إسلام ويب

إن من خصائص الصلاة أنها منحة ربانية، فقد أخذها النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل مباشرة بدون واسطة، وذلك حين عُرج به إلى السماء. ومن خصائصها: أنها إغاظة ومراغمة لأعداء الله من شياطين الجن والإنس. ومن خصائصها: أنها سبب النصر والتمكين في الدنيا، والفلاح والفوز في الآخرة، وهي سبب من أسباب النجاة من عذاب القبر.

الصلاة منحة ربانية فرضت بدون واسطة

الحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وعبده، وعلى آله وصحبه.

أما بعد:

فإن الصلاة منحة ربانية تميزت عما عداها من الفرائض بخصائص لا تحصى، فقد تولى الله عز وجل إيجابها بنفسه؛ تعظيماً لشأنها وتنويهاً بقدرها، وأخذها المصطفى عن الله عز وجل مباشرة بدون واسطة جبريل عليه السلام ليلة الإسراء، فكانت المنحة الربانية التي منحها الله عز وجل نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم ليلة الوصل الأعظم؛ مكافأة له على ما قام به من العبودية الصادقة لربه عز وجل بما لم يسبقه إليه سابق ولم يلحقه لاحق صلى الله عليه وسلم.

الصلاة إغاظة للكافرين ومراغمة لأعداء الدين

من خصائص الصلاة أنها إغاظة للكافرين، ومراغمة لأعداء الدين، ولا شيء أحب إلى الله سبحانه وتعالى من مراغمة أوليائه لأعدائه وإغاظتهم إياهم، ومن أجل ذلك قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء:100] يعني: يجد في الأرض مكاناً يهاجر إليه، ويستطيع أن يقيم فيه دينه، ويغيظ أعداء الله سواء الشيطان أو أولياء الشيطان.

وقال عز وجل في شأن المؤمنين: وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120] فقوله هنا: (ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار) داخل في قوله: (إلا كتب لهم به عمل صالح) فدل على أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يصدر من المؤمن الأعمال والمواقف التي تغيظ أعداء الدين، وتملأ قلوبهم غيظاً.

ووصف الله خليله محمداً صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله تعالى عليهم بأنهم كزرع أغاظ الكفار، حيث يقول سبحانه: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29].

فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب عز وجل مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية.

كذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي إذا سها في صلاته أن يسجد سجدتين، وقال فيما رواه مسلم وغيره: (إن كانت صلاته تامة كانتا ترغيماً للشيطان) يعني: إن كان في صلاته نقص حصل نتيجة السهو فهاتان السجدتان تجبران هذا النقص، وإن لم يكن فيها نقص، وإنما احتاط، ففي هذه الحالة تكون السجدتان ترغيماً للشيطان، وإغاظة لإبليس، وسمى صلى الله عليه وسلم هاتين السجدتين: المرغمتين.

فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته له ومعاداته لعدوه يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولذلك حمد التبختر بين الصفين؛ لأجل عبودية المراغمة والمغايظة للكفار، مع أن هناك نصوصاً كثيرة تحرم التبختر والخيلاء، لكن استثنيت حالات معينة أبيح فيها التبختر والخيلاء بين الصفين، فإن كان جيش المسلمين يقف في مواجهة جيش الكافرين فيجوز للفارس المسلم أن يتبختر على فرسه، ويظهر العزة والكبرياء لأجل إغاظة الكفار.

وكذلك أجاز بعض العلماء صبغ الشعر بالسواد في حالة الحرب، فأجازوا للشيوخ الذين اشتعلت رءوسهم شيباً أن يصبغوا بالسواد؛ حتى إذا ما رآهم المشركون حسبوهم جميعاً شباباً فيهم قوة وبأس، وبالتالي يخافونهم ويرهبونهم.

إذاً: من أجل إقامة عبودية المراغمة لأعداء الله حُمِدَ التبختر بين الصفين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن).

كذلك إذا كان الإنسان يتصدق في السر فيجوز له أن يختال ويتبختر على الشيطان؛ لأن في ذلك إرغاماً لعدو الله، وبذل محبوبه من نفسه وماله لله عز وجل، وهذا الباب من العبودية لا يعرفه إلا القليل من الناس، يقول ابن القيم في مدارج السالكين رحمه الله تعالى: ومن ذاق طعمه ولذته بكى على أيامه الأول.

فالمقيم الصلاة إذا علم أن الشيطان تغيظه الصلاة لراغمه ولزاد في إغاظته بالمحافظة عليها وإقامة حدودها، فأحدثت له هذه المراغمة عبوديةً أخرى، ولذلك نجد أن الشيطان حريص أشد الحرص على أن يصد الناس عن الصلاة، وكيف لا تغيظه الصلاة وكيف لا ترغم أنفه الصلاة وهي تعصم من يقيمها من الشرك، ومن عبادة الشيطان من دون الرحمن؟!!

عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) رواه مسلم .

يعني: أن المسلمين في جزيرة العرب معصومون من أن يقعوا في الشرك، ولم يذكر المسلمين بصفة عامة، لكن قال: (المصلون)

وقوله: (إن الشيطان قد أيس) أي: لم يبق عنده أمل في إغوائهم؛ لشدة تمسكهم بالتوحيد.

قوله: (قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم) أي: لكن سيفلح في التحريش بينهم وإثارة الضغينة والأحقاد بينهم.

الشاهد قوله: (المصلون) فهي إشارة إلى أن الصلاة عصمة من الشرك.

إذاً: الصلاة إغاظة للشيطان، ولذلك الشيطان يحرص جداً على أن يصد الناس عن الصلاة؛ لأن الصلاة تغيظه جداً، فإذا أقمت الصلاة وحافظت عليها فهذا يغيظ عدو الله، ومن أشرف أنواع العبودية إغاظة أعداء الله تبارك وتعالى.

كيد الشيطان وجنوده بمن يغيظهم من المؤمنين

يقول عز وجل: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فهدف الشيطان من الخمر والميسر أن يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، مع أن الصلاة داخلة في ذكر الله، لكنه خص بعد تعميم.

إذاً: كل ما يشغل عن الصلاة فإنما هو من تسويل الشيطان، وكم يغتاظ الشيطان إذا رأى العبد يسجد بين يدي الله فيحقد عليه، ويعلن له العداوة.

عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قرأ ابن آدم السجدة -يعني: آية فيها السجدة- فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلي! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار) رواه مسلم .

ولذلك يحذرنا تبارك وتعالى من الشيطان بقوله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف:27] يعني: الشيطان يحسدكم ويريد أن يضلكم كما فعل بالأبوين.

ونحن في هذا الزمان نرى كم نجح الشيطان في أن يفي بعهده الذي عاهد الله عليه، فقد عاهد الله وحلف وقال: قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82-83] فحلف بعزة الله ووفى للأسف الشديد، وآية ذلك ما نراه الآن من تضييع الصلاة في مجتمع المسلمين، إلا من رحم الله تبارك وتعالى، مع أن عز وجل قد أخذ علينا العهد كما في قوله عز وجل: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7] ومع ذلك نحن لا نسمع ولا نطيع، ويوجد فينا هذا التفريط المعروف في شأن الصلاة.

إذا نجا الإنسان من تسويل إبليس له أن يترك الصلاة رأساً، وهزمه الإنسان في هذه المعركة، واستطاع أن يراغمه وأن يغيظه بإقامة الصلاة، فهل ييئس الشيطان عند ذلك؟

لا ييئس، لابد أن يظفر منه بشيء، فماذا يفعل؟ يجتهد في إفساد الصلاة وتقليل أجرها، فإذا لم يستطع الشيطان أن يصرفه عن الصلاة كلها فإنه يحاول أن يفسد عليه الصلاة، أو يقلل ثوابه الذي يحصله من الصلاة.

جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليّ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب -يعني شيطان متخصص في إفساد الصلاة- فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني) رواه مسلم .

فإذا دخل العبد في صلاته أجلب عليه الشيطان يوسوس له ويشغله عن طاعة الله، ويذكره بأمور الدنيا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط؛ حتى لا يسمع صوته) فهو يكره الصلاة، ويكره كل ما يرتبط بالصلاة، حتى إنه إذا سمع صوت الأذان هرب؛ لأنه لا يطيق أن يتحمل نداء التوحيد ودعوة الحق: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فهو يكره هذه الكلمات، ويكره الأذان، فلذلك مجرد أن يشرع المؤذن في الأذان يهرب الشيطان.

إذاً: من عرض له الشيطان وأراد أن ينجو منه فليؤذن حتى في غير وقت الصلاة، وإذا كنت في مكان وأحسست أن شيطاناً يحاول أن يؤذيك فاجهر بالأذان، فإنه ينصرف عنك؛ لأنه يكره أن تأتيه بما يبغضه وبما ينفره، ولا يستطيع أن يبقى معك إذا أذنت.

قوله: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال) يعني: ذهب هارباً.

(وله ضراط؛ حتى لا يسمع صوته) يعني: يصدر ذلك الصوت الخبيث حتى لا يتمكن بسببه من سماع صوت دعوة الحق والأذان.

ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا سكت المؤذن رجع فوسوس) رجع ليوسوس في المصلين.

ثم يقول: (فإذا سمع الإقامة هرب) ولا يستطيع سماع الإقامة؛ لأنها تشتمل على نفس النداء الشريف، وهذا الحديث رواه مسلم .

