إسلام ويب

تفسير قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ...)

يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25]، أي: بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه، فإن الرسل تأتي مؤيدة بالمعجزات والبينات والحجج على صدقهم في دعواهم الرسالة. (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ ))، أي: التام في الحكم والأحكام. (( وَالْمِيزَانَ ))، أي: العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما. قال ابن كثير : وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة. (( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))، أي: بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام:115]، أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، فالتنزيل عبارة عن خبر وحكم، أما أخباره فكلها صدق، وأما أحكامه فكلها عدل.فقوله تعالى: (( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))، إشارة إلى أن الحق والعدل لا يمكن أن يكونا فيما يخالف كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما زين شياطين الإنس دعاواهم بافتراءاتهم الظالمة فيما يوشوش به بعض الشياطين مما يسمونه بحقوق الإنسان أحياناً، ويحاولون إظهار الإسلام كأنه عدو لحقوق الإنسان، وأن العقوبات الشرعية عقوبات وحشية وصارمة.. إلى آخر هذا الإلحاد! وهذا كفر، ولا يصدر إلا ممن لا يؤمن بمثل هذا الوصف لكتاب الله تبارك وتعالى.والناس لا يمكن أن يقوموا بالقسط ولا يمكن أن يتحقق بينهم العدل إلا بتطبيق شرع الله تبارك وتعالى؛ ولذلك قال تعالى بعدما ذكر الحدود الشرعية: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة:45]، لأن هذا هو الحد، ثم قال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45]، ففي هذه بالذات وصفهم بالظلم؛ لأن هذا مما يخالف العدل، فالحدود هي العدل، والقصاص فيه المعاملة بالمثل، فمن اعتدى على أرواح الناس وقتل يقتل، ومن قطع أذن غيره تقطع أذنه، فليس لهذا حرمة أعظم من حرمة ذاك، فهذا مقتضى العدل بين الناس؛ فلذلك نقول قطعاً وجزماً: إن كل من يحكم بخلاف شرع الله فهو ظالم مهما وسوس له إخوانه من شياطين الإنس أو الجن بأن هذا هو العدل. ونقول: كل العدل في كتاب الله تبارك وتعالى.ويقول تعالى: (( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ))، يعني: أن هذا الحديد هو الآلة المهمة والأساسية في صناعة أدوات القتال، سواء في القديم أو في الحديث، فقوله: (( فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ))، يعني: القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه.(( وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ))، أي: في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها. فإن قيل: هذه الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة؛ ولكن أين هي المناسبة بين قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وقوله: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ؟ فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا حتى تنال السعادة في الأخرى، فمن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، وكذلك من أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، ومن تمرد وطغى ضرب بالحديد الراد لكل مريد. فقول الله تبارك وتعالى هنا أولاً: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ))، مع ذكر الحديد فيه إشارة إلى أن العدل في الناس يقوم بأمرين:بالقرآن وبالسلطان، فالناس يدعون بالحجة والبيان، فمن أبى فبالسيف والسنان.هذا هو المعنى المأخوذ من هذه الآية الكريمة.

العقوبة على المعاصي بالغفلة

فالإنسان لا يمكن أبداً أن يجد السعادة في غير شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يوجد إنسان على وجه الأرض ينحرف عما أنزل الله على رسوله عليه الصلاة والسلام من البينات والهدى ويعيش سعيداً بل يحرم من السعادة، ويقاسي التعاسة بقدر بعده عن دين الله. وحالة الغفلة هي أشد ما يعاقب الله سبحانه وتعالى به عبداً من العبيد، حيث إنه يعاقب وهو لا يحس بأنه يعاقب؛ لأن العقوبات الشرعية كثيرة، فهناك عقوبات كونية قدرية كالزلازل والخسف والأمراض والأوبئة ونحو ذلك.وهناك عقوبات شرعية كقطع اليد والرجم والجلد ونحو ذلك. ويوجد نوع آخر من العقوبات وهو تسليط الغفلة على الخلق، ودليله قوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، هنا نسي بمعنى ترك. وقال سبحانه: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]. وقال عز وجل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]، وهذه هي أشد أنواع العقوبات؛ لأن الإنسان يُستدرج حينما يفتح الله عليه، فكلما زاد كفراً وعتواً زاده الله من النعم فتنة له واستدراجاً، كما قال تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً [الأنعام:44]، فالله سبحانه وتعالى يمهل ويملي للظالم، وكلما تمادى في المعاصي وفي الكفر وفي البعد عن الله زاد ما يستحقه من العذاب، كما قال تبارك وتعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]. وقال تبارك وتعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56]، فهي أشد أنواع العقوبات؛ لأن مثل هذا لا يرجى له توبة إن لم يوفقه الله؛ لأنه يرى عمله صواباً، كما قال تعالى: زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]. فليحذر الإنسان من هذه العقوبة، فأشد أنواع العقوبة أن يفقد الإنسان الإحساس بأنه معاقب، وهذا بخلاف الشخص الذي يشعر ويقول: إن الله ابتلاني بالذنب الذي فعلته، وامتحنني بالمرض بسبب المعاصي، فهذا الشخص كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن)، بمعنى: أن مثل هذا الإنسان لا زال فيه روح وإحساس، ومعناه أنه قد يستدرك ويفتح صفحة جديدة ويتوب، لكن الميت إذا وخزته وقطعته بالسيف فإنه لا يتألم؛ فما لجرح بميت إيلام.ففقدان الإحساس علامة خطر، وهذا هو حال الكفار والعياذ بالله! لأنهم لا يحسون بأنهم يعاقبون، فبالتالي يتمادى أحدهم ويلهو في الدنيا حتى تفوت فرصته، ويموت دون أن يتوب؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً، فيرى أن هذه هي السعادة، مع أنه أبعد ما يكون عن شرع الله تبارك وتعالى، لكن السعادة الحقيقية هي في موافقة شرع الله سبحانه وتعالى، فمن أراد اختصار طريق السعادة فليمش على نور الوحي، ولا ينشغل بفلسفات ولا ببحوث، ولا يلتفت لكلام ووساوس الشياطين، وإنما عليه أن يستقيم على طاعة الله، هذا هو أخصر طريق يؤدي إلى السعادة في الدارين.

