إسلام ويب

من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى هو العليم بكل شيء، وأنه يعلم ما كان وما سيكون، لا يخفى عليه شيء، وأنه قدر مقادير العباد، فلا يكون في خلقه وملكه إلا ما قدر سبحانه وقضى.

عموم علم الله تعالى بعباده وأفعالهم أزلاً

قال المصنف رحمة الله: [وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملةً واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له] .

ذكر المصنف في هذه الجملة أخص أصول القدر، وهو: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون، وعلم عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار.

وقوله: (جملةً واحدة) أي: أن هذا العلم أزلي وليس تحصل بعضه تبعاً لبعض، بل الله سبحانه وتعالى علم أزلاً مقادير الخلائق، والإيمان بعموم علمه هو إجماع للمسلمين، ومن نفاه أو أنكره فإنه كافر بإجماع السلف، بل وجمهور الطوائف؛ فقد نصوا على كفر من أنكر ذلك.

قول الفلاسفة في علم الله

وأما الفلاسفة فينكرون علم الله بالجزئيات، وهذا المذهب ذكره ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في كتبهم، ويزعمون أنهم يؤمنون بالعلم الكلي فقط، وهذا مبني على أصل تعطيلهم لصفات الباري سبحانه وتعالى.

أعمال العباد مقدرة عند الله تعالى

قول المصنف رحمه الله: [وكل ميسر لما خلق له] .

هذا جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه المسألة، فقد ثبت في الصحيحين من رواية جماعة من الصحابة- أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل قالوا له: ففيم العمل؟ فكان جوابه صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: (اعملوا فكل ميسر) ، وفي حديث علي رضي الله عنه: (فكل ميسر لما خلق له) .

ومعنى هذا أن الفعل والعمل وإن كان من العبد، وأن العبد وإن كان له إرادة ومشيئة على الحقيقة، وأنه يفعل بإرادته ومشيئته واختياره، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي، وهو الذي يضل من يشاء، وهذا هو معنى قوله: (فكل ميسر لما خلق له) أي: أن من كتبه الله من أهل السعادة لعمل أهل السعادة، ومن كتبه الله شقياً فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة.

وهذا ليس مشكلاً من جهة العقل، بل كما قال شيخ الإسلام : (إن جوابه صلى الله عليه وسلم هو أتم الأجوبة من جهة الشرع ومن جهة العقل)، ووجه ذلك من جهة العقل: أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق، وكتب السعيد والشقي، وإذا ثبت هذا المعنى المتفق عليه فإن الله كتب الأسباب وكتب المسببات، فإذا كتب عبداً من أهل النار، فلا بد أنه سبحانه وتعالى كتب أنه يعمل بعمل أهل النار وهو الكفر، وإذا كتب عبداً أنه من أهل الجنة فقد كتب له عملاً يناسب هذا المقام.

فليس في قدر الله أن عبداً يعمل الصالحات والإيمان ويكون شقياً من أهل النار، فإن الله كما كتب المآلات -أي: أن هذا في الجنة وهذا في النار، وأن هذا شقي وهذا سعيد- فقد كتب الأعمال، وكل مآل له عمل يناسبه، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من عصاه؛ إما عذاباً مطلقاً وهو الخلود في النار في حق من كفر به، وإما عذاباً دون عذاب في حق بعض أهل الكبائر.

وهذا الإشكال لا يزينه الشيطان إلا في باب الشرع ليصد به عن ذكر الله وعن توحيده وعن اتباع رسله، وإلا فإن هذا الإشكال لو كان صحيحاً لكان مطرداً في سائر أحوال بني آدم، ولا يختص بحالهم من جهة الديانة،ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنه لم يذهب إلى الاحتجاج بالقدر على الإطلاق أحد من عقلاء بني آدم).

ومراده بذلك أن القدر ليس مختصاً بباب الشرع، فكما أن الشقاوة والسعادة بقدر فكذلك الولد بقدر، وكذلك العدوان الذي يقع على الشخص بقدر، والبر الذي يلحقه بقدر... وهلم جراً، فإن الله قدر كل شيء.

قال شيخ الإسلام : (فلازم من احتج بالقدر على إسقاط الشرع أو معارضته أن لا يلوم من اعتدى عليه، فإن الذي اعتدى عليه إنما اعتدى عليه بقدر، وكذلك من قتل ولده فإنما قتله بقدر) وهكذا في الأكل والشرب، فإنه إن كتب على شخص أنه يموت في هذا اليوم فسيموت أكل أو لم يأكل، ومعلوم أن مثل هذه الأمور لا يصل إليها المجانين من بني آدم، فترى أن قدر الله سبحانه وتعالى على وفق العقل كما أنه على وفق الفطرة، وإن كان لا يخاض فيه خصومةً أو تفصيلاً لما لم يفصله الله سبحانه وتعالى أو رسوله.

الأعمال بخواتيمها

قال المصنف رحمه الله: [والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] .

أي: أن الله سبحانه وتعالى إنما يجازي العبد بخاتم عمله، وليس معنى هذا أن من مات على حال حسنة ولم يتب من كبائره أنه يجزم له بأنه لا يوافي ربه بالكبائر، وإنما مراد المصنف: أن من كان كافراً ثم آمن فإن الاعتبار بالثاني، وهكذا من آمن ثم كفر فإن الاعتبار بالثاني.

