(b.b.c) يصف القاهرة: القاهرة من أكثر عواصم العالم ازدحاماً، سواء أكان ذلك في ليل أم في نهار. ويقول: أنا مع طول مكثي في القاهرة ما رأيت العاصمة قبل ذلك على هذه الهيئة، فقد ظهرت عاصمة مصر على حالين متناقضين تماماً: الأولى: أثناء إذاعة المباراة باتت الشوارع وكأن المدينة قد فرض عليها نظام حظر التجول.

والصورة الأخرى التي تضادها تماماً هي ما كان من الناس بعدما حصل الفوز العظيم والنصر المبين، وكأن القدس قد استعيدت، وفلسطين قد رجعت، وكأن أفغانستان قد عادت، وكأن شرع الله قد طبق، وكأن كل الأهداف التي تعيش لها هذه الأمة الغافلة اللاهية التي صارت أضحوكة الأمم قد حققت، فترى أفرادها أوائل في اللعب واللهو، أما الجهاد والعيش للهدف الذي خلقنا الله من أجله وقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فيسمى تطرفاً.

وفي نفس هذا اليوم -أعني يوم الفوز العظيم الذي حققه المجاهدون في ميدان الكرة- أعلن نائب رئيس الأركان الإسرائيلي أن إسرائيل تعتقد حتمية قيام حرب رابعة أو حرب جديدة مع عدة دول عربية، ذكر منها مصر وسوريا والأردن والعراق.

وهل ذكر السعودية؟ إنني غير متأكد من ذكر السعودية، ولو ذكرها لكانت المصيبة أكبر؛ لأنهم يطمعون في المدينة المنورة، وفي نفس هذا اليوم الذي صدر فيه هذا التصريح يخرج المحدث المصري يرتعد من الخوف ويقول: كيف هذا؟! هذا يتعارض مع السلام الذي نحن عليه وكذا وكذا، وفي نفس هذا اليوم -أيضاً- خنق ستون طفلاً فلسطينياً في مستشفى الأطفال في محاضنهم من تأثير الغازات المسيلة للدموع التي ألقاها اليهود -لعنهم الله- عليهم، أفنحب أن يكون في كل بيت مأتم؟! فما الفرق بين أن يكون هؤلاء الأطفال إخوانك أو أبناؤك؟!

كيف يحصل هذا الانتصار الشعوري، فنحن في نشوة وانتصار كأن فلسطين قد فتحت، وكأن القدس قد عادت، ومثل هذا من التفاهات واللهو واللعب يحصل.

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم، وكم في مصر من المضحكات! ولكنه ضحك كالبكاء.

ترى الناس يبكون وكأنهم يبكون من خشية الله، إنّا نعيش مأساة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فالمقصود أن التربية هي التي تنشئ هذه الأمة المجاهدة، وأنا أريد أن أسأل الإخوة المجاهدين الذين يمكثون أمام التلفزيون الساعات الطوال، وربما تخلفوا عن صلاة الجماعة ببسب هؤلاء الشياطين المجرمين فأقول: لو كان بينكم الآن أبو بكر أو عمر بن الخطاب أو خالد بن الوليد أو سعد بن أبي وقاص أو عبد الرحمن بن عوف أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو صلاح الدين الأيوبي هل كانوا سيمكثون أمام اللعب واللهو وينظرون إلى هذا الجهاز الجديد؟! إنّ هذه صورة جديدة من الجهاد تحشد لها أمة بكاملها، وتحشد لها الملايين وتنفق عليها. فهل تسأل -يا من تسأل وتكثر السؤال-: هل النظر إلى المباريات حلال أو حرام؟ هل عرضت على قلبك هذا السؤال؟! هل كان عمر سيمكث هذه الساعات أمام هذا الباطل وأمام هذا اللغو؟! الله المستعان!

إننا نوبخ أنفسنا بمقارنة أحوالنا وأحوال السابقين، فلن نقارن بين رجالنا ورجالهم، بل سنقارن بين رجالنا ونسائهم، ونردد قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

أحب الصالحين ولست منهمعلي أن أنال بهم شفاعة

وأبغض من تجارته المعاصيإن كنا سواء في البضاعة

ونقول:

أما لك في الرجال أسوة؟!أتسبقك وأنت رجل النسوة؟!

وبين أيدينا نماذج من نساء السلف اجتهدن في طاعة الله تبارك وتعالى.

نماذج من نساء السلف العابدات

فنقول: إن المرأة المسلمة التي رباها القرآن والسنة قد فقهت عن الله تبارك وتعالى أمره، وتدبرت في حقيقة الدنيا ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشت من حشمتها، وتجافى جنبها عن مضجعها، وتناءى قلبها عن المطامع، وارتفعت همتها عن السفاسف، فلا تراها إلا صائمة قائمة باكية نائحة، وقد حفل التاريخ الإسلامي بالخيرات الصالحات اللواتي نهجن طريق الجد عن علم ورسوخ عقيدة، لا عن حماقة وجهالة، كما تجد في كثير ممن وصفن بالنسك والتصوف، تجد في دواوين الإسلام أخباراً كثيرة عن النساء العابدات، بدءاً من صدر العهد النبوي إلى ما تلاه من القرون.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى النساء بعد صلاة العيد فكلمهن في الصدقة، فأخذن ينزعن الفتخ والقرط والعقود والأطواق والخواتيم والخلاخيل ويلقينها في ثوب بلال رضي الله عنه، وكان بلال قد بسط ثوبه ليضع فيه النساء صدقاتهن)، وبذلك رقأت عبرة اليتيم، وبردت لوعة المسكين، وكذلك فعل النساء حين نزلت آية الصدقة: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:18].

لقد كان كثير من الإحسان في الجاهلية مما تثيره المنافسة وحسن الأحدوثة، فأصبح بالإسلام مما تفيض منه الرحمة، ويبعثه ابتغاء مرضات الله عز وجل.

أم المؤمنين الصديقة عائشة رضي الله تعالى عنها

وفي قمة هؤلاء العابدات نساء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهن، ويتصدر نساء الصحابة أمهات المؤمنين وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى رأس هؤلاء جميعاً أم المؤمنين أم عبد الله الصديقة بنت الصديق ، المبرأة من فوق سبع سموات، حبيبة خليل الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء ، وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء على الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.

وقال القاسم : كانت عائشة تصوم الدهر. ويحمل هذا على أنها كانت تصوم ما سوى الأيام المنهي عن صيامها، كأيام الحيض، وأيام التشريق، ويوم العيد.

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها كانت تسرد الصوم. وعن القاسم أنها كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.

وقال عروة : كنت إذا غدوت -يعني: خرجت في الصباح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها، فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح -أي: تصلي النافلة، ولعلها كانت تصلي الضحى والله أعلم- وتقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] فتدعو وتبكي وترددها، فقمت حتى مللت القيام -أي: وقف ينتظرها حتى مل القيام والوقوف- فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي.

وعن عروة قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً مما جاءها من رزق الله تعالى إلا تصدقت به، فقال عروة : بعث معاوية رضي الله عنه مرة إلى عائشة رضي الله عنها بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وعنه أيضاً قال: إن عائشة تصدقت بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جانب درعها.

وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى عائشة وتتردد عليها- قالت: بعث إلى عائشة ابن الزبير بمال في غرارتين -قالت: أراه ثمانين ومائة ألف-، فبعث بطبق -وهي صائمة يومئذ- فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري -أي: أحضري فطوري-، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة : أما استطعت -مما قسمت اليوم- أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه؟! قالت: لا تعنتيني، لو كنت أذكرتيني لفعلت.

وعن عبد الواحد بن أيمن الحبشي قال: حدثني أبي قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعليها درع قطر ثمنه خمسة دراهم، وقالت: ارفع بصرك إلى جاريتي فانظر إليها، فإنها تزهى أن تلبسه في البيت -أي: أنّ الجارية كانت تستنكف أن تلبس مثل هذا الثوب الذي على عائشة وهي في البيت- وقد كان لي منهن درع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كانت امرأة تقين في المدينة إلا أرسلت إلي تستعيره. أي: يستعرنه في المناسبات كي يلبسنه.

وعن عبد الله بن أبي مليكة أنه جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن .

وذلك حينما كانت تحتضر رضي الله عنها. ولا يخفى على مسلم مكانة عائشة رضي الله عنها ومقامها عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحبها إلا من كانت أمه فهي أم المؤمنين، ومن أبغضها فليس من المؤمنين.

وفضائل عائشة رضي الله عنها كثيرة جداً تحتاج لدروس كثيرة مستقلة، ويكفي في فضلها وشرفها رضي الله تبارك وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان على وشك أن يفارق الدنيا اختار حبيبه لخلافته في الصلاة وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، واختار المكان الذي يقبض فيه وهو بيت عائشة رضي الله عنها، وهي ابنة أبي بكر رضي الله عنه، فتباً وسحقاً للرافضة الذين يلعنونهما ويتقربون إلى الله ببغضهما، فهم المطرودون المبعدون.