وفي رواية متفق عليها: (فإذا قضي التثويب -يعني: الإقامة- أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه -يعني: حتى يشغله عما هو فيه- يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى) وهذا للأسف الشديد لا يكاد يسلم منه أحد، فصدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم فيما يبلغنا عن الله تبارك وتعالى من الهدى والوحي.

ولذلك نجد بعض الناس إذا نسي من أمور الدنيا شيئاً ثم دخل في الصلاة تتوافد عليه الوساوس من كل اتجاه، ويظل يتذكر كل ما نسي، ولا تنتهي مشاكل الدنيا إلا إذا سلَّم! فهذا دليل صريح على أن الشيطان كان يشغلك، وهذه المشاغل لا تأتيك إلا ما بين تكبيرة الإحرام وبين السلام، فإذا سلمت ذهبت عنك، ومعنى هذا أن هناك مؤامرة من إبليس، فهو يريد أن يصدك عن التدبر في صلاتك والانتفاع بها.

فإذا عجز الشيطان بنفسه عن صد العبد عن الصلاة أجلب عليه بخيله ورجله، فتراه يستعين بجنوده، وسلطهم عليك، وسلط عليك حزبه وأهله بأنواع التسليط، وكلما جد المسلم في إقامة الصلاة جد الشيطان في إغراء السفهاء به، فمنهم من يقول له: يا سيدنا الشيخ! خذني على جناحك... إلى آخر هذه العبارات التي فيها سخرية من المصلين، والتي تسمعونها من السفهاء.

إن هؤلاء رسل الشيطان فهو يستعين بهم؛ كي يفتنوك عن الصلاة، مثل هذه العبارات التي أراد بها السفهاء الاستهزاء والتحقير من شأن الصلاة.

واعلم أن هذا جندي من جنود إبليس، فبعد أن فشل هو بنفسه في أن يصدك عن الصلاة، يظاهر ويستعين بجنوده، ويسلط عليك أذى الخلق، فكلما جد العبد في إقامة الصلاة جد الشيطان في إغراء السفهاء به، فتارة يسخرون منه وتارة يهزءون كما قال عز وجل: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا [المائدة:58] أليس هذا هو شأن المنافقين منذ زمان الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أن يشاء الله عز وجل؟

نعم هذا شأن المنافقين فتارة يسخرون منه، وتارة يهزءون به، وأخرى يتغامزون، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

تغيظ الكافرين من المتمسكين بالدين

إن إقامة الصلاة والإعلان بها يصبغ المجتمع بصبغة الله، ويظهر شعائر الإسلام، ويجسد اعتزاز المسلمين بإسلامهم، ويغيظ أعداء الدين الذين يزعجهم رجوع الناس إلى ربهم، واشتغالهم بشعائر دينهم.

كذلك لا شك أن محافظة المسلمين على الصلاة تعمير للمساجد، فإذا أذن المؤذن ترى الناس يتوجهون فوراً إلى المساجد؛ ليعمروها بهذه الشعائر الظاهرة، وتصبغ المجتمع بصبغة الإسلام، وليس في ذلك فقط إغاظة لإبليس وجنوده، لكن إغاظة أيضاً للكافرين الذين يعيشون وسط المسلمين، فالصلاة إظهار لعزة الإسلام في وسط هؤلاء الكافرين.

ولذلك نلاحظ أن الكافرين يحبون السفيه الفاسق الذي لا يبالي بتضييع الصلاة، فيقربونه إليهم، أما المتمسك بدينه فيتخذونه عدواً، فإذا رأى الكافر عليك علامات التمسك بالدين أو إقامة الصلاة يبغضك، ويظهر هذا بصورة أو بأخرى، أما الفاسق السفيه فهو أقرب إلى قلبه؛ لأنهم في الهوى سواء.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين) أي: على سنة السلام فيما بينكم، والتأمين في الصلاة، وقد ظهر من اليهود هذا الحسد، فحسدهم لأهل الإيمان معروف في كثير من المواقف، فإذا كان هذا في السلام والتأمين، فكيف بما عدا التأمين من إعلان الأذان ومن تعمير المساجد ومن تراص المصلين راكعين، ساجدين، خاشعين؟!

وقد ذكرنا لكم كلمة رينان إرنس الفيلسوف الفرنسي الشهير حيث قال: ما دخلت مسجداً قط دون أن يصيبني أسف محقق على أني لم أكن مسلماً. أي: أنه ما دخل مسجداً ورأى منظر المسلمين في صلاة الجماعة، إلا وشعر بأسف شديد على أنه ليس مسلماً.

تارك الصلاة استحوذ عليه الشيطان

إذا كانت الصلاة فيها مراغمة للشيطان، فإن ترك الصلاة سبب لاستحواذ الشيطان على العبد، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36-39].