مناسبة عطف إنزال الحديد على ما قبله

يقول: فإن قيل: الجمل المتعاطفة لابد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة؛ لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينال السعادة في الأخرى، ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة، ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم، أما من تمرد وطغى وقسى فيضرب بالحديد الراد لكل مريد، وإلى الأولين أشار بقوله: (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ))، هذه للناس الذين عندهم عقول، ويعملون عقولهم، ويتدبرون في الحجج والبينات، فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة، حيث جمع العقلاء ومن وافقهم من العامة على الخير، فأشار إليهم بقوله: (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )). وخلاف ذلك فالجبار العنيد الطاغي القاسي القلب لا ينفعه إلا التأديب بالحديد، فقال تبارك وتعالى: (( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ))، فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواص وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة.قال العتبي في أول تاريخه: كان يحتمل في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافراً، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيل العلة وينقى الغلة، حتى أعملت التفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حذر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة.يعني: أن مجرد الوعظ بالأوامر والنواهي الشرعية لا يكفي في إصلاح حال الناس؛ إذ ليس كل الناس ينزجرون بالأدلة الشرعية، وبسلطان الشرع، ولذا فلابد من السلطان مع الحكم، وهذا ليس فقط في الإسلام، بل في كل النظم، يعني: لو أن دولة تريد أن تنفذ قوانينها بالمواعظ والكلام الرقيق والنظيف، والبيان أن هذا صحيح وهذا خطأ، وهيئة المرور تعمل كذا، وهيئة كذا تفعل كذا، فهل يستقيم حال الناس؟الجواب: لا؛ فمن الناس من يعمل عقله ويستجيب للحجج والبينات، ومنهم من ليس كذلك، وإنما هو مثل المسمار، ولا يمشي إلا إذا كنت تضربه على رأسه كعبد السوء، فإذا صفعته على رأسه بالقوة فإنه يمشي، ومن دون ذلك لا يتحرك، فمن الناس من يقيمه الحجة والبيان، ومنهم لا يقيمه إلا السيف والسنان.يقول: حتى أعملت الفكر فوجدت الكتاب قانون الشريعة ودستور الأحكام الدينية يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد خطر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة؛ فلذا جمع الكتاب والميزان. وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف وجدوة عقابه، وقوة عذابه، وهو الحديد الذي وصفه الله بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متباينة الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع.قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، أي: أنه يستعمل في القتال، وأنه آله السلطان؛ كي يقهر من لا يقتنع بالحجة والبيان بالسيف والسنان.وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ، أي: باستعمال الحديد في مجاهدة أعدائه، عطف على محذوف دل عليه ما قبله، يعني: أنزله ليعلم.وقلنا: إن قوله تعالى: (( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ ))، المقصود به: ليعلم علم شهادة، أما علم الغيب فلا شك أن الله يعلم ذلك منذ الأزل. وقوله: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ ، أي: على إهلاك من أراد إهلاكه، عَزِيزٌ ، أي: غالب قاهر لمن شاء.

تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم ...)

يقول تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26]. خص بالذكر الأبوين: الأب الأول وهو نوح عليه السلام؛ لأنه الأب الثاني للبشرية بعد آدم عليه السلام، والأب الثاني هو إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أبو الأنبياء، فإبراهيم عليه السلام ما أتى نبي بعده إلا من صلبه.فقوله: (( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ))، يعني: ذرية الأنبياء بعد نوح، ولا شك أن الأنبياء بعد نوح كانوا من ذرية نوح، والأنبياء بعد إبراهيم كانوا من ذرية إبراهيم عليهما السلام.وقوله: (( فَمِنْهُمْ ))، أي: من الذرية، مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، أي: خارجون عن طاعته؛ بترك نصوص كتبه وتحريفها، وتقديم آراء الأحبار والرهبان عليها، واقتراف ما نهوا عنه.

تفسير قوله تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا ...)

قال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27]. ثُمَّ قَفَّيْنَا أي: أتبعنا، عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، أي: حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.وأما إعراب رهبانية في قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا ففيها قولان: القول الأول: أنها معطوفة على ما قبلها، أي: على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة.القول الثاني: أن الكلام ينتهي عند قوله: (( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ))، ثم تبدأ الكلام وتقول: وَرَهْبَانِيَّة ًابْتَدَعُوهَا ، فيكون معناها: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، فتكون مفعولاً به لفعل محذوف تقديره: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها.وإذا قلنا بالقول الأول: وهو أن رهبانية معطوفة على رحمة، ورحمة معطوفة على رأفة، فالمعنى أن الذي جعل الرأفة والرحمة والرهبانية هو الله سبحانه وتعالى، وعلى هذا فمن أي قسمي الجعل يكون قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَا ))؟الجواب: يكون من الجعل القدري؛ لأن الرهبانية مذمومة عند الله سبحانه وتعالى، وهي بدعة وضلالة ومصادمة للفطرة، حتى لو قلنا: إن الله هو الذي جعل في قلوبهم جانب الرأفة والرحمة.والجعل الكوني القدري يمكن أن يكون شيئاً مما يبغضه الله، لكن يشاؤه كوناً وقدراً، ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضى بهذا الفعل.وأما على القول الثاني فيكون الجعل هنا شرعياً إرادياً؛ لأن الرأفة والرحمة مما يحبه الله ويأمر بها. قوله تعالى: (( وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ))، ونقف هنا، فالمعنى: أن الله سبحانه وتعالى خص قلوب الذين اتبعوا عيسى عليه السلام بالرأفة والرحمة. ولا يفهم من ذلك أن هذا مدح للكفار الذين ألهوا المسيح أو عبدوه، حيث جعلوه إلهاً أو ابن الله أو نحو ذلك؛ لأن هؤلاء ليسوا أتباع المسيح، بل هم أعداء المسيح عليه السلام، كما قال تعالى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:55]، أي: من المسلمين؛ لأنهم هم الذين اتبعوا المسيح عليه السلام.

بعض خصائص دعوة المسيح عليه السلام

قوله: (( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ))، هذا مدح للذين اتبعوا المسيح على دين الإسلام الذي جاء به.وهذه من خصائص رسالة المسيح عليه السلام أنه غلب عليها جانب الزهد، والرقة، واللطف، والمسامحة ونحو ذلك.والمسيح جاء برسالة مكملة لما جاء في التوراة.

