إسلام ويب

تفسير قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة...)

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51]، قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فيها قراءتان: هذه قراءة: (واعدنا) وقراءة أخرى: (وعدنا) بدون الألف، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، والمقصود: ليس أربعين ليلة، والأصل: وإذ واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ لأن الله أخبر أنه واعده ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ما في قوله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[الأعراف:142]، فإذاً: المقصود هنا: وإذ واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة، و(موسى) كلمة معناها باللغة العبرانية، المنشول من الماء، ذات مرة موسى عليه السلام، انتشله آل فرعون من الماء وهو في التابوت، فمعنى (موسى) بالعبرية: المنشول من الماء.

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، نعطيه عند انقضائها، التوراة التي تعملون بها؛ لأن الخطاب ما زال موجهاً لبني إسرائيل، (وإذ واعدنا) يعني: واذكروا يا بني إسرائيل! يعني: الوقت الذي واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ حتى نعطيه بعدها التوراة، لتعملوا بها.

قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ، ثم اتخذتم العجل الذي صاغه لكم السامري إلهاً.

أين المفعول به هنا: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ؟ كلمة (اتخذ) تتعدى لمفعولين، أين المفعول الثاني؟

المفعول الأول: هو العجل.

المفعول الثاني: محذوف وتقديره: ثم اتخذتم العجل إلهاً.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ، يعني: من بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى موعد الله سبحانه وتعالى: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ، أي: باتخاذه، ما معنى الظلم في اللغة؟ الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير محله، فهذا يسمى ظلماً، فقوله تعالى هنا: (وأنتم ظالمون) أي: باتخاذه، لوضعكم العبادة في غير محلها، فإن العبادة ينبغي أن توجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

تفسير قوله تعالى: ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك .. )

قال تعالى: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ [البقرة:52] أي: محونا ذنوبكم (من بعد ذلك) أي: من بعد ذلك الاتخاذ، وليس العجل، (من بعد ذلك) الاتخاذ الذي هو يعاتبون عليه، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: نعمتنا عليكم.

تفسير قوله تعالى: ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون )

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53].

ما المقصود بـ ( الكتاب ) في قوله تعالى: (وإذا آتينا موسى الكتاب)؟

(والفرقان) هل هناك كتاب ثانٍ اسمه الفرقان؟ لا، المقصود في هذا عطف تفسير، يعني: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، الذي هو الفرقان فعطف على التوراة عطف تفسير، يعني: والمقصود من ذلك الكتاب الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، فتنزل الصفات منزلة تغاير الذوات، فعطفها عليها، كما يقول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وهنا القاسمي زاد ذلك توضيحاً فقال: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ يعني: الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل كقولك: (رأيت الغيث والليث) فهذا مثال آخر، غير بيت الشعر، فهل معنى ذلك (رأيت الغيث) المطر (والليث) الأسد، أم أنك تقصد مدح رجل بصفتين؟

تقصد مدح رجل واحد في ذات واحدة بصفتين (رأيت الغيث والليث) تريد الرجل الجامع بين صفة الغيث، وصفة الليث، فالغيث صفة الكرم: كان أجود من الريح المرسلة، أي: رجلاً جامعاً بين الكرم والجراءة والشجاعة، ونحو ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ[الأنبياء:48]، ثلاثة أشياء في وصف شيء واحد وهو التوراة، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ[الأنبياء:48] يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً، وضياء وذكرى، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، يعني: لكي تهتدوا بالعمل بما فيه من الضلال.

تفسير قوله تعالى: ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم ... )

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].

قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ لمَنْ مِنْ قومه؟ للذين عبدوا العجل من قومه؛ لأن بني إسرائيل ليسوا كلهم عبدوا العجل، فسبط: (بني لاوي) لم يعبدوا العجل، فالخطاب هنا موجه للذين عبدوا العجل من قومه من بني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ، يعني: الذين عبدوا العجل، والقوم: اسم للرجال دون النساء، فالأصل في كلمة (القوم) أنها تطلق على الرجال دون النساء، والدليل من القرآن آية في سورة الحجرات قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ[الحجرات:11] فغاير بينهما، فدل على أن القوم هي: للرجال، ويقول الشاعر:

ولا أدري وسوف إخالُ أدري أقوم آل حصن أم نساءُ

يعني: أرجال هم أن نساء؟ فعبر عن الرجال بالقوم، وسموا قوماً لأنهم هم الذين يقومون بالأمور: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ[النساء:34]، هم يقومون بالأمور، ويتولون الحروب والقيادة .. وغير ذلك.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يعني: الذين عبدوا العجل: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهاً ما إعراب العجل؟ مفعول أول للمصدر، والمصدر هنا عامل: (باتخاذكم العجل) والمفعول به الثاني محذوف وتقديره: إلهاً، يا قوم! إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً؛ لأنهم قالوا: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) فتوبوا إلى بارئكم أي: خالقكم من عبادته، يعني: توبوا من عبادة العجل: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، ليقتل البريء منكم المجرم، والمقصود: إن الذين لم يعبدوا يقتلوا الذين عبدوا العجل، هذا هو المطلوب، ولم يكن الأمر موجهاً إلى جميع بني إسرائيل، وإنما كان الأمر موجهاً إلى الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا إخوانهم ممن تلطخوا بعبادة العجل؛ ولذلك يقال هنا: ليقتل البريء -أي: الذي لم يعبد العجل- منكم المجرم، يعني: الذي عبد العجل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ، الإشارة إلى القتل.

خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ يعني: فوفقكم لفعل ذلك وأرسل عليكم سحابة سوداء مظلمة؛ لئلا يدفن بعضكم بعضاً فيرحمه، حتى قتل منكم نحو سبعين ألفاً.

القول الأول في تفسيرها: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ يعني: يقتل البريء منكم المجرم، بعض العلماء قالوا: هذا خطاب للكل، أن يقتل بعضهم بعضاً، والبعض قال: هو خطاب للعادلين فقط، فجعل القتل للقتيل شهادة وللحي توبة، فالذي يقتل يكون شهيداً وهذا يمحو عنه عبادة العجل، والذي يبقى حياً فإن هذا يكون توبة من الله سبحانه وتعالى عليه؛ لكن الذي اعتمده هنا الإمام السيوطي : قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، أي: ليقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل، والذين لم يعبدوا العجل هم من سبط (بني لاوي) سبط من أسباط بني إسرائيل من أبناء يعقوب عليه السلام، فهؤلاء اللاويون هم الذين لم يعبدوا العجل، فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: قبل توبتكم: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .

تفسير قوله تعالى: ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك .. )

قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:55] يعني: وإذ قلتم وقد خرجتم مع موسى؛ لتعتذروا إلى الله سبحانه وتعالى من عبادة العجل، وسمعتم كلامه.

يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً يعني: عياناً: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ يعني: الصيحة، فمتم (وأنتم تنظرون) ما حل بكم.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ يعني: الصيحة فمتم، وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ، وأنتم تنظرون ما حل بكم، لكن هل قوله تبارك وتعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا[الأعراف:143]، كان موتاً بالنسبة لموسى عليه السلام؟! لا، بدليل: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ[الأعراف:143]، فكان نوعاً من الغشيان، غشي عليه عليه السلام، أما هنا: فقال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ[البقرة:56]، فالصيحة هنا: كانت موتاً (فأخذتكم الصاعقة) فمتم؛ لذلك انظر دقة السيوطي حيث يقول: (فأخذتكم الصاعقة) يعني: الصيحة فمتم، والدليل على تفسيرها بالموت لأنه بعد ذلك قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ[البقرة:56]؛ انظر إلى الدقة في اختيار الكلمات: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، الصيحة، فمتم وأنتم تنظرون ما حل بكم.

تفسير قوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون)

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ أي: أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، يعني: تشكرون نعمتنا لذلك الإحياء.

تفسير قوله تعالى: (وظللنا عليكم الغمام...)

