إسلام ويب

لقد أنزل الله القرآن على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وأمر بالأخذ به واتباعه، وأوحى إليه بالسنة، وأمر الناس في القرآن باتباعها، وأخبرهم أنها وحي من عنده، ولذا فمن منهج أهل السنة والجماعة الأخذ بالسنة في العبادات والمعاملات والعقائد وإن كانت آحاداً.

القرآن والسنة وحي من الله يجب الأخذ به

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:

الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من عند الله

فإن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الوحي الثاني بعد القرآن، وهي وحي من الله عز وجل كالكتاب، إلا أن الكتاب تعبد الله تعالى بتلاوته وجعله معجزاً.

وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل بها والأخذ بما فيها كالقرآن، وهي ليست من عند الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هي من عند الله، قال عز وجل: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه العصمة والنجاة، والأخذ به لازم كالأخذ بالقرآن، ولا يجوز أن يفرق بين السنة والقرآن بأن يؤخذ بالقرآن ولا يؤخذ بالسنة، ومن زعم أنه يأخذ بالقرآن ولا يأخذ بالسنة فإنه كافر بالكتاب والسنة؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ، ويقول عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

فمن زعم أنه يأخذ من الكتاب ولا يأخذ من السنة فقد كفر بمقتضى قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] ، وقد جاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لعن النامصة والمتنمصة، وقال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موجود في كتاب الله، فجاءت إليه امرأة وقالت: يا أبا عبد الرحمن انظر ماذا تقول، فإنك قلت: كذا وكذا، وإنني قرأت المصحف من أوله إلى آخره فما وجدت فيه الذي تقول. قال: إن كنت قرأته فقد وجدته، قال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

فالسنة كلها داخلة في قوله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وطاعته عليه الصلاة والسلام لازمة كطاعة الله، ولهذا يقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

الأدلة من السنة على أنها وحي يجب الأخذ به

وجاء في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أن السنة وحي من الله، ومن ذلك حديث أنس الطويل في ذكر فرائض الصدقة التي فرضها الله عز وجل، ثم ذكر أسنان الإبل والغنم، ثم قال: (الفرائض التي فرضها الله عز وجل)، فأضاف فرضها إلى الله تعالى، وهي إنما جاءت في السنة وليست في القرآن، أعني ذكر مقادير الزكاة وأسنان الزكاة من الإبل والبقر والغنم.

وكذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (يغفر للشهيد كل شيء، ثم قال: إلا الدين، سارني به جبريل آنفاً) يعني: أن جبريل ساره باستثناء الدين، وهذا يدل على أن السنة وحي من الله.

وكذلك الحديث الذي ذكر فيه قصة الرجل الذي يشتكي بطن أخيه، وقال له عليه الصلاة والسلام: (اسقه عسلاً)، ثم جاء ثانية وثالثة يشتكي، ثم أمره بعد ذلك وقال: (صدق الله وكذب بطن أخيك)، يعني: أن هذا من الله عز وجل وليس منه صلى الله عليه وسلم.

كفر من لم يأخذ بالسنة وبيان بطلان طريقته

من لم يأخذ بالسنة فهو كافر بالكتاب والسنة، ومن أوضح ما يبين ذلك: أن الصلوات الخمس فرضها الله تعالى بركعات معينة، وما جاء عددها في القرآن، فالظهر أربع ركعات، والعصر أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات، والفجر ركعتان. فالذي يقول: إنه لا يأخذ إلا بالقرآن ولا يأخذ بالسنة كم سيصلي الظهر؟ وكم سيصلي العصر؟ لقد جاء كل ذلك مبيناً في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إذاً: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحي من الله، والأخذ بها لازم كالقرآن، ولا يفرق بين السنة والقرآن من حيث العمل والأخذ بمقتضى ما دلت عليه، بل يجب أن يتلقى الإنسان أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ويعمل بها كما يعمل بما جاء في القرآن الكريم؛ لأن الكل وحي من الله سبحانه وتعالى.

حجية خبر الواحد

إن السنة حجة في جميع الأمور وليست حجة في شيء دون شيء، المتواتر منها والآحاد سواء، كل ذلك حجة في العقائد والأحكام والأخلاق والآداب وغير ذلك، وقد جاءت النصوص الكثيرة الدالة على ذلك، منها: كون النبي صلى الله عليه وسلم يبعث الرجل ليعلم الناس أمور دينهم، ويجب على الذين يبعثه إليهم أن يأخذوا بما يأتيهم به من بيان العقائد والعبادات والمعاملات وما إلى ذلك.

وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن وقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أجابوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

فالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره بتبليغ الناس أمور دينهم، وقامت الحجة عليهم بذلك في العبادات والمعاملات والعقائد، وأول شيء دعا إليه التوحيد والعقيدة، وما جاء عن الصحابة أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه فرد يحتاج إلى من يعززه، ولابد أن يكون العدد كبيراً، وما جاء عن الذين بعث إليهم أنهم سألوا واستفسروا وقالوا: هل يكفي أن نأخذ بما يأتي عن رجل واحد.

وقد جاءت النصوص الكثيرة في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم دالة على الاكتفاء بخبر الواحد، وأنه تقوم به الحجة، ولا يلزم أن يكون الحديث الذي يحتج به متواتراً في العقيدة ودون ذلك في غيرها، بل إن العقائد والعبادات والمعاملات طريقها واحد، وإذا ثبت النص عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه حجة في العقيدة والعبادة والمعاملات ولو كان من قبيل الآحاد.

المعاني التي تطلق عليها السنة

إطلاق السنة بمعنى الطريقة والمنهج

سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تطلق إطلاقات: فتطلق إطلاقاً عاماً يشمل كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، وحينها يراد بها طريقة الرسول ومنهجه.

ومن ذلك قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) يعني: من رغب عن الطريقة التي كنت عليها، وهي الأخذ بما في الكتاب وما جاءت به السنة.

ولهذا جاء في السنة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم (كان خلقه القرآن)، لأنه كان يتأدب بآدابه، ويتخلق بأخلاقه، ويعمل بما فيه، ولهذا لما نزل قول الله عز وجل: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3] قالت عائشة رضي الله عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة إلا قال في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، معناه: يطبق القرآن، وينفذ ما جاء به كتاب الله عز وجل.

فهذا إطلاق عام يشمل الكتاب والسنة، فكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو سنته.

إطلاق السنة بمعنى الحديث

المعنى الثاني: تطلق السنة إطلاقاً آخر على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يذكره العلماء من محدثين ومفسرين وفقهاء عندما يذكرون مسألة من المسائل فيقول أحدهم فيها: وهذه المسألة دل عليها الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقول الله عز وجل كذا وكذا، وأما السنة فقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، وأما الإجماع فقد حكى فلان الإجماع على هذا الحكم.

فعطف السنة على الكتاب يقتضي أن يكون المراد بها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار معنى السنة هنا أخص من المعنى الأول.

فالسنة مطابقة للحديث، وهي التي يعرفها علماء المصطلح بقولهم: هي ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خَلقي أو خُلقي.

فما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول يقوله، أو فعل يفعله، أو عمل يعمل بين يديه ويقره عليه الصلاة والسلام، أو بيان خلقته وصفته صلى الله عليه وسلم، أو أخلاقه الكريمة وسماته الحميدة عليه أفضل الصلاة والسلام؛ كل هذا يقال له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

إطلاق السنة على ما يقابل البدعة

المعني الثالث: تطلق السنة إطلاقاً ثالثاً يراد به ما يقابل البدعة، فيقال: سني وبدعي، وسنة وبدعة، ومن ذلك ما يصنعه كثير من المحدثين الذين يؤلفون في العقائد كتباً باسم السنة، مثل السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد ، والسنة لـابن أبي عاصم ، والسنة للطبراني ، والسنة للالكائي ، والسنة لـمحمد بن نصر المروزي ؛ كل هذه الكتب باسم السنة ويراد بها ما يتعلق بالعقيدة مبنياً على سنة ومخالفاً لبدعة، ومنه الكتاب الذي أورده أبو داود في سننه ضمن كتبه الكثيرة حيث جعل ضمن كتاب السنن كتاب السنة، وأورد فيه ما يقرب من مائة وستين حديثاً كلها تتعلق بالعقائد.

إذاً: السنة يراد بها ما يقابل البدعة، ولذا يقولون: سني وبدعي، أي: سني يعمل بالسنة، وبدعي يأخذ بما يخالف السنة، كما جاء ذلك في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا؟ قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) .

فذكر في هذا الحديث الحق والباطل والسنة والبدعة، ورغب في اتباع السنة بقوله: (عليكم)، وحذر من البدع ومن محدثات الأمور بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة).

وقال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

إذاً: يأتي لفظ السنة بمعنى ما يعتقد على وفق السنة وليس على وفق البدعة.

إطلاق السنة بمعنى المستحب والمندوب

المعنى الرابع: يأتي عند الفقهاء ذكر السنة بمعنى المستحب والمندوب.