فحينما كانت أم المؤمنين رضي الله عنها في وقت احتضارها وهي تشرف على الموت قال لها عبد الله بن أبي مليكة : هذا ابن عباس يستأذن -يعني: يستأذن على أم المؤمنين- فقالت: دعني من ابن عباس . تعني: لا تدخلوا ابن عباس ؛ لأنّها كانت تعلم شدة حب ابن عباس لها، ولعله إذا دخل عليها جعل يمدحها ويرجيها، كما هي السنة أنك إذا حضرت رجلاً يحتضر فلا يناسب أن تكثر من ذكر الخوف؛ لأنّ ذكر الخوف قد يخرج به إلى القنوط، فذكر الخوف ليس مقصوداً لذاته، وإنما هو باعث ومحرك حتى تعمل، وحتى تسعى إلى العمل، أما إذا انقضت المهلة ولم يبقَ وقت تعمل فيه فإن الخوف مع عدم إمكان العمل قد يؤدي إلى القنوط، والله تعالى يقول: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] لذا فإنّ المستحب إذا حضرت شخصاً مسلماً يحتضر أن تذكره بما فعل من الأعمال الصالحة، وأن تذكره بأعماله الطيبة، مثل أن تقول: لقد كنت تصلي جماعة، وكنت تكثر من ذكر الله، وكنت تتقي الحرام، ويذكره بالأعمال الصالحة حتى يدخل في الرجاء ويقبل على الله تبارك وتعالى وهو يحسن الظن به.

فالمقصود أن أم المؤمنين قالت: دعني من ابن عباس . فقال لها: يا أماه! إن ابن عباس من صالحي بنيك، يسلم عليك ويودعك! فقالت: ائذن له إن شئت. فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري أبشري! فما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد -لأنه كان يؤمن أنها زوجته في الجنة رضي الله عنها- كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل.

وهذه القصة هي أنه حينما سقطت قلادتها أوقف الرسول عليه الصلاة والسلام جميع الجيش الذين معه ليبحثوا عن قلادة عائشة رضي الله عنها ليلة كاملة، فغضب منها أبو بكر رضي الله عنه لما علم أنهم أنما حبسوا بسببها، فأتاها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذها، فجعل أبو بكر يطعن في خاصرتها ويقول: حبستينا. فكانت تتألم جداً من هذا الضرب، ولكنها لم تتحرك حتى لا يستيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكانت تثبت في مكانها رغم شدة هذا الطعن الذي كان يطعنها به أبو بكر رضي الله عنه في خاصرتها، ويوبخها بأنها تسببت في حبس المسلمين، فأصبح الناس وليس معهم ماء يتوضئون به، فأنزل الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].

فحينئذ تيمموا، وأرادوا أن يرحلوا فإذا بالقلادة تحت جملها الذي كان باركاً.

فالشاهد أن ابن عباس قال لها في ضمن مناقبها رضي الله عنها: وسقطت قلادتك ليلة الأبواء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبها في المنزل، فأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله عز وجل: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وكان ذلك بسببك.

ولذلك قال أسيد بن حضير لها: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . أي: ليست هي أول بركتكم على الأمة، فإن لكم بركات كثيرة.

قال ابن عباس : وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح وليس مسجد من مساجد الله يذكر الله فيه إلا تتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.

فردت أم المؤمنين رضي الله عنها: يا ابن عباس ! دعني منك ومن تزكيتك، فو الله لوددت أني كنت نسياً منسياً.

أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها

وكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم امرأة صناعاً، وكانت تعمل بيدها، وتجمع المال من هذه الصنعة التي كانت تعملها، ولعلها كانت تغزل أو تفعل شيئاً من هذا القبيل، فكانت تجمع المال ثم تتصدق به كله في سبيل الله تبارك وتعالى، وكانت صالحة صوامة قوامه بارة، وكان يقال لها: أم المساكين. وفيها قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين توفيت: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل. كانت زينب مفزع اليتامى والأرامل، يفزعون إليها حتى تفرج كرباتهم رضي الله عنها.

وعن أنس رضي الله عنه قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: حبل لـزينب) أي أنها تصلي فإذا فترت تعلقت به حتى تواصل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) وفي رواية قالوا: (زينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).

وعن عبد الله بن رافع عن برة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء -وهو المال الذي كان يوزعه الخليفة على المسلمين في كل سنة- بعث عمر إلى زينب رضي الله عنهما بالذي لها -أي: بنصيبها من المال- فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـعمر ! لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم -أي: توزيع- هذا مني. قالوا: هذا كله لك -وهي ظنت أن عمر أرسله إليها حتى توزعه- فقالت: سبحان الله! واستترت دونه بثوب -أي أنها خافت من هذا المال وابتعدت عنه واستترت بثوب- فقالت: صبُّوه، واطرحوا عليه ثوباً، فصبوه وطرحوا عليه ثوباً، فقالت لي: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي به إلى آل فلان وآل فلان من أيتامها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برة : غفر الله لك! والله لقد كان لنا من هذا حظ -أي: كان الأصل أن تبقي لنا حظاً من هذا المال- قالت: فلكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا بضعة وثمانين درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، قال: فماتت رضي الله عنها.

وعن محمد بن سعد قال: كان عطاء زينب اثني عشر ألف درهم -هكذا كانت تُعطى في كل سنة- فحُمل إليها فقسمته في أهل رحمها وفي أهل الحاجة حتى أتت عليه، فبلغ عمر فقال: هذه امرأة يراد بها خير، فوقف على بابها وأرسل بالسلام، وقال: قد بلغني ما فرقت، فأرسل إليها بألف درهم لتنفقها على نفسها، فسلكت بها طريق ذلك المال.

وروي عنها أنها حين حضرتها الوفاة قالت: إني قد أعددت كفني، ولعل عمر سيبعث إلي بكفن، فإن بعث بكفن فتصدقوا بأحدهما، فإن استطعتم -إذا أبليتموني- أن تصدقوا بحقوتي فافعلوا.

وزينب رضي الله عنها هي التي كان يقول فيها عليه الصلاة والسلام: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) يعني أن أول أمهات المؤمنين ستموت بعده صلى الله عليه وسلم أطولهن يداً، ففهمنها على ظاهرها، فكانت أمهات المؤمنين يقسن أيديهن على جدار، فترفع كل واحدة منهن يديها حتى يقسنَ وينظرن من منهن أطول يداً؟ فبعد ذلك حينما توفيت زينب فهمن أن مقصود الرسول عليه الصلاة والسلام كان طول يدها في المعروف وأسرعهن صدقة.

قالت عائشة رضي الله عنها: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً، وكانت زينب تعمل وتتصدق بما يأتيها من المال.

وقالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش رضي الله عنها تساويني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب ، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تتقرب به إلى الله تعالى، ماعدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة. فانظر إلى هذا المدح والوصف من ضرتها؟!

أم المؤمنين زينب بنت خزيمة رضي الله تعالى عنها

وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله الهلالية كانت -أيضاً- تدعى أم المساكين، وهي غير زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت كثيرة المعروف، ولذلك كانت تلقب بأم المساكين.

أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنها

أما أم المؤمنين حفصة بنت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فقد كانت أيضاً تسامي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في منزلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عابدة خاشعة قانتة لله تبارك وتعالى، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ثم راجعها بأمر الله تعالى له بذلك، فقد أتاه جبريل عليه السلام فقال له: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة) فجعل كثرة صيامها وقيامها سبباً في أمر نبيه أن يراجعها ولا يطلقها، وفي أنّها تكون زوجته في الجنة إذا ماتت وهي زوج لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي شهادة وتزكية لـحفصة رضي الله عنها بعد شهادة وتزكية الله تبارك وتعالى لها من فوق سبع سموات؟!

أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها

أما أسماء بنت أبي بكر بن عبد الله بن أبي قحافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين فهي أم عبد الله القرشية التيمية والدة الخليفة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وأخت أم المؤمنين عائشة ، وهي المعروفة بـذات النطاقين ، وقد كانت خاتمة المهاجرين والمهاجرات، قال ابن أبي مليكة : كانت أسماء تصدع -أي: يصيبها الصدع- فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي، وما يغفره الله أكثر.

وعن فاطمة بنت المنذر قالت: إن أسماء كانت تمرض المرضة فتعتق كل مملوك لها. وعن محمد بن المنكدر قال: كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما سخية النفس. وعن الركين بن الربيع قال: دخلت على أسماء بنت أبي بكر وقد كبرت وهي تصلي وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي، من الكبر. أي: من شدة طعنها في السن.

وأما أم الدرداء الصغرى : فهي السيدة العالمة الفقيهة هجيمة بنت حيي الأوصابية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن -وهي صغيرة- على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد.

قال عون بن عبد الله : كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. وقال يونس بن ميسرة : كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء ، وإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال. وعنه أيضاً قال: كنا نحضر أم الدرداء فتحضرها نساء عابدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.

أما السيدة الشريفة العفيفة التقية النقية سكينة بنت الحسين الشهيد ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فكانت شهمة سخية كريمة، وكانت تجود بكل ما لديها من مال، فإن لم يكن مال فبحلي تنزعه أو ثواب، شيء من الحلي الذي تلبسه.

أما السيدة المكرمة الصالحة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي العلوية الحسنية رضي الله عنها، وهي السيدة نفيسة المدفونة في القاهرة، وللأسف! يفعل بقبرها من الشرك ما الله ورسوله والمؤمنون منه براء، وهي أيضاً بريئة منه، كانت رحمها الله وأكرمها من الصالحات العابدات، زاهدة تقية نقية، تقوم الليل وتصوم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: ترفقي بنفسك؛ لكثرة ما رأوا منها، فقالت: كيف أرفق بنفسي، وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وقد حجت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق فأقامت بها، يقول ابن كثير : لما دخلت مع زوجها أقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس والجذمى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صلى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت أن تُدخل جنازته إليها، فأُدخل جثمانه رضي الله عنه عليها، فصلت عليه.