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57]، يعني: كانوا في فترة التيه مع شدة الحر، كان الله سبحانه وتعالى يظللهم بالغمام، وهو سحاب رقيق، فلذلك قال السيوطي : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ أي: سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى يعني: وأنزلنا عليكم في التَّيِه المن والسلوى، يقول هما: الترنجبين، يعني: شيء مثل العسل الأبيض، يقع على الشجر فيأكله الناس، فهذا هو المن، شيء مثل العسل الأبيض، ولا أستطيع أن أقطع وأجزم بأنه موجود حتى الآن؛ لكن حكى لي أحد إخواننا الأفاضل أنه منذ عشرين سنة سافر إلى العراق، فأحضر معه نوعاً من (البودرة) البيضاء هي في طعمها كالعسل تماماً، يقول: إنهم في تركيا والعراق في الصباح يجمعونها من فوق أوراق الأشجار، تسقط من السماء حتى الآن، فيجمعون هذه (البودرة) من فوق أوراق الأشجار وهذه الظاهرة موجودة في تركيا والعراق، يجمعونها ويضيفون لها بعض المكسرات وهذه الأشياء، ويسمونها في المحلات مَنّ السماء، وأنا قد أكلت منها، لكن كونهم يجمعونها من فوق الأشجار في الصباح هناك، ويسمونها: منّ السماء الله تعالى أعلم به.

المهم: أنا أحكي هذه القصة؛ حتى تتذكروا أن المن: هو مثل العسل الأبيض، وشيء يقع على الشجر، فيأكله الناس، والطير السماني، الذي هو السلوى.

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، يعني: ونزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تدخروا.

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، يعني: (كلوا ولا تدخروا) وطبيعة اليهود معروفة: فكفروا النعمة وادخروا، فقطع الله تعالى عنهم النعمة لما ادخروا.

وَمَا ظَلَمُونَا يعني: ما نقصونا وما ضرونا، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ؛ لأن وباله عليهم؛ هذا معنى الظلم، فهم الذين ظلموا أنفسهم بقطع هذه النعمة عنهم.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية... وسنزيد المحسنين)

قوله: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58]، يعني: بعدما بقوا في صحراء التيه وخرجوا منها: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا قلنا لهم بعد خروجهم من التيه: ادخلوا هذه القرية بيت المقدس، أو أريحا.

فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا يعني: أكلاً واسعاً لا حجر فيه: رَغَدًا ، أي: لا حجر فيه: وَادْخُلُوا الْبَابَ ، يعني: ادخلوا بابها سجداً، والباب هنا المقصود: باب القرية سُجَّدًا يعني: منحنين أو ركعاً، ويطلق عليه أحياناً سجود، أو الانحناء يسمى سجوداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أي: منحنين؛ لأجل مهمة كبرى، هل يمكن أن يدخلوا الباب وهم ساجدون؟ سيبقى الأمر صعباً أن يبحث على الأرض وهو ساجد فلذلك تعيَّن أن يفسر قوله: (وادخلوا الباب) أي: باب القرية (سجداً) أي: منحنين، لكي يستطيعوا أن يمشوا، والمقصود به: وهم راكعون.

وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، (وقولوا حطة) يعني: مسألتنا حطةٌ؛ لأنها مرفوعة هنا، فلا بد أن تقدر كخبر؛ لكن لو قلنا إن تقديرها: (نسألك حطة) لكانت منصوبة، والمعنى: نسألك أن تحط عنا ذنوبنا، وتغفر لنا هذه الذنوب، (وقولوا حطة) أي: وقولوا مسألتنا حطة، أي: أن تحط عنا خطايانا، وهنا أمرهم بفعل وقول.

أما الفعل فهو: السجود، والقول: هو أثناء الدخول يقولون: حطة، يعني: حُطّ عنا خطايانا، فهم عكسوا الفعلين، لا امتثلوا في الأمر ولا في الفعل، ولا امتثلوا في القول: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ، وفي قراءة (يُغفر لكم خطاياكم) هذه قراءة أخرى، أو قراءة هنا: نغفر لكم خطاياكم.

وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني: بالطاعة ثواباً.

تفسير قوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم...)

قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، المقصود: فبدل اللذين ظلموا أي: منهم.

قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، يعني: استبدلوا الكلمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها كنوع من الاستهزاء، قالوا: حبة في شعرة، بدل كلمة (حطة) كأنهم زادوا فيها النون كما يقولون (حنطة)!

ودخلوا يزحفون على أستاههم كما في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قيل لبني إسرائيل: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ))[البقرة:58] فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة)، وفي رواية: قالوا: حنطة بدل حطة؛ وذلك استهزاءاً منهم، فاستهزءوا بأمر الله، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حنطة، يسخرون! فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.

فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، (فأنزلنا على الذين ظلموا) كان يقتضي السياق أن يكون: (فأنزلنا عليهم) لكن وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في توضيح شأنهم؛ حتى يتكرر وصفهم بالظلم.

فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا أي: طاعوناً، وقال بعض العلماء: ظلمة وموتاً، وقيل: الثلج رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، الباء هنا باء سببية، يعني: بسبب فسقهم، وأصل الفسق: الخروج، فسقت البيضة يعني: خرجت. والمقصود هنا: يفسقون أي: بسبب التيه وهو خروجهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل.

تفسير قوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه...)

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، يعني: واذكر إذ (استسقى) أي: طلب السقيا، لما دخلوا في التيه، لم يوجد فيه ماء وكان هناك حر شديد، فقالوا: يا موسى! أهلكتنا وأخرجتنا من مصر وكنا هناك في عيش أحسن من هذا، وسنموت نحن إن بقينا من العطش، فنريد ماءً (فاستسقى موسى لقومه)، وهذه السين تسمى: سين الطلب، مثل: استغاث استخار: سأل الله الخيرة.

كذلك (استسقى) أي: طلب السقيا، وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ وقد عطشوا في التيه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ كأن هنا (ال) للعهد الذهني، يعني: الحجر الذي هو معلوم من قبل؛ الذي فر بثوب موسى عليه السلام، يقولون: صغير مربع كرأس الرجل، فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فضربه فانفجرت، السيوطي قال: (قلنا اضرب) فضربه، فانفجرت منه .. يعني: انشقت، وسالت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط.

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ، قد علم كل سبط منهم مشربهم، أي: موضع شربهم، فلا يشركهم فيه غيرهم، (كلوا واشربوا) يعني: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، عثى يعني: أفسد.

تفسير قوله تعالى: (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد...)

قوله: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61] يعني: على نوع واحد من الطعام، وهو المن والسلوى.

فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ (يخرج لنا) يعني: شيئاً: مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا ، (من) هنا: للبيان، ما الذي يخرج من الأرض؟ وما الذي تنبته الأرض؟

قال تعالى: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ يعني: شيئاً مما تنبت الأرض مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا يكون حنطها، أو (ثومها) في قراءة ابن مسعود ، وهنا أشار القاسمي إشارة طيبة إلى أن العرب أحياناً يبدلون الفاء بالثاء، يقول أحد العلماء: فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا يقول: هو الثوم؛ لقراءة ابن مسعود : (وثومها) وللتصريح له في التوراة في هذه القصة، بأن الفوم المقصود به: الثوم.

وقد ذكر ابن جرير شواهد لإبدال الثاء فاء، مثل الإبدال الذي يحصل في الخيل والخير، كثيراً ما يحصل عند العرب بالتعبير عن الخيل بالخير؛ ولذلك سمى النبي عليه الصلاة والسلام زيد الخيل بـ( زيد الخير ) والحديث ربط بينهم: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، المهم يقول: ذكر ابن جرير شواهد إبدال الثاء فاء؛ لتقارب مخرجيهما، لذلك العرب يبدلونها كقولهم للأثاثي: أثاف، تقول: (ثالثة الأثافي) والعرب كانوا عندما يطبخون يأتون بحجرين صغيرين تحت القدر، ويأتون بحجر كبير وراءهما؛ لكي يبقى ثلاثة أحجار، والإناء يستقر عليه، فيسمون الحجر الثالث: ثالثة الأثافي.

