إسلام ويب

مقدمة في تفسير سورة البقرة

أما سورة البقرة فيقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى:

[بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً موافياً لنعمه، مكافئاً لمزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وجنوده.

وبعد:

فهذا ما اشتدت إليه حاجة الراغبين في تكملة تفسير القرآن الكريم، الذي ألفه الإمام المحقق جلال الدين محمد بن أحمد المحلي الشافعي رحمه الله، وتتميم ما فاته وهو من أول سورة البقرة إلى آخر الإسراء، بتتمة على نمطه، من ذكر ما يفهم به كلام الله تعالى، والاعتماد على أرجح الأقوال، وإعراب ما يحتاج إليه، وتنبيه على القراءات المختلفة المشهورة على وجه لطيف وتعبير وجيز، وترك التطويل بذكر أقوال غير مرضية وأعاريب محلها كتب العربية، فالله نسأل النفع به في الدنيا، وحسن الجزاء عليه في العقبى بمنه وكرمه].

أسماء سورة البقرة وآياتها وأحكامها

سورة البقرة جميعها مدنية بلا خلاف، وعدد آياتها مائتان وست وثمانون آية.أما أسماؤها فتسمى: البقرة، وتسمى فسطاط القرآن؛ لعظمها وبهائها وكثرة أحكامها ومواعظها، تعلمها عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه بفقهها وما تحتوي عليه من الإيمان والعلم والعمل في اثنتي عشرة سنة، أما ابنه عبد الله فقد تعلمها في ثمان سنين. يقول الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: سمعت بعض أشياخي يقول: في سورة البقرة ألف أمر، وألف نهي، وألف حكم، وألف خبر.

فضائل سورة البقرة وخصائصها

قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (إن لكل شيء سناماً، وإن سنام القرآن سورة البقرة). إن الإشارة إلى فضيلة سورة البقرة مما يشجعنا على مزيد الاهتمام، واعلموا أن من تيسر له حفظ سورة البقرة سهل عليه ما عداها من القرآن الكريم، وهذه من خصائص سورة البقرة. يقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم؛ فإن الشيطان لا يدخل بيتاً تقرأ فيه سورة البقرة). وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة). ويقول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، واقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، واقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، تلاحظ التدرج في الحديث، القرآن كله أولاً، ثم الزهراوين، ثم البقرة وحدها، يعني: إما أن تحفظ وتقرأ القرآن كله، وإن كان ولابد دون ذلك فتقرأ الزهراوين البقرة وآل عمران، فإن كنت لا تستطيع فعليك بسورة البقرة.وقوله: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وجاء في الحديث الآخر: (القرآن شافع مشفع، وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار) فالقرآن شافع مشفع، أي أن القرآن إذا شفع فيمن يكثر تلاوته أو يحفظه فإن شفاعته لا ترد. وهناك سورة في القرآن ثلاثون آية، ما زالت تحاج عن صاحبها حتى أدخله الله الجنة، أو حتى غفر الله له، وهي سورة تبارك، فهي المانعة التي تمنع من عذاب القبر. إذاً: القرآن شفيع لأصحابه الذين تطول صحبتهم وتطول صلتهم بكلام الله تبارك وتعالى.قوله: (اقرءوا الزهراوين) يعني: المنيرتين، ففيه إعجاز وفيه وفرة الأحكام التي تضمنتها هاتان السورتان الجليلتان. (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران؛ فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان -سحابتان- أو غيايتان -الغياية ما أظلك من فوقك- أو كأنهما فرقان من طير صواف) (فرقان) الفرق: هو القطعة من الشيء. يعني: مصطفة.قوله: (يحاجان عن أصحابهما) يعني: الذين يحفظونهما. (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) يعني: السحرة. قال بعض العلماء: لا يمكنهم حفظها، أي: لا يستطيع الساحر أن يحفظ سورة البقرة، وقال بعض العلماء: المقصود من قوله: (لا تستطيعها البطلة) يعني: لا يستطيع سحر البطلة النفوذ فيمن يقرأ سورة البقرة، فقارئها لا يؤثر فيه سحر السحرة. وهناك أحاديث كثيرة في فضيلة بعض الآيات من سورة البقرة كآية الكرسي، والآيتين الأخريين من سورة البقرة، نرجئهما إلى وقتهما بإذن الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (آلم)

قوله: آلم [البقرة:1]، فسرها الإمام السيوطي رحمه الله تعالى بأصح تفسير وأوجز تفسير، قال: [الله أعلم بمراده بذلك].

ويقول القاضي كنعان : [ليس لهذه الأحرف المنزلة في أوائل بعض السور معنىً مستقل بالفهم بالنسبة إلينا، بل إنها نزلت متقطعة وتقرأ كذلك، فهي سر الله تعالى في القرآن كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: (نؤمن بها ونقرؤها كما نزلت)، ولكن ذلك لا يمنع منا التماس الحكمة من نزولها هكذا، فهي تشير إلى الحروف الهجائية العربية التي بها نزلت آيات القرآن تعجيزاً للعرب؛ لأنهم زعموا أن محمداً صلى الله عليه وسلم يأتي بالقرآن من عنده، وهم يعلمون أنه أمي لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، فلو كان زعمهم هذا صحيحاً لكانوا هم أقدر على الإتيان بمثله، بل بأحسن منه؛ لأنهم أهل اللغة، لكنهم عجزوا وبهتوا مع قيام التحدي إلى الآن، ولو استطاعوا لفعلوا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[الإسراء:88] ]، فهذا خلاصة الكلام.

