إسلام ويب

لقد كان كتاب معالم في الطريق هو خلاصة منهج سيد قطب رحمه الله في الحياة، وقد أثار هذا الكتاب ضجة كبيرة في الأوساط الفكرية؛ لما يحمله من أفكار تعيد ذكرى إعدامه، والأجواء التي سادت ذلك الوقت، ونحن لا نستطيع أن ننكر نشاطات الرجل الدعوية والحركية التجديدية التي تُوجِّت بالصمود حتى الموت، ولكن لا يعني هذا العصمة من الخطأ، فإن هذا ليس لأحد من الخلفاء الراشدين ولا لمن بعدهم من التابعين فضلاً عن رجال هذا العصر.

لمحة موجزة عن تفسير الظلال

أما بعد:

فقد شرعنا في دراسة حول قضية المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وذكرنا أن المنهج عند الأستاذ سيد رحمه الله يتركز بالذات في كتابه: معالم في الطريق، وذكرنا أن معالم في الطريق هو خلاصة تفسيره للقرآن الكريم، وهو: في ظلال القرآن، وقد أخذ الأستاذ سيد رحمه الله عهداً على نفسه حينما شرع في كتابة تفسيره في ظلال القرآن: أن يبتعد عن الموضوعات اللغوية والنحوية، والقضايا الجدلية والكلامية، وأيضاً المسائل الفقهية، وذكر أن الإسراف في ذلك يحجب القرآن عن روحه، ويستر جمال النص القرآني الأخاذ.

قال رحمه الله تعالى: كل ما حاولته ألا أغرق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي، وتحجب روحي عن القرآن، وما استطردت إلى غير ما يوحيه النص القرآني ذاته من خاطرة روحية أو اجتماعية أو إنسانية، وما أحفل القرآن بهذه الإيحاءات.

اختلف الكاتبون في علوم القرآن وفي التفسير في موقع كتاب الظلال بالنسبة لغيره من أنواع أو اتجاهات التفسير، فهناك اتجاه التفسير بالمأثور الذي يتصدره تفسير الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله، هناك التفسير بالمعقول أو بالرأي وهو ينقسم إلى مذموم ومحمود، وهناك التفسير اللغوي أو الأدبي أو البياني وغير ذلك؛ فبعض هؤلاء كالأستاذ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله صنف كتاب ظلال القرآن في ضمن التفسير البياني للقرآن، أي: الذي يركز على النواحي البيانية واللغوية، ليس المقصود النواحي اللغوية كما فعل مثلاً أبو حيان في البحر المحيط، وإنما المقصود التذوق البلاغي لجلال وروعة القرآن، لكن ما من شك هو ليس تفسيراً بالمأثور الذي ينضبط بقواعد علوم التفسير الذي ذكرها الكاتبون في علوم القرآن، لكن مع ذلك هو ذكر أنه عبارة عن تفكير، وليس تفسيراً بالمعنى المتعاهد والمعروف حينما يذكر اصطلاح التفسير، فهو تفكير كما ذكرنا قد يصيب فيه المفكر وقد يخطئ، وهو عبارة عن انفعالاته الروحية، وتذوقه الأدبي لنصوص القرآن الكريم، ومع موهبته الأدبية -التي سبق أن أشرنا إليها- فإن هذا التفسير كما يقول الدكتور الصباغ حفظه الله: يمتاز هذا التفسير بأسلوب مؤلفه الموهوب، فهو يعرض موضوعات القرآن ومعانيه بأسلوب أدبي حي أخاذ سهل بليغ، فقد اجتنب كثيراً من المصطلحات العلمية التي نعثر عليها في كتب التفسير، فكان كتابه سائغاً مفهوماً مقبولاً من جماهير القراء، على أنه كان يكثر من استعمال بعض الكلمات التي تكاد تكون خاصة به، وإن الذي يألف أسلوب المؤلف يستطيع أن يدرك بسهولة معناها، لا سيما وأنه قد شرح بعضها في كتابه التصوير الفني في القرآن، ومن الطبيعي أن نجد في كتابة الكتاب الكبار بعض الكلمات التي يكثرون من تردادها، كما نجد بعض الجمل الخاصة التي تعد مظهراً من مظاهر الأساليب الشخصية.

يقول: أيضاً يعالج هذا التفسير الموضوعات القرآنية، والحقيقة هذا هو سر هذه الحرارة العالية التي يتضمنها أسلوب الأستاذ سيد قطب عموماً في المرحلة الثالثة بالذات الأخيرة، وبالذات في كتابيه المعالم والظلال، سر هذه الحرارة العالية، والحماس الصادق نحو قضايا الإسلام، هو: أنه عالج الموضوعات القرآنية باعتزاز بالإسلام يفوق الوصف، وإيمان به، وبعقلية حركية تدعو إلى استئناف العمل بالقرآن في قوة وصراحة وحيوية، وإلى إعادة سلطان القرآن على الحياة الإنسانية في نطاق الأفراد والأمم والعالم كله، كما عالج هذا التفسير بوعي عميق أصيل، وبحرارة بالغة، وعاطفة كريمة صادقة قضايا المسلمين الفكرية والاجتماعية والسياسية، كما ألم بقضايا الفكر المعاصر والحضارة القائمة، وأعلن بكل وضوح وتصميم: أن المبادئ القرآنية هي ما تحتاجه الإنسانية في أزمتها الراهنة اليوم، ويتمتع المؤلف بتحرر تام من كل قيود العبودية الفكرية التي يوصف بها عدد من المفكرين المعاصرين، وهو على معرفته بحضارة الغرب لم يكن مأخوذاً بها، ولا مأخوذاً بالجوانب البراقة فيها، كان يقدرها حق قدرها، ويقومها التقويم السديد، ويحذر من سيئاتها ومن مساوئها التي تزحف على ديار الإسلام، وتهدد حياتهم كلها، والمؤلف يضع العقل في محله الذي ينبغي أن يوضع فيه، دون أن يغلب العقل بتحميله ما لا يقوى على حمله، ودون أن يعطله فلا يسخره فيما خلقه الله له، ويربط المؤلف بين آيات القرآن التي فيها النور والهدى، وبين واقع الجيل العظيم الذي تلقى هذا القرآن ليعمل به، ويقيم جوانب حياته عليه، وهو في تفسيره يدعو المسلمين إلى أن يأخذوا أنفسهم بالجد، ويعملوا بالقرآن كما فعل أهل الصدر الأول زمن النبوة، ويحثهم على الانقلاب من واقعهم المريض المتخلف ليكونوا سعداء في بلادهم، وليسعدوا الإنسانية كلها؛ لأنه يقرر أن المسلمين يملكون بهذا القرآن ما لا يملكه أحد سواهم في الدنيا، وليس عليهم إلا أن يكونوا هم الواقع الحي لمبادئ الإسلام لتجد فيهم الإنسانية المعذبة الشقية طلبها.

يقول الدكتور الصباغ : وأخيراً: فإن هذا التفسير يبرز قضية وحدة الرسالات السماوية التي بعث الله بها أنبياءه ورسله؛ إذ كانت جميعاً تدعو إلى التوحيد، وإسلام النفس لله وحده في الطاعة والعبادة.

هذه بعض الفوائد الجيدة، والثمار الزكية التي تقتطف من تفسيره في ظلال القرآن، لكن كما ذكرنا من قبل: أن هذا الكتاب ليس خلواً من بعض المؤاخذات التي قد يتجاوز عنها إذا تذكرنا أن أسلوبه أسلوب الأديب الذي قد يسترسل مع مشاعره وإيحاءات الكلمات، لكن إذا قسنا بعض القضايا التي خلف من بعد الأستاذ سيد قطب رحمه الله خلفاً حملوها ربما فوق ما تحتمل، أو كانت هي بالحقيقة هذه النصوص من كتابيه تحتمل ما وقعوا فيه من اتخاذها أصولاً وقواعد يبنى على أساسها مذهب أو منهج أو اتجاه فكري محدد المعالم، لا يوافق ما عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، وبالذات في قضية الكفر والإيمان، فتقبل مثل هذه التوجهات في مجال الدعوة العامة من قبل حث المسلمين على هذه القضايا التي أشرنا إليها آنفاً من بث روح الاعتزاز بالإسلام فيهم، والاستعلاء على المناهج الكفرية، وفضح وكشف سبيل المجرمين... إلى آخر هذه الميزات التي نقرها جميعاً ولا ننكر فضلها وشدة حاجتنا إليها.

لكن أين نضع مثلاً معالم الطريق في المكتبة؟ وأين نضع كتاب: هل نحن مسلمون مثلاً للأستاذ محمد قطب رحمه الله؟ هل يوضع بجوار شرح العقيدة الطحاوية، أو معارج القبول، أو السنة لـابن أبي عاصم ، أو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أو غير ذلك من كتب العقيدة؟ أم أنه يوضع في الجانب الفكري من المكتبة، كتاب مثلاً: هل نحن مسلمون؟ هل نعامله على أنه يقصد بذلك أننا كفار؟ ولابد أن ندعوا الناس إلى الإسلام من جديد؛ حتى يدخلوا في الإسلام، ويستأنفوا إسلامهم، أم أنه عبارة عن محاولة لإيقاظ الروح الإسلامية عند المسلمين لتنبيههم ضد مؤامرة أعداء الإسلام، أو من الغزو الفكري الذي يتلون بألوان وصور شتى؟ فمن الظلم مثلاً لكتاب: هل نحن مسلمون؟ أن نضعه مع كتب التوحيد الاصطلاحية والعلمية المقعدة لمنهج وضوابط وقواعد وأصول أهل السنة والجماعة، فهكذا ينبغي أن نتعامل مع هذه الكتب، فعند الانضباط عند التقريب والتأصيل والمحاكمة بالميزان العلمي الدقيق، فينبغي أن نعود إلى علماء أهل السنة والجماعة، ورموز أهل السنة والجماعة في كل العصور الذين ضبطوا هذه المسائل وقعدوها، وكما ذكرنا من قبل قضية: من هو المسلم؟ من هو الكافر؟ بم يخرج المسلم من الإسلام؟ بم يدخل الكافر في الإسلام؟ ليست قضية غفلت عنها الأمة أربعة عشر قرناً، هذه القضية حسمت منذ القدم، وموجودة في كتب الردة من كتب الفقه، وغيرها من كتب التوحيد وواضحة وضوحاً يغنينا عن محاولة الاجتهاد من جديد في تحديد كيفية التعامل مع هؤلاء الناس.

