اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية [17] للشيخ : عبد المحسن العباد
هذا حديث عظيم بين فيه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عظم شأن المكاسب الطيبة، وخطورة المكاسب الرديئة الخبيثة المحرمة، وأن المكاسب الطيبة مأمور بها، وفي الإتيان بها الخير والسلامة والعافية، وأن أكل الحرام فيه الضرر الكبير والخطر العظيم؛ حيث يكون ذلك مانعاً من قبول دعاء الداعي.
ومن المعلوم أن الرسل لا يحصل منهم الأكل إلا مما كان طيباً، وعلى المؤمنين أن يتبعوا الرسل فلا يأكلوا إلا ما كان طيباً، إذ الرسل أمروا بأن يأكلوا من الطيبات وهم لا يأكلون إلا الطيبات، والمؤمنون أمروا كذلك بما أمر به المرسلون، وعليهم أن يتبعوا المرسلين، وأن يقتدوا بهم في أنهم لا يأكلون إلا الطيب، وأن لا يأكلوا الحرام، وقد ذكر الله عز وجل من صفات نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في التوراة والإنجيل: أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به المرسلين من الأكل من الطيبات؛ لأنه ذكر أنه تعالى طيب ولا يقبل إلا طيباً، ثم ذكر أنه أمر المرسلين بأن يأكلوا من الطيبات، وأمر المؤمنين بأن يأكلوا من الطيبات.
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذا الرجل الذي ضرب به المثل أنه لا يقبل دعاؤه؛ وذلك لأنه اكتسب الحرام وكان مأكله ومشربه حراماً .. مع أنه وجد منه عدة أسباب من أسباب قبول الدعاء، ومع ذلك فإن الأكل من الحرام صار صارفاً ومانعاً من القبول.
الأمر الأول: السفر: وهذا الرجل الذي ضرب به المثل مسافر، وسفره طويل أيضاً؛ لأنه قال: ( يطيل السفر )، وقد جاء في الحديث ذكر المسافر ضمن أشخاص تستجاب دعوتهم، وإذا كان المسافر مطيلاً للسفر، وفي غربة ووحشة لبعده عن أهله، وقلبه منكسر، وعنده هم وغم لبعده عنهم؛ فقد جاء ما يدل على أنه ممن يقبل ويستجاب دعاؤه.
الأمر الثاني: أشعث أغبر: وقد جاء في الحديث عن أهل عرفة أن الله تعالى يباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: (انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً) .
الأمر الثالث: رفع اليدين بالدعاء: فإنه قال: ( يمد يديه إلى السماء )، أي: إلى الله عز وجل، وفي هذا بيان أن الله تعالى في العلو، والمقصود بالسماء العلو، والله تعالى فوق العرش، وهو في العلو وليس في داخل السماوات؛ لأن السماوات مخلوقة لله عز وجل، وهي ضئيلة أمام عظمة الله عز وجل، فلا يكون في داخل السماوات أو الأرضين؛ بل هو فوق العرش سبحانه وتعالى، فالمراد بالسماء هنا: العلو، كما قال الله عز وجل: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: في العلو، ومن المعلوم أن كل ما علا فهو سماء، وكل ما كان داخل السماوات ودون العرش فهو سماء ولكنه مخلوق، وما فوق العرش فهو سماء، والله سبحانه وتعالى هو في السماء التي فوق العرش، أي: في العلو.
ومعنى أنه يمد يديه إلى السماء أي: يرفع يديه إلى الله عز وجل، وقد جاء في الحديث: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً)، أي: أن الله تعالى يجيب دعاءه إذا رفع يديه.
الأمر الرابع: سؤال الله عز وجل بربوبيته: وأنه الرب الذي هو خالق كل شيء، والمربي لخلقه بالنعم، والمتفضل عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، ولهذا كثيراً ما يأتي في القرآن ذكر الدعاء مبدوءاً بربنا، كقوله تعالى: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا [آل عمران:8]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً [البقرة:201]، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] آيات كثيرة فيها دعاء الله عز وجل باسم الرب وبوصف الربوبية لله سبحانه وتعالى.
الأمر الخامس: الإلحاح في الدعاء: وذلك حينما قال: يارب! يارب! وهذا التكرار فيه إلحاح.
