إسلام ويب

الإيمان بالقدر من أركان الإيمان وأصوله، وهو أن يؤمن العبد بأن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم، وجعل أفعالهم كسباً لهم باختيارهم ولا تتم إلا بمشيته تعالى وإرادته، فالعباد لهم في كسبهم مشيئة وإرادة فليسوا مجبورين عليها، إلا أن ذلك لا يخرج عن مشيئة الله تعالى، فليسوا خالقين لأفعالهم.

مسائل في القدر

القدر من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، وأصول الإيمان الستة كلها من الإيمان بالغيب، وهي: الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر خيره وشره.

ويمكن للناس أن يعرفوا المغيَّب من القدر بأمرين اثنين:

أحدهما: وقوع الشيء، فإن وقوعه دليل على أنه مقدر؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما قدره الله وشاءه، وأما ما لم يشأه فإنه لا يقع، وأما ما شاءه فلا بد من أن يكون.

الأمر الثاني: الإخبار من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور مستقبلة، فإن هذا الإخبار الذي ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا المخبَر به لا بد من أن يوجد، ولا يكون كذلك إلّا وقد سبق به القضاء والقدر؛ لأنه لا يوجد ولا يقع إلا شيء مقدَّر.

وسطية أهل السنة في باب القدر

هناك أمور أخرى تتعلق بالإيمان بالقدر، منها: أن أهل السنة والجماعة وسط في القدر بين الجبرية والقدرية، بين الجبرية الغلاة في الإثبات، وبين القدرية الذين نفوا القدر وجعلوا العباد خالقين لأفعالهم، فأهل السنة والجماعة توسطوا بين هؤلاء وهؤلاء، فالجبرية قالوا: إن الإنسان مجبور على أعماله وحركاته الاختيارية وغيرها، وأنه مثل الشجرة التي تحركها الرياح، ومثل الريشة التي تطير في الهواء، وإن الإنسان ليس له إرادة ولا مشيئة، بل هو مجبور على ما يحصل منه من أفعال. ولم يفرقوا بين أفعال الإنسان الاختيارية وأفعاله الاضطرارية.

ويقابل هؤلاء القدرية الذين قالوا: إن الله عز وجل لم يقدَّر أعمال العباد على العباد؛ لأنه منزه عن الشر، وإنما العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، وهم الذين يوجدون أعمالهم.

وأما أهل السنة فقالوا: إن أعمال العباد هي كسب لهم، فهي واقعة بمشيئتهم وإرادتهم، ومشيئتهم وإرادتهم تابعة لمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدّر، وعلى هذا فهم وسط بين الذين غلوا في إثبات القدر حتى قالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله الاختيارية. وبين الذين نفوا القدر وقالوا: إن الإنسان هو الذي يخلق فعله ويوجده. فهم متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء.

ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد تنقسم إلى قسمين: أفعال اضطرارية، وأفعال اختيارية، فالأفعال الاضطرارية هي التي لا مشيئة ولا إرادة لهم فيها، فهي خارجة عن إرادتهم ومشيئتهم، وذلك مثل ارتعاش يد الإنسان، فهذا الارتعاش ليس من فعل الإنسان، وإنما هو صفة له، وهو يريد أن يفعل الأسباب التي تجعله يَسلَم من هذا الشيء، فإنه ليس من فعله، وليس بإرادته ومشيئته، فهذه الأفعال من الله وليس للإنسان كسب فيها.

أما الأفعال الاختيارية فهي الأكل والشرب والذهاب والإياب والبيع والشراء والصلاة والصيام، وغير ذلك من الأفعال التي هي كسب من العبد وتحصل بمشيئة العبد وإرادته، ولكنها لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته؛ لأن الله تعالى هو خالق العباد، وهو خالق أفعال العباد، وكل ما يقع في الوجود من حركة أو سكون فهو بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده سبحانه وتعالى، وهذه الأفعال الاختيارية يثاب عليها العبد ويعاقب.