ولها أخبار طيبة منها: أنها لما قدمت إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق ، وقيل: مع أبيها الحسن الذي عين والياً على مصر من قبل أبي جعفر المنصور ، هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون -يبدو أن أهل مصر في الغالب مظلومون من حكامهم- ويجأرون إليها من ظلم أحمد بن طولون ، فقالت: متى يركب؟ تعني: موكبه، متى يكون موعده؟ قالوا: في غد، فكتبت رقعة ووقفت في طريقه في الموكب، وقالت: يا أحمد بن طولون ! فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه، أي: نزل في الحال عن الفرس، ومشى على رجليه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم- من الأسر- وقدرتم فقهرتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم؛ هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة، لاسيما من قلوب أفزعتموها، وأكباد روعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]؛ فعدل لوقته، يعني: رجع عن الظلم في الحال.

وقد قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع عليها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له.

وحضرتها الوفاة رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها أن تفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائماً، أأفطر الآن؟!! هذا لا يكون، وخرجت من الدنيا، وهي تقرأ القرآن، وكانت آخر آية تقرأها قبل أن تقبض روحها: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] رحمها الله ورضي عنها.

انظر كيف كان حال الأقارب؟! لما تنظر القرابات بين نساء السلف ورجال السلف، تجد هذه زوجة فلان، وعمها فلان، وخالها فلان، وابنها فلان، وزوجها فلان، فكانت القرابات التي تجمعهم هي الأعمال الصالحة، ولم تكن المحسوبيات والمناصب وظلم الناس، وإنما تجد الوسائل والروابط بين الأسر والأقارب مسخرة لطاعة الله سبحانه وتعالى، فهذه أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز ، ماذا تتوقع من شقيقة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمهم الله تعالى؟!

كانت مضرب المثل في الكرم والجود، كانت تقول: لكل قوم لهنة في العطاء اللهنة: الشهوة أو الرغبة في شيء، ولهنة في الإعطاء أي: وشهوة في الإعطاء والنفقة في سبيل الله، كانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، تشتري فرساً ليجاهد عليه في سبيل الله، وتقول: أف للبخل، لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.

وأما عجردة العمية فهي من المعدودات المشهورات من نساء السلف، فعن آمنة بنت يعلى بن طرير قالت: كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت، ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها أو قال لها بعض أهل الدار: لو نمت من الليل شيئاً، فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام، وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي؛ يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك يا إلهي! أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني إليك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم! ثم تخر ساجدة، فيسمع لها شهيق، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.

وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي! قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى، وعزتك! لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك! لو انتهرتني عن بابك ما برحت -أي: لو تركتني ما غادرت الباب- لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.

وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا، يا أهل الدار! صلوا، فقالوا لها: نحن لا نقوم حتى نصلي الفجر.

فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، وأخاف أن أكسل من شهود ليلهم -أي: خشيت على أخلاقها أن تتغير بمعاشرتهم- فردها الحسن إليه رحمة بها، ووفاء بحقها.

وهذه عابدة من بني عبد القيس: كانت إذا جاء الليل توضأت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، وكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر شكره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء بثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.

أما الهيثم بن جماز فيقول: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: ألا تستحي من الله! إلى كم هذا الغفوف- تعني: الشخير-، قال زوجها: فو الله! إن كنت لأستحيي مما تصنع.

أما لك في الرجل أسوة أتسبقك وأنت رجل النسوة

وقال يحيى بن بسطام : كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله! لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟ وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: وأنى لي بالبكاء؟ حتى غشي عليها.

وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي، فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك، وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك، إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيئس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني.

وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد، فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول- حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال:

أذري جفونك إما كنت شاجية إن النياحة قد تشفي الحزينينا

جدي وقومي وصومي الدهر دائبة فإنما الدأب من فعل المطيعينا

فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل.

وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها تقول:

لقد أمن المغرور دار مقامه ويوشك يوماً أن يخاف كما أمن

وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر : ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة ، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى!

وقال أبو عمر الضرير : من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.

وعن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:

يؤمل دنيا لتبقى له فوافى المنية قبل الأمل

حثيثًا يروي أصول الفسيل فعاش الفسيل ومات الرجل

وعن الفضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل ! أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟! قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.

أما أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم فهي تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت رحمها الله إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تطعم حتى تمسي-أي: تصوم- فإذا جاء الليل، تقول: هذه الليلة التي أموت فيها، فتصلي حتى تصبح، ومن أقوالها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة الكهوف- وإن كان مثل هذا التعبير فيه نظر؛ لأنّ المكوث في القبر لا يوصف بأنه رقاد أو نوم كما يقول بعض الصوفية حين يتكلمون عن القبر ويقولون: وقت النوم في القبر طويل، فأنا لا أنام في الدنيا كثيراً؛ لأن المكث في القبر ليس نوماً، وليس المعيشة في القبر تكون نوماً، وإنما هي عذاب أو نعيم، وما هي بنوم.

فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حَيٍّ

ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شَيٍّ

كانت معاذة تصلي الليل الطويل، يكل الرجال وهي لا تكل، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق؛ حتى يمنعها البرد من النوم، ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها صبرت، وكان زوجها خرج ماضياً هو وابنه في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال صلة لابنه: يا بني! إلى أمك -أي: ارجع إلى أمك كي ترعاها- فقال ابنه: يا أبت! أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجعة؟! أنت والله! كنت خيراً لأمي مني، أنت والله! كنت خيراً لأمي مني، قال: أما إذ قلت هذا فتقدم، فتقدم فقاتل حتى أصيب، واجتمع عليه الكفار، فرمى صلة عن جسده، وظل يرميهم حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل رحمهما الله تعالى فلما بلغها نبأ استشهاد ابنها وزوجها أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: إن كنتنّ جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، ولم تتوسد فراشاً بعد مقتل زوجها رحمها الله تعالى، يعني: لكثرة قيامها وصلاتها.

وقال ابن العلاء السعدي : كانت لي ابنة عم يقال لها: بريرة تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها- أي: نلومها- في كثرة بكائها، قال: فدخلنا عليها فقلنا: يا بريرة ! كيف أصبحت؟ قالت: أصبحنا أضيافاً منيخين بأرض غربة، ننتظر متى ندعى فنجيب، فقلنا لها: كم هذا البكاء؟ قد ذهبت عيناك منه! قالت: إن يكن لعينيّ عند الله خير، فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا، ثم أعرضت، فقال القوم: قوموا بنا، فهي -والله- في شيء غير ما نحن فيه!

وذكر الخطيب أنه كان لـبشر الحافي -الزاهد المشهور- أخوات ثلاث: مخة ومضغة وزبدة ، وكلهن عابدات زاهدات ورعات مثله أيضاً، فذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل علي عند البيع أن أميز هذا من هذا؟ فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.

وقالت له مرة إحداهن: ربما تمر بنا مشاعل لـابن طاهر في الليل ونحن نغزل، فتغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله؛ لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار، وهو المقدار الذي كانت تغزله في ضوء مشاعل هؤلاء الذين كانوا يمرون بالليل بالمشاعل، وفي بعض الروايات أنه قال لها: من أنت عافاك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي ، فبكى الإمام أحمد رحمه الله، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.

وسألته أيضاً عن أنين المريض في إحدى المرات، أفيه شكوى؟ فقال: لا، إنما هي شكوى إلى الله عز وجل، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله : يا بني! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة، قال عبد الله : فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر ، وإذا هي أخته مخة .

وقال عبد الله بن الحسن : كانت لي جارية رومية وضيئة، وكنت بها معجباً، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة، وهي تقول: بحبك لي -يعني: أتوسل إليك بحبك أنت لي­، وهي امرأة على الفطرة- قالت: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي، يعني: أسألك بحبك لي أن تغفر لي ذنوبي، تناشد الله عز وجل المغفرة، وتتوسل بحبه هو لها، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. وهذا توسل بالعمل الصالح، فتتوسل بعملك أنت، فإن كنت تحب الله تقول: اللهم! إني أسألك بحبي لك، وهذا جائز ومشروع؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي يجوز التوسل بها، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. فقالت: لا يا مولاي! بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام.

وقال أبو هاشم القرشي : قدمتْ علي امرأة من أهل اليمن يقال لها: سرية ، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنيناً وشهيقاً، فقلت يوماً لخادم لي: أشرف على هذه المرأة فانظر ماذا تصنع؟ قال: فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئاً غير أنها ما ترد طرفها عن الصلاة، وهي مستقبلة القبلة، فسمعها وهي تقول: خلقتَ سرية ، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوكل على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى أفعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير؟!

وقال ذو النون المصري : خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي، وهو يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة من صوف وبيدها ركوة، فقالت وهي فزعة مني: من أنت؟ فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا! وهل يوجد مع الله غربة؟! قال: فبكيت لقولها، فقالت لي: ما الذي أبكاك؟! قلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأحسن في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله! والصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب. وسكت متعجباً من قولها.