الرهبانية بدعة نصرانية لا شريعة سماوية

وعلى القول بالوقف عند كلمة: (( وَرَحْمَةً ))، فقوله: (( وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ))، يعني: أنهم هم الذين ابتدعوها، ونحن ما أمرناها بهم، ولا كلفناهم، وليس ذلك من شرعنا. فقوله: (( مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ))، أي أنها من ابتداعهم، وليست شرعاً شرعه الله لهم.وقوله تعالى: (( إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ))، قد يحصل إشكال ثانٍ عند بعض الناس؛ حيث قد يفهم منها الشخص العادي الغير متخصص أن الله ما كتب الرهبانية إلا ليبتغوا بها رضوان الله، وهذا ليس صحيحاً؛ لأنه بين أنهم الذين ابتدعوها، وليس لها أصل شرعي من عند الله، فيبقى الجواب عليه أن نقول: إن الاستثناء في قوله: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ استثناء منقطع، كما قال تبارك وتعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [الكهف:16]، فإنهم لا يعبدون الله، بل هم اعتزلوا عبادة الله، لكن الاستثناء المنقطع تأتي فيه (إلا) بمعنى (لكن)، فيكون معنى الآية: وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم؛ لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقد وضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه المبارك (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)، فله فيه بحث وافٍ في تفسير هذه الآية الكريمة.

المقصود بالذين اتبعوا عيسى

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً )): حناناً ورقة على الخلق؛ لكثرة ما وصى به عيسى عليه السلام من الشفقة وهضم النفس والمحبة.وهذه كما قلنا هي في الذين اتبعوه على دين الإسلام والتوحيد، فلا يقال: إن القرآن مدح الوحوش الصربية الذين فعلوا بالمسلمين الأفاعيل، والذين لا يعرفون الرقة والرحمة، أو أصحاب المذابح التي كانت في لبنان، أو المذابح التي حصلت في جزر الملوك في أندونيسيا على يد الصليبيين، من ذبح المسلمين وإحراقهم، فأين هي الرأفة والرحمة من هؤلاء؟ وأين الرأفة والرحمة التي كان يمارسها الأوربيون الأمريكان والكنديون في الصومال في حملة بعث الأمل أو إحياء الأمل، حينما كان يتسلى الجنود بأنهم يأتون بالأخ الصومالي ويشووه على النار وهو حي، ثم يضحكون ويمرحون ويتسلون بآلامه وصراخه؟! فهؤلاء لا يقتدون بالمسيح عليه السلام ولا بدعوته، إنما المقصود هنا الذين اتبعوه من المسلمين، أما الكافر فكيف نقول: إن في قلبه رأفة ورحمة، واسألوا محاكم التفتيش في الأندلس: ماذا فعلوا في المسلمين؟! واسألوا البعوث الصليبية وما فعلوه في فلسطين لما دخلوا القدس وجرت الأنهار من الدماء، فكلام الرقة والرأفة والرحمة مع هؤلاء الناس ومداهنتهم بآيات القرآن مما لا يجوز؛ لأن قوله تعالى: (( وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً )) إنما هو في اتبعوا المسيح على الإسلام وعلى الدين الحق.وكان في عهد المسيح عليه السلام أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، فالمسيح عليه السلام عانى من هاتين الأمتين اللتين هما من أشد الأمم قسوة وبطشاً: اليهود لعنهم الله، والرومان أيضاً لعنهم الله، والرومان كانوا أشد قسوة؛ لأن اليهود على الأقل كانوا كتابيين، لكن الرومان كانوا وثنيين.وقد كان لهم أساليب في تعذيب النوع البشري، ومنها تكليف الوحوش المفترسة بالانقضاض على من يريدون تعذيبه، وكانوا يربونها لذلك، وهذا معروف ومشهور؛ حيث إنهم كانوا يأتون إلى الساحات العامة، ويأتون بأسود جائعة ويسلطونها على من يريدون تعذيبه!!وصبغ الأسكندرية بالصبغة الرومانية واليونانية من جديد ما هي إلا مسخرة؛ وصبغ المدن الأخرى بالصبغة الفرعونية شيء يؤسف في الحقيقة، فالله المستعان.أما الوحشية فما زالت موجودة عند الغربيين عموماً، فالغربيون عندهم تلذذ بهذه الأمور الوحشية، فهم يتلذذون جداً بما يحصل في أسبانيا من مصارعة الثيران، ويتسلون إذا قتل الثور الشخص الذي يصارعه، ويقعدون ينظرون ويتلذذون بذلك؛ لأن في نفوسهم حباً لهذا العنف وهذه الوحشية، وهم أخذوا هذه النفسية الأوروبية أو الغربية من جذور الحضارة اليونانية والرومانية، فالعنف والقتل والإحراق والتخريب والتدمير هذا شيء يتلذذون به جداً. يقول: وكان في عهده أمتان عظيمتا القسوة والشدة: اليهود والرومان، وهؤلاء أشد قسوة وأعظم بطشاً، لاسيما في العقوبات، فقد كان لهم أفانين في تعذيب النوع البشري، ومنها: تسليط الوحوش المفترسة عليه، وتربيتها لذلك، مما جاءت البعثة المسيحية على أثرها وجاهدت في مطاردتها، وصبرت على منازلتها حتى ظهرت عليها بتأييده تعالى ونصره، كما بينه الله عز وجل في آخر سورة الصف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، فكانت العاقبة لأتباع المسيح عليه السلام.فقوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ، أي: ما فرضناها عليهم، وإنما التزموها من عند أنفسهم.وقوله: (( إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ))، استثناء منقطع، أي: ولكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله عنهم.

تعريف البدعة

قوله: (( إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ))، إما أن يكون المعنى: ولكنا كتبناها عليهم، أي: كتبنا عليهم أن يبتغوا مرضاة الله باتباع ما شرعه وليس بالبدع الرهبانية. أو: ما كتبناها عليهم، لكنهم ابتدعوها طلب مرضاة الله تعالى عنهم، وهذا ركن رشيد في تعريف البدعة؛ لأن البدعة لابد أن يكون فيها ابتغاء المبالغة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما يقول العلماء: البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، وهذا مما يميز البدعة عن العادة، فالبدعة لابد أن يريد بها المبتدع تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى.