بعض العلماء يعني: جمع جميع الحروف المقطعة في أوائل السور، وحذف المكرر منها، يعني: جمع (الم) مع (حم) مع (عسق) مع، هذه الحروف المقطعة في هذه السور حذف المكرر ثم كون منها جملة، خرجت هذه الجملة التي ذكرها الأخ الفاضل: نص حكيم قاطع له سر، ولكن هذا في مجال الحجاج العلمي لا يعتبر دليلاً علمياً.

وبعض الناس يقول: هذه أسماء للسور، وبعضهم يقول: من أسماء الله تبارك وتعالى، لكن اختيار الإمام السيوطي رحمه الله تعالى هنا هو أفضل ما يقال: (الله أعلم بمراده بذلك)، لكن كما ذكرنا بعض العلماء أشار إلى أن هذه إشارة إلى إعجاز القرآن، واستدلوا بأن أغلب سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة يليها مباشرة إشارة إلى القرآن الكريم، الم[البقرة:1] * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ[البقرة:2]، .. وهكذا.

تفسير قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

(ذلك الكتاب) يعني: هذا الكتاب وهو القرآن الكريم، فيستعمل (ذلك) للإشارة للبعيد، وتستعمل (هذا) في الإشارة إلى القريب، فالقرآن هنا قريب، فما السبب في أن الله سبحانه وتعالى قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:2]، أشار بالبعيد؟

السبب أن (ذلك) تساوي (هذا)، وهذا معهود في لغة العرب التقارب بين هذا وذلك، يعني: أنه يقتضي أن ذلك في موضع هذا وهذا في موضع ذلك، مثلاً قوله تبارك وتعالى: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ[السجدة:6]، ذلك بمعنى: هذا، كذلك في قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ[الأنعام:83]، ( تلك ) بمعنى: هذه، كذلك: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ[البقرة:252]، بمعنى: هذه؛ لأنها قريبة.

كذلك يستعمل العكس يستعمل هذا مكان ذلك، مكان البعيد كقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنبئه في ركوب بعض الصحابة البحر المجاهدين في سبيل الله قال فيهم: يركبون ثبج هذا البحر والمقصود: ذلك البحر، فهنا استعمل (هذا) مكان (ذلك).

فالمقصود: ذَلِكَ الْكِتَابُ[البقرة:2]، يعني: هذا الكتاب.

ومن قال: بل ذلك إشارة للبعيد على ما هو عليه في الأصل قالوا: هذه إشارة إلى بعد درجته وعلو منزلته في الهداية والشرف.

المقصود بالكتاب في قوله: (ذلك الكتاب)

قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ ، ما هو الكتاب؟ هو القرآن الكريم، ولا يصح أبداً أن يقال: إن كلمة (الكتاب) هنا مشار بها إلى التوراة أو إلى الإنجيل، فهذا لا يقبل بحال من الأحوال، بل هي إشارة إلى القرآن الكريم. (ذلك) أي: هذا الكتاب، يعني: الذي يقرؤه محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله: (لا ريب فيه)

قوله تعالى: ( لا ريب فيه ) يعني: لا شك فيه، ريب مصدر رابني، والريب: هو قلق النفس واضطرابها، وقد تستعمل كلمة ريب في الشك مطلقاً، أو مع تهمة، كحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)، فمعنى قوله: ( لا ريب فيه ) يعني: لا ريب ولا شك في أنه نزل من عند الله تبارك وتعالى. والعرب مع بلوغهم النهاية في الفصاحة عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، وقد بلغت حجته في الظهور إلى درجة لا يمكن للعاقل الذي يعي ويفهم أن يرتاب في القرآن، لكن العقل الذي فيه آفة وفيه مرض فهذا هو الذي يرتاب؛ لأن الواقع أن الكفار يرتابون في القرآن. فالمقصود أن العاقل الذي يعي ويفهم آيات الله ويتدبر لا يقع أبداً في هذا الريب. قال بعض العلماء: (لا ريب فيه): هذا خبر بمعنى النهي، يعني: لا ترتابوا فيه، فهذا الخبر المراد به الإنشاء، يعني: لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف على (ريب) يعني: يقرأ: ( ذلك الكتاب لا ريب. فيه هدىً للمتقين ) يعني: ذلك الكتاب لا شك، ثم يقرأ (فيه هدىً للمتقين) فأيهما أولى: أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب) أم أن نقول: (ذلك الكتاب لا ريب فيه. هدىً للمتقين). لو قلت: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) يعني: لا شك فيه أنه منزل من عند الله، وهذا أقوى من أن تقول: (فيه هدى)، ولذلك قال العلماء: الوقف على قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2]، أولى؛ لقوله تعالى: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2].ولأنه يصير قوله: (هدى) صفة للقرآن كله، وذلك أبلغ من كونه فيه هدى، فالأول يدل على أنه كله هدىً للمتقين. يقول: (لا ريب) لا شك فيه أنه من عند الله، وجملة النفي خبر مبتدؤه (ذلك)، والإشارة للتعظيم، ( هدىً ) خبر ثان، أي: ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) هذا الخبر الأول، ( هدىً للمتقين ) خبر ثان.