وقولهم: (وقعوا في عاثور شر) عاثور الذي هو الحفرة.

أو يقال: (عافور شر) كذلك المغافير يقولون فيها: المغاثير.

وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ أي: قال لهم موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى أدنى: أخف بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ أي: بالذي هو أشرف، يعني: أتأخذونه بدله، والهمزة هنا للإنكار، (أتستبدلون) الهمزة استفهام للإنكار، فأبوا أن يرجعوا، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ فأبوا أن يرجعوا، فدعا موسى الله سبحانه وتعالى بما طلبوه، والسيوطي يملأ ما بين الآيات بالمعاني التي ينبغي أن تكون موهبة الفهم يعني: فدعا موسى ربه سبحانه وتعالى بما طلبوه، فقال تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ .

ما الفرق بين: اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ، وبين قول يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ[يوسف:99] وبين قول فرعون لعنه الله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51].

مداخلة: قوله: (ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين) هذه علم.

وقوله: ( اهبطوا مصراً .. ) أي مصر من الأمصار، فلم تكن علماً على مكان فنونت.

الشيخ: صحيح حيث نونت وعوملت بالتنوين قال: اهْبِطُوا مِصْرًا ؛ فلذلك فسرها : (اهبطوا) أي: انزلوا مصراً من الأمصار، أيَّ بلدٍ، أنتم تسألون أشياء هينة لا تستحق هذا الذي تفعلونه كله، فانزلوا أي بلد فيها الثوم والعدس، فهذا معنى الكلام: اهبطوا مصراً من الأمصار هذا شيء هيِّن، أنتم تطلبون شيئاً دنيئاً بالنسبة لما كان يعطيكم الله سبحانه وتعالى، انزلوا في أي بلد، فستجدون ما تطلبون، وهنا يفسر (مصراً) بأنها بلدنا، ولكن مصر التي هي الممنوعة من الصرف، (ادخلوا مصرَ) هي هذه بلادنا، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف:51]، أما (مصراً) بالتنوين يعني: بلداً من البلدان أو مصراً من الأمصار.

اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ، يعني: فإن لكم فيه ما سألتم من النبات.

قوله: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، أي: جعلت عليهم الذلة، التي هي: الذل والهوان (والمسكنة) وهو أثر الفقر؛ لأن الفقير إذا اشتد فقره وعناؤه فإنه يسكن، يقترن الفقر بالسكون وقلة الحركة، فلذلك يعبر به عن المسكنة، (والمسكنة) أي: أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء.

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، وضرب على هؤلاء اليهود الذل والهوان، والخزي والمسكنة، فهي لازمة لهم -وإن كانوا أغنياء- لزوم الدرهم للمضروب لسكته، أي: طبعت عليهم فلا تفارقهم، كما لو معك عملة معدنية فستجد العملة المعدن مضروب عليها النقش المكتوب، أو الرسم الموجود، فهذا هو السر في استعمال تعبير: (ضربت عليهم) يعني: لازمتهم فلا تفارقهم الذلة والمسكنة، كما أن الكتابة والنقوش التي تكون على المعادن -التي تسك- تكون لازمة لها لا تفارقها، حتى ولو كانوا أغنياء.

