اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية [19] للشيخ : عبد المحسن العباد
هذا الحديث مشتمل على ثلاث جمل:
الجملة الأولى: تتعلق بحفظ اللسان، وألا يقول به إلا خيراً، وإلاّ يكن فالصمت.
والثانية: تتعلق بإكرام الجار.
والثالثة: تتعلق بإكرام الضيف.
وقد جاء بين يدي ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وأن من يتصف بالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يقوم بهذه الأمور ويفعل هذه الأفعال، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو أس الأسس، وكل شيء يجب الإيمان به فإنه تابع للإيمان بالله عز وجل؛ ولهذا جاء في حديث جبريل تفسير الإيمان بقوله: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، ومن المعلوم أن الإيمان بالملائكة والرسل والكتب واليوم الآخر والقدر كله تابع للإيمان بالله، فمن لم يؤمن بالله فلن يؤمن بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر ولا القدر.
إذاً: الإيمان بالله عز وجل هو الأساس الذي يبنى عليه كل إيمان، فكل شيء يؤمن به ويصدق فهو مبني على الإيمان بالله وتابع له، فلهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر؛ لأن الإيمان بالله هو الأساس، وأما اليوم الآخر فقد ذكره مع الإيمان بالله تنويهاً وتذكيراً بالمعاد، وأن الناس يجازون على أعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالأوامر فإنه يكون ترغيباً، وما يأتي فيه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر وهو يتعلق بالنواهي فإنه يكون ترهيباً.
إذاً: يأتي ذكر ذلك في الترغيب والترهيب؛ لأن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يعرف أنه سيلقى الله عز وجل، وأنه سيحاسبه؛ فلذلك يأتي بهذه المأمورات لأنه سيجد الثواب والأجر أمامه، وكذلك فيما إذا كانت الأمور التي ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر بين يديها تتعلق بالمنهيات، فيكون ذلك ترهيباً وتخويفاً من أن يقع الإنسان فيها في الحياة الدنيا، ثم إذا جاء يوم القيامة وجاء الحساب وجد العقاب والعذاب عليها والعياذ بالله!
إذاً: هذا هو السبب الذي لأجله ذكر الإيمان باليوم الآخر مع الإيمان بالله؛ لأن فيه التذكير باليوم الآخر، ففي ذلك ترغيب وترهيب، والإنسان إذا عرف أنه قادم على الله تعالى وأنه سيلقى الله تعالى، وأنه سيجازيه على ما قدم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فهو يستعد لذلك اليوم بفعل المأمورات المرغب فيها، وترك المنهيات المرهب والمحذر منها، وهذا يتعلق بالأمور الثلاثة كلها؛ لأن كل واحد من هذه الأمور الثلاثة قدم بين يديه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر.
واليوم الآخر -كما هو معلوم- يبدأ بالموت لكل إنسان، فالحد الفاصل بين الدنيا والآخرة لكل إنسان هو الموت، فمن مات قامت قيامته، وانتقل من دار العمل إلى دار الجزاء، فإن الإنسان يجازى في قبره إما في نعيم وإما في عذاب، إما أن يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها ونعيمها، وإما أن يفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها، كما ثبت الحديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه.
وكذلك الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)، وما بين اللحيين هو اللسان، وما بين الرجلين هو الفرج.
وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .. كلمة جامعة تدل على أن استعمال اللسان يكون إما في الخير وإما في الشر: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) يعني: يتكلم بما هو خير من ذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدلالة على الخير، وإرشاد الضال، ودلالة من يحتاج إلى الدلالة على الخير، كل ذلك يكون من الأعمال التي يستعمل فيها اللسان، وإذا لم يكن يستعمل الإنسان لسانه في الخير فلا أقل من أن يصمت، وأما أن استعمله فيما يعود عليه بالضرر فإن وباله عظيم، وضرره كبير، كما قال عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).