إذاً: هذه الأمور الخمسة كلها من أسباب قبول الدعاء، ومع ذلك فإن هذا الذي حصلت منه هذه الأمور لم تحصل له الاستجابة؛ لأنه يأكل ويتعاطى الحرام في مأكله وملبسه ومشربه وغذائه وفي جميع تصرفاته، كل استخدامه واستعماله للمال الحرام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام بعدما ذكر هذه الأحوال التي اتصف بها هذا الرجل الذي سأل الله عز وجل، ولكن جاءت الأمور التي تمنع وهي: كون مأكله حراماً ومشربه وملبسه وغذي بالحرام، قال بعد ذلك: ( فأنى يستجاب لذلك؟! ) أي: كيف يستجاب له؟! هذا بعيد أن يستجاب له وقد حصل منه الأخذ بهذه الأسباب التي تمنع قبول الدعاء، ولكن مع ذلك فإن الاستجابة لمن هذه حاله غير مستحيلة؛ فإن الله عز وجل إذا شاء أن يستجيب لمن حصلت منه الذنوب فإنه يستجيب، ولكن هذه الأمور من أسباب عدم قبول الدعاء.
معلوم أن الإشارة بالسبابة تكون عند ذكر الله تعالى، كما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في التشهد يحرك أصبعه يدعو بها، وكذلك في الخطبة كان لا يزيد على أن يشير بإصبعه، فما كان يرفع يديه، كما جاء أن عبد الملك بن مروان كان يخطب وقد رفع يديه، فأنكر عليه بعض الصحابة وقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد على أن يقول بإصبعه هكذا) إذاً: الخطبة لا ترفع فيها الأيدي وإنما يشار بالإصبع فقط، إلا في الاستسقاء إذا حصل في الخطبة فترفع الأيدي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما استسقى في خطبة الجمعة رفع يديه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولعل إشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه كانت تكون عند التكبير وعند ذكر الله عز وجل، كما في التشهد حين كان يحركها يدعو بها عند ذكر الله.
قال رحمه الله: ( وذهب جماعة من العلماء إلى أن دعاء القنوت في الصلاة يشير فيه بإصبعه، منهم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز وإسحاق بن راهويه ، وقال ابن عباس وغيره: هذا هو الإخلاص في الدعاء، وعن ابن سيرين : إذا أثنيت على الله فأشر بإصبع واحدة ).
فيما يتعلق بقنوت النوازل: كان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء، وأما قنوت الوتر فقد ثبت عن عمر رضي الله عنه، وجاء عن أبي هريرة ، ولا أعلم فيه حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن -كما هو معلوم- إذا ثبت عن الصحابة فإنه يؤخذ بما جاء عن الصحابة، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه كان يرفع يديه، وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا في قنوت الوتر، وأما قنوت النوازل فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه.
قال: ( ومنها أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه، وقد رويت هذه الصفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء، واستحب بعضهم الرفع في الاستسقاء على هذه الصفة منهم الجوزجاني .
ومنها عكس ذلك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أيضاً، وروي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يدعون كذلك، وقال بعضهم: الرفع على هذا.
ومنها عكس ذلك أي: كون ظهورهما إلى جهة وجهه وبطونهما إلى جهة القبلة على الهيئة التي تكون عند التكبير، فعندما يكبر يجعل بطونهما إلى جهة القبلة وظهورهما إلى جهة وجهه، هذا هو عكس الكلام الأول.
وقد جاء من حديث أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه).
وهذه الصفة معناها: أنه جعل بطونهما إلى جهة الأرض، كأنه رفع يديه هكذا فصارت البطون إلى جهة الأرض.
قال: ( ومنها: إذا رفع يديه جعل كفيه إلى السماء وظهورهما إلى الأرض، وقد ورد الأمر بذلك في سؤال الله عز وجل في غير حديث، وعن ابن عمر وأبي هريرة وابن سيرين أن هذا هو الدعاء والسؤال لله عز وجل.
ومنها عكس ذلك: وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء، وبطونهما مما يلي الأرض.
وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء)، وخرجه الإمام أحمد رحمه الله ولفظه: (فبسط يديه وجعل ظاهرهما مما يلي السماء).
