إسلام ويب

القرآن الكريم هو أعظم كتاب في الوجود، وله فضائل عديدة، ولقراءته أجور كثيرة، ولحافظه فضل وميزة يقدم بها على غيره، ولقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن غاية الاهتمام، وكذلك كان دأب صحابته والتابعين لهم بإحسان؛ لأنه نزل ليحكم الحياة في كل شئونها، وليكون منهاجاً تسير عليه الأمة.

أهمية الاعتناء بموضوع القرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه.

وبعد:

فهذا درس عنوانه (القرآن والحياة)، حديثنا فيه عن القرآن الكريم المنزل في شهر رمضان، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].

وذلك لبيان صلة القرآن بالحياة في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياة أصحابه وحياة الأمة الإسلامية، سيما في القرون الأولى الفاضلة، وما آلت إليه الأحوال في آخر هذه الأزمان من انفصام بين الحياة وبين تسييرها بكتاب الله عز وجل.

ولذلك فإن لهذا الموضوع أهمية كبرى فيما يتعلق بتقويم الإنسان بحياته ومعرفة موقفه من كتاب ربه ومن نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحتى ننتفع في إيجاز نبدأ بأول عنوان في هذا الموضوع، وذكر بعض ما يتعلق بالقرآن في أول نزوله.

نزل القرآن على رسولنا صلى الله عليه وسلم، وفي هذا النزول وفي تلك الطريقة وفيما لابسها وشاكلها وصاحبها دروس وعبر وفوائد تنبهنا على طبيعة هذا القرآن وصلته بالمسلم وتسييره لهذه الحياة.

أخرج البخاري وصفاً لأول مرة نزل فيها جبريل عليه السلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا السياق عندما نزل عليه جبريل: (قال له: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ - أي: لا أعرف القراءة، وليس نفياً أو اعتراضاً- قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: أقرأ؟ قلت: ما أنا بقارئ. قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]).

أيها الأخ الكريم! الذي يتبادر إلى الذهن أن أول نزول لهذا القرآن يكون نزولاً لطيفاً هيناً حتى يكون البدء بما هو أسهل، ثم يأتي ما هو أشق منه، ولكننا نرى هذا النزول الأول على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيه هذه الصورة من الشدة ومن التكرار ومن القوة ومن مفاجأة النبي عليه الصلاة والسلام.

وكل ذلك تدليل على أن هذا القرآن ونزوله ليس بالأمر الهين ولا بالشيء العارض، وليس هو أمراً أو كلاماً يُتلى أو تُحسن به الأصوات أو يُتخذ للبركة، بل نزل في هذه الشدة ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتلقى وحي الله، وأنه يحمل رسالة الله، وأنه يتلقى أمانة الله عز وجل ليدرك منذ الوهلة الأولى أنه أمام مهمة عظمى وأمام رسالة كبرى.

وذلك حتى يتهيأ المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جل وعلا خاطبه بقوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، فليس الأمر بالأمر الهين ولا بالسهل، إنما هو الأمر الذي قضاه الله عز وجل والنهج الذي أراده وارتضاه للأمة المسلمة وللبشرية جمعاء إلى أن يرث الأرض ومن عليها.

فالكتاب الذي ما ترك فيه الله عز وجل شاردة ولا واردة إلا جاء بها وكان فيها ذكر هو كتاب الله عز وجل القرآن، ولذلك كان هذا النزول في حد ذاته دليلاً وتنبيهاً للمسلمين على أن تلقي هذا القرآن وأن نزوله إلى هذه الدنيا وأن تحمل المصطفى صلى الله عليه وسلم له إنما كان تحمل رسالة ودعوة ومنهج وأمانة حتى يدركوا أنه ليس كما يتصور كثير من الناس أو يتعامل كثير منهم مع كتاب الله عز وجل.

وصف القرآن بأنه روح

عندما ننظر إلى الوصف الأساسي الرئيسي الذي ذكره الله عز وجل عن هذا القرآن وعن طبيعة ارتباطه في الحياة وعن طبيعة دوره في هذه الدنيا نجد قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ [الشورى:52].

فلبيان أثر القرآن في هذه الحياة وصف الله عز وجل القرآن بأنه روح فقال: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) ولا قيمة للأجساد بلا أرواح، فالقرآن هو روح هذه الحياة، وبدونه تفسد الحياة، وبدونه تضل وتموت القلوب، وتنطمس البصائر، وتفسد النفوس، نسأل الله عز وجل السلامة.

وكذلك قال الله عز وجل في الآية ذاتها: (ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء) أي: نوراً يبدد الظلمات. فإنه لا قيمة للأجساد بلا أرواح؛ لأنها لا يكون فيها حياة، كما أنه لا قيمة للحياة ولا للقوة إذا لم يكن هناك نور تستضيء به.

إن الإنسان إذا كان جسداً هامداً وجثة لا روح فيها لا قيمة له، وإذا كان جسماً حياً متحركاً بقوة وبفتوة ولكنه يسير في الظلماء لاشك أنه يتعثر وأنه تصيبه الكوارث وأنه تعترضه العوارض وهو لا يملك معرفتها ولا كشفها، فضلاً عن أن يملك الحذر أو الواقية منها.

ولذلك هذا القرآن في حقيقته بالنسبة للإنسان المسلم هو روحه التي بين جنبيه، فإذا سلبت منه هذه الروح وإذا نزعت منه آيات القرآن العظيم فحاله كما قال الله عز وجل في وصف الإنسان قبل القرآن وبعده: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام:122] .

فهذا القرآن هو حياة القلوب الميتة، وهو طمأنينة النفوس، وهو سكينة القلوب، لذلك جعل الله عز وجل هذا الوصف منبهاً لعظمة هذا القرآن ودوره وأهميته في الحياة.

إعجاز القرآن الكريم وبلاغته

ننظر من وجه آخر إلى تعظيم القرآن ولفت الأنظار إليه وربط الناس به عندما جعله الله عز وجل معجزة خالدة ما دامت السماوات والأرض، كما في البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).

لقد نزل القرآن في العرب الذين كانوا أرباب الفصاحة وأهل البلاغة وأهل اللسان، فجاء هذا القرآن معجزاً في بلاغته وفصاحته ودقة معانيه وغزارتها، فأعجز الناس عن أن يضاهئوه أو أن يأتوا بمثله، وقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله مفتريات أو بسورة واحدة فعجز القوم كلهم.

فهذا الوليد بن المغيرة عندما سمع بعض آيات القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأعرفكم بالكهان وسجعهم، والسحرة وهمهمتهم، والشعر قريضه ورجزه ومبسوطه، لا والله ما يقول محمد شيئاً من ذلك، إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمغدق، وإن أسفله لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه.

والحق ما شهدت به الأعداء.

ثم كذلك ننظر إلى معنىً آخر فيما يتعلق بنزول القرآن، وهو معنى يهز القلوب هزاً، وينور البصائر التي تتدبر وتتأمل، فقد جاء من حديث عائشة وابن عباس في البخاري قالا: (لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشر سنين).

القرآن الكريم فيه حل لجميع شئون الحياة

لقد كان هذا القرآن هادياً للأمة الإسلامية وقت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فما كان يقع في المجتمع من حادث ولا يأتي سؤال ولا تعرض معضلة إلا ويتنزل القرآن، فتشعر الأمة المسلمة باطلاع الله عليها وبتأييده لها، وبتبصيره لمسيرتها، وهذا أوثق في تعلق القلوب بكتاب الله واستشعارها بأن القرآن إنما جاء ليعالج مشكلات هذه الحياة، وليكون دوره وطيداً وأكيداً في صميم هذه الحياة.

فانظر على سبيل المثال إلى ما وقع عندما جاء هلال بن أمية رضي الله عنه يرمي زوجته بـشريك بن سحماء، أي: يتهم زوجته بالخيانة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عنده من الحكم المبلغ له من الله عز وجل: (البينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تقدم البينة -والبينة أربعة شهود يشهدون شهادة صريحة واضحة- أو حد في ظهرك؛ لأنك تستوجب حد القذف فقال الرجل قولة الغيرة الإيمانية: (أيجد أحدنا السوء في أهله فيذهب يلتمس الشهداء؟) أي: هذا أمر لا يطيقه الإنسان أن يرى الفاحشة فيذهب ويلتمس الشهداء حتى يقيم الحجة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حد في ظهرك)، وهذا الحكم هو المبلغ عن الله عز وجل حينذاك.