تتمة مناقشة قضية المنهج عند سيد قطب في (معالم في الطريق)

لا نستطيع أن ننكر أن الأستاذ سيد رحمه الله كانت في نشاطاته الدعوية والحركية مظاهر يمكن أن نسميها تجديدية باعتبار أنه جدد هذه المشاعر، وتوج كل هذه الحسنات بأن صمد وثبت عليها حتى دفع حياته ثمناً لها في سبيل الله إن شاء الله تعالى، لكن لا يعني هذا العصمة من الخطأ؛ فإن هذا ليس لـأبي بكر ولا لـعمر ولا للخلفاء الراشدين، ولا لأئمة الإسلام في كل العصور، فمن مقتضى النفس ومن مقتضى أدب العصمة: أن يؤخذ من قوله ويترك كما فعل مع أئمة الإسلام في كل العصور، كما جاء في الحديث: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، فإذا هذه فضائله مبثوثة في كل مكان، ومحبته يدين الناس بها لله، ويتقربون إلى الله بحبه والدعاء له جزاء ما صمد أمام الطغيان، وجزاء ما قدم للدعوة الإسلامية، والحركة الإسلامية، لكن لا يعني هذا أن هذه المحبة تجعلنا نغفل عن بعض المزالق التي وقع فيها بصفته البشرية، وقد نبهنا عليها عدة مرات، وكما يقول الشاعر:

كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

فمن النبل أن تعد معايب الإنسان، ويقول الآخر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع

فلابد أن نفصل بين الحق وبين الرجل، الرجل يمكن أن يكون معه الحق، ويمكن أن يكون ليس معه الحق، أما الحق فهو حق دائماً لا تتخلى عنه هذه الصفة في وقت من الأوقات، فعلى هذا الأساس شرعنا الأسبوع الماضي في تلخيص ندوة الجهاد في الفكر الإسلامي المعاصر التي عقدت بالإمارات، وكان موضوعها: قضية المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وقدم البحث الأساس فيها الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله، ودارت المناقشة من كثير من أعلام الدعوة في هذا الزمان، ويكاد الجميع متفقون على وجود مؤاخذات في موضوع المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا، فبعضهم يقول: إنها نصوص أسيء فهمها، وبعضهم يقول: إن هذه كانت بسبب الطابع الأدبي الذي غلب عليه جعله يسترسل في هذه القضايا، وبعضهم قال: السبب هو الجانب النفسي، والظروف النفسية التي ألف فيها الكتاب. إلى غير ذلك، لكن هذه الخيوط كلها تؤدي إلى مؤدى واحد وهو: أن هناك مؤاخذات، وعند ميزان هذه الأفكار تتضح هذه المؤاخذات.

مناقشة القرضاوي لسيد في قضيتي التكفير والجاهلية

ذكرنا من قبل كلام بعض هؤلاء الأعلام، ونذكر أيضاً كلاماً للدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله، يناقش فيها بعض الأفكار الأساسية في قضية المنهج عند السيد قطب رحمه الله تعالى، وكان من ذلك مناقشته لقضية التكفير والجاهلية.

يقول الدكتور القرضاوي : إن المجتمع الذي نعيش فيه الآن ليس شبيهاً بمجتمع مكة الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم حين نشأت الدعوة الإسلامية الأولى، فذلك كان مجتمعاً جاهلياً صرفاً، أعني: مجتمعاً وثنياً كافراً لا يؤمن بلا إله إلا الله ولا بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول عن القرآن: سحر وافتراء وأساطير الأولين، أما مجتمعنا القائم في بلاد المسلمين فهو مجتمع خليط من الإسلام والجاهلية فيه عناصر إسلامية أصيلة وعناصر جاهلية دخيلة، فيه أناس مرتدون صراحة، وفيه منافقون يتظاهرون أمام الشعب بالإسلام وباطنهم خراب من الإيمان فلهم حكم المنافقين فيه عدا هؤلاء، وأولئك جماهير غفيرة تكاد تكون أكثرية الأمة الساحقة ملتزمة بالإسلام، وجل أفرادها متدينون تديناً فردياً يؤدون الشعائر المفروضة، وقد يقصرون في بعضها، وقد يرتكب بعضهم المعاصي، ولكنهم في الجملة يخافون الله تعالى، ويحبون التوبة، ويتأثرون بالموعظة، ويحترمون القرآن، ويحبون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى غير ذلك مما يدل على صحة أصول العقيدة لديهم، ولهذا يكون من الإسراف والمجازفة الحكم على هؤلاء جميعاً بأنهم جاهليون كأهل مكة الذين واجههم الرسول صلى الله عليه وسلم في فجر دعوة الإسلام، وإن واجبنا ألا نعرض عليهم إلا العقيدة، والعقيدة وحدها حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله في مدلولها الحقيقي، وألا نستجيب لاستفتاءاتهم في شأن من شئون المجتمع الإسلامي، فالواقع كما قلنا: إن هؤلاء غير مجتمع مكة المشرك، فكثير منهم يصلون ويصومون ويزكون ويحجون، وكثير ممن قصر في هذه الفرائض لا ينكرها، ولا يستخف بها، وهي أركان الإسلام ومبانيه، فهل كان مجتمع مكة يلتزم شيئاً من هذه الأركان؟ ثم هم يتزوجون ويطلقون، ويرثون ويورثون، ويوصون على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يزال في بعض البلاد من يقيمون الحدود الشرعية من الجلد والقطع والقصاص ونحوها، ولا تزال القاعدة العريضة في البلاد الأخرى تطالب الحكومات بإقامتها وتطبيق شرع الله تعالى، فهل يا ترى إذا استفتى هؤلاء في شأن من شئون الإسلام التي يمارسونها بالفعل ألا نفتيهم ونبين لهم؟ إنهم يسألون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بشئون العبادات، وما يسمى بالأحوال الشخصية، ومن واجبنا أن نبين لهم ولا نكتم عنهم علماً نافعا؛ فيلجمنا الله بلجام من نار يوم القيامة، وهم يسألون أيضاً عما يعرض لهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية، فهم مسوقون إلى أن يتعاملوا مع البنوك، وأن يأمنوا على المتاجر والمعامل والممتلكات، ويسألون عن حكم الشرع في ذلك كله، هل نصم أذاننا عن هؤلاء المسلمين حتى لو سألونا عن الصلاة والزكاة والصيام، أم نجيبهم عن أحكام العبادات وما يتعلق بها ولا نجيبهم عن أحكام المعاملات؟

هذه بعض عبارات الدكتور يوسف القرضاوي في الرد على بعض أفكار الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذه القضية.

رؤية إبراهيم الكيلاني لمنهج سيد قطب

هنا الدكتور إبراهيم الكيلاني تكلم أيضاً في هذه الندوة، وقال: إني أحب أن أبين نقطتين في منهج سيد قطب رحمه الله: الأولى: أنه في طريقته لشرح نظام الإسلام، وعرضه له؛ كان متأثراً تأثراً كبيراً بالأستاذ أبي الأعلى المودودي رحمه الله، وهذه ناحية ذكرها سيد وتظهر لنا في كتاباته، وهي محاولته عرض إسلام عرضاً كاملاً، لا عرضه من خلال ردود الفعل من القضايا الجزئية فقط.

النقطة الثانية: أنه لم يكن واقفاً في كتاباته وفي ظلال القرآن الذي أنهى وختم به حياته الجليلة.. لم يكن واقفاً عند قضايا العقيدة فقط، وإنما شرح نظام الإسلام، وشرح آيات الأحكام، كما شرح آيات العقيدة وآيات الأخلاق، وكتابه في ظلال القرآن وتفسيره الكامل للقرآن الكريم شاهد على ذلك، فـالسيد قطب في تفسيره للقرآن الكريم شرح النظام الإسلامي كاملاً، وكان في القضايا الفقهية منضبطاً، وحدثني الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى: أن سيد قطب كان يرسل إليه ملازم في ظلال القرآن ليزداد اطمئناناً على الأحكام الفقهية التي يطرحها في الظلال، وهذا من ورعه وشدة تمسكه بمنهج العلماء، وبالحكم الفقهي في عرض هذه الأمور، وإنما الذي أريد أن أبينه للإخوة الكرام: أننا يجب أن نفهم كلام سيد قطب من خلال منهجه، لا أن نفهمه من خلال كلمات مبعثرة هنا وهناك، فـسيد قطب رجل دعوة يسعى لإقامة حكم الله في الأرض، وكان يرى كفراً بواحاً منتشراً في المجتمعات الإسلامية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا أن ترو كفراً بواحاً).