معنى قوله: (هدى للمتقين) وأقسام الهداية

قوله تعالى: (هدىً للمتقين) المقصود أنه هاد للمتقين، وبعض العلماء قالوا: يحتمل هدىً أن تكون مرفوعة على النعت أو أن تكون منصوبة على الحال. وقوله تبارك وتعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] أي: الصائرين إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وهم يعملون الأعمال الصالحة؛ كي يقيهم ذلك عذاب النار، وأصل التقى في اللغة: قلة الكلام، ومنه قول القائل: التقي ملزم، يعني: لا يتكلم كثيراً.وهنا ملاحظة مهمة جداً: قوله تبارك وتعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، ما نوع الهدى هنا؟ هداية الإرشاد والدلالة، وهذه الهداية يقدر عليها الرسل وأتباع الرسل، فهم يوصفون بأنهم هداة من هذه الحيثية، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] يعني: توضح وتبين وترشد. وقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، (هديناهم) بمعنى: بينا وأوضحنا وأرشدنا. كذلك قوله تبارك وتعالى في سورة الرعد: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد:7] يعني: يبين ويرشد ويوضح ويفهم ويجادل عن الحق، فمعنى هذا النوع من الهدى: هداية الضال باعتبار أنه أُرشد إلى الحق، سواءً حصل له الاهتداء أم لم يحصل. النوع الآخر من الهدى: هداية التوفيق والتسديد، وهو خلق الله تبارك وتعالى الاهتداء في قلب العبد، فالإنسان قد يرى الحق ثم لا يوفقه الله سبحانه لاتباعه كاليهود والنصارى الذين عرفوا الرسول عليه الصلاة والسلام كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون أنه رسول من عند الله، كما كان يعرف أبو طالب أنه رسول من عند الله، وكما كان يعرف فرعون أن موسى رسول من عند الله قطعاً بلا شك في هذا، لكن هؤلاء جحدوا واستكبروا وعاندوا.ففرعون هداه موسى من حيث البيان والإرشاد والتوضيح، لكن هل وفقه الله باتباع الحق؟! هل غرس في قلبه إرادة ذلك الحق وسدده وصوبه؟! لا، فهذه الهداية فضل من الله سبحانه وتعالى يختص بها عباده الصالحين. إذاً: النوع الآخر من الهدى: هو خلق الله سبحانه وتعالى الاهتداء في قلب العبد، يقول تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، وقال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر:37]. قوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] فيه اختصاص للمؤمنين بالهداية الخاصة التي هي البيان والإرشاد والتوفيق والتسديد، وخلق حب الحق والانقياد إليه في قلب هذا العبد، وهذا محض فضل من الله سبحانه وتعالى، وما مفهوم المخالفة لهذه الآية؟ مفهوم المخالفة أن هذا القرآن ليس هدىً لغير المتقين، وإنما هو هدىً للمتقين، فغير المتقين ليس هذا القرآن هدىً لهم، وهناك آيات في القرآن الكريم تؤكد هذا المعنى الذي استنبطناه من مفهوم قوله: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، كقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44]. وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].ويقول تبارك وتعالى أيضاً: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أنذر من يخشى الساعة فقط أم أنذر جميع الناس؟أنذر جميع الناس، لكن لما كان الذين ينتفعون بإنذاره هم المؤمنون المتقون، عبر بذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، وبقوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:11]، مع أنه كان نذيراً للعالمين صلى الله عليه وآله وسلم.ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]. ويقول تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [المائدة:64]، فهؤلاء الكفار كلما ازداد نزول القرآن ازدادوا طغياناً وكفراً، فليس هو -بهذا المعنى- هداية لهؤلاء، إنما هو هداية فقط للمتقين.والهداية هنا ليست بالمعنى الأول للهداية وإنما هي هداية خلق إرادة الحق والتوفيق إليه وتسديده، فالقرآن في نفسه هدى لكن لا يناله إلا الأبرار كالدواء الموضوع في الصيدلية، بعض الناس يأخذه وينتفع به والبعض الآخر يعرض عنه، وبالتالي لا يكون سبباً في شفائه، ويتضاعف مرضه، فهل إعراض هؤلاء عن التداوي بالدواء يقدح في أنه دواء وشفاء؟ لا يقدح، لكن الذي يتعاطاه هو الذي ينتفع به، فلذلك القرآن هو هدى حتى للكفار، لكن لا يناله ولا ينتفع به إلا الأبرار، يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، والمتقون هم الصائرون إلى التقوى بامتثال الأوامر واجتناب النواهي؛ لاتقائهم بذلك النار.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [1-2] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net