فاشتد الأمر وتعقد وتأزم، فرجل إذا قال: إنه رأى السوء في أهله فإنه لا يتوقع كذبه؛ لأنه يتهم زوجه ويهتك عرضه، ولو لم يكن صادقاً لما تجرأ على ذلك، وعندما اشتد الأمر صارت هناك أجواء متوترة، عند ذلك نزلت آيات اللعان تبين حكم الله عز وجل فيما يتعلق بالقذف بين الأزواج، فنظر الناس إلى ذلك ورأوا أن الله عز وجل مطلع عليهم، وأن القرآن علاج للمشكلات وحل للمعضلات، وأنه رعاية لمسيرة هذه الحياة.

وعندما نتأمل القرآن وهو يتنزل عبر عشر سنين نجد أن هناك من كان يقول القول من المنافقين ومن يدبر الكيد من الكافرين فيتنزل الوحي يفضح كل تلك المؤامرات، ويبين كل تلك المقالات، وعندما يتساءل بعض الصحابة عن الأحكام يتنزل الوحي بذلك، وعندما تقع المشكلة أو المعضلة وعندما تقع القسوة أو المعركة يتنزل الوحي بذلك.

فإذا بالقرآن يتقدم مسيرة الأمة المسلمة، ويبين لها حلول مشكلاتها ومعضلاتها، وينور قلوبها، ويزكي نفوسها، ويهدي عقولها، ولذلك كان القرآن في نزوله منهجاً بحد ذاته يعلم الأمة المسلمة أن القرآن لم ينزل ليُوضع في أعالي البيوت، ولم ينزل ليُتبرك به فحسب، ولم ينزل ليُتلى في المحاريب فقط، وإنما ليكون هو المهيمن والمسيطر على هذه الحياة كلها.

وقد وصف الله عز وجل كتابه الكريم فقال: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] ، ولذلك جاء فيه خلاصة الهدايات والخيرات التي كانت فيما مضى من الكتب.

بيان ربط المنهج النبوي الأمة بكتاب ربها

ثم ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي المنهج النبوي الذي ربط من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بكتاب الله عز وجل.

فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل كل شيء مما يهتم به المسلم ومما تنتفع به نفسه ويرغب في تحصيله كل ذلك جعله مرتبطاً بكتاب الله عز وجل.

ونبدأ أولاً بتلقي المصطفى عليه الصلاة والسلام لهذا القرآن بعد أن انتقل إلى عظمته وإلى رسالته وإلى دوره في الحياة. لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر نزول الوحي انتظار الأرض القاحلة للقطر من السماء، ولقد كان يتشوق إلى هذا القرآن ويتوق إليه ويحرص عليه ويبالغ في حفظه ورعايته وصيانته.

ولذلك كان من شدة تلهفه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسابق الوحي إذا نزل به جبريل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد وراءه خوفاً من تفلت القرآن؛ حتى نزل قول الله عز وجل: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19] .

وكذلك جاء قوله عز وجل: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114] ، فتلقاه عن جبريل بهذا الشغف وتلك المحبة والإقبال، ولقد كان عليه الصلاة والسلام هو قائد الجيوش، وهو حاكم البلاد، وهو الذي يرعى المصالح، وهو الذي يجيب السائلين، وهو الذي يعلم الجاهلين، وهو المنشغل بأمور كثيرة ومع ذلك لم يشغله ذلك عن أداء مهمة عظمى ورسالة كبرى رأى عليه الصلاة والسلام أنها من أوجب واجباته، وأراد أن يورثها لأمته من بعده، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بنفسه بتلقين الصحابة كتاب الله عز وجل وتعليمهم تلاوته، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يقول: (تلقيت من فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة من القرآن).

لم يكتف عليه الصلاة والسلام بهذا التلقي ولا بذاك التعليم، فقد كان حبه للقرآن وتعلقه به أعظم من ذلك، فكما يلهج به لسانه وكما يعلم به إخوانه طلب أن يسمع القرآن منهم، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي القرآن. فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم؛ فإني أحب أن سمعه من غيري).

فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب أن تشارك جوارحه كلها في كتاب الله عز وجل، فينطق به لسانه، ويتدبره بعقله، وينفعل به بقلبه، ويسمعه بأذنه، لقد ملك القرآن كل جوارحه وكل مشاعره، فكان عليه الصلاة والسلام في سيرته التي نقلت لنا يعبر لنا ويصور لنا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم وارتباطه بكتاب الله عز وجل.

ولذلك قرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى بلغ قول الله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42] قال: (حسبك حسبك! قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان ).

فهكذا كان في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ربط الأمة كلها بهذا النهج القويم، فما هو الذي يرتبط به المسلم في هذه الحياة؟ وما الذي يرجوه المؤمن الذي يفكر في العاقبة؟

إن أهم ما تندفع إليه النفوس المؤمنة هو طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، وطلب الرفعة والعلو عند الله سبحانه وتعالى، وطلب الجنة ومنازلها العالية.

هذا هو الذي تتوق إليه قلوب المؤمنين، وهذا هو الذي يبذلون من أجله الغالي والرخيص، فأين طريقه؟ وأين سبيله؟ لقد جعل المصطفى عليه الصلاة والسلام الطريق إلى كل ذلك عبر القرآن العظيم.

ذكر بعض فضائل تعلم القرآن الكريم وتلاوته

جاء عنه عليه الصلاة والسلام جملة من أحاديث الفضائل التي تبين عظمة الأجر في هذا القرآن العظيم، وفي الوقت نفسه يرتبط المسلم ارتباطاً وثيقاً بكتاب الله عز وجل إذا أراد أن يغنم الأجر، وإذا أراد أن يمحو الله عنه السيئات، وإذا أراد أن تُرفع له الدرجات.

فهذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

ومن أعظم هذه الأحاديث التي وردت ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (أيحب أحدكم أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين -أي: سمينتين- زهراوين من غير إثم ولا قطيعة رحم؟ فقال الصحابة: يا رسول الله! كلنا يحب ذلك -لقد شوقهم وعلقهم بالأجر، ثم رسم لهم طريقهم- فقال: لأن يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل).

ونأخذ هذا الحديث لنقدمه في واقعنا، فلو قيل للناس: من ذهب إلى مكان كذا فسيأخذ سيارتين فارهتين من الطراز الحديث والموديلات الجديدة من غير إثم ولا قطيعة رحم ولا مال، ويرجع وهو غانم لهاتين السيارتين كل يوم وكل لحظة كلما أراد، لو قيل ذلك لانصرف الناس إلى ذلك انصرافاً عظيماً، ولتقاتلوا قتالاً عجيباً.

فالنبي شوق النفوس وعلقها بهذا الأجر، وقد كانت الناقة الكوماء عندهم ثروة، فقد كانت ثروة الرجل في ذلك الوقت تقدر بما عنده من النوق والجمال، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحثهم ويرغبهم ويعلقهم، ثم يرسم لهم الطريق في حديثه عبر الارتباط بهذا القرآن.

هذا فيما يتعلق بشأن الأجر، أما شأن المراتب العالية فقد ورد حديثه عليه الصلاة والسلام: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: إقرأ وارق - أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها)، فمن أراد الأجر والمثوبة ومن أراد الرفعة في الجنة فطريقه كتاب الله عز وجل، هذا بالنسبة للآخرة.

ذكر بعض فضائل صاحب القرآن

وقد ربط المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر الدنيا والتقدم فيها والجاه والشرف بالإيمان بكتاب الله عز وجل.

ففي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فمن أراد أن تكون له الخيرية في هذه الأمة في مجتمعات المسلمين التي تقوم بتنظيم ميزان الإسلام والإيمان فطريقه أن يكون مرتبطاً بهذا الكتاب تعلماً وتعليماً.

ولذلك ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه ما يدل على أن الصحابة كان صاحب القرآن فيهم معظماً وصاحب شرف ومنزلة، فهو يقول: (كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) أي: صار ذا منزلة عالية، وصارت نظرة الناس إليه محترمة وموقرة، وصار هو الذي يُقدم على غيره. وهذا يبين أن الشرف في الدنيا والشرف في الآخرة طريقه موصول بكتاب الله عز وجل.

ثم ننظر إلى وجه آخر، فبالقرآن يكون التقدم في أمر الدين والتقدم في أمر الدنيا والتقدم في أعظم فريضة بعد التوحيد والركن الثاني من أركان الإسلام وهو الصلاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)، فأعظم مؤهل في التقدم لأعظم فريضة جامعة مكررة في اليوم والليلة خمس مرات هو حفظ كتاب الله عز وجل.