فاستحلال الربا والخمر والزنا والقمار، وتعطيل شريعة الله ماذا يسميها الفقيه المسلم الذي يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليست هذه كفراً بواحاً؟ نعم. وباتفاق فقهاء الإسلام أنها كفر بواح، فعندما يقول: إن المجتمع الذي يستحل حرمات الله مجتمع جاهلي كافر، إنما يعني: أنه استباح حرمات الله تبارك وتعالى، ولم يقل: إن الذين في هذا المجتمع كفار، وقد سألت عن هذه القضية. وأنا أتمنى أن الذين يخالفون هذا الكلام ممن ينتسبون إلى فكر الأستاذ سيد قطب أن يكونوا بخلاف ما يذكر الدكتور إبراهيم الكيلاني هنا، يقول: إن المجمع الذي يستحل حرمات الله مجتمع جاهلي كافر، يعني: أنه استباح حرمات الله تبارك وتعالى، ولم يقل: إن الذين في هذا المجتمع كفار، فهل الذين ينتسبون الآن للأستاذ سيد قطب يحكمون بالإسلام على الناس في هذا المجتمع على العموم بالذات من أظهر منهم الإسلام؟ هل يصلون خلف الناس في المساجد؟ هل من أظهر شيئاً من شعائر الإسلام ولم يحصل استيفاء وتحري وتبين الضوابط التي وضعوها هل قبل ذلك يحكمون عليه بالإسلام أم لا؟

يقول الدكتور الكيلاني : وقد سألت عن هذه القضية الأستاذ محمد قطب رحمه الله فقال: إن سيد قطب لم يقل: المسلم الفلاني كافر، إلا أن يستحل هذا حرمات الله، وكذلك المجتمع كله بصفة عامة عندما تستباح فيه الحرمات، ويخرج عن دين الله. فإذا كان سيد قد اجتهد ووصفه بهذا الوصف فله دليله من القرآن الكريم.

ثم يقول أيضاً: إن سيد قطب في ظلاله لم يخالف مصدراً قطعياً، ولم يخرج عن العقائد الأصلية للمسلمين. قد يكون هناك شيء من التحفظ على هذا: فلو كان االمصدر ظنياً كحديث آحاد، فهنا مجرد تحفظ على هذا التعبير المطلق عليه: إن سيد في ظلاله لم يخالف مصدراً قطعياً، ولم يخرج عن العقائد الأصلية للمسلمين، ولم يخرج عن أصول التفسير المعتمدة عن رجال التفسير، وبالتالي فهو قد التزم بالعقائد الإسلامية، والتزم بقواعد الفقه الإسلامي، وأصول شرح القرآن الكريم، ولم يقدم فقيه من الفقهاء شرحاً لمواد الفقه والنظرية الإسلامية ولأحكام الإسلام كما شرحها سيد قطب رحمه الله، فهو لم يقلل من شأن الفقه، وقد شرح فقه القرآن الكريم، وربما أتصور أن سيد قطب نتيجة لتأثره الكبير بالأستاذ المودودي كان يرى هذا العالم الذي حدثنا عنه الأستاذ المودودي رحمه الله في أحد كتبه وفي إحدى محاضراته، والذي كان قد قضى فترة طويلة من عمره وهو يحقق مسألة قياس المسافة بين المنبر النبوي وبين قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

فيقول الأستاذ المودودي : كان أولى بهذا العالم بدل أن يبذل جهده في هذه المسألة مع أنها قضية علمية قد تفيد في نواح أن يبذله في قضايا أكبر وأهم، فهو يريد من الفقهاء أن يكونوا علماء عصرهم في الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حكم الله؛ لأنه لا معنى لأن أتحدث عن أحكام الإسلام، وأن أضع قانوناً مدنياً وقانوناً جنائياً وأغوص في هذه الأمور، ثم أجد أن النظام نفسه يمشي في طريق إبادة القيم الإسلامية، والحياة الإسلامية، والقضاء على الإسلام كله، فهذه الناحية هي التي انتبه إليها سيد قطب ، وكأنه يدعو العلماء بأن يكونوا رجال حركة ورجال فكر، وألا يضيعوا جهودهم في بحث المسائل النظرية والمجتمع يتخاطفه الملحدون أو الغربيون والمبشرون. هذا تعليق الدكتور إبراهيم الكيلاني .

رؤية البوطي لمنهج سيد قطب

الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أيضاً علق على قضية المنهج التي سردها الدكتور جعفر شيخ إدريس فقال: لقد كنت أوثر ألا أتكلم، ولكن عرض ما دعاني إلى الكلام، وسأبدأ بالنقطة الثانية التي نبهني إليها كلمة أخي الدكتور إبراهيم الكيلاني ، وإني لا أرى أن نحاول تبرئة الأستاذ سيد قطب من الخطأ، وأن نحاول أن نجعل مكانته التي تبوأها دون تكلف منا محاطة بهالة من العصمة.

فموضوع التفريق بين المجتمع والفرد فكرت فيه كثيراً، ومنذ أمد طويل، واتهمت نفسي بعدم الفهم؛ إذ كيف يمكن أن نقول: إن هذا المجتمع مسلم لكن أفراده غير مسلمين؟ أو أن نقول: إن هذا المجتمع مجتمع كافر، ولكنه أفراده مسلمون؟ فالمجتمع في الحقيقة هو الفرد المتكرر، وإذا أسقطنا الأفراد من المجتمع فالمجتمع وعاء فارغ، وعلى ذلك فهذه الكلمة لا ينبغي أن تقال، وهذا الشعار لا ينبغي أن يرفع على جلالة قدر الرجل، فالمجتمع مسلم؛ لأن في أفراده الكثير من المسلمين. هذه أيضاً ممكن يكون فيها شيء من التحفظ؛ لأنه ممكن الآن يطلق وصف الكفر على المجتمع باعتبار نفس الأحكام السائدة، الحكم مثلاً بالقوانين الوضعية، هذه نقطة، والكلام على آحاد الناس نقطة أخرى.

كذلك يمكن للإنسان أن يتلذذ بفعل من أفعال الكفر لكن لا يكون بذلك كافراً؛ لأن حكم الكفر لابد فيه من وجود شروط وانتفاء موانع أشرنا إلى بعضها من قبل، فقد يكون هناك تحفظ على هذا التعبير من الدكتور البوطي .

ثم يقول: وأكبر دليل على الخطأ الذي ينطوي عليه الشعار: الواقع الذي أخرجه هذا الشعار نفسه، فانظر إلى الشباب الذين تأثروا بهذا الكلام في أي واد ساروا؟ وفي أي متاهة ضاعوا؟ كم من شباب رأيناهم آثروا ليس العزلة كما قال المتحدثون بل آثروا الانقطاع عن الجُمعات لا الجماعات، وعندما ناقشت كثيراً منهم قالوا: نحن في عصر جاهلي، وهذا المسجد وإمامه وخطيبه والذين فيه لا يمثلون المجتمع الإسلامي.

إذاً: هؤلاء الشباب لم يفهموا المجتمع بالشكل الذي فهمه أخي وصديقي الدكتور إبراهيم الكيلاني ، يشير إلى قوله: إن الشباب هم الذين أساءوا فهم الكلام، أما هو فلم يقل هذا الكلام رحمه الله، يقول: وحسن الظن في الناس خير من التورط في إساءة الظن بهم، وهذا شرط أساسي في مد الجسور المتواصلة بيننا وبين الآخرين في نطاق الدعوة إلى الله عز وجل.

يقول: وهذا يذكرني بالكلمة التي قالها أخي عندما قال: إن هذا العمل كفر، ولكن لم يسم العامل كافراً، كيف هذا يا أخي؟! هل يوجد عمل من دون عامل؟ العمل عرض ولا يستقيم العرض إلا بجوهر كما قالوا، ولذلك فنحن لا نكفر العمل حتى نكفر العامل، ويكفينا أن نقول: إن هذا خطأ يستلزم التوجيه والإرشاد، ونحن أيضاً نقول: إن هذا خطأ يستلزم شيئاً من التصحيح؛ لأنه يمكن فعلاً أن نطلق على الفعل بأنه كفر، لكن كما سبق أن عبرنا عنه بعبارة التفريق بين كفر النوع وكفر العين، فنوع الفاعل كفر، لكن الذي قال بالفعل لا يشترط أن يكون كافراً، وأشهر مثال على ذلك: الإعراض بالتأويل أو بالإكراه أو بالجهل كما سنبين إن شاء الله فيما بعد.

رؤية محمد سليم للعزلة في منهج سيد قطب

أيضاً كان من المعلقين في الندوة الدكتور محمد سليم العوا ، وقد أطال في النقاش في قضية: هل توجد إمكانية تكوين جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم أم لا؟ لا نطيل بذكر هذه القضية.

كذلك ناقش عبارة: ما إن نفضنا أيدينا من دفن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، وحديث حنظلة : (ساعة وساعة)، فنتجاوز هذه النقطة لكن يقول: هذه العبودية كما أشار إليها الأستاذ سيد قطب رحمه الله قاعدة من قواعد المجتمع الإسلامي، وهي مفقودة في المجتمعات الإسلامية الحالية، ولهذا وجب أن عصمة المؤمن تنشئ لذاتها عزلة شعورية وحقيقية عن المجتمعات التي تعيش فيها، عزلة شعورية تنشأ عنها عزلة كاملة في علاقته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائياً عن بيئته الجاهلية حتى لو كان يأخذ ويعطي مع بعض المشركين، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر.

يقول: ومسألة العزلة هذه قد نشأت عنها تطورات فكريات كثيرة بالغة الخطورة أدت إلى ما نعرفه اليوم في ظاهرة الصحوة الإسلامية بالتطرف، وإلى ما عرفه الناس بجماعات التكفير والهجرة، مع أنهم يطلقون على أنفسهم: جماعات المسلمين، وكذلك جماعات أخرى كثيرة يحفل بها باطن الأرض الإسلامية تظهر حيناً وتختفي أحياناً.