وبهذا يتبين أن هناك فرقاً بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية، ولهذا نجد النحاة يعرفون الفاعل فيقولون: هو اسم مرفوع يدل على من حصل منه الحدث أو اتصف به. فهذا التفصيل في هذا التعريف يشمل القسمين من أفعال العباد: الاختيارية والاضطرارية، فالذي حصل منه الحدث هو أن يأكل ويشرب ويبيع ويشتري ويصلي ويصوم، فهذه أفعال اختيارية، وتحصل من الإنسان بمشيئته وإرادته، وأما من قام به الحدث واتصف به فهو مثل: (مرض فلان)، و(مات فلان)، و(ارتعش فلان)، فإن هذه ليست من أفعاله، وليست من كسبه؛ لأن الموت ليس بإرادته ومشيئته، وهو لا يريد الموت، وكذلك المرض، فهو لا يريده، فإذا قيل: مرض زيد فـ(مرض) فعل ماضي، و(زيد) فاعل، قيل له: (فاعل)؛ لأن الحدث قام به، وهو الموت، وكذلك المرض قام به، وكذلك الارتعاش قام به، وهو لم يفعله باختياره، ففرق بين الأفعال الاختيارية والأفعال الاضطرارية.

ويقول أهل السنة: إن أفعال العباد خلق الله وكسب من العباد؛ لأنها تقع بمشيئتهم وإرادتهم التابعة لمشيئة الله وإرادته، كما قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:28]، فأثبت للعبد مشيئة، ثم أخبر بأن مشيئته لا تكون مستقلة عن مشيئة الله، بل هي تابعة لها، وما يوجد من العبد بمشيئته وإرادته فإنه يكون بمشيئة الله وإرادته؛ لأنه لا يمكن أن يشاء العبد شيئاً ويقع والله تعالى لم يشأ وقوعه، وقد عرفنا أن الكلمتين اللتين تشتملان على بيان عقيدة المسلمين وعقيدة أهل السنة والجماعة في القضاء والقدر هما: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وقد جاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، فليس معنى ذلك أن الشر ليس بمشيئة الله وإرادته وخلقه وإيجاده، بل كل شيء بمشيئة الله تعالى وإرادته وخلقه وإرادته، سواء أكان خيراً أم شراً، ولكن المقصود من ذلك أنه لا يخلق شراً خالياً من حكمة وفائدة، بل كل ما يخلقه الله من الشرور فإن من ورائه حكمة عظيمة.

فليس المراد أن هذه الأفعال ليست من الله، أو أنها خارجة عن مشيئة الله، وأن العباد هم الذين يوجدونها، ولم يقدرها الله تعالى، بل الله خالق كل شيء، كما قال الله عز وجل: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62]، فيدخل في ذلك كل شيء مخلوق، وكذلك قول الله عز وجل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]، أي: خلقكم وخلق أعمالكم.

فهو خالق الذوات، وخالق الصفات، وخالق الأفعال، أي أنه خالق العباد وخالق أفعالهم.

تسيير الإنسان وتخييره، وقول أهل السنة في ذلك

يظهر من خلال ما ذكرته آنفاً أن أهل السنة متوسطون بين الجبرية وبين القدرية، وأنهم يثبتون لله مشيئة وإرادة، ويثبتون للعبد مشيئة وإرادة، وأن مشيئة العبد وإرادته تابعة لمشيئة الله تعالى وإرادته وهي: هل الإنسان مخير أو مسير؟

والجواب أنه لا يصلح أن نجيب بواحد من المسئول عنهما، بل الجواب شيء ثالث غير الاثنين، فلا يقال: هو مخيَّر مطلقاً ولا مسيَّر مطلقاً، بل يفصل في ذلك، فهو مسيَّر ومخيَّر، مخير باعتبار أن الله تعالى جعل له عقلاً وتمييزاً، وبيّن له طريق الخير من طريق الشر، وأن هذا الطريق يوصله إلى الجنة وهذا الطريق يوصله إلى النار، كما قال الله عز وجل: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] أي: بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر، وعنده من العقل ما يميّز ويعرف به ما ينفع وما يضر، فهو يختار ما يريد بمشيئته وإرادته، وبذلك يستحق الجزاء من ثواب أو عقاب، ولكن هذا الذي يحصل منه لا يكون خارجاً عن مشيئة الله وإرادته، بل هو تابع لمشيئة الله وإرادته.

فالعبد مخيّر باعتبار أن له مشيئة وإرادة وعقلاً وتمييزاً، وأنه قد بُيَّن له طريق الخير ومآله، وطريق الشر ومآله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لما سألوه: فيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

ولذلك يثاب العبد ويعاقب، فتقام عليه الحدود ويعزر بناءً على ما يحصل منه من الوقوع في أمور لا يجوز له أن يقع فيها.