ولذلك يروي أحد الصحابة أنه روى لبعض القوم هذا الحديث ثم قال: (فأقيمت الصلاة وليس في القوم أقرأ مني، فصليت بهم إماماً وأنا ابن سبع)، وفي رواية عند البخاري : (أن أحد صغار القراء تقدم فصلى إماماً، وكان ثوبه قصيراً، فقال قائل: غطوا عنا است قارئكم).

وسأضرب أمثلة واقعية حية كثيرة من حياة المجتمعات الإسلامية لتقدم حفظة القرآن في أمر الدين وفي أمر الدنيا ومسألة الولايات والحكم والقضاء وغير ذلك.

جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي عامله على مكة في الحج فقال: من خلفت على أهل مكة -أي: من جعلته نائباً لك-؟ قال: خلفت عليهم ابن أبزى. فقال عمر : ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا. فقال عمر كالمستنكر: أخلفت على أهل مكة مولى؟! وفي رواية البخاري: أخلفت على أهل الوادي مولى؟! يعني: ما وجدت في الأمة من هو مؤهل حتى تدع هذا يتولى هذا الأمر. فتكلم العامل بالمؤهل الأعظم الذي تأهل هذا الرجل به لنيل هذه المنزلة، فقال كلمات قصيرات موجزات، قال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله. فقال عمر رضي الله عنه في تتمة هذا الحديث: أما إني سمعت رسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين).

فهذا هو التقدم في شأن الدين والتقدم في شأن الدنيا، فقد ربطهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، فمن أراد هذا أو ذاك فطريقه أن يرتبط بكتاب الله حفظاً وتلاوة وتدبراً وعملاً.

ثم كذلك نلمح منهج النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بكل صورة من الصور بكتاب الله، فهذا البخاري يروي لنا قصة فريدة جميلة عجيبة فيها أن امرأة جاءت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها ليتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام، جاءت تهب نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه، وكانت جريئة وصاحبة أيمان، ولم يكن للرسول عليه الصلاة والسلام بها حاجة، فسكت حياءً أن يرد عليها، وطال الصمت، وتأزم الموقف، ودخل الإحراج، فانتهز رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة، وأراد أن يقتنص الغنيمة الباردة، فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، وكان متأدباً في سؤاله وطلبه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فالتمس شيئاً -أي: بعض المهر- فذهب ثم عاد فقال: يا رسول الله! لا أجد شيئاً. قال: التمس ولو خاتماً من حديد. قال: ولا خاتماً من حديد. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولى الرجل، فقال: ردوه عليَّ. فلما رجع قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم. معي سورة كذا وكذا. فقال: زوجتكها على ما معك من القرآن).

الاستشفاء بالقرآن الكريم

والحياة الاجتماعية يربطها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالقرآن، بل يربط أمور الناس كلها به، حتى في مسألة الاستشفاء والعلاج من الأمراض، قال الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ [الإسراء:82].

وهذا أبو سعيد الخدري -وحديثه في البخاري- يقول: (مررنا على حي من إحياء العرب، فطلبنا أن يضيفونا فأبوا. قال: فذهبنا، فلدغ سيد القوم، فجاءوا إلينا وقالوا: هل منكم من راقٍ؟ قال: قلنا لهم: لا نرقي لكم حتى تعطونا أجراً. قال: فذهب أحدنا فقرأ عليه الفاتحة فبرأ كأنما نشط من عقال. قال: فلما أخذنا ما أعطونا من الغنم ورجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال: وما أدراك أنها رقية؟! إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عز وجل).

تقديم الأحفظ للقرآن في الدفن في قبر واحد

بل قد ذهب النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بالقرآن مذهباً بعيداً لا تتصوره العقول، فلما كان ما كان في يوم أحد وجاء النبي عليه الصلاة والسلام يدفن الشهداء كان يدفن الاثنين والثلاثة والأربعة في القبر الواحد، فكان يسأل: (أيهم أحفظ لكتاب الله؟) فيقدمه في قبره ولحده؛ ليبين لهم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا القرآن هو شرف هذا المؤمن وعزه، وأن طريقه إلى الله عز وجل موسومة مرسومة بكتاب الله عز وجل وبارتباطه به.

ولذلك عندما ننظر إلى هذه الصور نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يكون هو القدوة لهم عندما كان يقرأ ويسمع ويطلب السماع عليه الصلاة والسلام، ثم جعل خير الدنيا والآخرة ورفعة الدنيا ورفعة الآخرة والتقدم في أمر الدنيا وفي أمر الآخرة كل ذلك جعله مربوطاً بكتاب الله عز وجل؛ ليعلم كل فرد في هذه الأمة أنه إذا أراد الفلاح والنجاح والأجر والمثوبة والتقدم والخيرية فإن طريقه عبر كتاب الله سبحانه وتعالى.

صور من حياة الصحابة في تأثرهم بالقرآن وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم

انتقل إلى نقطة ثانية، وهي صور من مجتمعات الصحابة والمجتمعات الإسلامية الأولى المتعلقة بأثر هذا النزول القرآني وبأثر ذلك المنهج النبوي، وكيف كان انعكاسه على الصحابة رضوان الله عليهم، إنها صور عجيبة فريدة تبين لنا كيف كان القرآن هو الحياة وكانت الحياة هي القرآن في مجتمعات المسلمين في القرون الفاضلة.

فهذا عمر بن الخطاب - كما في صحيح البخاري - يقول: (كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرد إلى المسجد وأرد إلى السوق ليستمع ما ينزل من الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان آخر اليوم أخبرني بما نزل من القرآن) فإذا كان اليوم الثاني غير كل موقعه.

هذه الصورة تبين لنا أن الصحابة قسموا الحياة نصفين:

فنصف جعلوه للعمل وكسب الرزق والقوت بما ييسر الله عز وجل.

ونصف جعلوه لئلا يفوتهم من القرآن ومن سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام شيء أبداً.

وكان بالإمكان أن يُجعل ذلك على تراخٍ وتهاون، وأن يسأل عنه عندما يفرغ من عمله إذا وجد الفرصة المناسبة، أو لا يسأل حتى يأتي من يخبره.

لقد كان أثر ذلك المنهج من الرسول عليه الصلاة والسلام منعكساً، فجعلوا الأهمية العظمى لتلقي هذا القرآن وفهمه وتدبره وحمله والعمل به.

وننظر إلى صورة أخرى في البخاري -أيضاً- عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار)، والأشعريون قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن، وكانوا إذا جاءوا في الليل يعرف النبي عليه الصلاة والسلام أن القوم قد وصلوا، وأنهم نزلوا في شرق المدينة أو غربها، فلقد كان القرآن هو الذي يُحيا به الليل، وتعمر به المحاريب، وتلهج به الألسنة، وتُستجاش به مشاعر القلوب والنفوس.

وهناك صورة أخرى، فـسعد رضي الله عنه عندما فتح الله عليهم في القادسية أرسل إلى عمر يبشره بالفتح، وكان في ضمن كتابه أنه قال: ذهب من الناس فلان وفلان -يعني استشهدوا- ممن لا تعلمهم -أي: ولا تعرفهم ولا تعرف أسماءهم؛ لأنهم مجهولون مغمورون، لكنهم مؤمنون مجاهدون- الله بهم عالم، كانوا يدوون بالقرآن كدوي النحل في الليل.

ومتى هذا؟ إنه في السفر والحرب، فكيف إذا كانوا في الحضر وإذا كانوا في الأمن؟! فكان هذا دأبهم وهم في المعارك على صهوات الجياد، وهم في الخوف في حراسة الثغور كان هذا دأبهم، كما عند البخاري من غير تسمية الأسماء، وعند غيره بتسمية عباد بن بشر ورفيق له أنهما كانا مكلفين بحماية المسلمين في ليلة من الليالي، فنام أحدهما وقام الآخر يصلي ما شاء الله له أن يصلي ويقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فأصابه سهم وهو واقف يصلي، فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثاني فنزعه ومضى في صلاته، فأصابه الثالث فقال لصاحبه لما أنكر عليه أنه لم يوقظه: لولا خشية أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك كراهة أن أقطع صلاتي.