ويقولون: (كلم اللسان أنكأ من كلم السنان)، أي: الجرح الذي يكون باللسان أشد من الجرح الذي يكون بالسنان، والإنسان إذا لم يتكلم بالكلمة غير السائغة فإنه يكون مالكاً لها؛ ولكنه إذا تكلم بها ملكته ولم يملكها، فلا يستطيع ردها أو إرجاعها، وفي المثل: كم من كلمة قالت لصاحبها دعني! سواء ندم الإنسان عليها أو لم يندم عليها ولكنه تضرر بها، فكأنها قالت له: دعني قبل أن يقولها، وقبل أن يقولها لو صرفها لسلم؛ لكنه لما قالها وخرجت من فيه ترتبت عليها آثارها، ولا يتخلص الإنسان منها، فإن كانت حقاً لله عز وجل فيستغفر الله عز وجل ويتوب، وإن كانت حقاً للناس فعليه أن يطلب منهم أن يجعلوه في حِلّ مما نالهم به من الغيبة أو من الكلام الذي يسوءهم، وسواء كان ما قاله فيهم واقعاً أو غير واقع؛ لأنه إن كان قاله فيهم وهو واقع فإنه يكون غيبة، وإن كان قاله فيهم وهو غير واقع يكون بهتاناً وكذباً، وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (أن الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قالوا: أرأيت يا رسول الله! إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
وعلى هذا: فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحفظ لسانه من الكلام إلا في خير، كما قال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)، ففيه الترغيب في الكلام في الخير، والترهيب من الكلام في الشر؛ لأنه إذا لم يستعمله في الخير واستعمله في الشر، فإن مغبة ذلك ومضرته تعود عليه.
وقد ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، فمن تأكيد حقه وعظيم حقه ظن أنه سينزل عليه وحي بأن له نصيباً من الميراث، فإذا مات الإنسان فإنه يكون من جملة الورثة، وإن لم يحصل التوريث، وإن لم ينزل وحي به، إلا أن هذا يدل على أنه من آكد الحقوق. وهذا يتعلق بإكرام الجار والوصية به. وأما التحذير من إيذائه فقد جاء في بعض الروايات لهذا الحديث قال: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه)، يعني: غوائله وشروره.
فالحاصل: أن على المسلم أن يحسن إلى جاره، ويكرمه ويوصل إليه كل خير، ويدفع عنه كل شر.. البر يوصله إليه والضرر يدفعه عنه، ويكون هو وإياه في راحة وطمأنينة، فلا يكون بينهما خصام ولا شحناء ولا عداوة، وإنما التآلف والتقارب، والإحسان من بعضهم لبعض.
ثم إن الجيران يتفاوتون: فمنهم من يكون قريباً في النسب وهو مسلم، فله ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار، وإذا كان ليس بقريب ولكنه مسلم فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار، وإن لم يكن مسلماً ولا قريباً فله حق واحد: وهو حق الجوار، حتى ولو كان كافراً فيحسن إليه بدعوته إلى الإسلام، والحرص على هدايته، ودفع الإيذاء عنه، وكذلك يكون بالإهداء إليه وإعطائه والإحسان إليه، وإتحافه بما يحصل عنده من شيء يتحفه به، وعندما يكون هناك طعام فيعطيه منه ويحسن إليه، وهذا من أسباب دعوته إلى الإسلام بالقدوة وبالمعاملة الطيبة، فيكون الإنسان قد جمع بين الدعوة إلى الله بالفعل والدعوة بالقول؛ حيث يدعو من كان كافراً إلى الإسلام، وأيضاً يرى الكافر منه المعاملة الطيبة والأخلاق الكريمة التي يأمر بها الإسلام، فقد يكون ذلك من أسباب إسلامه ودخوله في الإسلام.
ثم إن الجيران أيضاً متعددون، ولكن أولاهم بالإحسان والبر أقربهم باباً إليه، كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن لي جيران فإلى أيهم أهدي؟ قال: إلى من كان أقربهم باباً)، فمن كان أقربهم باباً فهو الذي يهدى إليه؛ وذلك لأن من كان أقرب باباً يشاهد ويرى ما يدخل ويخرج من بيته، وقد يرى شيئاً فتتعلق به نفسه وتتطلع إليه، فكونه يحسن إليه يكون أولى من الأشخاص الذين أبوابهم متباعدة أو من خلف البيت ولا يراهم إلا بزيارتهم أو بالتلاقي معهم في المسجد، بخلاف الذي يكون بابه مجاوراً وقريباً من بابه، فإنه يرى ما يدخل على جاره وما يخرج منه، فيكون أولى من غيره بالبر والإحسان، وإن كان الأولى إذا كان هناك مجال بأن يحسن إليهم أجمعين فيحسن؛ ولكن حيث لا يتمكن الإنسان من الإحسان إلى الجميع، وإنما يقدم ويؤخر، فالذي يقدم هو من كان أقرب باباً من غيره.