يمكن أنه بدل ما يثني يديه جعلهما مبسوطتين، ولكن بطونهما إلى الأرض وظهورهما إلى السماء.
قال: ( وخرجه أبو داود ولفظه: (استسقى هكذا) يعني: مد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض ).
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة يدعو هكذا، ورفع يديه حيال ثندوته، وجعل بطون كفيه مما يلي الأرض)، وهكذا وصف حماد بن سلمة رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة.
وهذا خرجه الإمام أحمد في المسند، ورواه ابن أبي شيبة ، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: فيه بشر بن حرب وهو ضعيف.
قال: وروي عن ابن سيرين أن هذا في الاستخارة، وقال الحميدي : هذا هو الابتهال.
هذا الحديث هو أول حديث ذكره النووي خارج الصحيحين، والأحاديث العشرة التي مرت كلها في الصحيحين أو أحدهما، وقد خرج الإمام مسلم الأحاديث العشرة الماضية كلها، والإمام البخاري خرجها كلها إلا الثاني والسابع والعاشر، فالثاني هو حديث عمر حديث جبريل، ولكنه رواه من حديث أبي هريرة فلم يروه من حديث عمر ، و النووي إنما أورد حديث عمر ولم يورد حديث أبي هريرة ، والحديث السابع حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري : (الدين النصيحة)، والحديث العاشر حديث أبي هريرة : (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً).
إذاً: مسلم روى العشرة الماضية كلها، و البخاري روى سبعة منها فقط، فلم يروِ الثاني والسابع والعاشر، والحديث الحادي عشر هو أول الأحاديث التي ليست في الصحيحين، ولكنه صحيح وثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
وهو سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ابن بنته؛ فإن الأسباط هم أبناء البنات، والأحفاد أبناء البنين، وذرية الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي من البنات؛ بل من أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها، وهم الذين بقي النسل فيهم من ذرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وله من غير فاطمة مثل أمامة بنت زينب ، التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة، فإنها عاشت بعده، ولكن النسل إنما حصل من هذين السبطين الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنهما ريحانتاي من الدنيا) يعني الحسن والحسين ، والريحان: هو النبت الذي رائحته طيبة، فهما شبيهان بالريحان لحسنهما ولقربهما منه، ولطيبهما وطيب رائحتهما عنده صلى الله عليه وسلم، فكانا بمثابة ذلك الريحان الذي ترتاح وتطمئن إليه النفوس.
فالنفس تكون قلقة مضطربة إذا كان الشيء مما يريب، وعلى الإنسان أن يذهب إلى ما لا يريبه، وتطمئن وترتاح نفسه إليه، ويقدم الإنسان عليه وهو مرتاح، فيكون قوله: ( دع ما يريبك ) مثل قوله: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )، وقوله: ( إلى ما لا يريبك ) مثل قوله: ( إن الحلال بين )، فإن الإنسان عندما يأتي إلى شيء واضح جلي ليس فيه خفاء، فإنه يكون قد أخذ بما هو واضح وبما هو حلال بين، وأما إذا كان في شيء مشكوك فيه، وفي أمر غير مرتاح إليه؛ فإن هذا يكون من قبيل الشيء الذي أقدم عليه وكان المطلوب منه أن يتركه؛ لأن ( دع ) بمعنى اترك، وهي فعل أمر، وهي مادة يأتي منها الأمر والمضارع ولا يأتي منها الماضي إلا نادراً، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم).
وهذا الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )، من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام؛ فإنها جملة وجيزة قصيرة، مبناها قليل ولكن معناها واسع، وهذه من الكلمات الجامعة التي أعطيها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
هذا الحديث أيضاً من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الإنسان المتمسك بإسلامه تمسكاً صحيحاً يترك ما لا يعنيه إلى ما يعنيه، ويشتغل بما يعود عليه بالخير، ويشغل وقته ويصرف ساعاته فيه، ويترك الشيء الذي لا يعنيه والذي لا علاقة له به؛ سواء كان متعلقاً بأعمال أو أقوال، أو كان متعلقاً بأحوال الناس وأعمالهم وما يكونون عليه؛ فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وذلك بأن يشتغل بنفسه وتهذيبها وتنقيتها وتصفيتها وتربيتها على الخير، وتعويدها على ما يعود عليه بالخير، ويشغل وقته في ذلك، ولا يشتغل بأمور أخرى لا تعنيه.