كان هذا هو وصف القوم وارتباطهم بكتاب الله عز وجل، وكان معلوماً في صفوف الجيوش الإسلامية وراياتها أن في كل فرقة وكتيبة قارئاً، وإذا التحمت الصفوف وحمي الوطيس كان القارئ يقرأ سورة (الأنفال) يهيج بها على الجهاد، ويقوي بها العزائم، ويثبت بها الأقدام، ويشوق إلى لقاء الله عز وجل، فكانت القلوب حينئذ تطير من صدورها وتهفوا إلى لقاء ربها، وتتوق إلى نعيم الله عز وجل.

ولذلك كان هذا القرآن يتقدم مسيرة الأمة في كل منحىً من مناحي حياتها، وعندما نرى الشرف والمنزلة والتقديم والتعظيم يأتينا أمر ابن عباس ذلك الغلام الصغير والفتى الذي لم يكن عمره عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجاوز الخامسة عشرة، وفي بعض الروايات أنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، وفي بعضها أنه كان ابن عشر سنين.

ذلك الشاب كان يدخل مجلس عمر رضي الله عنه، وكان مجلس عمر يضم كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار من البدريين المتقدمين في الإسلام، فقال بعض الأنصار: يا أمير المؤمنين! إن عندنا من أبنائنا من هو في مثل سن هذا، فلماذا تقدمه عليهم؟

فسكت عمر حتى إذا ضمه المجلس سأل فقال: ما تقولون في قول الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]؟ فأجاب بعض الصحابة وقال: بشر الله رسوله بالفتح وبدخول الناس في دين الله أفواجاً، ومنَّ عليه بذلك، وأمره أن يسبح إزاء هذه النعمة. وكل قال قولاً. فالتفت إلى ابن عباس الغلام الصغير فقال: ما تقول فيها يا ابن عباس ؟! قال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه) يعني أنه قد أراد الله عز وجل أن يشير إلى رسوله أنه قد اقترب أجله وانتقاله إلى ربه ومولاه؛ لأنه إذا بلغ الرسالة وفتح الله عليه ودخل الناس في دين الله أفواجاً فقد أكمل ما عليه، وأوشك أن ينتقل إلى خالقه ومولاه، فقال عمر : (والله! ما أعلم منها إلا ما قلت يا ابن عباس !)، وبهذا شرفه عمر وقدمه، فكان أهل القرآن هم المقدمون والمستشارون والمعظمون في مجتمع المسلمين.

اهتمام الصحابة بعدم الاختلاف في القرآن

وانظر كذلك إلى مواقف أخرى كثيرة تبين لنا هذا الشأن، فقد كان القرآن هو الذي يلفت الأنظار، وهو الذي يحدد المواقف، ففي صحيح الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -و عمر له قصص كثيرة فيها مزية الغيرة لدين الله والاهتمام بشرع الله وبدين الله- قال: (سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتأمل في كون الذي أقرأه إياها هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فإنه كان هو الذي يعلم الصحابة القرآن، إنها مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سمعته فإذا هو يقرأها على غير ما أقرأنيها رسول الله عليه الصلاة والسلام - وكان هشام يصلي ويقرأ- قال عمر : فكدت أساوره في الصلاة) يعني: كاد أن يقطع عليه صلاته لينكر عليه هذه القراءة؛ لأنه تلقاها عن الرسول وعنده منها علم وبينة، قال: (فانتظرته حتى سلم فلببته بردائه وانطلقت به أجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).

هكذا كان عمر ، وهكذا كان حرصهم على القرآن أن لا يحرف وأن لا يغير وأن لا يُدخل فيه ولا يزاد عليه، وفي هذا قصص عجيبة وأمثلة كثيرة، قال: (فلببته بردائه وأخذته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتني. فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: أرسله يا عمر. اقرأ يا هشام !). فقرأ هشام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أُنزلت. وقرأ عمر فقال: هكذا أُنزلت، إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف).

اعتناء الصحابة رضي الله عنهم بجمع القرآن الكريم

ولعل من أعظم المواقف في حياة مجتمع الصحابة وارتباطهم بكتاب الله عز وجل ذلك الموقف الذي كان لـعمر رضي الله عنه.

في الصحيحين أن عمر قال لـأبي بكر رضي الله عنه : ( إني رأيت القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فيضيع كتاب الله عز وجل، وإني أرى أن تجمع القرآن ).

هذا هو الاهتمام، وهذه هي المهمات، وهذه هي المشاغل، وهذا هو الذي كان يحرك العقول ويشغلها، فقال أبو بكر : ( كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ) كان عند القوم منهج، هو أن لا مخالفة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فما زال عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر.

فانظر بعد ذلك للمهمات والشرف! فبعث أبو بكر إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه وقال له: ( إنك كنت تكتب القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما كان من القرآن فاجمعه ) ومن الذي يحدثه؟ أبو بكر خليفة المسلمين ومعه عمر وزيره الأول، وأبو بكر وعمر هما صاحبا الحكم هنا، وهما صاحبا السابقة في الإسلام، وهما صاحبا الفضل، وهما صاحبا العلم، ومع ذلك لم يمنع هذا كله زيد بن ثابت أن يؤكد لنا المنهج الذي رُبي عليه الصحابة، وذلك أنه قال: (كيف تفعلا شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) أي: وإن كنتما الحاكمين والسابقين والفاضلين والمقدمين فإن هناك ما هو أفضل وأكثر تقديماً، وهو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فما زالا به حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فماذا قال بعد ذلك؟ قال: (فوالله! لو كلفني نقل جبل من مكانه لكان أهون عليَّ) أي أنه رأى أنها مهمة عظمى، وأنها قضية خطيرة؛ لأن فيها أنه يحفظ على الأمة كتاب الله عز وجل، فماذا صنع؟ وكيف نفذ؟ قال: (فجعلت أتتبع القرآن في الجلود واللحاف والعظام) وكان لا يقبل آية إلا بشاهدين أنها كتبت بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (وآخر سورة التوبة ما وجدتها إلا عند أبي خزيمة وحده) وبعض الناس يظنون أنه لم يكن أحد يحفظها إلا هو، وليس كذلك، إنما المقصود أنه لم يكن أحد شاهد كتابتها بأمر الرسول إلا هو، ومن عظمة وإعجاز ونبوة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان قد جعل شهادة أبي خزيمة بشاهدة رجلين، فكان هذا مغنياً، فما وجدها إلا عنده، ثم وجد أن الرسول قد حكم بأن شهادته بشهادتين قبل أن يموت عليه الصلاة والسلام.

وكذلك ما جاء في شأن حذيفة لما كانوا في بلاد الأرمن في جهة المشرق يفتحون البلاد، ورأى الناس يختلفون في القراءة، خاصة الداخلين في دين الله حديثاً، فرجع إلى عثمان وقال: (أدرك أمة محمد قبل أن يختلفوا في كتابهم كما اختلفت اليهود والنصارى) فجمع عثمان رضي الله عنه الأمة على مصحف واحد، وفرق منه في الأمصار سبع أو تسع نسخ، فاجتمعت الأمة، وكانت كلها متوافرة جهودها منشغلة أفكارها بكتاب الله عز وجل.

تحكيم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم في جميع أحوالهم

جاءت امرأة إلى أبي بكر رضي الله عنه وهي جدة تسأله ميراثها، وذلك بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو بكر : (لا أجد لك شيئاً في كتاب الله) أي: نحن عندنا القرآن نبحث فيه ونحكم به. فقام رجل وقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعل لها السدس) قال: (ومعك من يشهد بذلك؟) فشهد رجل فأمضى أبو بكر رضي الله عنه ذلك.

ومن ذلك تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في حديث معاذ لما بعثه النبي عليه الصلاة والسلام إلى اليمن فإنه قال له: (بمَ تقضي؟ فأجاب: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم).

هكذا كان القرآن هو ديدنهم، وهو مشغلتهم، وهو مهمتهم، وهو حاكمهم، وهو الذي به يتشرفون ويشرفون، ويقدمون ويؤخرون، ولذلك كانت هذه الصور العظيمة في حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم

وليس هذا الأمر مرتبطاً بسيرة أو بحياة الصحابة فحسب، بل كان هذا شأن الأمة في صور كثيرة من أحوالها، وإن كان من ذلك عبر العصور ما يزيد وما ينقص، لكن لابد من أن نعرف أن الأمة مرتبطة بكتابها ارتباطاً وثيقاً عبر قرون متتابعة، وإن كانت هناك مخالفات، لكن الهيمنة الأولى والحكم والتشريع لكتاب الله عز وجل.