الضيف الوافد على الإنسان له حق الضيافة وله حق الإكرام، والضيافة حدها ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة، وهي من الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، والذي يفعلها من أهل الشيم والمروءات؛ لأن هذا حق، والإنسان قد يحتاج إلى غيره بأن يكون ضيفاً عنده، فإذا كان ضيفاً عنده فإنه يحسن إليه ويكرمه، وفي أول يوم يتحفه بمزيد عناية لإظهار إكرامه، ثم يطعمه مما يطعم وما زاد على ثلاثة أيام فإنه صدقة، ولا يبقى عنده ويثقل عليه، بل عليه إذا اضطر إلى ذلك أن يطلب منه الإذن له بالبقاء زيادة على ثلاثة أيام.
إذاً: هذا حديث عظيم اشتمل على هذه الأمور الثلاثة التي أولها: يتعلق باللسان، والثاني والثالث: يتعلقان بالأفعال، فالأول قول للخير وامتناع عن الشر، والثاني والثالث: إكرام للجيران والأضياف.
هذا الحديث من أقصر الأحاديث وأقلها لفظاً ومبنى؛ ولكنه عظيم وواسع وجامع، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه متكون من كلمتين: (لا تغضب).
وفيه: أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا حريصين على الخير؛ وذلك لطلب هذا الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه وصية يأخذ بها، فكون الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه الوصية، فإن هذا يدلنا على حرص الصحابة على الخير، وعنايتهم بمعرفة الأحاديث وتلقيهم عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ويحتمل أن يكون هذا الرجل السائل متصفاً بصفة الغضب، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ما هو متعلق ومتصف به، والنهي عن الغضب المقصود منه النهي عن الأسباب التي توصل إليه، والآثار التي تترتب عليه، وأما نفس الغضب فإن الناس يتفاوتون فيه، والله تعالى قد يطبع بعض الناس على أن يكون غضوباً، وبعضهم على أن يكون حليماً، وأن لا يستفزه الكلام، ولا يسرع إليه الغضب.
والنهي عن الغضب إنما هو نهي عن الأسباب التي توصل إليه، وعدم الأخذ بها، وكذلك الآثار التي تترتب عليه، وهي كون الإنسان يعمل أعمالاً قبيحة بسبب الغضب، أو يقول أقوالاً ويتفوه بكلام بسبب الغضب، فإنه مأمور بأن يبتعد عن الأسباب التي تؤدي إلى الغضب، فإذا وجد الغضب فإنه مطلوب منه أن يكظم الغيظ، وأن لا يأتي بما يترتب عليه من مد يديه أو إطلاق لسانه في أمور تعود عليه وعلى غيره بالمضرة.
أيضاً: إذا كان قائماً فعليه أن يجلس، وإذا كان جالساً فعليه أن يضطجع؛ وذلك لأنه إذا كان قائماً فإنه يكون أقدر وأنشط على أن يتصرف وعلى أن يفعل ويقدم على أمور لا ينبغي الإقدام عليها؛ لأن القائم والواقف قد يقدم على ما لا يقدم عليه الجالس، وكذلك إذا كان جالساً وبقي معه الغضب فإنه يضطجع، وقد جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان في بيته أو مع أهله وحصل منه الغضب فعليه أن يخرج من المنزل، أو يترك المكان الذي حصل فيه الغضب؛ وذلك يجعل الإنسان يخف عنده الغضب ويهدأ، كما حصل من علي رضي الله عنه لما كان مع فاطمة رضي الله عنها وحصل بينهما شيء؛ ثم إنه خرج وذهب إلى المسجد لينام فيه، ثم جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إليه في بيته وسألها عنه، فأخبرته بالذي حصل، وأنه غضب وخرج، فبحث النبي صلى الله عليه وسلم عنه ووجده في المسجد، فجاء إليه وقد انحسر رداؤه وصار التراب على جسده، فكان يحثو عنه التراب ويقول: (قم أبا تراب ، قم أبا تراب).
فعلى الإنسان أن يبتعد عن أسباب الغضب، وإذا وجد فيأخذ بالأسباب التي تخلص منه، ومنها هذه الأمور وهي: إن كان قائماً يجلس، وإن كان جالساً يضطجع، أو يخرج، أو يقوم من المجلس الذي وقعت فيه تلك الخصومة وذلك الغضب، حتى لا يحصل ما لا تحمد عاقبته؛ وكذلك أيضاً يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث -كما عرفنا- مع اختصاره ووجازته يدل على هذا الأمر العظيم، وعلى أهمية تلك الوصية، وأنها عظيمة لكونها وصفت بأنها وصية، ولكون النبي صلى الله عليه وسلم كررها، فكل ذلك يؤكد أهميتها ويدل على أهيمتها. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: نعم، الغضب المحمود هو الذي يكون لله، ومن أجل الله، وإذا انتهكت حرمات الله، فهو يغضب لله، هذا هو الغضب المحمود، والغضب للنفس هو الغضب المذموم.