فالصلاة أشرف صورة لذكر الرحمن؛ لأن الصلاة اجتمعت فيها كل العبادات القلبية والبدنية والقولية، اجتمع فيها الذكر بكل أنواعه، وأشرفه قراءة القرآن الكريم في القيام، وفيها الركوع والسجود والخشوع، وأحوال القلب كلها تجتمع في الصلاة، فهي أولى ما يطلق عليه ذكر الله تبارك وتعالى، وهي خير موضوع كما أسلفنا.

يقول تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن) أي: من يغفل ويعرض عن ذكر الرحمن يعاقبه الله بأن يقيض له شيطاناً فهو له قرين.

قوله: (وإنهم) أي: الشياطين (ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون).

فمن يضيع الصلاة يضيعه الله ويخذله ويعاقبه بأن يقيض له شيطاناً يقارنه فلا يفارقه لا في الإقامة ولا في المسير، ويكون مولاه وعشيره، فبئس المولى وبئس العشير، فيتخذ قلبه المريض وطناً، ويعده مسكناً، إذا تصبح بطلعته حياه وقال: حييت من قرين، لا يفلح في دنياه ولا في أخراه، وكأن القرين يخاطب هذا المنحرف معتزاً به؛ لأنه يضيع الصلاة، فإذا رأى محياه وطلعته كأنه يخاطبه كما قال بعض العلماء قائلاً له:

قرينك في الدنيا وفي الحشر بعدهافأنت قرين لي بكل مكان

فإن كنت في دار الشقاء فإننيوأنت جميعاً في شقاً وهوان

وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية من الغنم).

قوله: (ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة) ما هي العقوبة؟ (إلا استحوذ عليهم الشيطان) سيطر عليهم الشيطان.

قوله: (فعليكم بالجماعة) يعني: صلاة الجماعة.

قوله: (فإنما يأكل الذئب القاصية) أي: الذئب إذا أراد أن يفترس الشاه لا يفترسها وهي في القطيع، وإنما يترقب ويتربص حتى إذا شذت واحدة وانفردت؛ فإنه يستحوذ عليها ويفترسها.

فبين صلى الله عليه وآله وسلم أن الشيطان ذئب الإنسان، وهو أعدى عدو الله، وكما أن الطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما نزل احتوشته الآفات، فكذلك الشاة كلما كانت أقرب من الراعي كانت أسلم من الذئب، وكلما بعدت عن الراعي كانت أقرب إلى الهلاك، فأحمى ما تكون الشاة إذا قربت من الراعي.

قوله: (وإنما يأخذ الذئب القاصية من الغنم) أي: البعيدة من الراعي.

قال بعض السلف: رأيت العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان، فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان، وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان.

التخلص من عقد الشيطان على قافية العبد عند النوم

لقد بين صلى الله عليه وآله وسلم مظهراً من مظاهر كيد الشيطان لصد المؤمن عن ذكر الله وعن الصلاة، ودلنا على ما يحبط هذا الكيد، فعن أبي هريرة رضي تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) متفق عليه.

فهذه صورة من صور كيد الشيطان؛ كي يصد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة.

قوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد) الأقرب -والله تعالى أعلم- أن ظاهر الحديث أن الشيطان يمارس نوعاً من السحر في الحقيقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف السواحر بقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4]، فالساحرة تعقد عقدة وتنفث فيها بالكلام الذي تقوله، وتنفث فيها حتى تجتمع نيتها الخبيثة مع ريقها الخبيث مع كلامها الخبيث مع فعلها الخبيث، فالشيطان هو أصل الخبث كله، فهو يفعل هذا النوع من السحر في حق الإنسان إذا نام؛ كي يمنعه من القيام للصلاة والعبادة والذكر.

قوله: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة) يعني: إذا استيقظ الإنسان وشعر بهذا الثقل فليعرف سببه الذي أخبرنا به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ويتذكر أن هذا الثقل إنما بسبب العقد الشيطانية، فهو يريد أن يشغلك عن الصلاة ويعطلك.

كذلك تذكر العلاج الذي وصفه لك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فاستعمل العلاج خطوة خطوة.

الخطوة الأولى في العلاج المرتب: أول ما تستيقظ أن تذكر الله تبارك وتعالى، تلفظ بأذكار الاستيقاظ من النوم، فإذا ذكرت الله انحلت العقدة الأولى عنك.

الخطوة الثانية: أن تتوضأ، فإذا توضأت انحلت العقدة الثانية.

الخطوة الثالثة: أن تصلي لله عز وجل، فإذا صليت قيام ليل أو صلاة سنة أو غير ذلك انحلت العقد كلها، فأصبحت نشيطاً طيب النفس، وإن لم تمتثل هذه الخطوات في العلاج أصبحت خبيث النفس كسلان والعياذ بالله.

فالذي خذل يعمل فيه هذا السحر الشيطاني، والذي وفق يصرف عنه، ومما يؤيد هذا التفسير بأنه نوع من السحر يفعله الشيطان، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رواية جابر رضي الله تعالى عنه: (ما من ذكر ولا أنثى إلا على رأسه جرير معقود حين يرقد بالليل) قوله: (جرير) يعني: حبل.