ولذلك نجد صوراً كثيرة واحتفاءً واهتماماً عظيماً من الأمة المسلمة عبر القرون بكتاب الله عز وجل، ولعلي أضرب أمثلة أشير بها إلى ما مضى على سبيل المثال:

انظر إلى اهتمام الأمة بالقرآن من خلال العلوم القرآنية والمؤلفات فيها! فكم من التفاسير ألفت منذ عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام! والنقل عنه إلى هذا اليوم وإلى ما شاء الله، وعد فإنك لن تحصي، وانظر كم ألفوا في مبهمات القرآن، وفي علوم القرآن، وفي إعجاز القرآن، وفي بلاغة القرآن، وفي نواسخ القرآن، وفي مشكلات القرآن، وفي كل ضرب من الضروب، بل حتى ربما كأن الإنسان يتصور أن لكل حرف اهتماماً ورعاية ودراسة وتحليلاً، وهناك من يدرس في الأوقات المعاصرة بعض هذه القضايا، فهناك رسالة علمية عنوانها (الفاء في القرآن الكريم) أي: مواقعها الإعرابية من الناحية اللغوية.

فالقرآن بحر لا ينضب، ولذلك توجه الاهتمام بهذا القرآن العظيم، وانصبت إليه جهود الأمة بصورة لم يُسبق إليها ولم يكن لها مثيل مطلقاً، فما لقي كتاب من التوثيق والرعاية والدلالة والصيانة ثم من الشرح والعناية والتفصيل ما لقي القرآن العظيم؛ لأن الأمة شغلت وارتبطت به، وكان هو الذي يسيرها في كل شأن من شئون الحياة.

ولذلك قصص كثيرة جداً ووقائع متفرقة عبر التاريخ، حيث نجد فيها أن القرآن كان هو الذي يهيمن على حياة المجتمعات الإسلامية، خاصة فيما يتعلق في الحكم بالقرآن.

وعندما نقول ذلك نقول: إن الدول الإسلامية من الخلافة الراشدة والأموية والعباسية وما جاء بعدها كالعثمانية كلها كانت في الأصل لا تحكم إلا بكتاب الله، ولم يكن هناك شيء آخر، ولا حكم ولا قانون وضعي، ولا مبدأ بشري، وإنما جاء ذلك -كما سأحكي في آخر الحديث- في الواقع المعاصر الذي استُبدلت فيه شريعة الله بقوانين بشرية وضعية ابتُليت بها الأمة دهراً طويلاً.

الشمول في كتاب الله عز وجل

أنتقل إلى نقطة مهمة قبل أن أعرج على الواقع المعاصر وإلى الصورة التي نريد أن تكون لنا في ذواتنا وفي أفرادنا.

أريد أن أشير إلى قضية الشمول التي جاءت في كتاب الله عز وجل؛ لأن لها ارتباطاً وطيداً بعلاقة القرآن بالحياة، لقد جاء هذا القرآن شاملاً شمولاً متعدد الجوانب، فإذا نظرنا فإننا نجد هذا القرآن شاملاً من حيث ما يتعلق بالمعاني التي يحتاج الناس إليها في حياتهم الدنيا في قضايا الإيمان والنفوس والقلوب.

والله عز وجل يقول: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9] ففيه الهداية، وكذلك يقول الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82] فهو الشفاء والرحمة، ويقول عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57] فهو الموعظة للقلوب والمهيء للنفوس إلى ابتغاء رضوان الله عز وجل، وهو كذلك العاصم، كما قال عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقد ذكر أهل التفسير أن حبل الله هو القرآن، وكما قال الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر:23] فتوافر الشمول والهداية والطمأنينة والسكينة والرحمة والموعظة والتذكرة في هذا القرآن.

ثم انظر إلى الشمول من وجه آخر لتجد أن هذا القرآن خاطب كل شيء في هذا الإنسان.

ففيه خطاب للعقول بالتدبر والتأمل، وفيه خطاب للقلوب بالموعظة والتذكير، وفيه خطاب للجوارح بتعليمها ما أراد الله عز وجل منها من البصر وغضه، والسمع وكفه عن الحرام، وفيه ذكر الجبال الساجدة والألسن الذاكرة، كل ذلك مذكور في كتاب الله عز وجل، فهو شامل لكل شيء في حياة الإنسان.

وانظر كذلك إلى الشمول من وجه ثالث، فهو الذي يشمل كل أصناف الإنسان.

فهو الذي يخاطب الرجال، ويخاطب النساء، ويذكر منهج الصغار والأطفال، ومنهج الرجال الكبار، فلا يخرج عن هذا القرآن شيء أو صنف من الناس مطلقاً، فلهم جميعاً خطاب، ولهم تنبيه، ولهم آداب، ولهم تعليم وهداية.

ثم انظر إلى الشمول من وجه رابع، فإنك تجد شمول القرآن ينتظم سائر مناحي الحياة.

ففيه منهج متكامل في الحكم والسياسة، ومنهج متكامل في العسكرية والجيش، ومنهج متكامل في المال والاقتصاد، ومنهج متكامل في الحياة الاجتماعية، ومنهج متكامل في سائر ما تحتاج إليه هذه الحياة، فأنت ترى منهجاً كاملاً في الأسرة المسلمة، وفي تربية الأبناء، وفي رعاية المجتمع، وفي الحقوق بين الزوجين وغير ذلك في أصول كلية جامعة، وأنت ترى كذلك منهج الحكم والسياسة الذي يتمثل بأن الحكم لابد من أن يكون بما أنزل الله، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

ثم يؤسس القرآن في منهج الحكم أساس العدل الذي لا قيام لحكمه إلا به، ثم يذكر بعد ذلك في ثنايا هذا ما يتعلق بنزعات الأهواء واستبدال شرع الله عز وجل اتباعاً لهوى النفوس، ويبين ملامح عامة في كل ذلك، ثم يذكر الله عز وجل في شأن الاقتصاد قوله سبحانه وتعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] ، وينهى عن أكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل، ويبين الله سبحانه وتعالى التجارة التي تكون عن التراضي، ويبين أوجه الرزق والزراعة والثمار وما يلحق بذلك وما يترتب عليه من الزكاة في الأموال والشفقة على الفقراء والمساكين.

إنه منهج متكامل للمال والاقتصاد في كنزه وفي إنفاقه وفي تشغيله واستثماره، منهج متكامل لا يخرج عنه صغير ولا كبير مطلقاً.

وانظر كذلك إلى سائر الجوانب فإنك واجد هذا واضحاً بيناً، ولقد ذكر الله عز وجل لنا من قصص الأنبياء والمرسلين ما يبين فيه تقويم هذه المناحي في الحياة، فقد قص الله عز وجل علينا نموذجاً للحكم الفاسد الجائر الظالم في قصة فرعون ، وبين فيها مغبة الاستبداد السياسي والحكم الدكتاتوري كما يسمى اليوم، وبين لنا كيف عالج موسى عليه السلام هذا الفساد السياسي بالعلاج الإيماني الذي نقضه من أساسه، وقوض بنيانه، وهد أركانه، وأزاله من هذه الأرض ليكون حكم الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى هو المسيطر.

وبين الله عز وجل كذلك في قصة لوط المفاسد الأخلاقية في تلك الرذيلة التي ذكرها الله عز وجل على لسان لوط عندما خاطب قومه فقال: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]، وبين كيف عالج لوط عليه السلام بالإيمان وبالعقيدة والتوحيد هذا الفساد الأخلاقي، وأسسه بعد ذلك على المنهج الإيماني.

وذكر لنا الله عز وجل في قصة شعيب نقض قومه للمكيال والميزان، وما يتعلق بهذا الانحراف في مجال الاقتصاد والمعاملات المالية، وكيف قوَّم ذلك شعيب صلى الله عليه وسلم بالمنهج الإيماني وبالرسالة الربانية، كل ذلك ليبين للأمة أن كل شأن من شئون حياتها لابد أن ترجع فيه إلى كتاب ربها.

وهذا الشمول -كما قلت- يتناول ما يتعلق بالنفس الإنسانية من ألوان تغيراتها، ويتناول بعد ذلك ما يحتاجه الناس على اختلاف أجناسهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ويتناول كذلك ما يتعلق بنواحي الحياة، وما يتعلق كذلك بجوارح الإنسان.

ولذلك حق لهذا الكتاب أن يكون هو كتاب الحياة، وأن تكون الحياة منبثقة منه وراجعة إليه؛ لأنه كما قال الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فما من شيء إلا له أصل، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه : (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً).

وقال سلمان رضي الله عنه حين قيل له: علمكم نبيكم كل شيء؟ قال: (أجل، علمنا كل شيء حتى الخراءة)، يعني: كيف يقضي الرجل حاجته.