الجواب: لا شك أن السكوت وعدم الكلام فيه السلامة؛ ولا أذكر فيه نصاً، كما أن السكوت يمنع الإنسان من الانطلاق في الكلام البذيء أو القبيح، وإطلاق العنان للسان، وكون الإنسان يتمكن من السكوت والصمت ويملك نفسه فهذا أمر محمود، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)، وقوله: (ليس الشديد بالصرعة)، الشديد: هو القوي الذي عنده قوة في جسده ويصارع الرجال ويصرعهم، فليس هذا هو الشديد حقيقة وإن كان شديداً؛ ولكن الشدة الحقيقية هي في الذي يملك نفسه عند الغضب، هذا هو الذي شدته وقوته حقيقية ولا شك أن من يملك نفسه فإنه يسكت؛ لأنه لو أطلق لسانه فقد يتكلم بكلام قبيح، وقد يتبع القول بالفعل، ولكنه إذا صمت وسكت لا شك أن هذا فيه كظم للغيظ، وفيه منع للسان من إطلاقه فيما يعود عليه بالضرر.
الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : وإذا ذكر اسم الإيمان مجرداً دخل فيه الإسلام والأعمال الصالحة، كقوله في حديث الشعب: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وكذلك سائر الأحاديث التي يجعل فيها أعمال البر من الإيمان.
مثل الحديث الذي ذكر فيه إكرام الجار والضيف من أعمال البر، وهي من الإيمان.
قال: ثم إن نفي الإيمان عند عدمها دل على أنها واجبة، وإن ذكر فضل إيمان صاحبها ولم ينف إيمانه دل على أنها مستحبة، فإن الله ورسوله لا ينفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، كقوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن)، وقوله: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)، ونحو ذلك، فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإن هذا لو جاز لجاز أن ينفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنه ما من عمل وغيره أفضل منه، وليس أحد يفعل أفعال البر مثلما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل ولا أبو بكر وعمر ، فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه، لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين، وهذا لا يقوله عاقل، فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كتاب الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع، فإن من فعل الواجب كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئاً، لم يجز أن يقال ما فعله لا حقيقة ولا مجازاً.
وهذا واضح في أن نفي الإيمان يكون في أمر واجب، لكن كما هو معلوم أن تلك الأمور مثل حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، لا شك أن الأمور التي تحصل محبة الإنسان لها متفاوتة، ليست كلها على حد سواء، لكن الإيمان لا ينفى إلا عن شيء واجب، كما قال شيخ الإسلام في هذا الكلام.
وقال في موضع آخر: وكذلك من لا يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه لم يكن معه ما أوجبه الله من الإيمان، فحيث نفى الله الإيمان عن شخص فلا يكون إلا لنقص ما يجب عليه من الإيمان، ويكون من المعرضين للوعيد، ليس من المستحقين للوعد المطلق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا، ومن حمل علينا السلاح فليس منا)، كله من هذا الباب، لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه، أو فعل ما حرمه الله ورسوله، فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الإثم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد السالمين من الوعيد.
وقال في موضع آخر: والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب، لكن لترك واجب، بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه، لا بانتفاء ما يستحب في ذلك، ولفظ الكمال والتمام قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب، كما يقول بعض الفقهاء: الغسل ينقسم إلى كامل ومجزئ، فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه، لا لانتفاء الكمال المستحب، والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه، كالحج والصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ومثقال شعيرة من إيمان).
كل هذا واضح في بيان أن نفي الإيمان يكون فيما هو واجب، وليس فيما هو مستحب. وعلى هذا فالحديث الذي مر بنا والذي سئلت وقلت: إنه نفي للكمال المستحب، هذا خطأ والصواب أنه نفي للكمال الواجب.