يقال في كتب الفقه: يسن كذا، أو يستحب كذا، أو يندب كذا. فتأتي السنة مرادفة للمندوب وللمستحب، ففي اصطلاح الفقهاء أن السنة تأتي للمأمور به لا على سبيل الإيجاب وإنما على سبيل الاستحباب، وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، ويطلبه الشارع طلباً غير جازم، فمن ترك الفعل المسنون لا يعاقب إلا إذا كان الترك رغبة عن السنة وزهداً فيها، فهذا يؤاخذ على ذلك، أما إذا تركه لأنه ليس بواجب وليس رغبة عن السنة، لكنه يقتصر على الواجب ولا يفعل المستحب، فإنه لا يؤاخذ على ذلك.

لكن المستحبات والسنن هي كالسياج للفرائض، ومن تهاون بالسنن جره ذلك إلى التهاون بالفرائض، والنوافل تكمل بها الفرائض إذا حصل نقص، كما جاء في الحديث: (أول ما يحاسب عليه العبد من عمله يوم القيامة الصلاة) وجاء في آخر الحديث نفسه: أنه إذا حصل منه نقص فإنه ينظر إلى ما فعله من النوافل، فيكمل بالنفل ما حصل من النقص في الفرض.

فالنوافل مكملة للفرائض وهي كالسياج والحصن الذي يحول دون التساهل بالفرائض؛ لأن من يتساهل بالسنن قد يجره ذلك إلى أن يتساهل في الفرائض، ومن حرص على النوافل فهو على الفرائض أحرص، ومن اشتغل بالنوافل وقصر في الفرائض فهو مخطئ وآثم.

وقد قال بعض العلماء: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن اشتغل بالنفل عن الفرض فهو مغرور، كالإنسان يكون في وظيفة وله دوام معين عليه أنه يشغله، فإذا كان يقضي جزءاً من النهار وهو يصلي ويتنفل ويترك العمل مشغولاً بالنوافل، فهذا ترك للواجب واشتغال بغير الواجب.

والله عز وجل يقول كما في الحديث القدسي: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).

هذه أربعة معان تطلق على السنة: إطلاق عام يشمل الكتاب والسنة، وإطلاق يراد به خصوص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطلاق يراد به ما يعتقد طبقاً للسنة خلافاً للبدعة، وإطلاق يراد به المأمور به على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب.

فضل العناية بالسنة والاشتغال بها

جاءت أحاديث كثيرة تدل على فضل العناية بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام والاشتغال بها وتلقيها وتعلمها وتعليمها، ومن أوضح ما جاء فيها الحديث المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وجاء في بعض رواياته: (رحم الله من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه).

فهذا الحديث المتواتر مشتمل على دعاء من النبي عليه الصلاة السلام لمن اشتغل بسنته عليه الصلاة والسلام وبلغها وعمل بها أن يجعله ذا نضرة وبهجة، بحيث يكون وجهه مشرقاً مضيئاً في الدنيا والآخرة، فتكون عليه البهجة في الدنيا، ويكون ذا نضرة وبهجة في الآخرة.

وقد جاء في القرآن الكريم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23] فالأولى بالضاد أخت الصاد، وهي من النضرة التي معناها الإضاءة والإشراق، والثانية بالظاء أخت الطاء من النظر بالعين، وهي الرؤية. وهي من أدلة أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية الله في الدار الآخرة.

والدعاء المذكور في الحديث سببه أن هذا المرء يقوم بهذه المهمة العظيمة، فيتلقى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظه ويبلغه إلى غيره؛ لأنه إذا حفظه وبلغه إلى غيره قد يستنبط غيره منه ما يخفى على ذلك الذي تحمل، ولهذا قال: (ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) لأنه بذلك حفظ السنن، ومكن غيره من استنباط أحكامها.

فضل الجمع بين الرواية والدراية في الحديث

معنى الرواية والدراية

إن الاشتغال بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يتطلب العناية بأمرين: العناية بالرواية والعناية بالدراية.

فالعناية بالرواية بحيث تعرف الأحاديث بأسانيدها ومتونها، وتثبت بأسانيدها ومتونها مثل: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان قال: حدثنا فلان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: كذا وكذا. هذا هو علم الرواية.

وبيان ما يتعلق بالأسانيد والمتون، وشرح المتون، واستنباط فقهها، واستنباط أحكامها هو علم الدراية.

فلابد من الرواية ولابد من الدراية، فلا يكون هم الإنسان الرواية فقط ويغفل عن الدراية والفقه، ولا يكون همه الاشتغال بمسائل الفقه، وجمعها والكلام فيها دون عناية بالحديث الذي هو علم الرواية.