سبب عتاب الله للذين ابتدعوا الرهبانية

وقوله: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، هذا أيضاً قد يلتبس عند بعض الناس، فيقولون: لو كانت الرهبانية مذمومة فكيف عاتبهم الله سبحانه وتعالى على أنهم لم يحترموا قوانين الرهبانية؟فنقول: هذا من باب إلزامهم بما ألزموا أنفسهم به، كما نقول: إن الذين يتبنون ميثاق حقوق الإنسان لا يلتزمون به، وهكذا الذين يتبنون ما يسمى بالديمقراطية، فإنهم لا يلتزمون بذلك، ونحن نعرف أنها مخالفة للشرع، وأنها في الشرق والشريعة في الغرب، فلا تلاقي بين الديمقراطية التي هي حكم الشعب للشعب، وبين دين الإسلام الذي ينص صراحة على: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57].ومع ذلك من حقنا أن نلزم هؤلاء القوم بما ادعوه، ونقول لهم: أنتم تؤمنون بالديمقراطية، ويلزم من هذه الديمقراطية كذا وكذا مما تخالفونه! فالإنسان يعاب إذا ألزم نفسه بشيء ثم لم يحترمه، حتى لو كان هذا الشيء خطأً، ومثل هذا يكون أشد قبحاً ممن لم يلزم نفسه به. والديمقراطية هذه أعظم تشبيه لها أنها مثل صنم العجوة، حيث كان المشركون في الجاهلية يصنعون الصنم من العجوة فإذا جاع الواحد منهم أكله، فعند الحاجة هؤلاء يبتلعون هذه الديمقراطية، والإنسان يسمع في هذا الباب عجباً، وبالذات من تركيا التي تأتي منها أخبار عجيبة جداً، تركيا الممسوخة التي باءت بالسخطتين، كما يقول الشاعر:باء بالسخطتين فلا عشيرتهرضيت ولا عنه أرضى العدىتركيا التي تتذلل وتتمسح بأعتاب الغرب، وتتقرب منه بكل ما تستطيع، ومع ذلك يزيدها هذا ذلاً وهواناً واحتقاراً، بل وصل الأمر إلى أن رئيس الوزراء اقترح أن أي موظف حكومي عنده تعاطف مع المتطرفين أو الانفصاليين -يعني: مع الإسلاميين- يفصل من عمله، وكان فاقع اللون من الذل، لدرجة أن رئيس الجمهورية رفض أن يوقع على هذا الأمر، وقال: هذا يتعارض مع حقوق الإنسان! وهذا شيء عجيب جداً!والآن هناك عالم كبير جداً مسئول اسمه: فتح الله جولان يحاكم بتهمة أنه ينوي إقامة حكم إسلامي. فتهمته أنه ينوي! ولم يصرح أنه سيرتكب هذه الجريمة، فهو يتكلم في كذا وكذا من الأمور العادية جداً، ويحفّظ الناس القرآن، لكنهم قالوا: هذا ينوي! فالتهمة أنه ينوي، وهذا مثل ما في القانون الجنائي، من أنهم يشقون قلوب الناس ويحاسبونهم على النية، فهذا تهمته أنه ينوي إقامة حكم إسلامي، ومن قبل أربكان عندما كان سيمسك رئاسة الوزراء، في الانتخابات عُمل له فخ، وجاء صحفي خبيث يسأله، قال له: بأي قانون تنوي أن تحكم تركيا إذا مكنت من رئاسة الوزراء؟ فلو قال: القانون الإسلامي، فسيعاقب ويحكم عليه بالسجن على الأقل عشر سنوات، ويمنع من ممارسة ما يسمى بحقه السياسي، فتصور بعدما كانت تركيا عاصمة الخلافة بماذا يجيب أربكان ؟ قال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، ولم يقدر أن يقول كلمة: الإسلام، وظل يردد هذه العبارة حتى لا يمسك عليه أحد كلمة الإسلام، فالله المستعان!لقد وصلت الغربة إلى هذا الحد، فهو خائف أن يقول: بالإسلام؛ لأنه سوف يترتب على ذلك عقوبات؛ لكن رد برد دبلوماسي فقال: أنوي أن أحكم تركيا بالقانون الذي حكمت به يوم كانت سيدة العالم، يعني: يوم أن كنا سادة العالم، فالله المستعان!على أي الأحوال فإن الشخص الذي يلزم نفسه بنظام أو بقانون أو بمبدأ، ثم لا يحترم هذا المبدأ الذي ألزم نفسه به، حتى لو كان خطأً، أولى بالتوبيخ؛ وهو مثل صنم العجوة، الذي يؤكل عند الحاجة!

استغلال النصارى للناس باسم الرهبانية

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، أي: ما قاموا بما التزموه منها حق القيام من التزهد والتخلي للعبادة وعلم الكتاب.يعني: هم ابتدعوا الرهبانية، وأنهم سينعزلون في الصوامع، ويعبدون الله، ويتعلمون ويقرءون، لكنهم اتخذوها آلة للترؤس والسؤدد وإخضاع الشعب لأهوائهم، فمن درس تاريخ أوروبا خاصة في القرون الوسطى المظلمة يجد ذلك جلياً. وكل قرونهم مظلمة، وبعضها أشد ظلمة من بعض، لكن هكذا جرى العرف بأن القرون الوسطى هي المظلمة، ويأتي الببغاوات الجهلة عندنا هنا ويقولون على المسلمين: يريدون أن يرجعونا إلى العصور الوسطى، وهذا الغبي الجاهل لا يعرف أن العصور الوسطى كانت أبهى عصور المسلمين، لأن هذه العصور الوسطى كانت مظلمة في الغرب، لكن المسلمين ما عرفوا أي عصر مظلم إلا من بعد أن تخلوا عن الإسلام، فليتنا نرجع إلى العصور الوسطى؛ لأننا كنا في العصور الوسطى سادة الدنيا كلها، وكان المسلمون هم الذين يحكمون العالم، ولم يحصل منهم هذا الظلم الذي يحصل الآن حينما يعلو الكافرون.فهم بدل أن تكون الرهبانية وسيلة للزهد جعلوها عكس ذلك، والثورة التي حصلت في أوروبا كانت موجهة لطائفتين بلغتا من الطغيان مداه:الطائفة الأولى: كانت من القساوسة والرهبانيين، والطائفة الثانية: كانت من الملوك؛ ولذلك كان شعارهم: اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!فعانى الناس طغيان الكنيسة من محاكم التفتيش والتعذيب، ومحاسبة الناس على الخواطر، حيث كانت متسلطة جداً، بل كانت تتسلط على الملوك أنفسهم، ولو أصدر البابا قرار حرمان، فيا ويل الملك! بل قد يلزم الملك أو الإمبراطور أن يأتي حافي الرأس والقدمين، ويتذلل له، ويقبل الأعتاب، ويظل راكعاً أمام البابا حتى يعفو عنه ويزيل قرار الحرمان.فالشاهد: أنهم عانوا عناءً شديداً من القساوسة والرهبانيين، ولذلك جاء رد الفعل عكسياً، حيث رفضوا هذا الدين وهذا التسلط، ولكن لم يبحثوا عن الدين الحق، وهذا هو الانحراف الشديد الذي حصل في مسيرة الغرب.فالشاهد: أنه كان هناك تسلط شديد جداً من رجال الكنيسة على الشعب، وإذلال الناس بالضرائب الباهظة والإقطاعات، بل كان الرهبانيون الذين في الصوامع أشهر إقطاعيين، وكانوا يستذلون الناس، ويمتصون أموالهم، ويعذبونهم، ويقيمون محاكم التفتيش والتعذيب والسجن والقهر.. إلى آخره.وقوله: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، يعني: الذين آمنوا الإيمان الخالص عن شوائب الشرك والابتداع، ومنه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليه المبشر به عندهم، وهم الذين اتبعوا المسيح على دينه الحقيقي. وقوله: (( وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ))، أي: خارجون عن الإيمان ومقاصده.