الجواب: إذا كان إبهامك للرجل لا يخرجه عن كونه معلوماً فهو معلوم وإن أبهم، فإن ذلك في حكم المعلوم، وأما إذا كان لا يعرف ولا ينصرف إليه الفهم في حال من الأحوال، فلا شك أن هذا لا يقال له غيبة، لكن لا ينبغي الكلام والاشتغال إلا فيما هو خير وفيما فيه منفعة، أما إذا كان لا يفهم ولا يحتمل أن يكون معلوماً فإنه لا يكون غيبة، وإنما الغيبة حيث يكون معلوماً فعلاً أو في حكم المعلوم.
الجواب: له حقان: حق الجوار وحق القرابة.
الجواب: عليك أن تتكلم معه بدعوته إلى الإسلام، وترغيبه في الإسلام، وحثه على أن يدخل في الإسلام، وعليك أن تفاتحه وأن تدعوه إلى الإسلام، ولا تتركه دون أن تكون قد عملت على هدايته وعلى إخراجه من الظلمات إلى النور.
الجواب: الجار: هو المجاور الملاصق، وكذلك أيضاً من كانوا قريبين من الإنسان فكلهم جيران سواء كانوا ملاصقين أو غير ملاصقين، لكنهم يتفاوتون، فمن كان ملاصقاً فحقه آكد من غيره، وهو الذي بسببه في الغالب مع عدم السلامة والاستقامة يكون الضرر بين الجيران، بخلاف المتباعدين الذين ليس بينه وبينهم جوار ملاصق، فالغالب أنه لا يحصل اعتداء من بعضهم على بعض أو من بعضهم إزاء لبعض، ولهذا كان الجيران الملاصقون الذين هم قريبون جداً من الإنسان آكد من غيرهم، وأما تحديده ببيوت معينة فلا أعرف نصاً في هذا.
الجواب: لأجل الترغيب في إكرامه، وقد ذكرنا أن ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر هو من باب الترغيب في المأمورات، كما أنه في المنهيات يكون من باب الترهيب، وهذا فيه ترغيب في إكرام الجار؛ لأن الإنسان إذا عرف أن عليه حقاً للجار وأنه يكرمه، فالذي يؤمن بالله واليوم الآخر هو الذي يؤدي هذا المطلوب وهذا الحق الواجب عليه، وإذا كان بخلاف ذلك فإنه يفرط في هذا الحق، ولا يكون مؤدياً للواجب، فيكون مستحقاً للعقوبة في الدار الآخرة.
الجواب: الإنسان إذا ترك ما هو واجب عليه يكون ناقص الإيمان؛ لأن نقص الإيمان يكون بترك المأمورات الواجبة أو ترك ما هو واجب مما لا يكون تركه مخرجاً من الملة، وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالمنهيات، فكونه يقع فيها فإنه ينقص إيمانه، فنقص الإيمان يكون بترك الواجبات وبفعل المحظورات، والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومن المعلوم أن الطاعة هي أداء الواجب.
الجواب: لا شك أن هذه الأمور الثلاثة متفاوتة، فاللسان في غاية الأهمية، فلابد للإنسان من أن يحفظ لسانه؛ لأنه يوقع في المهالك، وحق الجار لا شك أنه آكد من حق الضيف؛ لأن الجار دائم ومستمر وأما الضيف فهو طارئ لا يأتي إلا قليلاً أو نادراً، وأما الجار فهو ثابت وملازم فحقه متأكد، ونفي الضرر عنه مطلوب باستمرار، وأما الضيف فهو طارئ إما أن يكرم وإما أن لا يكرم، فليس هو مثل الشخص الذي إذا حصل إيذاؤه والإخلال في حقه فإن الإنسان يأثم باستمرار، فلا شك أن حق الجار يختلف عن حق الضيف باعتبار أنه مستمر ودائم، وأما حق الضيف فطارئ، فهذه الأمور الثلاثة يبدو أن بعضها متصل ببعض ومرتبة على حسب أهميتها.
الجواب: الغضب لله -كما هو معلوم- يكون إذا انتهكت محارم الله، وإذا رأى أموراً منكرة يستطيع أن يغيرها بيده فيغيرها بيده إن كان من أهل القدرة، وإن كان من غير أهل القدرة فيتحول إلى الإنكار باللسان، وإذا لم يحصل هذا فلا أقل من أن يتأثر بقلبه، وأن يظهر ذلك على وجهه من حزنه وتألمه، فلا بد أن يتأثر قلبه لهذا المنكر، حتى إنه قد يحصل له ضرر بسبب هذا التأثر، فالغضب لله عز وجل يكون إذا تركت الأمور الواجبة وفُعلت الأمور المحرمة بحيث يغضب لله عز وجل. أما الغضب للنفس فهو فيما يجري بين الناس من أمور بسبب المخالطة، فيجري بينهم شيء من الخصام، أو شيء من النزاع لأمور دنيوية، أو لشيء في النفوس، فيحصل الكلام والغضب بسبب ذلك، في هذا شيء من حظ النفس، هذا هو الذي يكون مذموماً، والذي كان من أجل الله تعالى هذا هو الذي يكون محموداً.