فكل شيء مذكور في كتاب الله بأعجز لفظ وبأدق معنىً وبأحكم هداية وبأشمل توجيه، فإنك تجد ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وما يتعلق بحيض النساء، وما يتعلق بالأطفال، وما يتعلق بالاستئذان، وما يتعلق بأدق أمور تفاصيل الحياة، كل ذلك مذكور له أصل وكليات في كتاب الله عز وجل.

وحق لأمة هذا كتابها أن لا تستبدل به شيئاً، وأن لا تطلب في غيره هداية، وقد نبه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من التوراة يقرأها وينظر فيها فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام - وعمر هو الشديد القوي- فهزه وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).

القرآن وواقعنا المعاصر

لماذا تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع؟ هذا هو آخر ما أتحدث عنه في هذا الموضوع، وهو ما يتعلق بالواقع المعاصر، أو القرآن وواقعنا المعاصر.

ولاشك أنه حديث جدير بأن يفرد مستقلاً، ولكني أوجز فيه المهمات، وأذكر فيه من الأمثلة ما يغني عن غيره، وأقسم الحديث فيه بالنسبة لعموم المسلمين وبالنسبة لأوضاع الحكم والدول.

فأول ما يتعلق بالمسلمين نجد أن الانعكاس الأول والأكبر كان عندما نُحي القرآن من منصة الحكم، وأُقصي تشريع الله عز وجل من الهيمنة على حياة الناس، وما زال ذلك التشريع يُطارد ويُطارد ويُختزل حتى ما بقي إلا في أضيق دائرة من الدوائر التي يسمونها الأحوال الشخصية، والأحوال الشخصية نفسها تدخلوا فيها، وشرعوا من عند أنفسهم مالم يأذن به الله عز وجل، فانعكس ذلك على المجتمعات الإسلامية؛ لأنها لم تر حكم الله، ولم تر شرع الله عز وجل مطبقاً.

ولكن هناك معالم ثلاثة رُكزت في نفوس الناس، وصُبت عليهم صباً، ووجهت إليهم توجيهاً، وكان لها آثار سلبية كبرى

دور أعداء الإسلام في إبعاد القرآن عن واقع المسلمين

أولها: ما يتعلق بالمفاهيم أو الغزو الفكري، فأملي على المسلمين أن هذا القرآن للبركة، وأن هذا القرآن إنما هو ليطرد الشياطين، وليس له بالحياة علاقة، فاذهب واعمل واكسب وعاشر الناس وخالط من تحب وافعل ما تشاء، وهذا القرآن بعد ذلك خذه للبركة لتتصور أنه سيغفر لك ما مضى، وأنك عندما تضعه في جيبك أو تعلقه في سيارتك أو تضعه في صحن بيتك أو في صدر بيتك فهذا كافٍ ومغنٍ.

وجعلوا فهم القرآن أنه هو الذي يجلب على الحياة فهماً غريباً متشدداً متطرفاً بعيداً عن مراعاة الواقع، فإذا قال القائل: نريد أن نحكم الحياة بشرع الله وبكتاب الله قالوا: لا يمكن هذا؛ لأن هذا لا يتناسب مع الواقع، ولا يمكن أن نطبق هذه الآيات التي نزلت قبل ألف وأربعمائة عام على واقعنا اليوم!

هذا ما يتعلق بالمفاهيم، وقد تسلطت هذه المفاهيم على الناس كثيراً، ونرى صورها في واقع الناس، فكثير من الناس اليوم ليس لهم صلة بالقرآن إلا البركة، حتى إذا جاء حافظ القرآن قالوا: بركة. وما عندهم إلا كلمة (البركة)، فإذا وضع المصحف قبله أو وضعه على رأسه قال: هو للبركة. ولا يفهم إلا هذا المعنى، فمسخ الفهم والارتباط الكامل الشامل بكتاب الله من هذا الجانب.

أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم

الجانب الثاني -وهو خطير جداً- جانب اللغة.

جانب اللغة العربية التي أُضعفت، والتي غزتها العامية بكل لهجاتها، حتى أصبح العربي في بلاد الشام لا يعرف العربي الناطق بالعربية في بلاد العراق، والذي في العراق والشام لا يفهم من يتكلمون في مصر، حتى صار العرب يحتاجون إلى مترجم بينهم.

ومن لطائف ذلك أن الشيخ الطنطاوي رحمه الله تعالى ذكر قصة عراقي جاء إلى مطعم فيه مصري، وإلى جواره شاب، ودار هناك حوار، وكل واحد لا يفهم الآخر، فقال الأول كلمة طيبة هي في لهجة الثاني سيئة، وإذا به يغضب، وإذا بهما يتشاحنان، وحصل ما لا تحمد عقباه.

فهذه اللغة عندما ضعفت وعندما أقصيت إلى حد ما عن خطاب الناس صار الناس بعيدين عن القرآن؛ لأن القرآن هو باللغة، واللغة هي التي جاء بها القرآن، فصار الناس يقرءون كلاماً لا يفهمونه، وكأن العرب صاروا أعاجم، وفي السابق كان الأعاجم عرباً كـسيبويه، فـسيبويه أعجمي، وهو الذي أصبح أشهر نحوي، وهكذا ابن درستويه من كبار النحاة، وابن جني ، وكثيرون من النحاة أصلهم أعاجم، بل ومن المحدثين البخاري ، وهو من بخارى، والترمذي من ترمذ، وغيرهم كثير.

والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما العربية اللسان)، فهم تعلموا العربية ففهموا هذا الدين، وجهلنا العربية فبعدنا عن هذا الدين، وهذا أيضاً مكمن خطر وقع للأمة المسلمة في عصورها المتأخرة.

محاربة أعداء الإسلام وعملائهم لجانب التعليم القرآني

الجانب الثالث: جانب التعليم القرآني.

فتعليم القرآن حُورب في كثير من بلاد الإسلام، سيما في أوائل هذا القرن مع هجمة الاستعمار، فحصة القرآن في آخر الدوام، وحصة واحدة تكفي في الأسبوع، ولماذا حصة واحدة؟!

كتب بعضهم: لماذا نرهق عقول الصغار بحفظ السور القصار! وقال: من يقول: إن السور القصار سهلة؟! فالسور القصار سور صعبة، فسورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) يبقى فيها سنة حتى يحفظها مثل ذلك الكاتب الذي ذكر ذلك.

وقال: لماذا نعقد الناس؟! ولماذا كذا؟ فنقول: هل أنت تقول كلاماً منطقياً واقعياً أم أنك تتخيل؟! سآتيك بصغار ما تجاوزوا السابعة وهم يحفظون القرآن، فأين التعقيد؟! التعقيد في العقل الذي فسد أو التصور الذي انحرف. فهذا التعليم القرآني أُضعف، حتى إن القرآن لم يعد منهجاً أساسياً، وفي بعض الدول درجة القرآن لا تدخل في التقدير، فمن رسب في القرآن فهو ناجح، وتقدير درجة القرآن بممتاز أو ضعيف ليس له قيمة!

ولذلك لم ترتبط الأجيال بالقرآن، وما يزال منهج القرآن يُقص منه ويُقص منه ويُقص منه حتى ما بقي إلا أقل القليل من الآيات البسيطة القليلة، والحفظ غير مهم، حتى إنهم يأتون بمدرسين غير مؤهلين، لذلك انتشر الجهل بالقرآن في تلاوته، وفي فهمه، وفي الالتزام به، وهذا حال سرى في الأمة وقتاً طويلاً، ولا تزال له آثار عظيمة.

أثر إقصاء كتاب الله عز وجل عن الحكم

وفيما يتعلق بجانب الحكم وبجانب الدول أُقصي القرآن رسمياً، وبإعلان صارخ -بل فاضح بشع- أن القرآن لا يحكم، وجيء بالقوانين الفرنسية والإنجليزية وغيرها، وحكمت بها أمة الإسلام، ولا تزال تحكم بها كثير من الدول التي تُسمى إسلامية.

ثم قالوا: نحن لسنا كافرين، ولسنا ننكر القرآن!

فما صلتهم بالقرآن؟ يفتتحون به أول البث التلفزيوني والإذاعي ويختتمون به! وما من حفل رسمي إلا وأول شيء القرآن، ولا بأس بأن يكون هناك مسابقات للقرآن وبعض الجوائر، ولا بأس -أيضاً- بأن يُطبع من نسخ القرآن كذا وكذا.