يقول: ولقد كنت أتمنى من الأستاذ الدكتور جعفر أن يقف عند هذه المسألة، ويبين فيها قولاً يشفي بعض الصدور، ويريح بعض القلوب. فهو يلوم الدكتور جعفر أنه لم يفصل في قضية العزلة الشعورية، وأثرها على واقع الدعوة الإسلامية.

ثم يذكر الدكتور جعفر بأن ما فهمه من أن عدم قيام المجتمع الإسلامي في نظر الأستاذ سيد قطب لا يعني ما يعنيه ظاهر كلامه من انقطاع الأمة المسلمة، فيقول: إن قول سيد قطب بافتقاد المجتمع الإسلامي، وانقطاع الأمة اصطلاح خاص بـسيد قطب ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا نعتبره مسئولاً عما قام به بعض الشباب من اعتقاد: بأن عدم اتصاف المسلمين المعاصرين بشروط المجتمع المسلم، يعني: عدم اتصافهم بالإسلام ذاته.

يقول الدكتور محمد سليم : هذا فهم لبعض الشباب لا يقره الدكتور جعفر باعتبار أنه لا يستلزم كلام سيد قطب ، ولا يلزم منه، ولا ينبني عليه، ولكن قراءته للمعالم تفيد غير الذي أفاده هذا البحث، فالأستاذ سيد قطب في المعالم رحمه الله يقول: ينبغي أن يكون مفهوماً لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم بذلك شهادات الميلاد. هو بهذا الكلام أيضاً يأخذ على الدكتور جعفر أنه قال: إن هذه مسألة اصطلاحات، وسيد قطب لم يقصد هذا الكلام على حقيقته، وإنما أتى من بعده أساء فهم كلامه، يعني: فهم الذين أحدثوا هذه النتوأت الفكرية لسوء فهمهم، وهو هنا يقول: لا، ليست هذه مجرد اصطلاح، لكن هذا الكلام واضح ومباشر في عبارة يذكرها هنا عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وهي قوله: ينبغي أن يكون مفهوم أصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين.. والحقيقة أن هذه الكلمة يقشعر لها البدن: إعادة إنشاء هذا الدين، بل نقول: لتشديد شباب الدين، ولتشديد الدين وليست إعادة إنشاء هذا الدين، فيجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم بذلك شهادات الميلاد، يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولاً إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمضمونها الحقيقي، وهو رد الحاكمية لله بالأمر كله. يقول هذا في (ص:35) من المعالم.

ويقول في (ص:36): ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام، فإذا دخل في هذا الدين -في مفهومه الأصيل- عصبة من الناس، فهذه العصبة يطلق عليها اسم المجتمع المسلم، وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه، كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها آياته الواقعية في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي، وهذا المنهج يعتبره سيد قطب رحمه الله هو المنهج الوحيد في العودة إلى حياة إسلامية، بل يسميه في غير موضع من كتابه: المنهج الرباني في مقابلة المناهج البشرية، أو الطاغوتية التي يرفضها ولا يقبلها. وهذا أيضاً من مواضع التحفظ التي ذكرها الباحث على هذه القضية.

تطور فكر الاستعلاء في منهج سيد قطب

يقول الدكتور محمد سليم : ومن هنا جاءت مسألة الاستعلاء التي عرج عليها الدكتور جعفر بسرعة شديدة، لا تتفق أهميتها، ولا تتفق آثارها في عقليات الشباب المعاصرين الذين نراهم كل يوم في المساجد والمدارس والجامعات، والذين نصفهم بأنهم يتخذون من الاستعلاء شعوراً داخلياً بالقوة الذاتية، والقدرة على تغيير المجتمع الكافر إلى مجتمع صالح، ولا يتخذون -يعني: هؤلاء الشباب- من الاستعلاء شعوراً بأن أسلحة الإيمان أمضى وأقوى وأتقى من أسلحة الكفر، وإنما يتخذون من الاستعلاء طريقاً إلى نوع من الكبر حتى على آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم ومشايخهم.

الحقيقة هذا نلمسه في كثير من الناس الذين نزعوا إلى اتجاهات التكفير ينتبهون جيداً لقضية الاستعلاء، لكنهم ينحرفون بعيداً إلى أن يصل الاستعلاء إلى حد الكبر والغرور والتعالي على خلق الله، ولا يراعون إلى أحد حقاً في ذلك، بل حتى نسمع أن بعضهم قد يصل إلى قتل أبيه مثلاً أو ضربه كما تنبأ بعض السلف، قال: يقل العلم، ويفشو الجهل، حتى ليرفع الرجل سيفه على أمه من الجهل؛ فقضية الاستعلاء تجاوزت عند كثير من هؤلاء. ومجرد الاستعلاء بمعانيه الصحيحة هو: الاستعلاء على مناهج الكفر من باب: أن الإسلام يعلو ولا يعلى، لكن الاستعلاء هنا أدى إلى نوع من التكبر والاغترار في التعامل مع الآخرين.

يقول: وإنما يتخذون من الاستعلاء طريقاً إلى نوع من الكبر حتى على آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم ومشايخهم؛ لأن هؤلاء الآباء والأمهات والمعلمين والمشايخ لا يتفقون معهم في بعض نظرتهم أو كلها، ولا يتفقون معهم في المنهج الذي يتخذونه لإعادة الإسلام إلى الأرض، وهذه السنة في التفكير، وهذه الطريقة في التصور تحتاج من الدعاة والعلماء والمفكرين والمربيين إلى مزيد تبصر، وإلى تعمق في معالجتها.

فهذا أيضاً التعريج على قضية الاستعلاء، وكيف انحرفوا بها في الواقع العملي.

والشيء المؤسف: أننا نلاحظ في قضية الاستعلاء هذه القسوة والغلظة، فقد لاحظنا من بعض اتجاهات التكفير -أنا ما أقصد اتجاهاً معيناً- عند التعامل مع غير المسلمين يكونون في بشاشة، وتسامح، ورقة، ولطف، وكان بعضهم معنا في الكلية يتعامل مع الفتيات المتبرجات، ويبتسم لزملائه في الكلية ممن لا دين لهم أصلاً، ثم تكون الشدة والغلظة والصلابة مع إخوانه الذين يعملون في نفس الحقل معه في الدعوة لكن يخالفونه مثلاً في فكره، فأخيه الذي يعمل معه هو أطوع لله من المتبرجة أو من الشاب المنحرف، فإن كنت تحب لله وتبغض لله، تريد أن تنصف حتى لو اختلف معهم، كيف تسوي من يوحد الله.. من هو على علم أكثر بالتوحيد.. من يدعو إلى الله، ويعمر المساجد بصلاة الجماعة وغير ذلك من الأعمال الصالحة، ويكون حظه منك هذه الغلظة وهذه الصلابة، هذا فيه شبه من الخوارج، بل هو بالضبط وقع منه كما وقع من الخوارج، لاحظنا في بعض الأوقات أن الأمر وصل في جماعة من الجماعات المنحرفة والتي تسمى بجماعة المسلمين أتباع شكري مصطفى وجدنا قسوة وغلظة وصلابة لم نجد لها نظير إلا عند الخوارج أسلافهم الأقدمين، وجدنا محاولات التصفية الجسدية كثيرة جداً، وقد حصلت محاولات القتل بالنسبة لكثير من الذين كانوا معهم بالذات، وخرجوا على فكرهم، واهتدوا إلى منهج أهل السنة والجماعة، محاولات القتل والتصفية الجسدية والإرهاب الشديد لهؤلاء لمجرد أنهم خرجوا على جماعتهم؛ لأن عندهم الخروج من جماعتهم يعني الكفر والردة عن الإسلام.

الحقيقة: أن الذين وجدوا في أنفسهم بعض الشيء من هذه السلسلة من الدراسات لابد أن يراجعوا أنفسهم؛ فقضية الإسلام والحفاظ على الحقيقة في صورتها الناصعة أعلى وأغلى وأهم بكثير من بعض العواطف؛ إذ القضية قضية أمانة، ثم قضية الانحراف والتكفير لا تنحصر فقط في داخل القفص الصدري وداخل القلب، لكنها تنعكس في السلوك مع الآخرين، انعكست في استحلال الحرمات، كثير من الناس بسبب الحكم بأنهم كفار سرقوا منهم بناتهم، خطفوا زوجاتهم وزوجوها بآخرين، هل هذا يرضي الله؟ وهذا قابل أن يتكرر بين فترة وأخرى، قضية التكفير ليست قضية نظرية، وليست ضرباً من الترف الفكري، لكن إذا لم تضبط يترتب عليها مصائب ومحن ذقنا جميعاً ويلاتها، ولعل أبرز مثال على ذلك مثلاً: قتل الشيخ الذهبي رحمه الله، فمهما حصل الخلاف معه، أو أخذ عليه شيء من الأشياء هل هو مرتد وكافر بحيث يستحل دمه بهذه الطريقة التي حصلت إن كانوا هم فعلاً قد قتلوه؟ فالحقيقة هذا الأمر لا يقف عند حد الخلاف النظري أو الطبق الفكري، لكنه ينعكس على الواقع في التعامل مع الناس، نجدهم في بعض الجماعات ينكرون على من يذهب لصلاة الجماعة، بالأمس فقط وللمرة الثانية أحد الإخوة في المسجد يشكو شكوى مريرة من بعض من يعمل معهم يمنعونه من صلاة الجماعة: أنت ممن يصلون في المساجد؟ أتى بمنكر من القول وزوراً؛ لأنه يصلي في المساجد، أين عقول هؤلاء؟ دعوتكم تقوم على تخريب بيوت الله؟! ماذا يبقى من الإسلام إذا هجرنا المساجد وخربناها؟

فالحقيقة الأمر ليس بالهين، لأن له ما بعده من استحلال الأعراض، والدماء، والأموال، وتخريب بيوت الله عز وجل، وفوق ذلك كله: إكفار المسلمين والحكم عليهم بالخروج من هذه الملة.