وقال الخواص : دخلنا على رحلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عميت، وصلت حتى أقعدت، وكانت تصلي قاعدة، فسلمنا عليها، ثم ذكرناها شيئاً من العفو؛ ليهون عليها الأمر، قال: فشهقت، ثم قالت: وإني بنفسي قرح فؤادي، وكلم كبدي، والله! لوددت أن الله لم يخلقني، ولم أك شيئاً مذكوراً، ثم أقبلت على صلاتها رحمها الله تعالى.

أما عفيرة العابدة -وهي أيضاً من مشاهير العابدات- فكانت رحمها الله لا تضع جنبها على الأرض في الليل، وتقول: أخاف أن أؤخذ على غرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: أما تسأمين من كثرة البكاء؟ فقالت: كيف يسأم إنسان من دوائه وشفائه؟!

وكانت تقول في مناجاتها: عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله! لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها.

وجاء أخ لها طالت غيبته، فبشرت به فبكت، فقيل لها: ما هذا البكاء، اليوم يوم فرح وسرور، فازدادت بكاء، ثم قالت: والله! لا أجد للسرور في قلبي مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد ذكرني قدومه يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومكدور.

ودخل عليها قوم فقالوا: ادعِ لنا، فقالت: لو خرص الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين.

وقالت أيضاً: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف يقدر على النوم من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ونهاراً؟!

وقال بعض الصالحين: خرجت يوماً إلى السوق ومعي جارية حبشية، فجعلتها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: ثم رجعت فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: يا مولاي! لا تعجل علي، إنك أهمدتني في موضع لم أر فيه ذاكراً لله تعالى، فخفت أن يخسف بذلك الموضع! فعجبت لقولها، وقلت لها: أنت حرة، فقالت: ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما!

وكانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أُدْخِلوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار فعاشوا! ثم تبكي وكأنها حبة على مقلى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت رضي الله عنها.

وأما مليكة بنت أبي طارق البحرانية فكانت إذا هجم عليها الليل تقول: بخ بخ يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.

وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: بت ليلة عند مليكة ابنة أبي طارق فما زالت على هذه الآية ترددها وتبكي: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

وأما رحلة العابدة -وهي مولاة معاوية - فقد دخل عليها نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت: مالي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة -أي: مسابقة- فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه! لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأقومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر فيه؟ وقامت حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم قلبي، والله! لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله تعالى.

وأما غصنة وعالية فكانتا من عابدات البصرة، يقول أبو الوليد العبدي : ربما رأيت غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.

وأما غندكة -وهي من عابدات البصرة- فكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان.

وأما امرأة أبي عمران الجوني فكانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها زوجها أبو عمران الجوني : دون هذا يا هذه! فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل، فيسكت عنها.

ومن العابدات أيضاً هنيدة ، فعن عامر بن أسلم الباهلي عن أبيه قال: كانت لنا جارية في الحي يقال لها هنيدة ، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه، فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها، فتقول لهم: قوموا فتوضئوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، أي: فسوف يصيبكم السرور يوم القيامة بما آمركم به، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في المنام: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها، فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأُتـيَ أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما، قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات، فكانوا يُدعون القوامون.

ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها -وهي تعجن- موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. أي: أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.

وأخرى كانت تستصبح بمصباح -يعني: بالزيت أو شيء من هذا- فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء، يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.

فيا ويل من يأكلون أموال اليتامى ظلماً! وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلماً، ويتلفون أموالهم في أشياء حرم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.

ومنهن أيضاً: ميمونة بنت شاكونة الواعظة، التي كانت للقرآن حافظة، فقد ذكرت يوماً في وعظها: أن ثوبها الذي عليها -وأشارت إليه- له في صحبتها -أي: تلبسه- منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، ثم قالت لتلامذتها: والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعاً.

وقال ابنها عبد الصمد : كان في دارنا حائط يريد أن ينقض، فقلت لأمي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئاً، ثم أمرتني أن أدعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة لم ينقض ولم ينهدم، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر:41]، اللهم! ممسك السموات والأرض أمسكه.

وعن أبي عياش القطان قال: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها مريدة ، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على صغر سنها، فبينا الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت، فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: يا حبيبتي! ما يبكيك؟! قالت له: يا أبا سعيد ! التراب يحفى على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد ! انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبراً واسعاً، وكفنها بكفن حسن، والله! لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي فكيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها، وبيت الظلمة والدود.

وقال وضاح بن حسان الأنباري : حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة -يعني: تصوم ثلاثة أيام وتفطر الرابع-، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي : صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها، فلم تزدد إلا خيراً.

وعن ابن سماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنباً، فسعت إليه بالسوط -أي: حتى تضربه به؛ لأنه عمل خطأً- فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.

أما فاطمة بنت نصر العطار فكانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، وكانت من العابدات المتورعات المخدرات -أي: اللائي يلزمن الخدور، وهو مكان يكون في أقصى البيت تستتر فيه العذراء حتى لا يراها أحداً-، يقال: إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، قاله الحافظ ابن كثير .

ومن هؤلاء الناسكات اللائي يحكى عنهن اجتهاد في العبادة: رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية ، فقد كانت مضرب المثل في تدله القلب، واحتراق الكبد حباً لله، وإيثاراً لرضاه، وكانت تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، وتستقل كل ذلك في جنب الله.

قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: واحزناه! فقالت: لا تكذب، بل قل: واقلة حزناه! لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس.

ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال -وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها- قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس كم تنامين؟! يوشك أن تنامي ليلة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم الفزع. وقد سبق التنبيه على أن هذا التعبير غير صحيح؛ لأن القبر ليس فيه ليل، وليس فيه نوم، ويا ليته كان نوماً! بل فيه حياة دائمة: إما نعيم، وإما عذاب، قالت عبدة : وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة ! لا تؤذني بموتي أحداً -أي: لا تخبري أحداً-، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.

ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً.

ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.

وعن أزهر بن مروان قال دخل على رابعة رياح القيسي وصالح بن عبد الجليل وكلاب فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة : إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.

قال خالد بن خداج : سمعتْ رابعة صالحاً المري يذكر الدنيا في قصصه، فأرسلت إليه: يا صالح ! من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

فالإنسان ينشغل دائماً بما يطغى على قلبه، ويحبه قلبه، فمن أحب قوماً حشر معهم: من أحب الممثلين يخشى عليه أن يحشر مع من كان يحب، ومن أحب الظالمين يخشى عليه أيضاً أن يحشر معهم، من أحب اللاهين اللاعبين الكافرين فهذا أيضاً يخشى عليه.

وقال بشر بن صالح العتكي : استأذن ناس على رابعة ومعهم سفيان الثوري ، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئاً من الدنيا، فلما قاموا قالت لخادمتها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم، إني رأيتهم يحبون الدنيا.

وعن أبي يسار مسمع قال: أتيت رابعة فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزاً، فآثرت حديثك على طبيخ الأرز، فرجعت إلى القدر وقد طبخت.

وعن حماد قال: دخلت أنا وسلمان بن أبي مطيع على رابعة فأخذ سلمان في ذكر الدنيا، فقالت: إنما يذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس بشيء فلا.

قال أبو سعيد بن الأعرابي : أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من قولها:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.

يقول الحافظ الذهبي معلقاً على النسبة السابقة: قلت: فهذا غلو وجهل، ولعل من نسبها إلى ذلك حلولي يحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: (كنت سمعه الذي يسمع به) يعني: الحلوليين.

وقال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، والله أعلم.

وقال أيضاً: أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر، والله أعلم بحقيقة الأمر.

وأما زوجة الملك الصالح الذي قيل فيه: إنه لا يُعلم ملك صالح بعد عمر بن عبد العزيز سوى الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي ، الذي قهر الصليبين وهزمهم، فزوجته عصمة الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين كانت رحمها الله كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها وأعفهن، وأكبرهن طبقة، وكانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين الملك عن غضبها، فذكرت له نومها الذي فوت عليها وردها، يقول ابن كثير : فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر؛ لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى ضارب الطبلخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة، وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة الملك نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.

وأخيراً فخرية بنت عثمان البكرية ، وقد كانت من أسرة عظيمة الجاه، موفورة الغنى، ولكن ذلك لم يطب لها، فخرجت وتزهدت وتنسكت، وقلبت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم، وكانت أشبه الناس بـرابعة في الوحدة والدنيا والتزلف، هاجرت إلى بيت المقدس، وأقامت أربعين عاماً تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج.

فنهدي هذه الصورة من سير النساء إلى الإخوة المستمعين ونقول:

فلو كان النساء كمن ذكرنالفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيبولا التذكير فخر للهلال

ونكرر:

أما لك بالرجال أسوةأتسبقك وأنت رجل النسوة

وقول الآخر:

فذاك الفخر يا همم الرجلتعالي فانظري تلك التعالي

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا بالخير موصوفين، ولا يجعلنا له -فحسب- وصافين، وأن يرزقنا سهراً في طاعته ومناجاته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

أم الدرداء الصغرى رحمها الله تعالى

وأما أم الدرداء الصغرى : فهي السيدة العالمة الفقيهة هجيمة بنت حيي الأوصابية زوجة أبي الدرداء رضي الله عنه، عرضت القرآن -وهي صغيرة- على أبي الدرداء رضي الله عنه، وطال عمرها، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد.