هذا الذي أوهموا الناس أنه يكفي فيما يتعلق بالقرآن والحكم والسلطان في بلاد المسلمين، إلا ما رحم الله.

ولذلك هذه الصورة لاشك أنها أبعدت الأمة عن القرآن بصورة تظهر فيها أمثلة عجيبة جداً، وعندما يتأمل الإنسان وينظر يرى حملة شهادات الدكتوراة وأصحاب مناصب عالية ورفيعة لا يحسن أحدهم قراءة الفاتحة!

ولقد لقيت مرة في ملتقىً عدداً من الشباب من بلاد عربية مختلفة، فرأيت طلبة الطب والهندسة وهم أجسام طويلة وعريضة، وأصحاب ألسنة منطلقة، وأصحاب عقول وأفكار، ولكن والله لقد كان الواحد منهم لا يحسن قراءة غير ثلاث سور: (( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )) و(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ )) و(( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ )) وأما غير ذلك فلا يحسن، وكانوا كما أشرت على هذه الصورة!

الخير باقٍ في الأمة

تلك الصورة أرادها أعداء الله عز وجل ومن كان معهم من العملاء، لكن كما قال سبحانه وتعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] ، فإن لهذا القرآن طريقاً إلى القلوب لا يمكن أن توصد أبداً، وإن الآذان لتشتاق إليه، وإن العيون لتتلهف إلى رؤيته، ويكفينا مثال صارخ على ذلك، وأن كل من حرَّف كتاب الله عز وجل لم يفلح، والخاسر هو الذي يحارب كتاب الله عز وجل.

فانظر إلى الشيوعية! سبعون عاماً من الحرب الشعواء والتشريد والقتل والتهجير ومنع اللغة العربية ومنع المصاحف ... إلى آخر ذلك، ثم سقطت الشيوعية، وظهر حفظة للقرآن العظيم لا يعرفون من العربية كلمة واحدة!

واسأل من ذهب إلى تلك البلاد، وانظر إلى أشرطة الفيديو، فستجد أنه ظهر في الجمهوريات الإسلامية حفظة لكتاب الله عز وجل كانوا يحفظون في الأقبية وتحت الأرض، واليوم تعم أرجاء العالم الإسلامية أوبة صادقة إلى كتاب الله عز وجل، ونسمع دوي القرآن عاد من جديد في بيوت الله عز وجل، ونسمع أشرطة القرآن تملأ الدنيا شرقاً وغرباً، ونرى كتاب الله عز وجل يغزو الأقطار الكافرة قبل المسلمة، ونرى الأجيال وهي تتربى -بحمد الله عز وجل- على كتاب الله تحفظه وتترنم به قراءة صحيحة فصيحة، وهي في الصغر، ونرى الإقبال على معاني كلمات القرآن، وعلى تفسير كلام الله عز وجل، وعلى الدروس القرآنية، إنها نهضة قرآنية عظيمة بحمد الله عز وجل، والذي يتأملها يدرك أن الأمر كما قال عز وجل: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، فلابد من أن ندرك هذا، والحمد لله فهذه ظواهر إيجابية.

أهمية تعلم القرآن الكريم وفهمه

أحب أن أشير إلى أمرين اثنين مما يتعلق بالشباب وبعموم الملتزمين والصالحين، فهناك أمران مهمان:

أولهما: إعطاء القرآن حقه من حيث العلم به والفهم لأحكامه قبل أن تتشعب بك الاهتمامات؛ فإن من الشباب من ينصرف عن رغبة صادقة وعن توجه جيد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظها، ويقول: السنة والأحكام بالسنة. وهو لم يهتم بكتاب الله عز وجل، فكيف يفهم السنة وهو لم يفهم القرآن؟ وكيف يعرف دلالاتها وارتباطها بكتاب الله وهو لم يفقه كتاب الله من قبل؟!

وانظر إلى حكمة عمر رضي الله عنه، كان ينهى الصحابة عن أن يكثروا من رواية الأحاديث في البلاد التي تفتح حديثاً، فقال: (لا تشغلوهم بالسنن عن القرآن حتى يعرفوا كتاب الله عز وجل).

فلابد من أن يُعرف أن القرآن هو الأول، فبعض الناس من حماسهم يندفعون إلى علم من علوم الإسلام، لكن لا يربطونه بالقرآن، ولا ينطلقون إليه بعد القرآن.

وهذا الأمر لاشك أنه أساء كثيراً في فهم هؤلاء، وأوجد عندهم خلطاً، وأوجد عندهم سوء ظن بكثير من الأمور وعدم فهم لها، بل نجد اليوم من يتكلم على حفظة القرآن ومن يتفرغون للحفظ ومن يجودونه، بل يتهمون بعض من يهتمون بالقرآن وحفظه وتلاوته بأنهم لا يفقهون الدين، وبأنهم لا يتبعون الرسول الكريم! فعجباً لهؤلاء القوم كيف عكسوا الأمور وكيف قلبوا الآية! ولذلك ينبغي أن نتنبه لهذا الجانب.

ذكر بعض آداب حملة القرآن

الجانب الآخر أنقل فيه نصوصاً تبين مهمة أن القرآن وحمله ليس حفظاً وليس تجويداً وليس تنغيماً بالأصوات، وليس معرفة بالتفاسير فحسب، وإنما القرآن سلوك يغير القلب، ويغير نطق اللسان، فلا يتكلم بفاحش القول، ويغير سمت الإنسان كله، ولذلك أهم شيء في حامل القرآن خُلُقُ القرآن الذي قالته عائشة في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان خلقه القرآن).

ولذلك ينبغي أن نعيب وأن نشدد النكير على حملة القرآن إذا خالفوا نهج القرآن؛ لأن المطلوب منهم أعظم، والواجب في حقهم أكبر.

وأسوق بعض ما ذكره العلماء فيما يتعلق بآداب وأخلاق حملة القرآن، وأكتفي بذكرها، فإن كل جملة منها جديرة -والله- بأن تكون منبهة وفيها ما يهز الإنسان المؤمن المرتبط بكتاب الله أو بحفظه أو بتلاوته؛ لأننا في الحقيقة قد نخطئ ونجرم ونكون قدوات سيئة عندما نقدم للناس من يحفظون القرآن ويجودونه ولكنهم لا يلتزمون أحكامه ولا يتأدبون بآدابه.

يقول صاحب كتاب (آداب حملة القرآن):

أول ما ينبغي له -أي: حامل القرآن- أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، وأن يكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، فلا ينشغل بعيوب الناس قبل عيب نفسه، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه؛ ليأمن شره وشر عاقبته، قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيء مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟ يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، لا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يسب أحداً، ولا يشمت بمعصية، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق.

ثم قال: فالمؤمن العاقل إذا تلى القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآه يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذر منه، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشافعاً وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة.

ومن قول عمر : (ولقد أتى علينا حين وما نرى أحداً يتعلم القرآن يريد به إلا الله، فلما كان بأخرة خشيت أن رجالا يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم، فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالكم، وإنا كنا نعرفكم من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ينزل الوحي، وإنما أعرفكم اليوم بما أقول: من أعلن خيراً أجبناه عليه وظننا به خيراً، ومن أظهر شراً بغضناه عليه وظننا به شراً، سرائركم فيما بينكم وبين الله عز وجل).

ويقول ابن مسعود : (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزمه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يصوتون) إنه رجل حمل كلام الله في قلبه، وحوى أعظم كنز في الوجود في صدره، فلا ينبغي له أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يلعب مع اللاعبين، ولا أن يتصف بأخلاق الفاسدين، فالله أسأل أن يجعلنا من أهل القرآن.