أثر السجن على كتابي الظلال والمعالم

يقول الدكتور محمد سليم : ولقد كنت أتمنى أن يعرج الباحث -أي: الدكتور جعفر - على أمرين، وذلك عندما تحدث عن أهمية كتاب المعالم.

الأمر الأول: أن الأستاذ سيد رحمه الله في نهاية مقدمته للكتاب قرر أن هذا الكتاب لا يتضمن كل معالم الطريق، وإنما يتضمن بعضها، وهو يسأل الله أن يعينه على إخراج عدد آخر من المعالم، وعلى ذلك يكون ما ذكر في كتاب المعالم إنما هو ما استطاع سيد قطب رحمه الله في حياته المقدرة التي ابتترت باستشهاده أن يقدمه للناس. مع تحفظ على كلمة ابتترت، فنحن أهل السنة والجماعة نعتقد أن المقتول ميت بأجله، فهو أجله المكتوب أنه يموت (تنوعت الأسباب والموت واحد)، فما يليق أن تستعمل عبارة: ابتترت، يعني: أنه مات قبل أوانه، كما يقال: المولود المبتتر الذي هو غير ناضج، يعني: الذي يولد قبل أن يتم تسعة أشهر في بطن أمه، هذا التعبير غير مقبول، فلكل أجل كتاب، فهذا الأجل سبق أن كتبه الله عز وجل وقضى به، فما نقبل كلمة ابتترت بالشهادة، فلقد عهدناه رحمه الله رجاعاً إلى الحق قبالاً بالنقد، يشهد بذلك النظر في طبعتي الظلال الأولى والثانية، وهذه فعلاً ظاهرة حقيقية أن الأستاذ سيد رحمه الله كان إذا نبه على شيء من الخطأ فوراً يرجع عنه ويعدله فيما بعد أو ما أمكنه ذلك، وهناك بعض الأشياء التي كانت أخذت عليه، وهو مثال من الأمثلة المشهورة، وأنا أنبه عليه حتى إذا ما سمعتم من يأخذ عليه هذه النقطة يجاب بالجواب الذي نذكره، ففي الطبعة الأولى في تفسير سورة الحديد حكى بعض العبارات فهم بعض الناس من عمومها القول بوحدة الوجود، فلما نبه رحمه الله على ذلك في الطبعة الثانية مباشرة رجع عن ذلك، وعاد إلى الحق في هذه المسألة، وأتى بالعبارات الصريحة التي تذهب هذا الإيهام رحمه الله تعالى.

الأمر الثاني: مسألة الظروف التي كتبت فيها المعالم، بل الظروف التي كتبت فيها الطبعة الثانية من الظلال التي استخرجت منها أربعة فصول بالغة الأهمية من فصول المعالم.

لقد كتبت الطبعة الثانية من الظلال وكتب المعالم كله بعد محنة ألف وتسعمائة وأربعة وستين التي تعرضت لها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والتي كان ينتمي إليها سيد قطب رحمه الله، هذه المحنة وظروف السجن الذي قضى فيه عشر سنوات ما أثرها في فكره؟ ما أثرها في تعبيره؟ وما أثرها في اختياره للمنهج؟ وما أثرها في حكمه على المجتمع داخل السجن وخارجه؟ ثم ما أثرها في تأثير في هذه الطليعة المؤمنة -كما سماه- وهذه الجماعة من الناس؟ ذلك التأثير الذي أشعرهم أنهم وحدهم الأمة المسلمة، وإن لم يكن هو قد سماهم نصاً الأمة المسلمة وحدهم دون سواهم، لكنه سماهم في غير موضع: الجماعة المؤمنة والأمة المؤمنة .. إلى آخره.

هاتان المسألتان كنت أود أن يشير إليها الدكتور جعفر وليته يفعل حين يعيد النظر في ورقته تمهيداً لنشرها، والحمد لله رب العالمين.

معادلة التنظير في منهج سيد قطب

هنا الدكتور عبد الحميد أبو سليمان علق أيضاً على بحث قضية المنهج للدكتور جعفر شيخ إدريس ، وتكلم عن قضايا التنظير ومعادلة التنظير في الفكر الإسلامي، بأن القول بالمرحلة المكية وأنها كانت فقط عرض للعقيدة قول غير صحيح، ثم ذكر أدلة تثبت أن القرآن المكي اشتمل على قضايا أخرى غير العقيدة مثل قوله: إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى) )[العلق:6] * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) )[العلق:7] ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) )[الهمزة:3] ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ) )[القلم:14] ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) )[الماعون:1] * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) )[الماعون:2]، إلى آخره.

ثم قال: الذي أريد أن أقوله: إن سيداً رحمه الله كان منهجه يتلخص في الجمع بين الثقافتين، واتساع هذه الثقافة، والتدرج في التنظير، وعرض معالم الصور الجديدة، فهو يعتذر عن بعض الملاحظات التي أخذت أنها كانت من باب التفرد في التنظير.

يقول: وأي فهم لفكر سيد خارج هذا النطاق هو خطأ وقع فيه تلامذة ابن تيمية الذي كان قمة في التنظير، يعني يقول: كما وقع بعض تلامذة ابن تيمية في ذلك كذلك وقع في شيء من هذا تلامذة سيد قطب رحمه الله.

يقول: فحين يأتي تلامذته ويرددون أفكاره دون استخدام منهجه، وينادون بالعزلة فهذا خطأ، ولقد أردت التنبيه لإحسان فهم سيد من خلال منهجه، وليس من خلال أفكار بعض الذين يتحدثون عنه.