وهذا الحديث يدلنا على أن الناس يتفاوتون في الإسلام، وأن فيهم من يكون بهذا الوصف الذي تكون نتيجته أنه يترك ما لا يعنيه، ومفهوم ذلك: أنه يعنى بما يعنيه، وهو ما يهمه وما هو مطلوب منه، سواء كان متعلقاً بأمور الدين أو الدنيا، بأمور الحياة الدنيا أو الحياة الآخرة، كل ما يعنيه من ذلك فإنه يشتغل به، وما لا يعنيه فإنه يكف عنه ويبتعد عنه.
وهذا من الآداب النبوية التي جاءت عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في عبارة وجيزة وفيها حث الإنسان على أن يشتغل بما يعنيه، وأن يحذر الاشتغال بما لا يعنيه.
وكل هذه الأربعة الأحاديث من الأربعين، وبعضها مماثل لبعض؛ لأن قوله: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) من جنس: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )؛ لأن كونه يقول خيراً من الاشتغال بما يعنيه، وكونه يصمت، فقد صمت عن الكلام فيما لا يعنيه، وعن الاشتغال بما لا يعنيه، واشتغل بما يعنيه، وكذلك الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فهو يقدم على الشيء الذي يعود على غيره بالخير، كما أنه يقدم على ما يعود عليه بالخير.
قال رحمه الله: ( ومعنى هذا الحديث: أن من حسن إسلامه تركه ما لا يعنيه من قول وفعل، والاقتصار على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، ومعنى ( يعنيه ): أنه تتعلق عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه، والعناية شدة الاهتمام بالشيء، يقال: عناه يعنيه إذا اهتم به وطلبه، وليس المراد أنه يترك ما لا عناية له ولا إرادة بحكم الهوى وطلب النفس؛ بل بحكم الشرع والإسلام، ولهذا جعله من حسن الإسلام، وإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال، فإن الإسلام يقتضي فعل الواجبات، كما سبق ذكره في شرح حديث جبريل عليه السلام، وإن الإسلام الكامل الممدوح يدخل فيه ترك المحرمات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وإذا حسن الإسلام اقتضى ترك ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإن هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد الله تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، فمن عبد الله على استحضار قربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه عليه فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين الاستحياء من الله وترك كل ما يستحيا منه، كما وصى صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يستحي من الله كما يستحي من رجل من صالحي عشيرته لا يفارقه، وفي المسند والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً: (الاستحياء من الله تعالى أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما وحوى، وتذكر الموت والبلى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
قال بعضهم: استحِ من الله على قدر قربه منك، وخف الله على قدر قدرته عليك، وقال بعض العارفين: إذا تكلمت فاذكر سمع الله لك، وإذا سكت فاذكر نظره إليك.
وقد وقعت الإشارة في القرآن العظيم إلى هذا المعنى في مواضع كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]، وقوله تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61]، وقال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني: حفظ اللسان من لغو الكلام، كما أشير إلى ذلك في الآيات الأولى التي هي في سورة ق، وفي المسند من حديث الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه)، وخرج الخرائطي من حديث ابن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: (يا رسول الله! إني مطاع في قومي فما آمرهم؟ قال: مرهم بإفشاء السلام، وقلة الكلام إلا فيما يعنيهم)، وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزود لمعاد، أو حرفة لمعاش، أو لذة في غير محرم).
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ).
ثم قال رحمه الله: وهذا الحديث يدل على أن ترك ما لا يعني المرء من حسن إسلامه، فإذا ترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه كله فقد كمل حسن إسلامه، وقد جاءت الأحاديث بفضل من حسن إسلامه، وأنه تضاعف حسناته وتكفر سيئاته، والظاهر أن كثرة المضاعفة بحسب حسن الإسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل)، فالمضاعفة للحسنة بعشر أمثالها لابد منه، والزيادة على ذلك تكون بحسب إحسان الإسلام وإخلاص النية والحاجة إلى ذلك العمل وفضله؛ كالنفقة في الجهاد وفي الحج وفي الأقارب وفي اليتامى والمساكين وأوقات الحاجة إلى النفقة، ويشهد لذلك ما روي عن عطية عن ابن عمر أنه قال: نزلت مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] في الأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أكثر، ثم تلا قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] ).