قال عون بن عبد الله : كنا نأتي أم الدرداء فنذكر الله عندها. وقال يونس بن ميسرة : كن النساء يتعبدن مع أم الدرداء ، وإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال. وعنه أيضاً قال: كنا نحضر أم الدرداء فتحضرها نساء عابدات يقمن الليل كله، حتى إن أقدامهن قد انتفخت من طول القيام.

السيدة سكينة بنت الحسين رحمها الله تعالى

أما السيدة الشريفة العفيفة التقية النقية سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما فكانت شهمة سخية كريمة، وكانت تجود بكل ما لديها من مال، فإن لم يكن مال فبشيء من الحلي الذي تلبسه.

السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله تعالى

أما السيدة المكرمة الصالحة نفيسة فهي بنت الحسن بن زيد بن السيد سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي العلوية الحسنية رضي الله عنها، وهي السيدة نفيسة المدفونة في القاهرة، وللأسف أنه يفعل بقبرها من الشرك ما الله ورسوله والمؤمنون منه براء، وهي -أيضاً- بريئة منه، كانت -رحمها الله وأكرمها- من الصالحات العابدات، زاهدة تقية نقية، تقوم الليل وتصوم النهار، وتكثر البكاء من خشية الله عز وجل، حتى قيل لها: ترفقي بنفسك. لكثرة ما رأوا منها، فقالت: كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلا الفائزون؟! وقد حجت ثلاثين حجة، وكانت تحفظ القرآن وتفسيره.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن حكى أنها دخلت مصر مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر الصادق فأقامت بها، يقول ابن كثير : لما دخلت مع زوجها أقامت بها، وكانت ذات مال، فأحسنت إلى الناس والجذامى والزمنى والمرضى وعموم الناس، وكانت عابدة زاهدة كثيرة الخير، ولما ورد الشافعي مصر أحسنت إليه، وكان ربما صلى بها في شهر رمضان، وحين مات أمرت أن تُدخل جنازته إليها، فأُدخل جثمانه رضي الله عنه عليها فصلت عليه.

ولها أخبار طيبة، منها أنها لما قدمت إلى مصر مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق ، -وقيل: مع أبيها الحسن - هرع إليها أهل مصر يشكون من ظلم أحمد بن طولون ويجأرون إليها من ظلم أحمد بن طولون ، فقالت: متى يركب -تعني موكبه متى يكون موعده-؟ قالوا: في غد. فكتبت رقعة ووقفت في طريقه في الموكب، وقالت: يا أحمد بن طولون ! فلما رآها عرفها، فترجل عن فرسه -أي: نزل في الحال عن الفرس- ومشى على رجليه، وأخذ منها الرقعة، وقرأها فإذا فيها: ملكتم فأسرتم- من الأسر- وقدرتم فقهرتم، وردت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام القدر نافذة غير مخطئة، لاسيما من قلوب أفزعتموها، وأكباد روعتموها، وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227] فعدل لوقته أي: رجع عن الظلم في الحال.

وقد قيل: إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى سمع منها الحديث من وراء حجاب، وطلب منها أن تدعو له.

وحضرتها الوفاة رحمها الله تعالى وهي صائمة، فألزموها أن تفطر، فقالت: واعجباه! أنا منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه صائماً أأفطر الآن؟! هذا لا يكون، وخرجت من الدنيا وهي تقرأ القرآن، وكانت آخر آية قرأتها قبل أن تقبض روحها: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12] رحمها الله ورضي عنها.

أم البنين بنت عبد العزيز رحمها الله تعالى

انظر كيف كان حال الأقارب؟! فحين تنظر إلى القرابات بين نساء السلف ورجال السلف تجد المرأة منهن زوجة فلان، وعمها فلان، وخالها فلان، وابنها فلان، وزوجها فلان، فكانت القرابات التي تجمعهم هي الأعمال الصالحة، ولم تكن المناصب وظلم الناس، وإنما تجد الوسائل والروابط بين الأسر والأقارب مسخرة لطاعة الله سبحانه وتعالى، فهذه أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز ، وماذا تتوقع من شقيقة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رحمهما الله تعالى؟!

كانت مضرب المثل في الكرم والجود، كانت تقول: لكل قوم لهنة -واللهنة: الشهوة أو الرغبة في شيء- ولهنتي في الإعطاء، أي: شهوتها في الإعطاء والنفقة في سبيل الله، كانت تعتق كل يوم جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عز وجل، تشتري فرساً ليجاهد عليه في سبيل الله، وتقول: أف للبخل، لو كان قميصاً لم ألبسه، ولو كان طريقاً لم أسلكه.

عجردة العمية رحمها الله تعالى

وأما عجردة العمية فهي من المعدودات المشهورات من نساء السلف، فعن آمنة بنت يعلى بن طرير قالت: كانت عجردة العمية تغشانا، فتظل عندنا اليوم واليومين، فكانت إذا جاء الليل لبست ثيابها وتقنعت، ثم قامت إلى المحراب فلا تزال تصلي إلى السحر، ثم تجلس فتدعو حتى يطلع الفجر، فقلت لها -أو قال لها بعض أهل الدار-: لو نمت من الليل شيئاً! فبكت وقالت: ذكر الموت لا يدعني أنام، وكانت تحيي الليل، وكانت مكفوفة البصر، فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون: إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك، فبك -يا إلهي- أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين، وأن ترفعني إليك في عليين في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أرحم الرحماء، وأعظم العظماء، وأكرم الكرماء يا كريم. ثم تخر ساجدة، فيسمع لها شهيق، ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر.

حبيبة العدوية رحمها الله تعالى

وعن عبد الله المكي أبي محمد قال: كانت حبيبة العدوية إذا صلت العتمة قامت على سطح لها، وشدت عليها درعها وخمارها، ثم قالت: إلهي! قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك، ثم تقبل على صلاتها، فإذا طلع الفجر قالت: إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى، وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت -أي: لو تركتني ما غادرت الباب- لما وقع في نفسي من جودك وكرمك.

جارية الحسن بن صالح رحمها الله تعالى

وكان الحسن بن صالح يقوم الليل هو وجاريته، فباعها لقوم، فلما صلت العشاء افتتحت الصلاة فما زالت تصلي إلى الفجر، وكانت تقول لأهل الدار كل ساعة تمضي من الليل: يا أهل الدار! قوموا، يا أهل الدار! صلوا، فقالوا لها: نحن لا نقوم حتى نصلي الفجر.

فجاءت إلى الحسن بن صالح وقالت: بعتني لقوم ينامون الليل كله، وأخاف أن أكسل من شهود ليلهم -أي: خشيت على أخلاقها أن تتغير بمعاشرتهم-، فردها الحسن إليه رحمة بها ووفاء بحقها.

عابدة بني عبد القيس رحمها الله تعالى

وهذه عابدة من بني عبد القيس كانت إذا جاء الليل توضأت، ثم قامت إلى المحراب، وكانت تقول: المحب لا يسأم من خدمة حبيبه، وكانت تقول: عاملوا الله على قدر نعمه عليكم وإحسانه إليكم، فإن لم تطيقوا فعلى قدر شكره، فإن لم تطيقوا فعلى الحياء منه، فإن لم تطيقوا فعلى الرجاء بثوابه، فإن لم تطيقوا فعلى خوف عقابه.

امرأة الهيثم بن جماز رحمها الله تعالى

أما الهيثم بن جماز فيقول: كانت لي امرأة لا تنام الليل، وكنت لا أصبر معها على السهر، فكنت إذا نعست ترش علي الماء في أثقل ما أكون من النوم، وتنبهني برجلها، وتقول: ألا تستحي من الله؟! إلى كم هذا الغفوف- تعني: الشخير-؟! قال زوجها: فو الله إن كنت لأستحيي مما تصنع.

أما لك في الرجال أسوة؟! أتسبقك وأنت رجل النسوة؟!

العابدة شعوانة رحمها الله تعالى

قال يحيى بن بسطام : كنت أشهد مجلس شعوانة -وهي إحدى العابدات- فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء، فقلت لصاحب لها: لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها، فقال: أنت وذاك، قال: فأتيناها فقلت لها: لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئاً، فكان لك أقوى على ما تريدين، قال: فبكت، ثم قالت: والله لوددت أنى أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي دماً حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي، وأنى لي بالبكاء؟! وأنى لي بالبكاء؟! فلم تزل تردد: (وأنى لي بالبكاء؟) حتى غشي عليها.

وكانت تقول في دعائها: إلهي! ما أشوقني إلى لقائك، وأعظم رجائي في جزائك، فأنت الكريم الذي لا يخيب إليك أمل الآملين، ولا يبطل عندك شوق المشتاقين، إلهي! إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي، فإن عفوت فمن أولى منك بذلك؟! وإن عدلت فمن أعدل منك هنالك؟! إلهي! قد جرت على نفسي في النظر لها، وبقي لها حسن نظرك، فالويل لها إن لم تسعدها، إلهي! إنك لم تزل بي براً أيام حياتي، فلا تقطع عني برك بعد مماتي، ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه، إلهي! كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي، ولم تولني إلا الجميل في حياتي؟! إلهي! إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني، فتول من أمري ما أنت أهله، وعد بفضلك على من غره جهله، إلهي! لو أردت إهانتي لما هديتني، ولو أردت فضيحتي لم تسترني، فمتعني بما له هديتني، وأدم لي ما به سترتني.