تعريف الرهبانية

وقد ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض التنبيهات فقال:التنبيه الأول: الرهبانية هي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، وإيثار العزلة والتبتل، وأصلها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، والرهبان: بفتح الراء هو الخائف، فعلان: من رهب، كخفيان من خفي.

أوجه الذم للذين ابتدعوا الرهبانية

التنبيه الثاني: قال ابن كثير رحمه الله تعالى: قوله تعالى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، ذم لهم من وجهين: أحدهما: في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله، أو أن المبتدعين ابتدعوا ما لم يأذن به الله، وهي بدعة الرهبانية. ثانياً: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه يقربهم إلى الله عز وجل.

ذم بعض علماء النصارى لبدعة الرهبنة

التنبيه الثالث: رأيت في كثير من مؤلفات علماء النصارى المتأخرين ذم بدعة الرهبنة، وما كان لتأثيرها في النفوس والأخلاق من المفاسد والأضرار.ثم ذكر كلاماً لصاحب (ريحانة النفوس) عن هؤلاء النصارى أنهم يشيعون ذلك في الكتاب المقدس، وذكر هذا الرجل أن الرهبانية عادة سرت في النصارى من الهنود الوثنيين الذين كان لهم أنواع كثيرة من العبادات، وهي تأمر كهنتها بالبتولية -عدم الزواج- والامتناع من أكل اللحم، وأمور أخرى مقرونة بخرافات.

موقف قساوسة النصارى من المرأة وأثر ذلك على البيئة النصرانية

والنصارى ينظرون إلى الزواج على أنه نوع من القذارة أو النجاسة؛ لأنهم يرون أن المرأة شر كلها، وأن الاقتراب من المرأة أشد من الاقتراب من الأفاعي! وأعلن القساوسة والبابوات أن الزواج أمر يجب الابتعاد عنه، وأن العزب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها -أي: المرأة- باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس في ذاته، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج. قال أحد قديسي الكنيسة: إنها -أي: المرأة- مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، متوهة للرجل. وقال آخر ملقب أيضاً بالقديس: إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها، وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية ملوحة.وفي القرن الخامس اجتمع بعض اللاهوتيين ليبحثوا ويتساءلوا في مجمع ميكن: هل المرأة جثمان بحت، أم هي جسد ذو روح يناط به الخلاص والهلاك؟ وغلب على آرائهم أنها خلو من الروح الناجية، وليس هناك استثناء بين جميع بنات حواء من هذه الوصمة إلا مريم أم المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام!وعقد الفرنسيون في عام خمسمائة وستة وثمانين -يعني: في فترة شباب النبي صلى الله عليه وسلم- مؤتمراً، كان موضوع هذا المؤتمر: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وهل لها روح أم ليس لها روح؟ وإذا كان لها روح، فهل هي روح حيوانية أم روح إنسانية؟ وكل هذا الكلام للذين يدعون أن الإسلام أهان المرأة واحتقرها، إلى آخر هذه الأراجيف الشيطانية، وانظر كيف كان هؤلاء الناس ينظرون للمرأة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام؟! وإذا كانت روحاً إنسانية، فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منه؟ وكان القرار النهائي في المجمع أن قرروا أنها إنسانة، ولكنها خلقت لخدمة الرجل فقط! فيرى هذا الجيل المنحرف أن المرأة ينبوع المعاصي وأصل السيئة والفجور، وأن المرأة للرجل باب من أبواب جهنم من حيث هي مصدر تحركه وحمله على الآثام، ومنها انبجست عيون المصائب على الإنسانية جمعاء. وهذه مأخوذة من التصور التوراتي؛ فإن التوراة تنسب الخطيئة إلى حواء؛ فهي بزعمهم التي أغرت آدم بالأكل من الشجرة، وهي أتت بكل المصائب للبشرية؛ بسبب إغواء آدم بالأكل من الشجرة؛ ولهذا يقول بعض المصنفين: ولما كانت المرأة - حسب رواية سفر التكوين - هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم؛ لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته.ومن أساسيات النصرانية المحرفة: التنفير من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الزوجية وإن كانت حلالاً، حتى بالنسبة لغير الرهبان. يقول أحد رجال الكنيسة بونافنتورا -الملقب بالقديس-: إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته، والذين تسمعون منه هو صفير الثعبان. وهذه الحكايات موجودة في قصة الحضارة.ويقول آخر: إن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وإن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب، وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لابد منها؛ لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه.وأحد الكتاب الأوروبيين مؤلف كتاب (المشكلة الأخلاقية والفلسفية)، يعلق على كلام القساوسة في هذا الباب فيقول: عظمة وعلاء، ولكنه قضاء قاسٍ على الإنسانية، وإن التصديق الكامل لمثل تلك المبادئ لا يمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة، والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائي للنوع الإنساني. وأصدر البرلمان الإنجليزي قراراً في عصر هنري الثامن ملك انجلترا يحظر على المرأة أن تقرأ كتاب (العهد الجديد)، أي: الإنجيل؛ لأنها تعتبر نجسة!.وتذكر بعض المصادر أنه شُكل مجلس اجتماعي في بريطانيا خصيصاً لتعبيد النساء، وذلك سنة ألف وخمسمائة ميلادية، وكان من ضمن مواده: تعذيب النساء وهن أحياء بالنار!ونص القانون المدني الفرنسي وهو يدافع عن حقوق الثورة الفرنسية على: أن القاصرين هم: الصبي والمجنون والمرأة، حتى عدل عام ألف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، ولا تزال فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة. وظلت النساء يُسخرن بالقانون الإنكليزي العام حتى منتصف القرن الماضي تقريباً، وكن غير معدودات من الأشخاص أو المواطنين الذين اصطلح القانون على تسميتهم بهذا الاسم؛ حيث لم يكن لهن حقوق شخصية ولاحق في الأموال التي تحتسب لهن، ولا حق في ملكية شيء، حتى الملابس التي كن يلبسنها، بل إن القانون الإنجليزي حتى عام ألف وتسعمائة وخمسة ميلادية كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته!وقد حدد القانون ثمن الزوجة بستة سنتات، يعني: نصف شلن، وقد حدث أن باع إنجليزي زوجته سنة ألف وتسعمائة وواحد ثلاثين بخمسمائة جنيه، وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الإنجليزي عام ألف وتسعمائة وواحد يحدد ثمن الزوجة بستة سنتات، بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوج، فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام ألف وتسعمائة وخمسة، بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر!وجاء في مجلة حضارة الإسلام: حدث في العام الماضي أن باع إيطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع!وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: من الغرائب التي نقلت عن بعض الصحف المنشورة في هذه الأيام- يعني: قبل حوالي ستين سنة- أنه لا زال يوجد في الأرياف الإنجليزية رجال يبيعون نسائهم بثمن بخس جداً، كثلاثين شلناً، وقد ذكرت الصحف الإنجليزية أسماء بعضهم!وهذا الوضع للمرأة هو عند أن كانوا متمسكين بدينهم المحرف، أما الآن بعدما صاروا ملاحدة لا دين لهم فالوضع أخس؛ لأن المرأة أحقر من السلعة، فوضع المرأة في الغرب وضع مشين للغاية.يقول الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أنها تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة، ولا يستطيع أحد أن يعترض ولا أن يتكلم في مجلس الشعب، إلا إذا حصل اتفاق مع الأخ أو الأم أنها تشارك في كل التكاليف في البيت، فهنا لها أن تبقى!فأصبحت البنت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة؛ لكي تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت أو أجبرتها الظروف في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إيجار غرفتها، وثمن طعامها وغسيل ملابسها، بل تدفع رسماً معيناً مقابل اتصالاتها الهاتفية!وحدث ولا حرج عن ندرة الزواج وكثرة بيوت البغاء وتفشي الفواحش وكثرة اللقطاء وارتفاع نسبة الطلاق!