خاتمة البحث في منهج سيد في كتاب المعالم

أختتم الكلام بتعليق الدكتور جعفر شيخ إدريس على المناقشات حول بحثه، قال الدكتور جعفر حفظه الله: لقد عجبت لبعض الإخوان الذي طلبوا مني أن أتحدث عن كل فكر سيد قطب ؛ لأن طريقتي في البحوث التي تقدم للمؤتمرات أن أتكلم عن جزئية واحدة، فأنا لا أكتب كتاباً، وإنما أكتب بحثاً في حدود عشرين صفحة، ولقد دلتني تجربتي على أنه إذا كان البحث أكبر من ذلك فإنه لا يقرأ، وأنا في البحث أتحدث عن قضية جزئية هي المنهج، والمنهج في كتاب المعالم، وأما: ولماذا كتاب المعالم؟ فلأنه -كما قلت- أكثر الكتب الإسلامية انتشاراً، وأكثرها تأثيراً، لهذا اهتممت به، وكما قال بعض الإخوان: فإنه يمثل مرحلة من مراحل سيد قطب رحمه الله.ومن خصائص سيد قطب في هذا الكتاب أنه ينتقد نفسه، أي: ينتقد المراحل التي تحدث فيها عن العدالة الاجتماعية، ومعركة الإسلام والرأسمالية، وأنا لا أوافقه على ذلك، بل أعتقد أن هذه الكتابات كانت مهمة لما يسميه هو قضية العقيدة. وهذا مثل قول بعض العلماء: إن شيخ الإسلام في آخر حياته في سجنه الأخير ندم على الوقت الذي أنفقه في المجادلة الكلامية والرد على أهل البدع والمناطقة والفلاسفة وغيرهم، وأنه كان يود لو أنه اشغل هذا الوقت بالقرآن وبتدبر القرآن؛ لما شعر من عظم الفائدة التي فتحت عليه لما خلا بالقرآن، ورد على ذلك بعض الناس وقالوا: لو أن ابن تيمية لم يكتب هذه الأشياء لحرمنا من خير كثير عرفناه من خلال ردوده على هؤلاء.كذلك هنا الأستاذ سيد في مقدمة المعالم انتقد نفسه في المراحل السابقة في كتاب: (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، و(معركة الإسلام والرأسمالية)، والكتابات الأولى. فهنا يقول الدكتور جعفر : أنا لا أوافق على ذلك. ويذكر دليله على أنه لا ينبغي انتقاد هذه المؤلفات الأولى، يقول: كنت قبل أن أقرأ كتب سيد قطب منضماً إلى جماعة سلفية في السودان، وكنت أعرف عنها تفاصيل العقيدة، وما أظن أنه كانت لي مشكلة، ولكن حينما واجهت الشيوعيين وقالوا لي: إن الإسلام ليس فيه نظام اقتصادي .. إلى آخره أصار حكم بأني -وأنا طالب بالثانوية آنذاك- شعرت بالزعزعة، والذي رد إلي اليقين والاطمئنان هو كتابات سيد قطب في تلك المرحلة، فالذي أنتقده عليه أنه ظن أن الدخول في هذه التفاصيل من اقتصاد وغيره لا يكون إلا لشيء عملي للدولة، لكنه مهم من الناحية الفكرية كما دلتنا تجربتنا، فأنا لا أتحدث عن كل ما كتب سيد قطب ، وإنما أتحدث عن قضية واحدة في كتاب واحد. ثم قال: إن هذا الكتاب -المعالم- ناقشناه في السودان منذ سنين طويلة؛ لأن السودان في ذلك الوقت كان ينعم بالديمقراطية، ومن دون البلاد العربية الأخرى كما أظن، وكان رد فعل الكتاب واضحاً عند الناس، وكانوا يناقشونه، لذلك قضيت شهرين في جلسات عامة كهذه في الجامعة تناقش كتاب: (معالم في الطريق)، وما أستطيع أن أصف لكم كيف كان رد فعل الطلاب عندما أقول لهم: إن سيد قطب أخطأ هنا وأخطأ هناك. حتى إن أحدهم قال لي بعد أن كبر وتخرج من كلية الشريعة: كنت في البداية لا أقبل شيئاً مما قلت. لكنه بعد التفكير وبعد أن مر بخبرات كثيرة قبل بعض ما قلت، ثم إن هذا أصبح له منهجاً، وأصبح لا يقبل الكلام الذي يقال له في الكلية إلا بدليل، قلت له: لقد قلت لنفسك: ما دام سيد قطب قد أخطأ فمن مالك ؟ ومن الشافعي وغيرهما؟ ومع كل هذا فلا ينبغي أن نقلل من تأثير سيد قطب رحمه الله، سواء تأثيره بشخصه أم بكتبه، خاصة كتاب المعالم.أما مسألة الصحابة فلم أذكرها؛ لأنها مسألة أقرها، ولقد أقرها الدكتور القرضاوي حيث قال: إن بعض الأفراد وصلوا إلى هذه الدرجة. ولكن قد يؤخذ عليه المنهج؛ لأنه علق هؤلاء الشباب بشيء لا يمكن أن يصلوا إليه، وهذا يصيبهم بشيء من الإحباط، وتكلمنا عن هذه النقطة بالتفصيل من قبل. أما مسألة المجتمع الإسلامي فـسيد قطب يعتقد أن الشيء المثالي هو الذي يذكره القرآن، وأنه هو الصورة الوحيدة، وكل ما نقص عنها فليس بإسلام، وهو بذلك علق الشباب بصورة مثالية لا يستطيعون أن يصلوا إليها، وأعطاهم صورة للمجتمع الإسلامي، أو لنظام الحكم الإسلامي ما زالت مؤثرة في كثير من الناس، وكل شيء ينقص عنها فهو ليس إسلامياً، وبذلك لا توجد حكومات إسلامية، ولا مجتمع إسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين كما يرى كثير من الناس.وأقول: إن هذا ضار من ناحية المنهج؛ لأن سؤالاً ملحاً سيظل يسأله الإنسان لنفسه: من أنت؟ ومن هؤلاء الذين يستطيعون أن يحققوا في القرن الخامس عشر ما لم تستطع أن تحققه كل أجيال المسلمين طول هذه المدة مع كل ما نعرف فيها من قمم شامخة في العلم وفي السلوك؟! وأظن أن الذي نهتم به ينبغي أن لا يكون تبرئة سيد قطب رحمه الله مما قال، مع أني لا أدري ماذا كان يعني بالضبط؟ ولكن كلماته إذا أخذناها على ظاهرها تدل على ما قلت، وأهم من ذلك: أن الناس فهموا من هذه الكلمات هذه المعاني التي ننتقدها وفهموها على غير تواطؤ منهم، فقامت عندنا جماعات في السودان في الستينات تقول مثلما قالت جماعات في مصر وفي اليمن من غير اتصال بينهم ولا تعارف، وكان الجامع بينهم هو هذا الكتاب.أما مسألة معابد الجاهلية فأذكر أن بعض هؤلاء الذين كانوا يأتونني كانت أهم قضية يتحدثون معي فيها هي اعتزال معابد الجاهلية -أي: المساجد-، فقلت لهم: والله إنكم شياطين، فأرجى عمل عندي هو أن أذهب إلى المسجد، وأنتم لا تقولون لي: اترك الجامعة، أو اترك السوق، وإنما تقولون: اترك المسجد باعتباره من معابد الجاهلية. فتلك ظاهرة فهمها الناس من فكر سيد قطب ، وتهمنا في تصحيح مسار الحركة الإسلامية.وأقرر أن سيد قطب لم ينكر الفقه ولم ينكر السنة، ولكنه كان يقول: في هذه المرحلة الأولية ينبغي أن لا نهتم بالفقه. نعم إنه تأثر بـأبي الأعلى ، ولكن تأثره بـأبي الأعلى كان بالكتابات الأولى لهذا الأخير، فلـأبي الأعلى كتاب اسمه: (منهاج الانقلاب الإسلامي)، وهو -أيضاً- صورة مثالية لا يمكن أن تتحقق، ولكن لأن أبا الأعلى كان يقود حركة ويعمل ويواجه الناس، الأمر الذي لم يتح للأستاذ سيد قطب رحمه الله الذي ظل طوال المدة مع كتبه ومع فكره، من أجل ذلك فقد غير كثيراً من هذه الأفكار المثالية، ومنهاج الانقلاب الإسلامي الذي كنت أحفظ بعض عباراته وكنت متحمساً لها، مثل: إن الناس الموجودين الآن في هذا المجتمع لا يصلح أحدهم لأن يكون جندياً في المجتمع الإسلامي. وهذه صورة مثالية أخذها سيد قطب عنه، كما أخذ عنه مسألة تفسير (لا إله إلا الله).فـسيد قطب لا يقول فقط: إن المجتمع الذي يستحل ما حرم الله كافر؛ لأن هذه مسألة معروفة، وما كانت تثير جدلاً، ولكنه يقول كلاماً خطيراً، خاصة إذا أخذنا كلماته بظاهرها، وأظن أن مشكلة سيد قطب رحمه الله: أن دراساته الأولى كانت في النقد الأدبي حيث يباح للإنسان الاسترسال، وأن يقول ما شاء من الكلمات؛ لأنه شيء لا ينبغي أن ينبني عليه عمل، وإنما هو يتذوق نصاً أمامه، فهو أولاً لم يكن فقيهاً، لم يكن فيلسوفاً، لم يكن منطقياً، لم يكن قانونياً، تلك كانت دراساته الأولى، لهذا فإني أحذر من أخذ كلماته على ظاهرها، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكل الناس: افعلوا هذا. خاصة في مثل قوله: إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة، فالأمة المسلمة ليست أرضاً كان يعيش فيها الإسلام، وليست قوماً كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.بهذا نكون مررنا على البحث والتعليقات التي كانت عليه.

اتجاهات التكفير.. نشأتها وتطورها

بقي في قضية المنهج عن سيد قطب رحمه الله كلاماً نضيفه من كتاب المستشار سالم علي البهنساوي ، الكتاب يحمل اسم: الحكم وقضية تكفير المسلم، تكلم فيه عن بدء نشوء اتجاهات التكفير في الستينيات، وذكر أن بعض هؤلاء الشباب انتهوا في حماسهم إلى القول بمقاطعة المجتمع الذي يعيشون فيه حتى لو صلى أفراده وصاموا وحجوا، وهذه المقاطعة تتمثل في أمور الانعزال، مثلاً: مقاطعة المساجد؛ لأن الصلاة فيها خلف أئمتها تتضمن الشهادة لهم بالإيمان وهم كافرون.

الهجرة إلى الصحراء أو الكهوف والجبال؛ لأن ذلك هو السبيل الذي سلكه النبي لإقامة دولة الإسلام.

التوقف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المجتمعات كافرة وليس بعد الكفر ذنب، بل عدم المساهمة في أي إنتاج؛ لأن ذلك يؤدي إلى تماسك المجتمع الجاهلي، ثم ذكر أيضاً بعض العبارات التي اعتمد عليها هؤلاء الشباب من كلام سيد قطب رحمه الله في الظلال والموجودة أيضاً في كتابه: المصطلحات الأربعة.

قضية المجتمع الجاهلي الكافر

نحن نفرق بين النظام الذي يحكم إذا لم يتبن قضية الإسلام تبنياً صريحاً وواضحاً، ويرفع راية الإسلام وراية القرآن وراية الشريعة، فهذا كافر -في الجملة- لا شك في ذلك، هذا النظام كافر لا يتبنى الإسلام بل يحاربه ويصد عنه، أما عموم الناس فهذه هي القضية، وهذا هو موضع الخلاف في هذه القضية.

هنا يحاول أن يأتي بعبارات للأستاذ سيد قطب رحمه الله يثبت أنه فهمت خطئاً، وأنه في مواضع أخرى صرح بخلاف ما فهمه هؤلاء الشباب.

قضية المسلم واعتزال المساجد

يقول: إن اعتزال المساجد أمر من مقومات الإسلام عند هؤلاء، وحتى يكون إسلامك صحيحاً لابد أن تعتزل المساجد؛ لأن هذه المساجد هي معابد الجاهلية، والذين يصلون فيها قد ارتدوا عن الإسلام، وبالتالي الصلاة معهم شهادة لهم بالإيمان وهم كفار، إن هذا الفكر يقوم على دعامتين:

الأولى: حتمية التسليم بأن مجتمعات المسلمين في عصرنا مجتمعات الجاهلية.

والثانية: أن النتيجة هي حتمية اعتزال المجتمعات وفي مقدمتها المساجد؛ لأنها معابد هذه الجاهلية.

والقوم يظنون أن هذا هو منهج الجماعة الإسلامية بباكستان، وينقلون عن الأستاذ المودودي رحمه الله قوله في المصطلحات الأربعة: إن معرفة الرجل بمعاني هذه المصطلحات قد شابه الغموض، ولذا فهي معرفة ناقصة، وتلبس عليه كل ما جاء به القرآن من الهدى والإرشاد، وتبقى عقيدته وأعماله كلها ناقصة مع كونه مؤمناً بالقرآن، هذه النظرة ما كان لنا بها عهد إلا قريباً في القرن الثالث عشر الهجري. الوحيد الذي نعلم أنه صرح بشيء من هذا هو الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد عن أدران الشرك والإلحاد، كتيب صغير معروف ومطبوع، ولفظ عبارته بنفس هذا المعنى الذي ذهب إليه المودودي في مقدمة المصطلحات الأربعة، يعني: أن من شهد الشهادتين دون أن يدرك كل هذه المعاني لم يدخل أصلاً في الإسلام، ويعتبر كافراً أصلياً، وليس كافراً مرتداً.