وعن محمد بن عبد العزيز بن سلمان قال: كانت شعوانة قد كمدت -أي: أصابها الحزن الشديد -فكانت لا تتنفل من شدة الحزن والذهول حتى انقطعت عن الصلاة والعبادة، فأتاها آتٍ في منامها فقال:

أذري جفونك إما كنت شاجيةإن النياحة قد تشفي الحزينينا

جدي وقومي وصومي الدهر دائبةفإنما الدأب من فعل المطيعينا

فأصبحت وأخذت في الترنم والبكاء، وراجعت العمل.

وعن الحسن بن يحيى قال: كانت شعوانة تردد هذا البيت فتبكي وتُبكي النساك معها، تقول:

لقد أمن المغرور دار مقامهويوشك يوماً أن يخاف كما أمن

وعن روح بن سلمة قال: قال لي مضر : ما رأيت أحداً أقوى على كثرة البكاء من شعوانة ، ولا سمعت صوتاً قط أحرق لقلوب الخائفين من صوتها إذا هي نشدت ثم نادت: يا موتى! وبني الموتى! وإخوة الموتى!

وقال أبو عمر الضرير : من استطاع منكم أن يبكي فليبك، وإلا فليرحم الباكي؛ فإن الباكي إنما يبكي لمعرفته بما أتى إلى نفسه.

وعن الحارث بن المغيرة قال: كانت شعوانة تنوح بهذين البيتين:

يؤمل دنيا لتبقى لهفوافى المنية قبل الأمل

حثيثًا يروي أصول الفسيلفعاش الفسيل ومات الرجل

وعن الفضيل بن عياض قال: قدمت شعوانة فأتيتها، فشكوت إليها، وسألتها أن تدعو بدعاء، فقالت: يا فضيل ! أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب لك؟! قال: فشهق الفضيل وخر مغشياً عليه.

معاذة العدوية رحمها الله تعالى

أما أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم فهي تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت -رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه. فما تطعم حتى تمسي-أي: تصوم- فإذا جاء الليل تقول: هذه الليلة التي أموت فيها، فتصلي حتى تصبح، ومن أقوالها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة الكهوف.

وإن كان مثل هذا التعبير فيه نظر؛ لأنّ المكوث في القبر لا يوصف بأنه رقاد أو نوم، كما يقول بعض الصوفية حين يتكلمون عن القبر ويقولون: وقت النوم في القبر طويل، فنحن لا ننام في الدنيا كثيراً. لأن المكث في القبر ليس نوماً، وليست المعيشة في القبر تكون نوماً، وإنما هي عذاب أو نعيم، وما هي بنوم، كما قيل:

فلو أنا إذا متنا تركنالكان الموت راحة كل حَيٍّ

ولكنا إذا متنا بعثناونسأل بعده عن كل شَيٍّ

كانت معاذة تصلي الليل الطويل، يكل الرجال وهي لا تكل، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق؛ حتى يمنعها البرد من النوم، ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها صبرت، وكان زوجها خرج ماضياً هو وابنه في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال صلة لابنه: يا بني! إلى أمك -أي: ارجع إلى أمك كي ترعاها- فقال ابنه: يا أبت! أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجعة؟! أنت -والله- كنت خيراً لأمي مني. قال: أما إذ قلت هذا فتقدم، فتقدم فقاتل حتى أصيب، واجتمع عليه الكفار، فرماهم صلة عن جسده، وظل يرميهم حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل رحمهما الله تعالى، فلما بلغها نبأ استشهاد ابنها وزوجها أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: إن كنتنّ جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، ولم تتوسد فراشاً بعد مقتل زوجها رحمها الله تعالى لكثرة قيامها وصلاتها.

العابدة بريرة رحمها الله تعالى

قال ابن العلاء السعدي : كانت لي ابنة عم يقال لها: بريرة، تعبدت، وكانت كثيرة القراءة في المصحف، فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت، فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء، فقال بنو عمها: انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها- أي: نلومها- في كثرة بكائها، قال: فدخلنا عليها فقلنا: يا بريرة ! كيف أصبحت؟ قالت: أصبحنا أضيافاً منيخين بأرض غربة، ننتظر متى ندعى فنجيب، فقلنا لها: كم هذا البكاء! قد ذهبت عيناك منه. قالت: إن يكن لعينيّ عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا، وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا، ثم أعرضت، فقال القوم: قوموا بنا، فهي -والله- في شيء غير ما نحن فيه!

أخوات بشر الحافي رحمهم الله تعالى

وذكر الخطيب أنه كان لـبشر الحافي -الزاهد المشهور- أخوات ثلاث: مخة ومضغة وزبدة ، وكلهن عابدات زاهدات ورعات مثله أيضاً، فذهبت إحداهن إلى الإمام أحمد بن حنبل فقالت: إني ربما طفئ السراج وأنا أغزل على ضوء القمر، فهل علي عند البيع أن أميز هذا من هذا؟ فقال: إن كان بينهما فرق فميزي للمشتري.

وقالت له مرة إحداهن: ربما تمر بنا مشاعل لـابن طاهر في الليل ونحن نغزل، فنغزل الطاق والطاقين والطاقات فخلصني من ذلك، فأمرها أن تتصدق بذلك الغزل كله لما اشتبه عليها من معرفة ذلك المقدار، وهو المقدار الذي كانت تغزله في ضوء مشاعل هؤلاء الذين كانوا يمرون بالليل بالمشاعل، وفي بعض الروايات أنه قال لها: من أنت عافاك الله؟ فقالت: أخت بشر الحافي ، فبكى الإمام أحمد رحمه الله وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.

وسألته أيضاً عن أنين المريض في إحدى المرات، أفيه شكوى؟ فقال: لا، إنما هي شكوى إلى الله عز وجل، ثم خرجت فقال لابنه عبد الله : يا بني! اذهب خلفها فاعلم لي من هذه المرأة، قال عبد الله : فذهبت وراءها فإذا هي قد دخلت دار بشر ، وإذا هي أخته مخة .

جارية عبد الله بن الحسن رحمهما الله تعالى

وقال عبد الله بن الحسن : كانت لي جارية رومية وضيئة، وكنت بها معجباً، فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي، فانتبهت فالتمستها فلم أجدها، فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة، وهي تقول: بحبك لي -يعني: أتوسل إليك بحبك أنت لي­، وهي امرأة على الفطرة- قالت: بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي. أي: أسألك بحبك لي أن تغفر لي ذنوبي. تناشد الله عز وجل المغفرة، وتتوسل بحبه هو لها، فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. وهذا توسل بالعمل الصالح، فتتوسل بعملك أنت، فإن كنت تحب الله تقول: اللهم! إني أسألك بحبي لك، وهذا جائز ومشروع؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي يجوز التوسل بها، قال: فقلت لها: لا تقولي: بحبك لي، ولكن قولي: بحبي لك. فقالت: لا يا مولاي، بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام، وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام.

العابدة سرية اليمانية رحمها الله تعالى

وقال أبو هاشم القرشي : قدمتْ علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها: سرية ، فنزلت في بعض ديارنا، قال: فكنت أسمع لها من الليل أنيناً وشهيقاً، فقلت يوماً لخادم لي: أشرف على هذه المرأة فانظر ماذا تصنع؟ قال: فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئاً غير أنها ما ترد طرفها عن الصلاة، وهي مستقبلة القبلة، فسمعها وهي تقول: خلقتَ سرية ، ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال، وكل أحوالك لها حسنة، وكل بلائك عندها جميل، وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوكل على معاصيك فلتة بعد فلتة، أتراها تظن أنك لا ترى أفعالها وأنت عليم خبير، وأنت على كل شيء قدير؟!

واعظة ذي النون المصري رحمها الله تعالى

وقال ذو النون المصري : خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة من صوف وبيدها ركوة، فقالت وهي فزعة مني: من أنت؟ فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا! وهل يوجد مع الله غربة؟! قال: فبكيت لقولها، فقالت لي: ما الذي أبكاك؟! قلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأحسن في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله! والصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب. وسكت متعجباً من قولها.

العابدة رحلة رحمها الله تعالى

وقال الخواص : دخلنا على رحلة العابدة، وكانت قد صامت حتى اسودت، وبكت حتى عميت، وصلت حتى أقعدت، وكانت تصلي قاعدة، فسلمنا عليها، ثم ذكرناها شيئاً من العفو ليهون عليها الأمر، قال: فشهقت، ثم قالت: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم كبدي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، ثم أقبلت على صلاتها رحمها الله تعالى.

العابدة عفيرة رحمها الله تعالى

أما عفيرة العابدة -وهي أيضاً من مشاهير العابدات- فكانت رحمها الله لا تضع جنبها على الأرض في الليل، وتقول: أخاف أن أؤخذ على غرة وأنا نائمة، وكانت لا تمل من البكاء، فقيل لها: أما تسأمين من كثرة البكاء؟ فقالت: كيف يسأم إنسان مِنْ دوائه وشفائه؟!