وهنا القاسمي قد أتى بمعنى عظيم جداً، يقول رحمه الله تعالى: والمسكنة مفعلة من السكون؛ لأن المسكين قليل الحركة والنهوض لما به من الفقر، والمسكين: مفعيل منه، وفي الذلة: استعارة بالكناية، ضربت عليهم الذلة حيث شبهت بالقبة في الشمول والإحاطة، فالذل يحيط بهم، أو شبهت الذلة بهم بلصوق الطين بالحائط في عدم الانفكاك، وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به هو معلوم في جميع الأزمنة؛ فإن اليهود أذل الفرق وأشدهم مسكنة، وأكثرهم تصاغراً لم ينتظم لهم جمع، ولا خفقت على رءوسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية، بل ما زالوا عبيد العصي في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغت الكثرة أي مبلغ فهو مرتد بأثواب المسكنة، وهذه الحقيقة لا يماري فيها أي إنسان يتعامل مع اليهود أو رأى اليهود واقترب منهم، حتى ولو كان أغنى أغنياء العالم، اليهودي مهما يكون عنده من الغنى؛ لكن تجد الذل والمسكنة وصفاً لازماً له لا يفارقه أبداً، أما ما هم عليه فهذا خلاف الأصل، هذا من العلو كالذي ذكر الله سبحانه وتعالى: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا[الإسراء:4]، يعني: هذه استثناء من الأحوال، ولكن سنة الله سبحانه وتعالى كما في قوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا[الإسراء:8]، إن عدتم إلى الإفساد عدنا لأن نسلط عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد، فجاسوا خلال الديار، فلا شك أنه لن يدوم لليهود ما هم فيه الآن من القهر والعلو والغلبة، وإن كنا نعتقد أنهم حتى في هذه الحالة ما زالت مضروبة عليهم الذلة والمسكنة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[الأعراف:167]، لا بد أن يسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يسومهم سوء العذاب حتى ولو كانوا أطفالاً، بالحجارة يضربونهم، فما بالك بمن فوقهم، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (باءوا) يعني: رجعوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ .

ذَلِكَ يعني: ذلك الضرب والغضب المشار إليه بقوله: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ، والغضب: المقصود في قوله: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ، (ذلك) أي: الضرب والغضب (بأنهم) أي: بسبب أنهم: (كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) كزكريا ويحيى عليهما السلام.

بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: ظلماً، ومثل هذا القيد لا مفهوم له؛ لأن كل قتل لنبي لا بد أنه قتل بغير حق، فهذا مما لا مفهوم مخالفة له، مثل ماذا في القرآن: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا[النور:33]، هذا لا مفهوم له، يعني: هل يفهم من ذلك أن إن لم يردن تحصناً يجوز أن تكره على البغاء؟! لا مفهوم له؛ وكذلك قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ[الإسراء:31]، لكن هل يمكن لواحد أن يقتل أولاده بسبب عدم الإملاق؟ لا.

كذلك قوله: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً[آل عمران:130]، هل مَنْ يأكل نسبة ضئيلة، وليس أضعافاً مضاعفة أُحِلَّ له الربا؟! فهذا كله مما لا مفهوم له، كذلك هنا: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، هذا بيان؛ لأن كل قتل للأنبياء يكون بغير حق، لا يمكن لواحد أن يقتل الأنبياء ويكون على حق، ولكن كل قتل الأنبياء يكون بغير حق: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ[المؤمنون:117]، يعني: هل ممكن لإنسان أن يعبد إلهاً غير الله ما دام عنده برهان على ذلك؟! لا، هذا لا مفهوم له.

ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ أي: يتجاوزون الحد في المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا...)

ثم قال تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:62]، هذه من الآيات التي ينبغي الرجوع إلى العلماء في أهلها، كسائر آيات القرآن، وإلا فإن كثيراً ممن ينتسبون إلى العلم زوراً وبهتاناً في هذا الزمان يريدون هدم الإسلام بسوء تسليمهم لهذه الآية، وتأويل المنتسب لها، فهذه الآية من الآيات التي ظهر في الأزمنة الأخيرة لا نقول ملاحدة ولكن نقول: منحرفون، ممن انتسبوا إلى العلم زوراً وبهتاناً، ويستدلون بها على صحة كل هذه العقائد الباطلة، يعني: كأن حرية الأديان وحرية الخيار بين الأديان كلها حقٌّ؛ لأن كل هؤلاء داخلون الجنة!