إذاً: الذي ينام عن الصلاة قد استسلم لعقد الشيطان ووسوسته، حتى صار عدوه مستحوذاً على نفسه، ومسيطراً عليه.

عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة، فقال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري .

وفي رواية ابن حبان : (نام عن الفريضة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بال الشيطان في أذنه) ولك أن تتخيل عدو بهذه الدرجة من الكيد والمعاداة، حيث يجعل هذا الإنسان الذي غفل عن الصلاة كالكنيف المعد للبول وللغائط، وهل هناك استخفاف وإهانة أشد من ذلك؟!

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (بال الشيطان في أذنه) على حقيقته، أما كيف؟ فلا ندري، ولا يقاس بما عليه نحن البشر من الأمور الحسية؛ لأن الشيطان بالنسبة إلينا غير ما نتصور، لكن الخلاصة أنه بال في أذنه، وكيف يبول؟! الله تعالى أعلم.

فمعنى الحديث: أن الشيطان استحوذ عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول، إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه.

ترك الصلاة خيانة للأمانة التي حملها الإنسان

إن ترك الصلاة خيانة للأمانة، فإن الله تبارك وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]، والمعاصي كلها خيانة لله عز وجل، ولا شك أن رأسها وأولها ترك الصلاة، يقول تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، وقال أيضاً: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] أي: التكاليف الشرعية.

وقال في وصف المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8].

والأمانة من حيث معناها هي أوسع من مجرد حفظ الودائع، وأغلب الناس إذا سمعوا كلمة الأمانة، تنصرف أذهانهم إلى حفظ الودائع، فصار معنى الأمانة ضيقاً محدوداً، فالأمانة أوسع من هذا المعنى الضيق الذي يظنه الناس؛ لأن الأمانة هي التكاليف الشرعية التي ائتمن الله عباده عليها، فأمرهم بها بحيث إذا فعلوها أثيبوا، وإن تركوها عوقبوا.

قال أبو العالية : الأمانة ما أمروا به أو نهوا عنه.

ولاشك أن الصلاة من أعظم الأمانات التي كلفنا الله بحفظها، فمن ضيعها فقد خان الله عز وجل ونقض عهده، كما قال عز وجل: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا ودع رجلاً قال: (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك) قوله: (أمانتك) أي: كل الأمانات وليس فقط شيئاً محدوداً؛ وذلك لأن السفر مظنة للمشقة، فربما كانت المشقة سبباً للتقصير والإخلال، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستودع الله من صاحبه إذا ودعه هذه الثلاث: دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك.

ترك الصلاة جناية وظلم للأنبياء والملائكة والصالحين

إن ترك الصلاة جناية على الأنبياء والملائكة وعلى سائر عباد الله الصالحين؛ لأن المصلي يجب عليه في التشهد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين بلغت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) متفق عليه.

الشاهد قوله: (بلغت كل عبد لله صالح في السماء والأرض) فمن ترك الصلاة فقد عطل هذه التحية الطيبة أن تبلغ أولياء الله وعباده الصالحين في السماء والأرض.

ترك الصلاة تعرض لعقوبة الله في الدارين

إن ترك الصلاة تعرض لعقوبة الله تبارك وتعالى في الدارين، فقد روي عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشرك بالله شيئاً وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً؛ فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله) وهذا الحديث حسن لغيره.

قوله: (من ترك الصلاة المكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله) يعني: لا يبقى في أمان وأمن من الله عز وجل في الدنيا؛ لأنه يستحق التعزير والملامة، وإذا أصر فيستحق القتل، وفي الآخرة يستحق عقوبة الآخرة.

يقول ابن حجر : هذه كناية عن سقوط احترامه؛ لأنه بذلك الترك عرض نفسه للعقوبة بالحبس عند جماعة من العلماء، ولقتله حداً لا كفراً بشرط إخراجها عن وقتها الضروري، وأمره بها في الوقت عند أئمتنا، ولقتله كفراً فلا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين عند أحمد وآخرين، على الخلاف الذي سبق أن تكلمنا عليه.

الصلاة سبب النصر والتمكين في الدنيا والفلاح في الآخرة

إن من فضائل الصلاة أنها سبب للنصر والتمكين والفلاح في الدنيا والآخرة، يقول الله عز وجل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2] .. إلى قوله عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9] يعني: جعل الصلاة سياجاً لكل أعمال هؤلاء المؤمنين، بدأ بالصلاة وختم بالصلاة كأنها السياج، كذلك تكرر نفس الشيء في سورة المعارج أيضاً.

تأملوا كلمة: (أفلح) أي: أن الصلاة سبب الفلاح والنصر والتمكين.