وكانت تقول في مناجاتها: عصيتك بكل جارحة مني على حدتها، والله لئن أعنت لأطيعنك ما استطعت بكل جارحة عصيتك بها.

وجاء أخ لها طالت غيبته، فبشرت به فبكت، فقيل لها: ما هذا البكاء؟! اليوم يوم فرح وسرورا فازدادت بكاء، ثم قالت: والله لا أجد للسرور في قلبي مسكناً مع ذكر الآخرة، ولقد ذكرني قدومه يوم القدوم على الله فمن بين مسرور ومكدور.

ودخل عليها قوم فقالوا: ادعي لنا. فقالت: لو خرص الخطاءون ما تكلمت عجوزكم، ولكن المحسن أمر المسيء بالدعاء، جعل الله قراكم من نبق الجنة، وجعل الموت مني ومنكم على بال، وحفظ علينا الإيمان إلى الممات، وهو أرحم الراحمين.

وقالت أيضاً: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر عليه، وكيف يقدر على النوم من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ونهاراً؟!

العابدة الحبشية رحمها الله تعالى

وقال بعض الصالحين: خرجت يوماً إلى السوق ومعي جارية حبشية، فجعلتها في موضع بناحية السوق، وذهبت في بعض حوائجي، وقلت: لا تبرحي حتى أنصرف إليك، قال: ثم رجعت فلم أجدها في الموضع، فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها، فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي، فقالت: يا مولاي! لا تعجل علي، إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكراً لله تعالى، فخفت أن يخسف بذلك الموضع. فعجبت لقولها، وقلت لها: أنت حرة. فقالت: ساء ما صنعت، كنت أخدمك فيكون لي أجران، وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما!

العابدة آمنة بنت أبي الورع رحمها الله تعالى

وكانت آمنة بنت أبي الورع من العابدات الخائفات، وكانت إذا ذكرت النار قالت: أُدْخِلوا النار، وأكلوا النار، وشربوا من النار فعاشوا! ثم تبكي وكأنها حبة على مقلى، وكانت إذا ذكرت النار بكت وأبكت رضي الله عنها.

العابدة مليكة البحرانية رحمها الله تعالى

وأما مليكة بنت أبي طارق البحرانية فكانت إذا هجم عليها الليل تقول: بخ بخ يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فتقوم في محرابها، فكأنها الجذع القائم حتى تصبح.

وعن أم عمار بنت مليك البحراني قالت: بت ليلة عند مليكة ابنة أبي طارق فما زالت على هذه الآية ترددها وتبكي: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

رحلة العابدة تعظ المشفقين عليها

وأما رحلة العابدة -وهي مولاة معاوية - فقد دخل عليها نفر من القراء فكلموها في الرفق بنفسها، فقالت: مالي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة -أي: مسابقة- فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله -يا إخوتاه- لأصلين ما أقلتني جوارحي، ولأقومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر فيه؟ وقامت حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى عمشت، وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم قلبي، والله! لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً، وكانت تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله تعالى.

غصنة وعالية رحمهما الله تعالى

وأما غصنة وعالية فكانتا من عابدات البصرة، يقول أبو الوليد العبدي : ربما رأيت غصنة وعالية تقوم إحداهما من الليل، فتقرأ البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف في ركعة.

العابدة غندكة رحمها الله تعالى

وأما غندكة -وهي من عابدات البصرة- فكانت تصلي عامة الليل، ثم تقول: أعوذ بالله من ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فإذا قضت صلاتها قالت: هذا الجهد مني وعليك التكلان.

وأما امرأة أبي عمران الجوني فكانت تقوم من الليل تصلي حتى تعصب ساقيها بالخرق، فيقول لها زوجها أبو عمران الجوني : دون هذا يا هذه! فتقول: هذا عند طول القيام في الموقف قليل، فيسكت عنها.

العابدة هنيدة رحمها الله تعالى

ومن العابدات أيضاً هنيدة ، فعن عامر بن أسلم الباهلي عن أبيه قال: كانت لنا جارية في الحي يقال لها هنيدة ، فكانت تقوم إذا مضى من الليل ثلثه أو نصفه، فتوقظ ولدها وزوجها وخدمها، فتقول لهم: قوموا فتوضئوا وصلوا فستغتبطون بكلامي هذا، أي: فسوف يصيبكم السرور يوم القيامة بما آمركم به، فكان هذا دأبها معهم حتى ماتت، فرأى زوجها في المنام: إن كنت تحب أن تزوجها هناك فاخلفها في أهلها بمثل فعلها. فلم يزل دأب الشيخ حتى مات، فأُتـيَ أكبر ولده في منامه فقيل له: إن كنت تحب أن تجاور أبويك في درجتهما من الجنة فاخلفهما في أهلهما بمثل عملهما. قال: فلم يزل ذلك دأبه حتى مات، فكانوا يُدعون القوامين.

الورع في حياة نساء السلف

ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي -رحمه الله- أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها -وهي تعجن- موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. أي أن مال الرجل إذا توفي انتقل وصار ملكاً لورثته الشرعيين، فلم يصبح لها وحدها، فلذلك رفعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء.

وأخرى كانت تستصبح بمصباح -أي بالزيت أو شيء من هذا- فجاءها خبر زوجها فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء. أي: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به.

فيا ويل من يأكلون أموال اليتامى ظلماً وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلماً، ويتلفون أموالهم في أشياء حرم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر.

العابدة الواعظة ميمونة بنت شاكونة رحمها الله تعالى

ومنهن -أيضاً- ميمونة بنت شاكونة الواعظة، التي كانت للقرآن حافظة، فقد ذكرت يوماً في وعظها أن ثوبها الذي عليها -وأشارت إليه- له في صحبتها -أي: تلبسه- منذ سبع وأربعين سنة وما تغير، وأنه كان من غزل أمها، ثم قالت لتلامذتها: والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعاً.

وقال ابنها عبد الصمد : كان في دارنا حائط يريد أن ينقض، فقلت لأمي: ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار؟ فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئاً، ثم أمرتني أن أدعها في موضع من الجدار، فوضعتها، فمكث على ذلك عشرين سنة لم ينقض ولم ينهدم، فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة، فحين أخذتها من الجدار سقط، وإذا في الرقعة: ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا))، اللهم! ممسك السموات والأرض أمسكه.

العابدة مريدة وابنتها رحمهما الله تعالى

وعن أبي عياش القطان قال: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها: مريدة ، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها وتعجب من عبادتها على صغر سنها، فبينا الحسن ذات يوم جالساً إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت، فوثب الحسن فدخل عليها، فلما نظرت الجارية إليه بكت، فقال لها: يا حبيبتي! ما يبكيك؟! قالت له: يا أبا سعيد ! التراب يحثى على شبابي، ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد ! انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبراً واسعاً، وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي، فكيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود؟!

العابدة التيمية رحمها الله تعالى

وقال وضاح بن حسان الأنباري : حدثني رجل من أهل الكوفة قال: كانت امرأة من التيم مجتهدة في العبادة، فكانت تفطر في كل ثلاثٍ مرة -يعني: تصوم ثلاثة أيام وتفطر الرابع-، ولا تخرج من مسجد الحي إلا لحاجة، فقال لها إبراهيم التيمي : صلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في مسجد الحي، ففعلت فلزمت بيتها، فلم تزدد إلا خيراً.

القرشية والتقوى

عن ابن سماك قال: أذنب غلام امرأة من قريش ذنباً، فسعت إليه بالسوط -أي: لتضربه به؛ لأنه عمل خطأً- فلما قربت منه رمت بالسوط، وقالت: ما تركت التقوى أحداً يشفي غيظه.

العابدة فاطمة بنت نصر العطار رحمها الله تعالى

أما فاطمة بنت نصر العطار فكانت من سادات النساء، وهي من سلالة أخت صاحب المخزن، وكانت من العابدات المتورعات المخدرات -أي: اللائي يلزمن الخدور، وهو مكان يكون في أقصى البيت تستتر فيه العذراء حتى لا يراها أحداً-، يقال: إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات، وقد أثنى عليها الخليفة وغيره، قاله الحافظ ابن كثير .

العابدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى

ومن هؤلاء الناسكات اللائي يحكى عنهن اجتهاد في العبادة رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية ، فقد كانت مضرب المثل في وله القلب واحتراق الكبد حباً لله وإيثاراً لرضاه، وكانت تواصل صيامها وقيامها، وتتابع زفراتها، وتدفق عبراتها، وتستقل كل ذلك في جنب الله.

قال يوماً شيخ الزهاد سفيان الثوري وهو عندها: واحزناه. فقالت: لا تكذب، بل قل: واقلة حزناه. لو كنت محزوناً لم يتهيأ لك أن تتنفس.

ومن حديث خادمتها عبدة بنت أبي شوال -وكانت أشبه الناس بها في نسكها وعبادتها- قالت: كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في صلاتها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، وكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين؟! يوشك أن تنامي ليلة لا تقومين منها إلا بصرخة يوم الفزع. وقد سبق التنبيه على أن هذا التعبير غير صحيح؛ لأن القبر ليس فيه ليل، وليس فيه نوم، ويا ليته كان نوماً! بل فيه حياة دائمة، إما نعيم وإما عذاب.

قالت عبدة : وكان هذا دأبها أمد دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني فقالت: يا عبدة ! لا تؤذني بموتي أحداً -أي: لا تخبري أحداً-، وكفنيني في جبتي هذه، وهي جبة من شعر كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.