فهذا قطعاً وبإجماع المسلمين معنى فاسد لا يمكن أن يقصده أبداً عالم ولا إمام من أئمة المسلمين: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة:62]، الآية تحتمل في الحقيقة محاضرة كاملة مستقلة، لكن سنمر مروراً سريعاً جداً بما يصلح به الوقت.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ، قال بعض العلماء: في الظاهر، يعني: كل هذه الطوائف هي ليست على الدين الحق، يعني: قرنوا بنظرائهم، لذلك قال العلماء: الذين آمنوا في الظاهر، وهم المنافقون، آمنوا في الظاهر، لكن ليس إيماناً حقيقياً؛ لأنهم عطفوا على أشكالهم، بما أن الذين آمنوا يعني: في الظاهر من المنافقين: وَالَّذِينَ هَادُوا كفار، وَالنَّصَارَى كفار وَالصَّابِئِينَ ، فـ(منْ) أي: واحد من هؤلاء من هذه الطوائف المنافقون، أو اليهود أو النصارى أو الصابئون.

إذا آمن، يعني: تاب (إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً) فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يبقى نفس (الذين آمنوا) بالظاهر وهم المنافقون، وهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين، لكن آمنوا ظاهراً.

أو يكون المقصود: (إن الذين آمنوا) بالأنبياء من قبل، (والذين هادوا) وهم اليهود، (والنصارى) وهم طائفة من اليهود أو النصارى، مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يعني: في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء السابقين، واليهود والنصارى والصابئين: من آمن بنينا صلى الله عليه وسلم وعمل صالحاً بشريعته؛ لأن شريعته صارت منسوخة: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .

أو: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وثبتوا على ذلك حتى الممات، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ، يعني: من آمن منهم (بالله واليوم الآخر) يعني: في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم، (وعمل صالحاً) أي: بشريعته، (فلهم أجرهم) أي: ثواب أعمالهم، عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .

تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور...)

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:63]، يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة، (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وأخذنا ميثقاكم وقد رفعنا فوقكم الطور، فأخذ الميثاق حالة مكان رفع الطور اقتلع الله الجبل من أصله ورفعه فوقهم، وقال: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ، خذوا هذه التوراة، واقبلوا العمل بها، (وإذ أخذنا) يعني: واذكر إذ أخذنا ميثاقكم أي: عهدكم بالعمل بما في التوراة (ورفعنا فوقكم الطور) يعني: وقد رفعنا فوقكم الطور، أي: الجبل، واقتلعناه من أصله عليكم لما أبيتم قبولها، خُذُوا أي قلنا: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد.

وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ، بالعمل به.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي: النار أو المعاصي.

تفسير قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك...)

قال تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ [البقرة:64] أي: أعرضتم، مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:64] أي: من بعد ذلك الميثاق أعرضتم عن الطاعة: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ [البقرة:64] لكم بالتوبة، أو بتأخير العذاب، لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [البقرة:64].

تفسير قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ...)

قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65]، اللام هنا لام القسم: (ولقد علمتم) أي: عرفتم، (الذين اعتدوا) أي: تجاوزوا الحد، (منكم في السبت) وقصة السبت معروفة، وقد حصلت لأهل المدينة التي اسمها الآن (إيلات) على خليج العقبة، وكانت تسمى (أيلة).(( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ )) أي: الذين تجاوزوا الحد منكم في السبت؛ لصيد السمك وقد نهيناهم عنه، (( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) يعني: مبعدين، فمسخهم الله سبحانه وتعالى مسخاً حقيقياً فكانوا قردة، وهلكوا بعد ثلاثة أيام؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أن القوم الذين يمسخون لا يعيشون، فيمسخون أولاً ثم يموتون، ولا يكون لهم عقب ونسل: (( فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ )) (خاسئين) يعني: مبعدين، فكانوا كذلك وهلكوا بعد ثلاثة أيام.

تفسير قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها...)

قال تعالى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:66] يعني: تلك العقوبة، (نَكَالًا) يعني: عبرة لغيرهم مانعة من العمل بمثل ما عملوا: (( نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا )) أي: الأمم التي في زمانها وبعد زمانها، (( وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ )) أي: المتقين لله، وخصوا بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالموعظة، بخلاف غيرهم.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة البقرة [51-66] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net