وقال الله أيضاً: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، وسمى الصلاة فلاحاً، فجعل النداء إليها نداءً إلى الفلاح، حي على الصلاة، حي على الفلاح: والفلاح هو الفوز بالمراد، والبقاء في الخير.

وبالصلاة يستمنح ويستنزل نصر الله تبارك وتعالى، يقول عز وجل: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، فإن أردت النصر والفلاح والفوز والتمكين فلابد من الاستعانة بالصلاة، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].

ولعل في تشريع صلاة الخوف حالة الالتحام المسلح ما يشير إلى أثر الصلاة في استجلاب نصر الله تبارك وتعالى، يعني: المسلمون لا يستغنون عن الصلاة باعتبارها سبباً في الفلاح والنصر والتمكين ومعية الله، حتى في أثناء الكفاح المسلح مع الأعداء، فتجب عليهم الصلاة بحسب استطاعتهم كما هو معروف في صلاة الخوف.

وعن سعد رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).

إذاً: هذه الصلاة التي يصليها هؤلاء الضعفاء والفقراء والمساكين والنساء وغيرهم تكون سبباً في نزول نصر الله سبحانه وتعالى، رأفة ورحمة بسائر الأمة.

وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم) ولم يذكر (وإخلاصهم) في رواية البخاري .

وقال رجل للحسن : أوصني، فقال: أعز أمر الله يعزك الله.

وقال تعالى: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ونصرة الله بإقامة شرائع دينه وخاصة الصلاة.

وقال عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [المائدة:12] يعني: إني معكم بالنصر والتأييد إن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، ومن كان الله معه فقد تولاه، والله عز وجل لا يعز من عاداه، ولا يذل من والاه، بل الذل حليف من حاربه وعصاه قال صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري).

وعباد الله الذين سيعاقب الله بهم أعداءه، ويعذبهم بأيديهم، هم الذين يقيمون الصلاة ويستمدون منها زاداً ووقوداً في جهادهم، يقول تبارك وتعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5]، هل يتصور أن عباداً لنا يكونون ممن لا يصلون؟!

لا يمكن أبداً أن يكون ولياً من أولياء الله لا يصلي؛ لأن الذي لا يصلي عدو لله وليس ولياً من أولياء الله، إنما ينصر الله أولياءه الذين تولوه سبحانه وتعالى، أما تارك الصلاة فهذا عدو بغيض إلى الله سبحانه وتعالى وإلى المؤمنين.

فالذين يهزمون أعداء الدين -وخاصة اليهود لعنهم الله- لابد أن يكونوا متصفين بهذه الصفة: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا [الإسراء:5]، انظر إلى الاختصاص: (عباداً لنا) ما صفتهم؟: أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء:5] يعني: يجمعون بين أمرين:

بين إقامة العبودية وبين القوة المادية، البأس الشديد.

وبهذه العبودية يتعرف عليهم كل شيء، حتى الحجر في آخر الزمان سيتعرف على المسلم الذي يتصف بصفة العبودية، وأشرف العبودية الصلاة بلا شك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) رواه مسلم .

فانظر كيف أن الحجر سيعرف المسلم بهذه الصفة، لن يقول له: يا فلسطي! لأن هذه هي النسبة الصحيحة، وليس فلسطيني، ولن يقول له: يا قومي! يا اشتراكي! يا عربي! يا مصري! يا سوداني! هو لا يعرف هذه المقاييس، وإنما سيناديه بهذه الخصلة: (يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي .. ) إلى آخر الحديث.

وإذا فتح الله سبحانه وتعالى على عباده المصلين يكون أول شيء يهتمون به هو إقامة الصلاة، يقول عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فأول علامات المسلمين إذا مكنوا أن يقيموا الصلاة، وإقامة الصلاة ليست مجرد أن يصلوا في أنفسهم، فإنهم قطعاً من قبل كانوا مصلين، لكن إذا صارت لهم الدولة والسطوة والقوة والغلبة فأهم شيء عندهم أن يقيموا الصلاة في الناس، ويحاسبونهم على تضييع الصلاة، ويحرضونهم على ذلك، ويوظفون الموظفين لمراقبة الناس في شأن الصلاة، وتكون ولاية خاصة اسمها ولاية الصلاة، كما كان في الدولة الإسلامية مثل: وزارة المالية، ووزارة الخارجية، ووزارة الداخلية، هناك أيضاً وزارة اسمها وزارة الصلاة، ولها هيئة وموظفون يتابعون الناس، يقولون لمن تخلف عنها: لماذا تخلفت عن الصلاة؟ أأنت معذور أم لا؟ والذي يترك الصلاة يقولون له: لماذا تترك الصلاة؟ ويرفع به إلى القضاء الشرعي ويبلغ عنه كأي مجرم في المجتمع الإسلامي، فهذا معنى قوله: (أقاموا الصلاة).