ومن قولها: ما ظهر من أعمالي فلا أعده شيئاً.

ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.

وعن أزهر بن مروان قال دخل على رابعة رياح القيسي وصالح بن عبد الجليل وكلاب فتذاكروا الدنيا، فأقبلوا يذمونها، فقالت رابعة : إني لأرى الدنيا بترابيعها في قلوبكم، قالوا: ومن أين توهمت علينا؟ قالت: إنكم نظرتم إلى أقرب الأشياء من قلوبكم فتكلمتم فيه.

قال خالد بن خداج : سمعتْ رابعة صالحاً المري يذكر الدنيا في قصصه، فأرسلت إليه: يا صالح ! من أحب شيئاً أكثر من ذكره.

فالإنسان ينشغل دائماً بما يطغى على قلبه، ويحبه قلبه، فمن أحب قوماً حشر معهم، فمن أحب الممثلين يخشى عليه أن يحشر معهم، ومن أحب الظالمين يخشى عليه -أيضاً- أن يحشر معهم، ومن أحب اللاهين اللاعبين الكافرين فهذا -أيضاً- يخشى عليه.

وقال بشر بن صالح العتكي : استأذن ناس على رابعة ومعهم سفيان الثوري ، فتذاكروا عندها ساعة وذكروا شيئاً من الدنيا، فلما قاموا قالت لخادمتها: إذا جاء هذا الشيخ وأصحابه فلا تأذني لهم، إني رأيتهم يحبون الدنيا.

وعن أبي يسار مسمع قال: أتيت رابعة فقالت: جئتني وأنا أطبخ أرزاً، فآثرت حديثك على طبيخ الأرز، فرجعت إلى القدر وقد طبخت.

وعن حماد قال: دخلت أنا وسلمان بن أبي مطيع على رابعة فأخذ سلمان في ذكر الدنيا، فقالت: إنما يذكر شيء هو شيء، أما شيء ليس بشيء فلا.

قال أبو سعيد بن الأعرابي : أما رابعة فقد حمل الناس عنها حكمة كثيرة، وحكى عنها سفيان وشعبة وغيرهما ما يدل على بطلان ما قيل عنها من قولها:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فنسبها بعضهم إلى الحلول بنصف البيت، وإلى الإباحة بتمامه.

يقول الحافظ الذهبي معلقاً على النسبة السابقة: قلت: فهذا غلو وجهل، ولعل من نسبها إلى ذلك حلولي يحتج بها على كفره، كاحتجاجهم بخبر: كنت سمعه الذي يسمع به يعني الحلوليين.

وقال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحة، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، والله أعلم.

وقال أيضاً: أثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر، والله أعلم بحقيقة الأمر.

واعظة ذا النون المصري رحمها الله تعالى

وقال ذو النون المصري : خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول: وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] ويبكي، فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة من صوف وبيدها ركوة، فقالت وهي فزعة مني: من أنت؟ فقلت: رجل غريب، فقالت: يا هذا! وهل يوجد مع الله غربة؟! قال: فبكيت لقولها، فقالت لي: ما الذي أبكاك؟! قلت: قد وقع الدواء على داء قد قرح فأحسن في نجاحه، قالت: فإن كنت صادقاً فلم بكيت؟ قلت: يرحمك الله! والصادق لا يبكي؟! قالت: لا، قلت: ولم ذاك؟ قالت: لأن البكاء راحة القلب. وسكت متعجباً من قولها.

نماذج من نساء الخلف العابدات

الصالحة عصمة الدين خاتون رحمها الله تعالى

وأما زوجة الملك الصالح الذي قيل فيه: إنه لا يُعلم ملك صالح بعد عمر بن عبد العزيز سوى الملك الصالح نور الدين محمود بن زنكي الذي قهر الصليبيين وهزمهم فزوجته عصمة الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين كانت رحمها الله كثيرة التهجد، وأحسن النساء في عصرها وأعفهن، وأكبرهن طبقة، وكانت تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها، فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين الملك عن غضبها، فذكرت له نومها الذي فوت عليها وردها، يقول ابن كثير : فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى ضارب الطبلخانة أجراً جزيلاً وجراية كثيرة، وقد تزوجت هذه المرأة الصالحة بعد وفاة الملك نور الدين تلميذه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى.

الصالحة فخرية بنت عثمان البكرية رحمها الله تعالى

وأخيراً فخرية بنت عثمان البكرية ، وقد كانت من أسرة عظيمة الجاه، موفورة الغنى، ولكن ذلك لم يطب لها، فخرجت وتزهدت وتنسكت، وقلبت الراحة والمنام إلى الصلاة والقيام، وقنعت من العيش برغيف وقدح ماء، فذلك قوتها كل يوم، وكانت أشبه الناس بـرابعة في الوحدة والدنيا والتزلف، هاجرت إلى بيت المقدس، وأقامت أربعين عاماً تقف الليل كله بباب المسجد الأقصى تصلي حتى يفتح الباب، فتكون أول داخل وآخر خارج.

وبعد: فإننا نهدي هذه الصور من سير النساء إلى إخواننا المسلمين ونقول:

فلو كان النساء كمن ذكرنالفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيبولا التذكير فخر للهلال

ونقول:

أما لك في الرجال أسوةأتسبقك وأنت رجل نسوة

وقد قيل:

فذاك الفخر يا همم الرجالتعالي فانظري كيف التعالي

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا بالخير موصوفين، ولا يجعلنا له -فحسب- وصافين، وأن يرزقنا سهراً في طاعته ومناجاته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

الأسئلة

خير البقاع على وجه الأرض

السؤال: قرأت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (إن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)، وإني لأظن -والله أعلم- أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض، ولكن ذكرتم أنَّ خير بقعة على الأرض هي قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان كذلك فما حكم الكعبة المشرفة أيضاً؟

الجواب: هذا الحديث غير صحيح، والذي يثبت هو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، وأما اللفظ السابق فلا يصح؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم أين يكون قبره، بل كان ذلك المكان في حياته هو حجرة عائشة ، ثم صار قبراً له بعد موته، فلعل بعض الرواة غير المتقنين رواه بالمعنى فأخطأ في ذلك.

أما ظنك أن هذه البقعة يجب أن تكون خير بقعة على الأرض فليس بأمانيكم، فهذا خبر عن الرسول عليه الصلاة والسلام في شرف هذا المكان، فأنا نقلت عن العلماء أنهم -رغم اختلافهم في المفاضلة بين مكة والمدينة- متفقون على أن أفضل بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسد خير من وطئ هذه الأرض، وهو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، فخير بقعة على وجه الأرض هي التي تضم جسده الشريف صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك يختلفون هل مكة أفضل من المدينة أم المدينة أفضل من مكة، والذي يظهر -والله أعلم- أن مكة أفضل من المدينة، ويكفي في فضل مكة المكرمة أن الصلاة في المسجد الحرام فيها بمائة ألف صلاة فيما سواه.

وهذا لا يعني أنّ الكعبة ليست مشرفة، أو أن مكة ليس لها شرف، وإنما هذه الترتيب النسبي ليس إلينا، ولكنه فضل الله تبارك وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68].

دخول المعاصي في خلق الله تعالى

السؤال: قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] هل يدخل في قوله: (مَا خَلَقَ) الأعمال التي يعصى الله سبحانه وتعالى بها؟

الجواب: نعم تدخل فيما خلقه الله تعالى، فمعنى (شَرِّ مَا خَلَقَ) أي: شر ما خلقه الله عز وجل، فهي تعم ما خلقه الله تبارك وتعالى، فالشر هنا أضيف إلى المخلوق، ولا يضاف الشر إلى الله، كما قال عليه الصلاة والسلام في الدعاء: (والشر ليس إليك)، وكقوله تعالى حكاية عن الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن:10].

فأتى بصيغة المبني للمعلوم في الخير فقال: (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)، أما في الشر فقال: (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ)، وقال الله تبارك وتعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:95-96]، وقال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، ومن ذلك أفعال العباد، لكن كون الله يخلق هذا كله لا يعني أنك تحتج بالقدر.

حكم العمل في المحاماة

السؤال: هل يجوز العمل في المحاماة؟

الجواب: مهنة المحاماة الغالب عليها الشر، وتعلم القوانين الوضعية الكافرة التي تخالف شرع الله تبارك وتعالى، وقد يكون فيها إعانة الظالمين، ويكون هَمّ المحامي في الغالب -إلا من عصم الله وقليل ما هم- أن يأخذ الدراهم المعدودة مقابل إنجاء هذا الرجل، سواءٌ كان ظالماً أم مظلوماً، فقد يتسبب في أن يكون من المجادلين عن الخائنين أو المجرمين، ويجوز من الناحية الشرعية التوكيل في الخصومة والنقاش والجدال والدفاع عن النفس، فيمكن أن أوكل شخصاً عنده هذه الكفاءة عني ليخاطب باسمي إذا كان أكفأ مني في ذلك، ففكرة المحاماة هي فكرة التوكيل في الخصومة من الناحية الشرعية، لكن يشترط في ذلك أن تكون في حق، أما أن يستعمل براعته الإنشائية والخطابية في هذه الأمور من أجل أن ينصر الظالم فلا شك أن هذا من التعاون على الإثم والعدوان.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , نساء عدن إلى الله للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net