الجواب: نعم، أي: أن الإنسان الذي لا يوجد فيه هذا الوصف من المعلوم أن هذا أمر قلبي، فمجرد المحبة ليس فيها كلفة ولا مشقة عليه، وإنما كما يحب الخير لنفسه يحبه لغيره، فالإنسان الذي لا يحصل منه محبة الخير للغير، بل يكره ذلك ويوجد منه ما هو مقابل ذلك، فلا شك أنه آثم، وهو لن يخسر شيئاً، فما عليه إلا أن يكون قلبه سليماً، ويتصف بهذا الوصف.
الجواب: كلهم أولى بالإحسان، وكلهم يستحقون الإحسان، فهذا أولى بالإحسان من جهة الحرص على هدايته، فهو أولى بأن تعتني به وتحسن إليه، وأما فيما يتعلق بالمنفعة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن من يكون أقربهم باباً فهو الأولى بالمنفعة، وذلك حيث لا يمكن الإحسان للجميع وإتحاف الجميع بما يمكن إتحافهم به، فإنه يقدم من يكون أقرب باباً، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الجواب: لا تهجره، ولكن انصحه وكن على حذر منه.
الجواب: لا أدري هل ذكرها الذهبي أو لم يذكرها، لكن الذهبي إنما ذكر في كتابه سبعين كبيرة ختمها بكبيرة سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولكن جاء في القرآن الكريم ما يدل على خطورة الغيبة وأنها في غاية القبح، حيث قال تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات:12] ثم قال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12] فمثل هذا يدل على خطورة هذا الأمر.
الجواب: من ترك الإيمان الواجب نقص إيمانه من أجل تركه الواجب، وأما المستحب فلا يعاقب تاركه، ولكن كما جاء عن السلف: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ومعنى ذلك: أن الطاعات تزيده سواء كانت فيما يتعلق بالواجبات أو فيما يتعلق بالمستحبات.
وأما بالنسبة لكونه ينقص بترك المستحب فليس واضحاً من جهة أن المستحب ليس بواجب، بل هو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، والنقص إنما يكون بترك الواجب ففيه ترك وإخلال، ولا شك أن كون الإنسان يعمل المعصية فإنه ينقص إيمانه، ولا يقال: إن ما لم يفعل الإنسان مستحباً نقص إيمانه، ولكنه ما حصل فيه زيادة، فإن الزيادة تحصل لمن فعل أمراً متسحباً، ولكن النقص يكون بترك الواجبات، والناس في هذا متفاوتون. ومما يدل على ذلك قول ذلك الأعرابي حينما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص، فقال عليه الصلاة والسلام: (أفلح إن صدق)، ومعناه أن أتى بالأمور المطلوبة منه، لكن كونه يقع منه إخلال في واجب لا شك أن فيه نقصاً.
وأما من حيث التفاوت فإن الناس متفاوتون، فمنهم من يكون كامل الإيمان، ومنهم من يكون ناقص الإيمان، لكنه إن لم يفعل أمراً مستحباً فلا يقال: إنه نقص إيمانه لعدم فعله المستحب، نعم يمكن أن يقال: نقص إيمانه إذا ترك السنة رغبة عنها وزهداً فيها، هذا هو الذي ينقص، أما إذا تركها وهي واجبة فيقال: إن عدم إتيانه بها من أسباب نقص إيمانه، لكن من ناحية التفاوت فالناس متفاوتون، فمن أتى بالمستحبات مع الواجبات فهو أكمل إيماناً من الذي اقتصر على الواجبات.
الجواب: إذا كان هذا السؤال من أجل مصلحة وفائدة، والسؤال إنما هو لأمر يحتاج إليه السائل فهذا لا بأس به، مثل كونه يريد أن يصاهره، أو أن يكون بينه وبينه مشاركة في تجارة أو نحوها، فله أن يخبر بالشيء الذي يعلمه منه مما يفيد الإنسان، كما جاء في قصة المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية وعن أبي جهم ، وذكرت أنهما قد خطباها، فهي سألت من أجل أمر يتعلق بصلة الزواج، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدها إلى ما في هذا وما في هذا.