قضية اعتزال معابد الجاهلية

شرع الأستاذ سالم البهنساوي في مناقشة قضية سيد قطب ، واعتزال معابد الجاهلية، يقول: غير أن الشهيد سيد قطب رحمه الله في تدبره لقول الله تعالى -وهذا تعبير جيد عندما يقول: في تدبره، ولا يقول: في تفسيره، فهو نوع من التدبر والتفكير قد يصيب وقد يخطئ-: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) )[يونس:87]، يقول رحمه الله: وتلك هي التعبئة الروحية إلى جوار التعبئة النظامية، وهما ضروريتان للأفراد والجماعات، وبخاصة قبيل المعارك والمشقات، ونرى أن هذه التعبئة لا شيء يمنعها، فإن كان بنوا إسرائيل قد اضطهدوا ولم يستطيعوا ممارسة العبادة علانية في المجتمع، فأمرهم الله بالصلاة في البيوت، فلا يوجد ما يمنع المسلم اليوم من أن يفعل ذلك بالنسبة لصلاة النوافل؛ إذ من السنة أن تصلى في البيت، أما الفرائض فلا تصلى في البيوت في عصرنا إلا إذا كانت هناك فتنة ..... إذا كانت المساجد في عصرنا مخصصة لنوع من العبادة التي كانت تمارس في معابد الجاهلية مثل عبادة الأصنام والأوثان، وهذا لا وجود له بالمرة، ومثل هذه المقارنة بين المساجد في عصرنا ومعابد الجاهلية التي كانت قائمة في زمن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يكون لها كلمة غير صحيحة، أو يكون لها عمل أو اعتبار إذا كان الرسل وأتباعهم قد شاركوا الجاهليين والوثنيين في عصرهم العبادة في هذه المعابد، ولكن المصادر والكتب السماوية حتى ما حرفوه منها تنفي وجود هذه المشاركة، فلم تكن هناك مشاركة في دور العبادة. يعني: بنوا إسرائيل لما أمرهم الله أن يتخذوا بيوتهم قبلة، بسبب ضغط واضطهاد فرعون لهذه العصبة المؤمنة، هل كان بنوا إسرائيل في أماكن العبادة هذه يشتركون مع الفراعنة في العبادة، أم كان هناك انفصال؟ يقول: فالأصل العام الموحى به لجميع الرسل هو الوارد في قول الله لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163].

والذي يمكن أن يقال: هو أنه إذا ظهرت فتنة أدت إلى اضطهاد من يغشون المساجد، وتعقبهم في أنفسهم بالاعتقال والحبس، أو في أموالهم بالمصادرة، وأعمالهم بالفصل؛ فلا تثريب على الفئة المضطهدة أن تعتزل المساجد وتصلي في البيوت، لا تأسيساً على أن المساجد هي معابد الجاهلية، بل استناداً إلى الرخص المخولة للمسلم عند الضرورة والإكراه، يعني: أن من يأتي الأمور على اضطرار ليس كمن يأتيها على اختيار، فهو قلبه معلق بالمساجد، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، فهو قلبه معلق بالمساجد، يود أن يخرج إلى المساجد، لكن حصل ظرف من الاضطهاد والتنكيل بالشباب أو الإسلاميين، كما حصل في بعض الأوقات، فقد كانت تأتي الشرطة، ويأخذون من في المسجد إلى المعتقل بدون جريرة سوى أنهم يقولون: ربنا الله.

فمثل هذه الحالات إذا أراد إنسان أن يترخص في الصلاة في البيوت بسبب خوف، فمثل هذا يعتزل المسجد لأجل هذه الرخصة فقط، والأفضل أن يأخذ بالعزيمة، لكن يباح له ذلك، لا من حيث إن المسجد هو معبد من معابد الجاهلية يستوي مع الكنيسة ويستوي مع معابد البوذيين والهنود والمشركين كلا، كيف يقال هذا؟ وكيف نستطيع أن نبتلع مثل هذا التعبير؟ كيف تكون المساجد معابد الجاهلية؟ كيف تكون دعوى تؤسس على تخريب بيوت الله ثم نلتمس منها الهدى؟

قضية معابد الضرار أو الجاهلية

ثم يقول البهنساوي تحت عنوان: معابد الضرار أو الجاهلية.

إن مقصود سيد قطب من قوله: اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المؤمنة مساجد، لم يطلقه الشهيد أو يلقي القول على ..... بل وضح المناسبة وهي قوله: وقد يجد المسلمون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة، فهنا يرشدهم الله إلى أمور منها: اعتزال معابد الجاهلية.

فوصف الأستاذ سيد المساجد بكلمة معابد الجاهلية. هذا يتطلب أن يكون هناك اضطهاد ومطاردة للمؤمنين، وأن يكون المجتمع قد نتن وفسدت بيئته مع تجبر الطاغوت كما كان الأمر في عهد فرعون.

إن هذه مبررات القول باعتزال معابد الجاهلية، فهذا مثل وصف مسجد المنافقين بمسجد الضرار في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) )[التوبة:107] * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ) )[التوبة:108]، فقد نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه لأنه مسجد للضرار، كما أن الله تعالى قد وصف صلاة الجاهلية بقوله: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال:35].

ونحن قد نجد بعض الحكام قد اتخذ من بيوت الله أداة لأعمال الجاهلية من تصفيق وهتافات له ولجاهليته، وهنا يجب اعتزال هذا المسجد، وعن وصفه بأنه من معابد الجاهلية. لا نقر على هذه التسمية، ولكن الاعتزال هنا أمر مباح، ويقدر حسب حالة كل شخص، ولهذا ننقل ما كتبه العلماء عن أسباب نزول الآية محل الخلاف، يعني: هذه العبارات قد يقول فيها: نظر. كان في وصف من الأوصاف يكفي لوصف المسجد أنه مسجد ضرار، ويجب اعتزاله لأنه من معابد الجاهلية، يعني: بيت أسسه مثلاً رجل لوجه الله من ماله، وقف أرضاً يبنى عليها مسجداً وبذل المال في سبيل الله ليبنى به، جاء المحافظ أو الوزير أو أي واحد من الظالمين ووضع يده على المسجد، وعلق رخامة مثلاً مكتوب عليها: افتتح في عهد السيد الرئيس كذا أو المحافظ كذا مثلاً وعلقت الرخامة، هل يكفي هذا أن ينقلب عمل هذا الرجل أن يكون مسجد ضرار أو معبداً من معابد الجاهلية؟ إذا ذهب عبد الناصر صلى مثلاً في مسجد عمرو بن العاص ينقلب المسجد لوجود عبد الناصر ووجود سفهاء يصفقون له في المسجد لأنه صار معبد جاهلية! فهذا أيضاً من الغلو، والله أعلم.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابعة والثمانين من سورة يونس: يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتخذاا لقومهما بمصر بيوتاً، واختلف المفسرون في معنى قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ، فقال الثوري وغيره: عن ابن عباس : وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:87] قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.

وقال الثوري أيضاً عن منصور عن إبراهيم : (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ))، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.

يقول الحافظ ابن كثير : وكان هذا -والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، فأمروا بكثرة الصلاة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) )[البقرة:153].

وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى)، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ))، أي: بالثواب والنصر القريب، معناها (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً )) ؟ أكثروا من الصلاة وذكر الله في البيوت، واستعينوا على هذا البلاء بأن تكثروا الصلاة في البيوت، واضح؟

وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة.

قال مجاهد : (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ))، لما خاف بنوا إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا بأن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً.

وقال سعيد بن جبير : (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ))، أي: يقابل بعضها بعضاً.

أما القرطبي رحمه الله فيقول في تفسيره: الآية فيها خمس مسائل:

الأولى: قوله: (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا )) أي: اتخذا (( لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا )) يقال: بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً، والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلاً، أي: ألزمه إياه وأسكنه، ومنه الحديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

قال الراجز:

نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك

ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا )) هي الإسكندرية في قول مجاهد ، وقال الضحاك : إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان والإسكندرية من أرض مصر.

قوله تعالى: (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ))، قال أكثر المفسرين: كان بنوا إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، أي: مساجد، ولم يورد المنازل المسكونة، هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وابن مالك وابن عباس وغيرهم.

وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: (( وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ ))، يقابل بعضها بعضاً، والقول الأول أصح، أي: اجعلوا مساجدكم إلى القبلة قبل بيت المقدس، قيل: بيت المقدس وهي قبلة اليهود إلى اليوم وقيل: الكعبة.

ويقول القرطبي أيضاً: المراد صلوا في بيوتكم سراً لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر، واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة والدعاء إلى أن ينجز الله وعده.

ثم ذكر الكلام في قوله عليه الصلاة والسلام: (وجعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً)، وحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته بعض الركعات صلاة التنفل، وأيضاً تكلم على مسألة القيام في رمضان؛ أيهما أفضل: هل في رمضان يصلي القيام في البيت، أم في المسجد؟ ثم تكلم: وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم النوافل، فإن قلنا: الفرائض أيضاً يصلونها في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم، فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجمعة والجماعة، والعذر الذي أبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن، دون القضاء عليه بحق، والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه وقد فعل ذلك ابن عمر ، يعني: يذكر هذه بعض أعذار التخلف عن صلاة الجماعة.