محبة الله للعبد وبغضه له متعلق بحاله لا بمآله

ومما يتعلق بذلك: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يحب عبده المؤمن حال إيمانه، وإن علم سبحانه وتعالى أنه قد يرتد عن الإيمان، فهو حال إيمانه محبوب لله دون حال كفره، وإن علم سبحانه وتعالى أن الكافر سيؤمن، فإنه حال كفره يكون مبغضاً، وهذا هو قول السلف خلافاً لـابن كلاب ومن وافقه كـأبي الحسن الأشعري وأصحابه الذين قالوا: إن محبته سبحانه وتعالى مبنية على الموافاة، فمن علم الله أنه سيؤمن فإنه لا يزال محبوباً عنده حتى حال عبادته الأصنام، ومن علم أنه سيكفر فإنه لا يزال مبغضاً حتى حال إسلامه الأول، ولا شك أن هذا مذهب مخالف لإجماع السلف، فإن كل من كان قائماً على الصدق والإيمان بعمل صالح، فإن الله سبحانه وتعالى يحب ذلك العمل منه.

مأخذ ابن كلاب والأشعري في الاستثناء في الإيمان

ومن هذا الوجه ذهب ابن كلاب والأشعري إلى الاستثناء في الإيمان، وإن كان الاستثناء في الإيمان موافق لقول جماهير من السلف، إلا أن هذا التعليل الذي قاله ابن كلاب محدث، والتعليل المأثور عن السلف: أنه يستثنى في الإيمان؛ لأن العبد لا يعلم ماذا يختم له.

إشكال وجوابه

وتحت هذه الجملة التي ذكرها أبو جعفر رحمه الله ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد -وفي رواية: إن الرجل- ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب -أي: القدر الذي كتبه الله- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .

أما من جهة من يعمل بعمل أهل النار ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فليس فيه إشكال، فإنه بيِّن في حال المشركين وأمثالهم الذين كانوا على الشرك ثم هداهم الله للإسلام، فكثير منهم إنما هدي للإسلام في آخر عمره فختم له بالإسلام.

ولكن المعنى الذي تكلم كثير من الشرَّاح فيه هو قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) ، وبهذا احتج من احتج من الأشاعرة على أن الاعتبار بمحض القدر، وأن فعل العبد لا أثر له في المآل، أي: في الشقاوة والسعادة.

وأما من جهة الثواب فإن سائر المسلمين أجمعوا على أن فعل العبد له أثر في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب) .

والصحيح في هذا الحديث أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة)، أي: فيما يظهر للناس ذلك، بل هذا هو جوابه صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه حين قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) ، فهو صريح في المدلول.

وكذلك سبب ورود الحديث؛ فإن رجلاً قاتل فقال الصحابة رضي الله عنهم: (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فقال رجل: أنا لكم به! فخرج معه، فجرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل السيف على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أني عبد الله ورسوله، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة..) إلى آخره.

وعليه: فيكون قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) محمولاً على أحد حالين:

الأول: أن يكون منافقاً يُظهر الإيمان ويبطن الكفر، ويختم له في آخر حاله بحال أهل النار كقتل النفس وأمثاله، ولا يعني هذا أن قتل النفس هو الموجب لكفره، بل هو كافر في الباطن، وإنما أظهر ما أظهر من أعمال الإسلام والشريعة نفاقاً.

الثاني: أنه وإن لم يكن منافقاً النفاق الأكبر إلا أنه ممن يعبد الله على حرف، وهو المذكور في قوله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ [الحج:11] قال شيخ الإسلام : (وكثير ممن يعبد الله على حرف يكون معه قبل هذه الفتنة جملة من الإيمان الصحيح، وإن كان معه مادة من النفاق، فينقلب بهذه الفتنة على وجهه).

وأما من آمن وصدق في الإيمان، ولم يعبد الله على حرف، بل صار مؤمناً محققاً لأصول الإيمان وإن كان يعتريه ما يعتريه من المعاصي والكبائر، فإن هذا لا يعرض له هذه الحالة بمحض الإرادة القدرية؛ فإن الله بكل شيء عليم، ولهذا قال ابن رجب وغيره من المحققين: (إنه لم يعلم عن أحد استفاض إيمانه في الناس أنه ارتد على هذه الحال).

وعليه: فإن كل من ارتد عن الإيمان لا بد أن شيئاً حدث من جهته هو، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ، فدل على أن أهل الإيمان الصادق يثبتون على أصل الإيمان وإن كانوا قد ينقصون بعض ما هو منه، فإن الله يثبتهم على أصل الإيمان في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

ثم قال: وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] أي: أن من خُتم له بعمل أهل النار فدخل النار، فإن هذا لا بد أن يكون من جهة ظلمه لنفسه: إما لكونه في الأصل منافقاً، وإما لكونه ممن يعبد الله على حرف.

وقول المصنف رحمه الله: (والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله)، أي: فقضاؤه سبحانه وتعالى عدل، وهو مبني على حكمته وعلمه بأحوال عباده وما يوافون به ربهم.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح العقيدة الطحاوية [13] للشيخ : يوسف الغفيص

https://audio.islamweb.net