ولذلك يقول تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41] حتى وإن كان التمكين أمراً نسبياً، فالمسلم في أي موقع هو فيه فعليه أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، سواء كان مديراً في مصنع، أو صاحب محل عنده عمال، أو مدير مستشفى، أو ناظر مدرسة، وهكذا، (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فليس التمكين مقصوراً على أعلى درجات التمكين وهي إقامة الخلافة، وإنما التمكين قد يكون أحياناً نسبياً، فـ (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) فالأب في البيت مسئول أن يقيم الصلاة في ذريته وفي أهله، ويراقب نساءه وأولاده، ويطمئن على إقامتهم للصلاة.

كذلك في كل مرفق إذا مُكِنَ للمسلم فيه حتى وإن كان نسبياً فعلى قدر طاقته عليه أن يطبق هذه الآية: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

الصلاة سبب من أسباب النجاة من عذاب القبر

لقد ذكرنا من قبل أن ترك الصلاة سبب من أسباب عذاب القبر والعياذ بالله، وعلى الجهة المقابلة فإن الصلاة نجاة من عذاب القبر، فطاعة الله عز وجل هي خير ما يقدمه الإنسان ويدخره في قبره، يقول عز وجل: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم:44]، قال مجاهد : (يمهدون) يعني: في القبر، يعني: يدخر هذا العمل الصالح في القبر، والقبر صندوق العمل.

عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه: أهله، وماله، وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله) متفق عليه.

ووصف لنا الصادق المصدوق تفاصيل ما يجري في أول لقاء يتم في القبر بين المؤمن وبين عمله الصالح، وكيف أن عملك الصالح سيجسد لك في أجمل وأحسن وأبهى صورة، ويظل قريناً لك في القبر منذ أول لقاء بينك وبينه عندما تنزل في القبر، ففي حديث البراء الطويل قال صلى الله عليه وآله وسلم في شأن المؤمن: (ويأتيه من روحها وطيبها -يعني: من ريح وطيب الجنة- ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، أبشر برضوان من الله، وجنات فيها نعيم مقيم، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: وأنت فبشرك الله بخير، من أنت، فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله، بطيئاً في معصية الله، فجزاك الله خيراً، ثم يفتح له باب إلى الجنة) إلى آخر الحديث.

يعني: إذا رأيت في نفسك تكاسلاً أو تقصيراً فذكر نفسك بهذا الموقف وبهذه اللحظة.

إذاً: أول ليلة ستبيتها في القبر سيزورك فيها عملك، فإن كنت صالحاً قال لك: (أنا عملك الصالح، فوالله ما علمتك إلا كنت سريعاً في طاعة الله) أي: مبادراً إلى طاعة الله.

إذا تذكرت هذا الشيء فإنك إذا سمعت الأذان تجري إلى الصلاة، وغيرها من الأعمال الصالحات.

وتأتي الصلاة في مقدمة الأعمال الصالحة التي تحفظ صاحبها من عذاب القبر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت إذا وضع في قبره، فإنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، وكان الصيام عن يمينه، وكانت الزكاة عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه -يعني: يأتيه العذاب من قبل الرأس- فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل يعني: لا توجد ثغرة كي ينفذ منها العذاب إلى هذا الرجل- ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى عن يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف إلى الناس: ما قبلي مدخل) وهذا حديث حسن.

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين

الصلاة أمنية الأموات والمعذبين، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبر دفن حديثاً فقال: ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون يزيدهما هذا في عمله أحب إليه من بقية دنياكم).

قوله: (ركعتان خفيفتان مما تحقرون وتنفلون) أي: مما تزهدون فيهما.

قوله: (أحب إلى هذا) يعني: لو أنه خيِّر بين أن يرجع إلى الدنيا من جديد، ويعطى كل ما بقي من الدنيا من الكنوز والأموال إلى أن تقوم الساعة ويصير ملكاً له، وبين أن يعود إلى الدنيا ويركع ركعتين خفيفتين من النوافل الخفيفة مما يحتقرها الناس ويزهدون في ثوابهما؛ لاختار قطعاً وجزماً أن يصلي هاتين الركعتين؛ لأنه عاين ثواب مثل هذه العبادة الجليلة.

ومما ينفع في مثل هذا الموطن أن يتذكر الإنسان حبيباً إليه، أباه، أخاه، صديقه، قريبه الذي مات، ويتخيل أن هذا فلان ابن فلان بشحمه ولحمه، فلو خير هذا الخيار لقطع جزماً بأنه سيختار أن يصلي هاتين الركعتين ثم يدفن ثانية، من أجل أن يزيد في ثوابه هاتين الركعتين.

قال إبراهيم بن يزيد العبدي : أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق ! انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهداً، فانطلقت معه، فأتى إلى المقابر، فجلسنا إلى بعض تلك القبور فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنياً لو مني؟

قلت: أن يرد والله إلى الدنيا، فيستمتع من طاعة الله ويصلح، قال: فها هي الفرصة ما زالت معنا، فهذا مات ونحن ما زلنا، ثم نهض فجد واجتهد فلم يلبث يسيراً حتى مات رحمه الله تعالى.