قصيدة تبين واقع الأمة مع القرآن الكريم

وأختم بقصيدة أخينا الشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي ، وقد صور لنا فيها ما بين كتاب الله وواقع الأمة، وهو يخاطب قارئ القرآن في حفل تخريج دفعة من الجماعة الخيرية في جدة، يقول:

يا قارئ القرآن داو قلوبنا بتلاوة تزدان بالتجويد

اقرأ فأمتنا ترقع ثوبها بالوهم تخفض رأسها ليهود

اقرأ فأمتنا تعيش على الربا تنسى عقاب الخالق المعبود

اقرأ لينجلي الظلام عن الربَى وليسمع الغاني زواجر هود

اقرأ لينجلي القتام عن الذي أمسى أسير تخاذل وصدود

اقرأ ليرجع من بني الإسلام من أصغى مسامعه إلى تلمود

اقرأ لعل الله يوقظ غافلاً من قومنا ويلين قلب عنيد

اقرأ ليرجع ظالم عن ظلمه ويقر بالإيمان كل جحود

اقرأ ليسكت مطرب مترنح قتل الحياء على رنين العود

ذبحوا مشاعرنا بكل قصيدة مسكونة بخيال كل بليد

إبليس باركهم وسار أمامهم متباهياً بلوائه المعقود

اقرأ ليهدأ قلب كل مروع من قومنا وفؤاد كل شريد

اقرأ ليسمع كل من في سمعه وقر من الأقصى إلى مدريد

اقرأ لتفهم أمتي معنى الهدى معنى بلوغ مقامها المحمود

اقرأ ليخرج جيلنا الحر الذي يبني جوانب صرحنا المهدود

بالدين بالقرآن لا بثقافة غربية ذو مبدأ مردود

يا قارئ القرآن إن قلوبنا عطشى إلى حوض الهدى المورود

شنف مسامعنا بآيات الهدى وافتح منافذ دربنا المسدود

وأقم من الإخلاص قصراً شامخاً يدني إلى عينيك كل بعيد

يا قارئ القرآن لا تركن إلى مدح العباد ومنطق التمجيد

قل للذين تنكبوا درب الهدى جهداً ولم يستمسكوا بعهود

قل للطغاة ومن مشوا في ركبهم من طامع ومنافق ومريد

إن الذي منع الحرام هو الذي شرع الحلال لنا وكل مفيد

هذا هو القرآن دستور الهدى فيه الصلاح لظارف وتليد

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

تفسير قوله تعالى: (( ما فرطنا في الكتاب من شيء ))

السؤال: يقول بعض الشيوخ: إن الناس يفسرون: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] تفسيراً خاطئاً، فالقرآن فيه عمومات، أما التفصيلات فهي جهود عقلانية اجتهادية، فما تعليقكم؟

الجواب: قول الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] مقصود به الكليات دون التفصيلات، والتفصيلات ليست مطلقة لعنان العقول المفكرة بلا قيد ولا ضابط، بل لابد من أن يُفهم القرآن أولاً بفهم وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم في ضوء القواعد الكلية، ثم في ضوء اللغة العربية، ثم في ضوء إجماع الصحابة، فلابد من أن يكون مؤسساً على أسس الاجتهاد الصحيح الذي لابد لصاحبه من أن يكون عالماً بكتاب الله عالماً بسنة رسول الله عالماً بلغة العرب عالماً بأسباب القياس عالماً بإجماع الأمة من قبله؛ فليس الأمر مطلقاً هكذا.

حكم الخوض في الفتن وذكر بعض أخبار أفغانستان

السؤال: هناك بعض الشباب يخوضون في الفتن ولا يأبهون بها، فمثلاً: أفغانستان وما حدث فيها إذا سُئل أحدهم أجاب وجرح وانتقد، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهل من كلمة لهؤلاء -خاصة حفظة كتاب الله- أن يبتعدوا عن الخوض في الفتن، وأن يدعوا الله أن ينصر المجاهدين؟ وهل هناك أخبار جديدة بشأن اختلاف المجاهدين؟

الجواب: لاشك أن الخوض في الفتن من الأمور المطلوب البعد عنها، لكن إن كان للإنسان علم أو بصيرة أو كلمة مسموعة يرى أن لكلامه أثراً ونفعاً فلاشك أنه يتكلم بموجب ما يرضي الله عز وجل، وبموجب ما يتفق مع شرع الله سبحانه وتعالى.

وأما الأخبار الجديدة فنرجو الله عز وجل أن تكون الاتفاقات الأخيرة خاتمة لكل خلاف وصراع وشحناء وبغضاء في القلوب وفي العقول وفي التصرفات بين إخواننا المجاهدين، وأن تجتمع -إن شاء الله- كلمتهم، وأن تتفق جهودهم لتعلو كلمة الله عز وجل، ولئلا يفجعوا الأمة بعد هذا الجهاد الطويل بهدم هذه المكتسبات، وقد صُرح بوجود الاتفاق على أن يكون رباني رئيس الحكومة، وأن تُعطى للحزب رئاسة الوزراء، ويوقف إطلاق النار، والاتفاق الآن مجمع عليه، ونسأل الله عز وجل أن يثبت، وأن لا يكون هناك من ينقضه، ولا ننسى كذلك أن هناك منتفعين بهذه الفتنة، وأن هناك من يؤججون نارها.

وفي الداخل هناك فئتان: الشيعة والشيوعيون وبقاياهم، ويوجد هناك في الخارج من يدعمون هذه التوجهات بطرف خفي، بالأسلحة وبعض المنشورات، وعلى رأس أولئك الأمم المتحدة ومن يدعمها أو من يوجهها من القوى الغربية، لكن نسأل الله عز وجل أن يكون في هذا الاتفاق ما يمنع وقوع بعض الفتن، ونسأل الله عز وجل أن يحقن الدماء.

والحقيقة أن الأسى قد خالط القلوب، وأن الحزن قد عصر القلوب عصراً شديداً، وكاد كثير من الناس أن يفقدوا الأمل، ولكن المؤمن لا يفقد الأمل، كما قال تعالى: لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87] .

ولاشك أن هذه الفتن هي دروس وعبر، وأن الأمة لم تكن بالقدر من التربية والمقاصد والنوايا الخالصة التي تستحق بها نصر الله، بل عندها قصور، فجعل الله عز وجل لها من البلاء ما يكفر عنها بعض الذنوب ويلقنها بعض ما أخطأت فيه عن المسيرة الإسلامية.

حكم وصف الصحابي بالفقر

السؤال: هل يصح أن نقول عن الصحابي بأنه فقير؟ أليس في هذا إساءة أدب مع الصحابة؟

الجواب: إذا لم يذكر ذلك على سبيل التنقص، ولم يذكر أصلاً في وصف الصحابي، وإنما ذكر في وصف الحال وكون الصحابي فقيراً من الدنيا، وأنه غني بالإيمان والتوحيد وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام فليس في هذا بأس، وهذا لا يحتاج إلى مزيد تعليق.

حكم وصل الآيات ببعضها أثناء القراءة

السؤال: قرأت في كتاب (مخالفات الطهارة) أن من مخالفات الصلاة وصل الآيات أثناء القراءة في الصلاة، فما مدى صحة ذلك؟

الجواب: السنة النبوية في القراءة -سيما في الصلاة- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف على رءوس الآيات، وأنه كان يفصل القرآن تفصيلاً، وقد قال ابن مسعود -كما في صحيح مسلم- ( لا تقرءوا القرآن هذاً كهذ الشعر، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة).

فينبغي أن يقرأ وأن يفصل، والسنة الوقوف على رءوس الآيات.

الخروج من الحرم لتكرار العمرة

السؤال: سمعنا من بعض الإخوة أن كثرة أداء العمرة ليس من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا صحيح أم لا؟

الجواب: تكرار العمرة بحيث يخرج المرء إلى خارج مكة ثم يدخل إليها مرة أخرى وردت فيه الكراهة عند المالكية، وقد نص على ذلك في نص قوي الإمام ابن القيم في (زاد المعاد)، فالإنسان إذا اعتمر فجاء من خارج الميقات بعد أن كان داخله فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كرر العمرة في مقام واحد أو من غير أن يكون جاء من خارج الحرم.

وهذا قول المالكية، وذكره ابن القيم ، وهو مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو كان في تكرارها والخروج للحل والعودة مرة أخرى فضيلة وخير عظيم لكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد فعله وأرشد إليه، فالتزام سنة النبي أولى وأتم وأكمل.

علاج قسوة القلب

السؤال: أجد في قلبي قسوة حتى عند قراءة القرآن وعند سماعه، فما توجيهكم؟

الجواب: كلنا ذاك الرجل، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا لين القلوب والخشية فيها، ولابد من أن الإنسان يستحضر المعاني عند قراءة القرآن وسماعه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن لم تبكوا فتباكوا)، فليستحضر الإنسان هذه المعاني حتى يكون في هذا الجانب خاشعاً مع كلام الله عز وجل.

ترتيب سور القرآن وآياته توقيفي

السؤال: على أي أساس رتبت سور القرآن؟

الجواب: القول الذي فيه إجماع أن القرآن رتب ترتيباً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الترتيب توقيفي لا اجتهاد فيه، ولذلك لم يحصل اختلاف في ترتيب آية ولا سورة ولا موضع كلمة في كتاب الله عز وجل.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , القرآن والحياة [1] للشيخ : علي بن عمر بادحدح

https://audio.islamweb.net