مؤامرة الغرب على المرأة المسلمة

وحقيقة أن الغرب يحسدنا؛ فكلام الغرب في قضية المرأة بالذات هي عملية حسد، وليس أكثر من هذا، فإذا حسدونا على السلام وعلى التأمين، أفلا يحسدوننا على المرأة التي ما زالت عفيفة مصونة محترمة، لها قيمتها ولها احترامها ولها وزنها؟! فهي مؤامرة لإخراج المرأة من بيتها، وهذه أكبر شيء يطعن المسلمين في القلب، ويلحق ديار المسلمين ومجتمعات المسلمين بـ(الغابات) المتحدة الأمريكية وغيرها، فلا ينبغي لنا أن نتأثر بمنهج العولمة الذي يلزم في الوقت الجديد أن تخرج المرأة بأية طريقة، حتى إنه قد يحصل خداع لبعض الأخوات المسلمات، فتريد إحداهن أن تخرج من بيتها، وأن تُرشح في مجلس الشعب، وهذه بدعة وضلالة ما حصلت من قبل، وليس هناك داع أن ننخرط في مناهج هؤلاء الكفار. فنحن المسلمين حالنا كحال حزب الوفد الذي تحالف مع بعض الأحزاب لما كان ضعيفاً جداً، فلما وصل إلى ما يريد تخلص ممن استعملهم كعامل مساعد، فلا ينبغي لنا أن نتورط في مثل هذا.وأما خروج مسلمة متدينة فاضلة لانتخابات مجلس الشعب فهذا لا ينبغي، وهل الرجال استطاعوا أن يعملوا شيئاً؟! فالرجال ما عملوا شيئاً حتى تأتي امرأة وتدخل في الانتخابات، فيجب على المرأة أن تقر حيث أمرها الله سبحانه وتعالى، فكيف تخرج في وسط هؤلاء الناس، وفي وسط هذه الأوضاع العجيبة؟! وأي مكسب ستجنيه؟! وماذا فعل الرجال من قبل حتى تصنع مثله النساء؟! فالشرع رفض أن تؤذن المرأة في الصلاة، أو تؤم المصلين، ولا تجب عليها صلاة الجماعة، ولا الجهاد؛ لأن الأصل هو القرار في البيت، كما قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]. وأيضاً القرار في البيت ليس تعطيلاً لنصف المجتمع كما يرجف الملاحدة ويزعمون، فالمرأة التي في بيتها ليست عاطلة، بل هي العاملة في الوظيفة المقدسة، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (المرأة راعية في بيت زوجها)، فهذه هي الوظيفة الأساسية للمرأة.أما المرأة الخارجة هذه فهي امرأة هاربة من مسئوليتها، وهناك حالات استثنائية، يعني: أنه يعفى عن المرأة في بعض الظروف، خاصة في هذا الزمان؛ فبعض النساء قد يكون لهن ظروف تعذرهن في الخروج للعمل؛ لكن القاعدة أن كثيراً من النساء يصرفن المرتب في المساحيق والزينة والملابس، فالله المستعان! يقول الدكتور نور الدين عتر : حدثني صديق أنهى تخصصه العالي في أمريكا حديثاً: أن في الأمريكيين أقواماً يتبادلون زوجاتهم لمدة معلومة، ثم يسترجع كل واحد زوجته المعارة، فيعيرها كما يعير القروي دابته، أو الحضري في بلادنا شيئاً من متاع بيته! يقول الشاعر:إيه عصر العشرين ظنوك عصراًنير الوجه مسعد الإنسانلست نوراً بل أنت نار وظلممذ جعلت الإنسان كالحيوانفادعوا المساواة، ولكنها مساواة بين الإنسان وأخيه الحيوان.ونحن نحتاج هنا إلى وقفة، وبالذات إذا ذكرنا قضية الرهبنة، وسوف نشير إشارة لابد منها فنقول: إذا نظرنا إلى شؤم هذه الرهبانية وماذا صنعت في الإنسانية، فسنجد أن الرجل كان يمدح بها عندهم، وكان يقال: فلان الفلاني مكث في بئر نزح ماؤه خمسين سنة، أي: وهو قاعد في بئر نزح ماؤه، ومعتزل فيه؛ كي يقرصه البعوض والذباب وهذه الحشرات، ويتقرب إلى الله بذلك! ويقول الواحد منهم: لقد كنا فيما مضى يمكث الواحد منا عشرات السنين لا يمس جسده الماء، وها نحن الآن ندخل الحمامات!أي أنه يقول: نحن الآن في انحراف عن هذا الهدي؛ لأننا الآن ندخل الحمامات.ومن دخل ديراً سوف يجد ذلك، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، فسوف يجد الناس في داخل الدير المعتزلين هناك، وسيجد أن التراب الأسود على وجوههم قد أصبح زيادة على سواد الكفر؛ لأنهم لا يتنظفون، ولا ينظفون أنفسهم، بل يزعمون أن هذا يقرب إلى الله سبحانه وتعالى.ونحن لا نتكلم على النظافة في الإسلام وسماحة الإسلام؛ فهذا أمر فوق الوصف، فالإسلام جاء بنظافة العقيدة؛ وذلك بتزكية القلب بالتوحيد، وبلا إله إلا الله، والكفر بالأوثان التي يشرك بها مع الله سبحانه وتعالى.وهكذا جاء بنظافة الأخلاق، ونظافة الأجسام والأبدان، ونظافة السلوك، ونحو ذلك، فهو دين النظافة في كل شيء ولله الحمد، فإن الله جميل يحب الجمال.