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: كونه يؤتى بها كاملة على وفق الشرع، وإذا أتي بها على خلاف الشرع بأن تكون مبتدعة، أو أن يخل بالإتيان بها على كيفيتها وهيئتها المطلوبة، فإنها تكون بحسبها، وعلى هذا فإن العمل إذا كان هكذا يعتبر غير كامل؛ لأن الكامل لابد أن يكون طيباً، وإن كان أصله فيه السلامة ويعتبر مجزئاً، إلا أنه إذا حصل فيه إخلال فيكون هذا مقابل الإتيان به على وجه طيب.
الجواب: نعم، يجوز للإنسان أن يصلي في المسجد ولو كان قد بني من الحرام؛ فإن لكم غنمه ولكم الفائدة من الصلاة في هذا المكان، وأما هو فعليه إثمه وعليه غرمه.
الجواب: إذا كانت هذه الشهادة مبنية على هذا الغش، وهذا الراتب إنما يعطى على هذه الشهادة، فمعناه أنه وصل إلى ما وصل إليه بغير طريق مشروع، وعليه إذا كان دخل بهذه الشهادة أن يسعى لأن يحصل عملاً بشيء دونها؛ لأن هذا بني على سبب محرم وعلى وسيلة محرمة، وهي وسيلة تحصيل تلك الشهادة.
الجواب: معنى ذلك: أنه يعذب بالنار نتيجة لأكله الحرام، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:10]، وقال تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، لكن هذا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، كما في السلسلة الضعيفة، وذكر شعيب الأرنؤوط أنه رواه ابن مردويه في تفسيره عن الطبراني كما في تفسير ابن كثير ، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه الطبراني في الصغير، وفيه من لم أعرفه.
الجواب: يجوز؛ لأن الأسماء التي لا يسمى إلا الله تعالى بها ذكرها العلماء ومنهم ابن كثير في أول تفسيره ومنها: الله، والرحمن، والصمد، والخالق .. . إلخ، وأما بعضها مثل الرحيم، فقد جاء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه رءوف رحيم، وجاء ذكر العزيز والعظيم إلى أسماء أخرى مضافة إلى غير الله عز وجل، أما الصمد والرحمن والخالق والله، فهذه لا تضاف إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
الجواب: التعلم وزوال الجهل بالعلم هو المطلوب، وإذا استشكل أحد هذا فيقال له: قد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب: يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يقبل الله صدقة من غلول)، فلا يتصدق بمال حرام، ولا يأخذه ولا يكون من أهله، ولا يدخل في ماليته، بل عليه أن يبتعد عنه، ولكنه إذا وقع في حوزته وابتلي به فيمكن أن يتخلص منه بأمور ممتهنة، مثل بناء حمامات، أو تعبيد طرق، أو ما أشبه ذلك، أما كونه يتصدق به، فهذا كما يقول الشاعر:
أمطعمة الأيتام من كد فرجهالك الويل لا تزني ولا تتصدقي
الجواب: هذه الصيغة صيغة اسم؛ لأن الصفة هي الطِيْب والاسم هو الطَيب، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، فالجميل اسم والجمال صفة، وهنا الطَيب اسم والطِيب صفة.
الجواب: يصح حجه، وكون المعطي كافر ليس فيه بأس، ويصح حجه؛ لأنك لو بعت الكافر سلعة وأخذت منه النقود فهي ملكك، ولا يجب عليك أن تبحث عن أصلها وعن أشياء أخرى، فما دام أنها وصلت إليك بطريق مشروع فهي حلال، ولهذا يجوز البيع والشراء مع الكفار، والنقود التي تصل إليك هي حلال.