قوله تعالى: (( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ))، قيل: الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام، وقيل: الخطاب لموسى عليه السلام.

حتمية تأويل أقوال سيد قطب

أخيراً: يقول الأستاذ البهنساوي : حتمية تأويل أقوال سيد قطب ، يقول: ترد وتجد في عبارات الشهيد سيد قطب كلمات الجاهلية والأصول العامة في الإسلام؛ توجب أن تفسر هذه العبارات إذا اتصلت بالمسلمين على أن المقصود بها اعتزال المناهج والتشريعات المستوردة، على أن أساس أن أصلها جاهلي، ولا يترتب على هذا أن يقال: إن المسلمين في عصرنا قد ارتدوا عن الإسلام وأصبحوا كفاراً، ولهذا فعبارة: اعتزال معابد الجاهلية ليست إلا وصفاً لا مدلول له من الناحية الفقهية؛ ذلك أن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم استوجب تأويلها اتفاقاً مع القواعد العامة كما رأينا، فمن باب أولى كلام العلماء والفقهاء، وليس أدل على أن الشهيد سيد قطب لا يريد النتائج والأحكام الفقهية المترتبة على الألفاظ العامة من الخطاب الذي نشره الأستاذ محمد قطب بمجلة المجتمع في العدد (271) الصادر في السابع عشر من شوال سنة ألف وثلاثمائة وخمسة وتسعين هجرية، (21/10/75م) وهو يؤكد ما قلناه، والمجلة أولاً ذكرت مقدمة كتمهيد للمقالة، قالت مجلة المجتمع: دارت حول أفكار الشهيد سيد قطب آراء اكتنف بعضها الغلو سلباً وإيجاباً، ودفع للحوار في طريق أدق أمانة وأكثر إيجابياً كتب شقيقه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد قطب الرسالة التالية، وهو خير من يكتب في هذا الموضوع نظراً لاطلاعه الوافر على أفكار أخيه، ومعرفة مدلول هذه الأفكار بالتالي: ومما هو معروف: أن الشقيقين كانا يتدارسان الإسلام معاً، ويقلبان وجوه النظر في قضاياه وموضوعاته معاً أيضاً، ومن هنا قلنا: إن الأستاذ محمد قطب أقدر على تحديد نقاط الأفكار وآراء واجتهادات الشهيد سيد قطب .

نص الرسالة:

أخي: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإنك تعلم يا أخي ما دار من لغط في محيط الإخوان حول كتابات الشهيد سيد قطب ، وما قيل: من كونها مخالفة لفكر الإخوان أو جديدة عليه، وأحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها حتى لا يكون في الأمر شبهة.

إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معين هو بيان المعنى الحقيقي لـ: لا إله إلا الله، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعنى على حقيقته، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان كما ورد في الكتاب والسنة، شعوراً منه بأن كثيراً من هذه المواصفات قد أهمل أو غفل الناس عنه، ولكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً على أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصوداً به إصدار الأحكام على الناس، وإنما المقصود به تعرفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة، ليتبينوا هم لأنفسهم إن كانوا مستقيمين على طريق الله كما ينبغي أم بعيدون عن هذا الطريق؛ فينبغي عليهم أن يعودوا إليه.

ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول: نحن دعاة ولسنا قضاة، إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام على الناس، ولكن مهمتنا: أن نعرفهم بحقيقة لا إله إلا الله؛ لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي، وهو التحاكم إلى شريعة الله، كما سمعته أكثر من مرة يقول: إن الحكم على الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك، وهذا أمر ليس في أيدينا، ولذلك فنحن لا نتعرض لقضية الحكم على الناس فضلاً عن كوننا دعوة ولسنا دولة، دعوة مهمتها بيان الحقائق للناس لا إصدار الأحكام عليهم.

أما بالنسبة لقضية المفاصلة فقد بين في كلامه أنها المفاصلة الشعورية التي لابد أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية، فنحن نعيش في هذا المجتمع وندعوه إلى حقيقة الإسلام ولا نعتزله وإلا فكيف ندعوه؟

تلك خلاصة كتابات سيد قطب ولي على هذه الخلاصة تعقيبات -ما زال الكلام للأستاذ محمد قطب -:

الأول: هو تأكدي الكامل بإذن الله من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف الكتاب والسنة اللذين تقوم عليهما دعوة الإخوان المسلمين. وتعقيباً على هذا نقول: كان ينبغي أن تكون العبارة: أن الميزان الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، بدل أن نقول: كما تقوم عليهم دعوة الإخوان المسلمين، فقبل الإخوان المسلمين ماذا كان الميزان؟ قبل أنصار السنة كيف كان الميزان؟ قبل محمد بن عبد الوهاب قبل ابن تيمية ، قبل هؤلاء جميعاً كان الميزان هو منهج أهل السنة والجماعة، فهذا التعقيب الأول.

التعقيب الثاني: هو تأكدي الكامل أيضاً من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله مؤسس هذه الجماعة، ولما يخالف أقواله، وهو الذي نص في رسالة التعاليم في البند العشرين: على أن المسلم الذي لا يجوز تكفيره هو الذي نطق بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدى الفرائض، وذلك فضلاً عن كون كتابات سيد قطب كما أسلفت لم يقصد بها إصدار الأحكام على الناس وإنما قصده منها كما كان قصد الإمام الشهيد بالضبط وهو بيان حقيقة الإسلام ومواصفات المسلم كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تلك حقائق أرى أن من واجبي أن أبينها وأوضحها أداء للشهادة لله؛ فإننا لا ندري متى نلقى الله، ولا ينبغي لنا أن نلقاه وقد كتمنا شهادتنا عندنا لله، والله الموفق إلى سواء السبيل. أخوك: محمد قطب .

فبهذا نستطيع أن نقول: إننا أنهينا هذا البحث فيما يتعلق بما قيل حول المنهج عند سيد قطب ، وهل هذا المنهج كان له أثر في اتجاهات التكفير أم لا؟ يكفي هذا الاضطراب كله أن نقول: إنه لن يخلو فعلاً من أثر من الآثار سواء قصد أم لم يقصد، سواء أساء الناس فهمه أم لم يسيئوا، فعلى أي الأحوال الذي يهمنا هو كما ذكرنا من بداية الكلام أن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً، فالحق حق في كل الأحوال، والرجل قد يكون محقاً وقد يكون مبطلاً.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

قضية الجماعات المؤمنة

إن موطن الداء في هذه القضية هو الشبهات التي أثارها كل من الشهيد سيد قطب وأستاذنا المودودي رحمهما الله، أو غيرهم ممن يصفون المجتمعات بالجاهلية، فقد علمنا أن هذا الوصف قد يراد به جاهلية الكفر والاعتقاد، كما في قول الله عز وجل: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )[المائدة:50] .

وقد يطلق على المجتمعات المؤمنة، وهنا يراد به جاهلية المعصية والعمل، باختصار هو يذكر مثلاً قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ )[الأحزاب:33]، فلو أن امرأة مسلمة مؤمنة موحدة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لكنها متبرجة، وتصلي إذا جاء وقت الصلاة وتغطي نفسها وتصلي، هل هذه كافرة مثل التي لم تشهد الشهادتين؟ وإذا حدثت تقول: لعل الله يهديني أو يتوب علي .. إلى آخره هي لم تستحل معصية التبرج، ولكنها قبلت عقيدة الإسلام، وشهدت الشاهدتين، هل هذه تعتبر كافرة؟ هذه فيها تبرج الجاهلية الذي جاء في القرآن، لكن هل لأنها متبرجة تصير كافرة بمجرد فعل التبرج وإن لم تستحله؟ فهذا فعل من أفعال الجاهلية، ولذلك ترجم البخاري وبوب لبعض الأحاديث فقال: باب المعاصي من أمر الجاهلية، واستشهد بحديث أبي ذر ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر : {أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية} لكن شكري مصطفى وأشياعه فهموها على أن هذه جاهلية الكفر والخروج من الملة، والمقصود: أن هذا خلق من أخلاق الجاهلية، وفرق بين أن تصف شخص بأنه جاهلي كافر وثني مشرك وبين شخص فيه جاهلية.

والعجيب أنهم انتهوا إلى كفر الإمام البخاري نفسه، كما صنع شكري مصطفى لما قال بنفسه: نقبل الأحاديث ولكن هو كافر، وأي واحد يقول: هناك كفر دون كفر فهو خارج الدائرة تماماً، وكافر وخارج من الملة.

كنت أناقش بعضهم وهو الآن في أعلى المناصب في جماعة التكفير وكان زميلاً لي في الثانوية، وكنت أناقشه في بداية ارتباطي بهذه الجامعة، فكنت أقول له: قال الإمام النووي كان يقول: يطلع ابن تيمية فنقول له: النووي يقول كذا وكذا! يسخر من الإمام النووي رحمه الله تعالى، فالاستخفاف بالعلماء، وتكفير العلماء، وتكفير الأمة منذ قرون عديدة وأنها ما عرفت إسلاماً، وكانت تنتظر حتى تأتي هذه الطائفة المنقذة ويولد الإسلام من جديد، سبحان الله! هذا ضلال مبين، هذا على شدتهم على أهل الإسلام كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام في صفة الخوارج: {يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثا}، فتجد الشدة والغلظة والجفاء مع أهل الإسلام، وتجد الرقة والوداع مع أهل الأوثان.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الإيمان والكفر [23] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net