وهو مسيَّر باعتبار أنه لا يقع منه شيء خارج عن مشيئة الله وإرادته، بل لا يحصل منه شيء إلّا وقد قدّره الله وقضاه؛ لأنه لا يقع في الكون إلا مقدَّر، ولا يكون في الكون إلا ما سبق به قضاء الله وقدره.

ولهذا فالجواب عن سؤالهم: هل الإنسان مخير أو مسير لا يكون بالإطلاق على أنه مخيّر أو مسيّر، وإنما يقال: هو مخير ومسيّر، مخير باعتبار، ومسير باعتبار آخر، فهذا هو الجواب السديد والسليم.

ويشبه هذا الجواب في عدم تعيين واحد من شيئين مسئول عنهما وأنه يُجاب بالجمع بينهما مسألة (هل الحدود زواجر أو جوابر) فلا يقال: الحدود زواجر فقط، ولا جوابر فقط، وإنما يقال: فهي جوابر وزواجر، فجوابر باعتبار أن الإنسان إذا فعل معصية عليها حد في الدنيا، وأقيم عليه الحد في الدنيا فإنه قد حصّل جزاءه على هذا الذنب في الدنيا، فلا يعذب به مرة أخرى؛ لأن النقص الذي حصل قد جُبر بالحد.

وقد ثبت من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصاب شيئاً من هذه الحدود فأقيم عليه الحد كان كفارة له)، فقوله: (كان كفارة له) أي أنه جبر هذا النقص الذي حصل منه بهذا الحد الذي أقيم عليه وصار كفارة له.

وهي زواجر لمن أقيم عليه الحد حتى لا يعود إليه مرة أخرى، وزواجر لغيره حتى لا يقع فيما وقع فيه ذلك الإنسان الذي أقيم عليه الحد.

والذين يقولون: إنها زواجر وليست بجوابر هم الخوارج، فهم الذين يرون أن الإنسان إذا لم يتب ولم يقم عليه الحد فإنه يكون مخلداً في النار؛ لأن أصحاب الكبائر على مذهبهم مخلدون في النار، وأنه لا ينفع في ذلك إلا التوبة، وأن الإنسان إذا أقيم عليه الحد ولم يتب فإنه يخلد في النار.

وقد بيَّن حديث عبادة بن الصامت السابق أنها كفارة له، أي: كأن الذنب لم يكن، وإن لم يحصل منه توبة، فأما إذا حصل منه توبة فالتوبة تجب ما قبلها، لكن إذا أقيم الحد على إنسان ما فلا يعاقب عليه مرة أخرى في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا الذنب الذي وقع منه قد كفَّر عنه بهذه العقوبة التي حصلت له في الدنيا، وهي إقامة الحد عليه.

عدم جواز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

من المسائل المتعلقة بالقضاء والقدر أنه لا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور أو فعل محظور، فبعض الناس إذا لم يحصل منه فعل المطلوب ثم عوتب على ذلك يقول: قضاء وقدر، وهذا الأمر مقدَّر عليَّ. وإن وقع في معصية فعوتب على ذلك قال: هذا مقدر!

والجواب أن كل شيء مقدر، فالعقوبة مقدرة والفعل مقدر، فيعاقب على فعله، ويعزر إذا كان يستحق التعزير، أو يقام عليه الحد، ويقال له: وهذا -أيضاً- مقدر. فالله تعالى قد قدر وقوع هذه الأعمال، وقدر العقوبة عليها، فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على ترك مأمور أو فعل محظور.

وأما قصة احتجاج آدم وموسى الثابتة في الصحيحين فإن ذلك ليس احتجاجاً على المعايب والمعاصي, وإنما هو احتجاج على المصائب التي نتجت عن هذه المعايب.

ثم إن اللوم على المعصية إنما يكون قبل التوبة، وأما إذا وجدت التوبة فإن الإنسان لا يلام على فعله الذي تاب منه، ولا يتعرض له، وإنما يلام الإنسان ما دام مستمراً على معصيته.

وهناك مسائل أخرى تتعلق بالإيمان بالقضاء والقدر، وقد أوضحتها في كتاب (قطف الجنى الداني في شرح مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني).



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية [6] للشيخ : عبد المحسن العباد

https://audio.islamweb.net