نظرة الإسلام إلى الزواج

وسنقف هنا على نظرة الإسلام للزواج؛ لنرى أن هذا الإسلام دين حياتي، كما قال عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25]، فلا يمكن أن تستقيم حال البشرية إلا بهذا الدين الذي أنزله الله سبحانه وتعالى؛ فإن الله سبحانه وتعالى شرع لبني آدم الزواج، وجعل تناسلهم يتم بطريقة شريفة منظمة محفوظة مصونة؛ كي لا تختلط المياه، ولا تشتبك الأنساب، وبهذا مُيز الإنسان عن البهائم والحيوانات.وانظر إلى واقع الكفار الآن في الغرب، تجد الفوضى التي لا خطام لها ولا زمام، وكثير من الأبناء هناك لا يعرفون آباءهم، ولا يعرفون لهم أمهات، ولذا فإن مستشفيات النساء في أوروبا وفي الغرب إذا جاءت امرأة لتلد في تلك المستشفى فإنهم يذكرون في البطاقة الخاصة بمعاملة الولادة هل له أب أم ليس له أب، وهل تعرف أباه أم لا تعرف الأب، وهذه البطاقة يشرح فيها الطبيب حالة المريض، فأي امرأة تدخل مستشفيات الولادة يكون في بنود هذه البطاقة: متزوجة أم غير متزوجة؟! وهذا شيء عادي جداً عندهم، وليس فيه أدنى حرج. والمرأة التي لا تنحط في حمأة الفاحشة هذه معقدة نفسياً، ولو وجدت طالبة في الكلية أو في المدرسة ولم يكن لها خليل أو خدن تعاشره سفاحاً، فهذه تحال للطبيب النفسي! لأنها في زعمهم معقدة، فنحمد الله على العافية! فلم تعد المرأة في ظل الإسلام كما كانت عند الآخرين نجسة ومدانة يجب التنزه عنها، ولكن تسامى الإسلام بالمرأة إلى علياء السمو. فالإسلام لم يعتبر الزواج لعنة وشراً، ولم يجعل صوت المرأة مثل صوت صهيل الثعبان ... إلى آخره، بل جعل الزواج من أعظم نعم الله عز وجل على عباده، فقال سبحانه وتعالى وهو يمدح الرسل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]، وهذا جاء في سياق الامتنان.وقال الله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]. وقال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ ... [الروم:21]، وكلمة (آيات) في القرآن الكريم لا تستعمل إلا في الأمور الجليلة العظيمة التي تعكس قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد بلغ من تعظيم الإسلام للزواج أنه قرن آية التكوين الأخرى بتكوين العالم كله، فقال سبحانه وتعالى في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، وقال عز وجل وهو يقرن آياته العظمى في تكوين الأسرة بآياته العظمى في خلق الكون، فقال عز وجل بعدها مباشرة: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]. فالزوجة نفسها ينظر الإسلام إليها أنها نعمة، فيجب على الإنسان أن يشكر ربه عليها، ولا يكفرها، ويعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن هذه النعمة، كما جاء في الحديث: (سيلقى العبد ربه، فيقول الله عز وجل: ألم أكرمك، وأسودك، وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى أي رب! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني)، رواه مسلم وغيره.فالشاهد هنا: قوله عز وجل: (ألم أكرمك، وأسودك وأزوجك)، فهذه من نعم الله التي يحاسب عليها، ويسأل عنها يوم القيامة.

حث الإسلام على الزواج

أما موضوع الترغيب في الزواج والحث عليه فهذا مما علم بالضرورة من دين الإسلام، فالإسلام اختص بالحث على الزواج.يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي)؛ لأن النكاح يعف عن الزنا، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن النبي عليه السلام عليهما الجنة، فقال: (من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة: ما بين لحييه وما بين رجليه). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الزواج، وكان يقرأ لمن يطلب إباحة التبتل قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، وقال عليه الصلاة والسلام: (تزوجوا؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة، ولا تكونوا كرهبانية النصارى).وأما التبتل فقد أتى عثمان بن مضعون رضي الله عنه يستأذن الرسول عليه السلام في أن يتبتل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان ! إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة؟! فوالله إني أخشاكم لله وأحفظكم لحدوده). فالتعبد بترك النكاح لا أصل له في الإسلام، فلم تعد رابطة الزوجية دناءة بهيمية، فالإسلام أتى نوره وبدد تلك الظلمات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تسامى الإسلام بتلك الرابطة، فجعلها ذريعة لواجبات كثيرة رفع الإسلام قدرها.يقول الإمام الفقيه الحنفي كمال الدين بن الهمام رحمه الله تعالى: ومن تأمل ما يشتمل عليه النكاح من تهذيب للأخلاق، وتوسعة الباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع.فالإنسان يجاهد نفسه ويحصل تعديل لسلوكه وأخلاقه السيئة.يقول: وتربية الولد، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، كالنفقة على الزوجة وعلى الأولاد، والنفقة على الأقارب والمستضعفين، وإعفاف الحرم -يعني: إعفاف الزوجة- وإعفاف نفسه، ودفع الفتن عنه وعنهن، ودفع التقتير عنهن بحبسهن لكفايتهن مئونة الخروج -يعني: لأجل طلب الرزق- ثم الاشتغال بتأديب نفسه وتأهلها للعبودية، ولتكون هي أيضاً سبباً لتأهيل غيرها، وأمرها بالصلاة، فإن هذه الفرائض كثيرة لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي.يعني: أن الزواج أفضل من التخلي للعبادات المستحبة والنافلة، ولو خير رجل بأن يتزوج رغم ما في الزواج من عناء ومشقة، وبين أنه ينفرد في صومعة يؤدي الفرائض، ويعتزل ليتقرب إلى الله بالنوافل فأيهما أفضل؟الجواب: لا جدال بأن الزواج أفضل، هكذا هي نظرة الإسلام للزواج، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (من أماثل أعمالكم إتيان الحلال)، يعني: من أفضل أعمالكم إتيان الحلال. وقد يتعجب القارئ أو المستمع كما تعجب الصحابة رضي الله عنهم من قبل عندما قال ناس منهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور -أي الأغنياء- بالأجور؛ يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان فيها وزر؟ قالوا: بلى، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له فيها أجر). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي ذر في ضمن وصية جامعة له: (ولك في جماعك زوجتك أجر، قال أبو ذر : كيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان لك ولد فأدرك ورجوت خيره فمات، أكنت تحتسبه؟ قال: قلت: نعم، قال: فأنت خلقته؟ قال: بل الله خلقه، قال: أفأنت هديته؟ قال: بل الله هداه؟ قال: فأنت ترزقه؟ قال: بل الله كان يرزقه، قال: كذلك فضعه في حلاله وجنبه حرامه، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر). بل تسامى الإسلام بهذه الرابطة، حيث أرشد النبي عليه الصلاة والسلام إلى استصحاب نية طلب الأولاد، والتسمية، وحض على ذلك؛ لما فيه من الخير الكثير، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك اليوم لم يضره الشيطان أبداً).ونحن نختصر الكلام في هذا الموضع وإن كان يحتاج إلى تفصيل؛ لكن هذه الإشارة العابرة تعكس مدى نظرة الإسلام للزواج وتكريم المرأة بصورة لا تترك لعاقل أي شك في أن هذا هو أعظم تكريم للإنسان، وأعظم تكريم للرجل، وأعظم تكريم للمرأة، بخلاف هذه الحضارة البهيمية التي تريد أن تسوي لا بين الرجل والمرأة كما يزعمون؛ ولكن بين الإنسان والحيوان، بل حتى الحيوانات قد تكون أفضل، وأحوال القوم لا تخفى على مسلم.

تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ...)

يقول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].قال ابن كثير : حمل ابن عباس هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب، وأنهم يؤتون أجرهم مرتين، كما في الآية التي في القصص: أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)[القصص:54]، وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل كتاب آمن بنبيه وآمن بي، فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مولاه، فله أجران، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران) متفق عليه، فانظر إلى حث الإسلام على التأديب وعلى التعليم وعلى التربية، حتى الجارية نفسها أمر بتأديبها.وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير ، فقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ))، المقصود بالآية مؤمنو أهل الكتاب. وقوله: (( اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ )). قال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى هذه الآية في حق هذه الأمة. والظاهر أن لفظها أعم، وأن المقصود بها حث كل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم على الثبات على الإيمان، والرسوخ فيه، والانصياع لأوامره.ومنه ما حث عليه في الآيات قبلها من الإنفاق في سبيله، وسخاوة النفس فيه، وأن لهم في مقابل ذلك أجراً وافراً، كما قال في أول السورة: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7]، وآخر السورة فيه رجوع لأوائلها؛ لتذكير ما أمرت به وما سبق نزولها لأجله.وقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، الكفل: الحظ، وأصله ما يكتفل به الراكب فيحبسه ويحفظه عن السقوط، والتثنية في مثله إما على حقيقتها أو هي كناية عن المضاعفة.(ويجعل لكم نوراً) النور: هو ما يبصر من عمى الجهالة والضلالة، ويكشف الحق لقاصده، كما قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، فكلما اتقيت الله سبحانه وتعالى فإنه ينور قلبك، ويعطيك القوة على التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال.ومعنى الآية: إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كفلين، ويجعل لكم كذا وكذا.

تفسير قوله تعالى: (لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء ...)

قال تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:29].(( لِئَلَّا يَعْلَمَ )) أي: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يسلموا عدم قدرتهم على شيء من فضل الله، وثبوت أن الفضل بيد الله.والمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأنهم كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق. فأهل الكتاب كانوا يعتقدون أنهم أفضل الخلق، وزنادقة اليهود يقولون كما حكى الله عنهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، وقالوا: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، كانوا يحسبون أنهم أفضل من جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة ما لم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، أي: ليسوا هم الذين يوزعون فضل الله على الخلق. والتفضيل بين الأمم راجع إلى قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68]، فأنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فإذا كنتم لا تقدرون على شيء من فضل الله، فكيف تكون لكم قدرة على ما هو أعظم فضل الله. إذاً فالمراد بالفضل ما آتاه المسلمين وخصهم به؛ لأن أهل الكتاب كانوا يرون أن الله فضلهم على جميع الخلق، فأعلمهم الله جل ثناؤه أنه قد آتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضل والكرامة مالم يؤتهم؛ ليعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فضلاً عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة، فيخص بها من أرادوا، وأن الفضل بيد الله دونهم.قوله: (( وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ ))، يعني: ليس بأيديكم أنتم يا أهل الكتاب! دون غيركم من الخلق، بل الله عز وجل يؤتيه من يشاء من عباده.(ولا) في (( لِئَلَّا )) صلة، وقال بعضهم: وهو حرف شاعت زيادته. بل هذا في الحقيقة من أوضح الأدلة على أن (لا) قد تكون أحياناً زائدة، ولا تعني النفي، وهذا أحد الأوجه في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1].فهنا قوله تعالى: (( لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ ))، تفسيرها: ليعلم أهل الكتاب.قال ابن جرير : وذكر أن في قراءة عبد الله : (لكي يعلم)، قال: لأن العرب تجعل (لا) في صلة كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح، كقوله في البحث السابق الذي لم يصرح به: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف:12]، وتفسيرها: ما منعك أن تسجد لما أمرتك، وقال تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:109]، يعني: أنهم سوف يؤمنون.وقال تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]، في التفسير: أنهم يرجعون؛ فالأمة التي تهلك لا ترجع إلى الدنيا مرة أخرى؛ فهذا حرام بتحريم كوني قدري، أي: حرام عليهم أن يرجعوا إلى الدنيا.ونقل الثعالبي في فقه اللغة زيادتها في عدة شواهد في فصل (الزوائد والصلات التي هي من سنن العرب) فانظره تزدد علماً.وهذا آخر تفسير سورة الحديد. والله أعلم.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , تفسير سورة الحديد [25-29] للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

https://audio.islamweb.net