فالموت هو الفيصل بين هذه الدار وبين دار القرار، وهو الحد الفارق بين دار الامتحان وبين دار ظهور النتائج، فليس بعده لأحد من مستعتب ولا اعتبار، ولا يمكن الزيادة في الحسنات بعد الموت ولا النقص من السيئات، ولا حيلة ولا افتداء ولا درهم ولا دينار، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].

وقال سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].

تخيلوا أن عامة المسلمين الذين ماتوا من قبل سمعوا هذا الكلام كثيراً، سمعوه في القرآن، وسمعوه في الدروس، وقرءوه في الكتب، فمن انتفع لما سمع هذا الكلام وأصلح حاله؛ فاز فوزاً عظيماً، ومن مرت عليه مرور الكرام ندم ندماً شديداً؛ لأنه قبل الموت كانت عنده المهلة، ونحن كذلك سيأتي بعدنا ناس يتلون نفس الآيات، ويتلون نفس الأحاديث، بعد عشر سنين.. عشرين سنة.. مائة سنة.. ومع الناس ينقسمون: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4].

فينبغي أن يحذر الإنسان، فليس لنا عذر أمام الله سبحانه وتعالى، فما زالت القلوب فينا تنبض، وعضلاتك إذا أردت أن تحركها لكي تذهب إلى المسجد ستطيعك، ولسانك إذا أعملته في ذكر الله لن يقول لك: لا، فأنت الآن أمامك المهلة والفرصة فلا تضيعهما، وانتفع بهذا الوعظ فإنك أنت أنت المراد به.

يقول تبارك وتعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:44].

إذاً: أمنية الموتى والمعذبين يوم القيامة أن يردوا إلى الدنيا ولو بقدر ركعتين.

قوله: (هل إلى مرد من سبيل) أي: هم يسألون الرجعة عند الاحتضار، وكذلك يسألونها إذا وقفوا على النار، قال جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27].

وكذا يتمنون الرجعة إذا وردوا على ربهم: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]، هل ينفع هذا اليقين في الآخرة؟

لا، فهم رغم أنفهم أيقنوا؛ لأنهم عاينوا الغيب وصار شهادة، أما اليقين الذي ينجي فهو الإيمان بالغيب في دار الدنيا ودار الامتحان.

أيضاً يتكرر سؤالهم الرجعة وهم في غمرات الجحيم، يقول تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] ويأتي الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37] قوله: (أولم نعمركم) أي: ألم نعطكم الفرصة وطولنا لكم في العمر؟!

قوله: (مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي: عمرتم عمراً كان لكل منكم فيه فرصة كافية ليتذكر ويتوب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد أعذر الله إلى رجل أجّله حتى بلغ ستين سنة) يعني: لقد أعذر الله من مد في عمره إلى هذا القدر ولم يتب ولم يرجع.

قوله: (وجاءكم النذير) يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال بعض المفسرين: هو الشيب الذي يزحف إلى شعر الرأس وغيره، فإذا بدأ الإنسان يتقدم في العمر وظهر منه الشيب، فهذا عبارة عن إنذار من الله سبحانه وتعالى بأنه قد اقترب من النهاية، واقترب من الوصول إلى المحطة الأخيرة.

وقال سبحانه: قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر:11].

وقال قتادة في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون:99-100]: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه-أي: سأله الإقالة- فأقاله، فليعمل بطاعة ربه تعالى.

وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا إلى أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

من أجل ذلك أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إذ هي أيام وأحوال العمل والتأهب والاستعداد والاستكثار من الزاد، فمن فاته العمل فيها لم يدركه عند مجيء أضدادها، ولا ينفعه التمني للأعمال بعد التفريط والإهمال في زمن الفرصة والإمهال، ومن فرط في العمل في زمن الحياة لم يدركه بعد حيلولة الممات، فعند ذلك يتمنى الرجوع وقد فات، ويطلب الكرة وهيهات، وتعظم حسراته حين لا مدفع للحسرات، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.

كثير من الناس يتصورون أن معنى قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] أنها الشهوات، لا، بل حيل عند الموت بينهم وبين ما يشتهونه وهو التوبة.

إذا حضر الموت والأجل والغرغرة فهناك حاجز وبرزخ لا يمكن أن يتوب الله على الإنسان بعدما قيل له: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]، وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] فإذا جاءت الغرغرة سد باب التوبة في وجه العبد، فهذا معنى قوله: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) يعني: من التوبة والرجوع إلى العمل الصالح.

ويقول تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يومئذ ومالكم من نكير [الشورى:47].

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , لماذا نصلي؟ [4] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net