وهناك أمور سبعة ذكرها العلماء في المصطلح وذكرها النووي في رياض الصالحين ليست من الغيبة، فيذكر الإنسان أخاه بما يكره ولا يعتبر غيبة، وهذا في الأمور التي منها هذا الذي أشرت إليه، أي: في الاستشارة، وكذلك فيما يتعلق بقبول الروايات والأخبار والاعتماد عليها، وكذلك كون الإنسان يتكلم في حق من أساء إليه في مطل ماله، فرغم أن له قدرة على الوفاء ومع ذلك فإنه يماطله، فهذا كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته)، يعني: يحل الكلام في عرضه، كأن يقول: إن هذا ظلمني، ويتكلم فيه بشيء لا يعجبه، وذلك لأن (لصاحب الحق مقالاً) كما جاء في هذا الحديث.
الجواب: معلوم أن الإنسان الذي يكون هذا شأنه، وأنه يستطيع كظم الغيظ، هو الذي يستحق هذا الأمر الذي جاء في الحديث، وأما كونه يكظم الغيظ مرة وفي عشرات المرات يطلق لسانه ويطلق يده، فهذا قد أساء إلى نفسه وأساء إلى غيره.
الجواب: في هذا الزمان إذا كان مع الإنسان شيء من النقود فإن عليه أن يستفيد مما معه من النقود دون أن يحتاج إلى أحد؛ لأن وصول الإنسان إلى ما يريد متيسر ما دام معه نقود، فإن المطاعم مفتوحة والفنادق كذلك مفتوحة، فلا يذهب ويأخذ من بيت أحد شيئاً إلا إذا كان محتاجاً إلى ذلك كما جاء في الحديث: (يأخذ منهم بقدر قراه)، لكن ما دام أن الأمور الآن ميسرة والنقود في جيبه، فيأخذ من نقوده، ولا يعمل على أن يأخذ شيئاً من أموال الناس.
الجواب: ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن هذا الرجل يقال له: جارية بن قدامة كما جاء في بعض الروايات.
الجواب: لا، أوصه بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله عز وجل يدخل فيها ترك الغضب.
الجواب: ورد حديث فيه ضعف، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن محمد السعدي أنه كلمه رجل فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم قال: حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ).
قال المحشي شعيب بن ألبان رواه أحمد وأبو داود والبخاري في تعليقه والبغوي في شرح السنة، وسنده حسن، وأخطأ من ضعفه ممن ينتحل صناعة الحديث بزماننا، -يقصد الألباني ، فإنه ضعفه في السلسلة الضعيفة- ونحن نقول: لا نعلم أحداً في هذا الزمان أعلم من الألباني في الحديث، ولا أكثر اشتغالاً وعناية بالحديث، وما أفاد المسلمين أحد في هذا الزمان في علم الحديث مثلما أفادهم الشيخ الألباني رحمه الله، فإذا كان هو المقصود فقد أساء إلى هذا المتكلم نفسه.
ونحن نقول هذا الكلام وإن كنا نخالفه في أمور لا تعجبنا منه، ونرى أنه غير مصيب فيها، لا سيما مثل قوله بعدم وجوب ستر المرأة وجهها، فإن هذا ننكره إنكاراً شديداً، ولكن مع ذلك نقول: إن الشيخ الألباني لا نستغني نحن ولا غيرنا من طلبة العلم عن علمه، وما يحصل منه من أمور يؤاخذ عليها فهي مغمورة في صوابه الكثير وعلمه الغزير، ونفعه العميم، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه المسألة -مسألة الحجاب- من المسائل التي ما كنت أود أن الشيخ الألباني رحمه الله حرص على العناية والاهتمام بها وكثرة التأليف فيها، ومتابعة من يتكلم فيها، حتى تعددت المؤلفات فيها، ولذلك أقول: لو كان ما يقوله الألباني هو الصواب، فإن هذا من الحق الذي ينبغي إخفاؤه ولا يحرص على إظهاره؛ لأنه لا يترتب على إظهاره إلا المضرة، وذلك أن كلامه في تقرير أن ستر الوجه ليس بواجب جرأ كثيراً من النساء إلى التساهل بالحجاب، ولا شك أن مثل هذا عدم إظهاره وعدم تقريره أولى؛ لما يترتب عليه من فوات مصلحة؛ بل يترتب عليه مضرة؛ لأنه جرأ بعض النساء اللاتي يردن التفلت، ويردن الخروج عن الشيء الذي يجب على النساء أن تكون عليه؛ لأنها تجد من يفتيها ومن تعتمد عليه في انطلاقها من الشيء الذي فيه حشمتها وسلامتها، وفيه البعد عن الشرور بسبب مثل هذه الفتوى.