الجواب: يتحول وينتقل من التعامل مع البنك الربوي إلى جهة ليس فيها ربا، وإذا أمكن أن يكون في هذا البنك الربوي خزائن تؤجر وتضع فيها نقودك، وتعطيهم أجرة لاستخدام الخزانة والانتفاع بالخزانة، فإن هذا هو الطريق الطيب المناسب؛ لأنك بذلك قد تكون أمنت من ضياع نقودك، وعملت على حفظها في مكان فيه أمان، وفي نفس الوقت أيضاً لم تمكن البنك من أن يتصرف فيها بالربا؛ لأن نقودك تجدها في تلك الخزانة كما هي، تأخذ منها ما تأخذ وتترك ما تترك، والبنك لا يتمكن من التصرف فيها، فإذا وجد في البنوك الربوية مثل هذه الخزانات فهي التي ينبغي للإنسان أن يتعامل مع البنك على ضوئها.
الجواب: مسألة الغش في الاختبار أظن أن للشيخ عبد العزيز بن باز فتوى فيها، فأنصح بالرجوع إليها.
الجواب: إذا كان أكثر ما في تلك الجهة هو من الحلال، والحرام مغمور فيها وهو قليل يسير؛ فإنه لا بأس بذلك.
الجواب: إذا تمكنت من الاستغناء عن مال أبيك فهذا هو الذي ينبغي لك، وإن اضطررت إليه فلا بأس، ولك غنمه وعلى أبيك غرمه، ولكن أهم من هذا كله أن تحرص على سلامة أبيك، وأن تحرص على إنقاذه من الورطة والبلاء الذي وقع فيه.
الجواب: هذا الأمر لا بأس به، إذا جاء إليك المال وهو حق لك عن طريق بنك فليس فيه بأس، فكونك تأخذ مالك المحول من البنك، كما لو حول راتبك على البنك فأنت تأخذه ولكن لا تبقيه، بادر إلى أخذه حتى لا تمكن البنك من استعماله في الربا.
الجواب: إذا كان المال كله مبنياً على حرام ومؤسساً على حرام، فكونك تتنزه عن هذا هو الذي ينبغي لك.
الجواب: هو بحسبه، إذا كان بخس شيئاً من الوقت فهو لا يستحق ذلك الشيء الذي بخسه، والذي عمله وحضره لا يستحقه، فمثلاً: إذا كان الدوام ست ساعات وتأخر ساعة فيكون سدس راتب ذلك اليوم لا يستحقه.
وإذا كان لا يحب أن ينقص من راتبه شيئاً، ومع ذلك يهون عليه أن يبخس العمل وأن ينقص منه، فيكون بذلك شبيهاً بالذين وصفهم الله عز وجل وهم المطففون فقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]، ثم قال: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6]، يعني: ألا يتقي الله هؤلاء ويتذكرون ذلك اليوم الذي يقوم الناس فيه لرب العالمين، وحينئذٍ لن تنفعهم إلا الأعمال الصالحة؟!
الجواب: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه وهم يدفنون ميتاً في المقبرة: (استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، فما أعلم شيئاً يدل على رفع اليدين في هذا الموضع، لكن الأمر الذي كان يقع بكثرة ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، مثل رفع اليدين بعد صلاة الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام الناس دائماًوأبداً، ولم يكن لهم إمام غيره إلا في أمور نادرة جداً، مثل قضية عبد الرحمن بن عوف في طريق تبوك، وقضية أبي بكر حيث صلى بالناس أول الصلاة، ثم جاء الرسول من قباء ودخل وأكملها، وكذلك في مرض موته كان هو الإمام وهو جالس عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يبلغ، ومع ذلك لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم في جميع تلك الصلوات أنه كان يرفع يديه بعد الفريضة، ومن هنا فلا ترفع الأيدي في الدعاء بعد الفريضة، لكن هناك أمور يسيرة أو نادرة ولم ينقل فيها شيء، والأمر فيها واسع، فإن رفع يديه فما نعلم شيئاً يمنعه، وإن لم يرفعها فليس هناك مانع.
الجواب: الضرب من المعلم ينفر الطلاب، ولكن عليه أن يتألفهم، وأن يشجعهم، أما كونه يضربهم بالحديد فهذا فيه إساءة إليهم ونفور من الدراسة، وقد يترتب على ذلك هروب وتسرب.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية [17] للشيخ : عبد المحسن العباد
https://audio.islamweb.net