ومن المعلوم أنه إذا كانت الشريعة الإسلامية تأمر المرأة بأن ترخي ثوبها حتى تغطي رجليها، فكيف تأمر هذه الشريعة بتغطية الرجل ثم تبيح كشف الوجه؟! والوجه هو الذي يكون فيه الجمال، والرجل ليس فيها جمال مثل ما في الوجه، والذي يبحث عن الجمال لا يبحث عنه في الرجلين، إنما يبحث عنه في الوجه، فمادام أن الشريعة أمرت بتغطية الرجلين وسترهما فلا شك أن تغطية الوجه هو أولى؛ لأن فيه الحسن والجمال، وفيه تكون الفتنة، والجمال والدمامة ترى في الوجوه لا في الأرجل.
لذلك أقول: هذه المسألة في الحقيقة ما كنت أود أن الشيخ رحمه الله أشغل نفسه بها وأتعب نفسه بها، وأراح الناس مما يترتب عليها من مضرة، ولو كان الأمر كما يقول وأنه ليس بواجب، فإن عدم الاهتمام به وعدم إظهاره لا يفوت بتركه شيء، والرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له معاذ : (يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، فهذا أمر حق ولكنه أمر بكتمه حتى لا يترتب عليه مضرة، ومعاذ أخبر به عند موته تحرجاً، وكذلك أيضاً الحديث الذي فيه أن الصحابة فقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم وخشوا عليه، فكان أن سبق أبو هريرة إليه -وكان في حائط- وأخبره بأن الناس فزعون، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وقال له: (اذهب ومن وجدته يشهد أن لا إله إلا الله فبشره بالجنة، فلقيه عمر رضي الله عنه فأخبره بالخبر فضربه عمر على صدره وانتهره، فرجع إلى رسول الله وأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: لماذا فعلت يا عمر ذلك؟ قال: يا رسول الله! دعهم يعملون، قال عليه الصلاة والسلام: دعهم يعملون)، إذاً: حتى لو كان هذا من الأمور التي هي ليست واجبة، فإن عدم إعلام الناس بأنها غير واجبة أصلح لهم في دينهم ودنياهم.
فالحاصل: أن هذه الكلمة إذا كان يعني بها الشيخ ناصر فإن المتكلم بها قد ضر نفسه؛ لأنه تكلم في رجل ما نعلم أحداً خدم السنة في هذا الزمان مثل هذا الرجل رحمه الله.
الجواب: تعامل معه بدعوته والحرص على إنقاذه، وكما تعامل الكافر الذي هو كافر أصلي أيضاً تعامله، وإذا كان هجرك إياه يفيده فافعل، لكن في الغالب أن الجيران لا يؤثر هجرهم، إنما الذي يؤثر مثل هجر الوالد للولد، وهجر الشيخ للتلميذ وغيرهم ممن قد يؤثر فيهم الهجر، وأما قضية الجيران فكون الإنسان يبقى على صلة به ويحرص على هدايته خير من أن يهجره ويبتعد عنه.
الجواب: عليك أن تحرص على نصيحتهم وتخليصهم مما هم فيه من البلاء، وإذا تمكنت من أن تبتعد عن هذه العمارة التي فيها هؤلاء فلا شك أنه أولى لك، وإذا كان بقاؤك فيها لا يترتب عليه ضرر عليك ولا على أولادك، بحيث أنه قد يحصل منهم خروج ودخول عليهم فيتضرروا، وبقيت وأنت مضطر إلى ذلك فلا بأس، لكن كونك تبحث عن الجيران قبل أن تنزل لا شك أن هذا هو الأولى، وهذا هو المطلوب منك، وأيضاً ينبغي عليك عندما تأتي أن تكلم صاحب الدار على أنه لا يكون فيها مثل هذه الأطباق التي تستقدم كل شر وتستورد كل بلاء، فإن كل قاذورات وأوساخ العالم تصل إلى الناس في بيوتهم عن طريق هذه القنوات الفضائية الضارة. والله المستعان.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح الأربعين النووية [19] للشيخ : عبد المحسن العباد
https://audio.islamweb.net