ولهذا جاءت بعض كتب أهل العلم مشتملة على الرواية والدراية، كما قالوا في صحيح البخاري : إنه كتاب رواية ودراية؛ لأنه مشتمل على الأحاديث بأسانيدها ومتونها، ومشتمل على آثار عن الصحابة والتابعين في بيان معاني تلك السنن، وبيان شيء من فقهها، وتراجمه رحمة الله عليه كلها فقه، ويقولون: فقه البخاري في تراجمه، فمن أراد أن يعرف فقه البخاري فإنه يعرف ذلك من تراجمه؛ لأنه يأتي بالترجمة ثم يورد الحديث بعدها مستدلاً على الفقه الذي في الترجمة واستنبطه من الحديث.

وكذلك الكتب الأخرى التي صنفت على هذا المنوال والتي تأتي بالترجمة، ثم بالحديث مطابقاً للترجمة، فإن هذا الذي في الترجمة فقه، والحديث الذي يورد تحتها رواية، والعناية بهذا وهذا أمر مطلوب.

حث طالب العلم على علم الحديث والفقه

إن على طالب العلم أن يكون حريصاً على معرفة الأحاديث وما يتعلق بأسانيدها ومتونها، وعلى فقهها والاستنباط منها، وكذلك يعتني بكتب الفقه وما كتبه الفقهاء وجمعوه من المسائل والفروع، وينظر في أدلة تلك المسائل والأقوال، ويأخذ بما يكون راجحاً بالدليل، مع احترام العلماء وتوقيرهم وتعظيمهم، واعتقاد أنهم لا يعدمون الأجر أو الأجرين لأنهم مجتهدون، فمن أصاب حصل له أجرين: أجر الإصابة وأجر الاجتهاد، ومن أخطأ حصل له أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور له.

فالواجب العناية بالحديث وبالفقه معاً، والرجوع إلى كتب الحديث والفقه، والاستفادة من فقه الفقهاء والرجوع إلى كلامهم وأقوالهم وأدلتهم، ولكن مع الاحترام والتوقير والتأدب، ومع ذكرهم بالجميل اللائق بهم دون أن يُنال منهم، أو أن يحط من شأنهم، بل يُستفاد منهم، وُيترحم عليهم، ويُدعى لهم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة كما يقول الطحاوي رحمه الله: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من اللاحقين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.

أهمية الحديث للفقه وأهمية الفقه للحديث

ذكر أبو سليمان الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن: أن الناس انقسموا قسمين وصاروا حزبين: أهل خبر وأثر، وأهل فقه ونظر، وقال: إن كلاً منهم يكمل الآخر، ولا يستغني أحدهما عن صاحبه.

ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: إن الذي يعتني بالحديث ولا يشتغل بالفقه ولا باستنباط المسائل من الحديث مقصر.

ويقابله الذي يشتغل بحصر مسائل الفقه والاشتغال بكلام فقيه من الفقهاء دون أن يرجع إلى كتب الحديث، ودون أن يرجع إلى الأدلة، فهذا أيضاً مقصر.

ثم قال: إن الحديث والفقه كأساس البنيان والبنيان، فمن عمل أساساً وأحكمه وأتقنه ولم يبن عليه لم يستفد منه.

قال: فهذا مثل من يعتني من الحديث بأسانيده ومتونه ولا يشتغل بفقهه وما يستنبط منه؛ لأن الناس متعبدون بالعمل بالحديث، والعمل بالحديث يأتي عن طريق الفقه والاستنباط.

ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) والمقصود من الحديث ومن السنن هو فقهها واستنباط ما فيها من أحكام حتى يعمل بها، ولهذا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، يعني: يبصره ويعرفه بأمور دينه حتى يكون عارفاً بالحق عاملاً به داعياً إليه على بصيرة وهدى.

فمن يقوي الأساس ثم لا يبني عليه فروعه لا تحصل ثمرته، ومن اشتغل بمسائل الفقه دون أن يرجع إلى الحديث، ودون أن يبحث عن الصحيح والضعيف؛ فإنه يبني على غير أساس، فهو بنيان ضعيف معرض للانهيار؛ لأنه يستدل بحديث موضوع، فكل من الحديث والفقه لابد له من الآخر.

ولكن إذا جمع بين الأمرين فقد جمع بين الحسنيين، وعمل على تحصيل الأساس وتقويته ثم بنى عليه الفروع، فجمع بين الرواية والدراية، فهذا هو المطلوب.

ومن المعلوم أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وليس كل مجتهد مصيباً، ولو كان كل مجتهد مصيباً لحصل التناقض؛ لأن المختلفين في حكم يقول أحدهما: إنه حلال، ويقول الآخر: إنه حرام، وكيف يكون الشيء الواحد حلالاً حراماً في وقت واحد على وجه واحد، فمثلاً: بعض المسائل يختلفون فيها فيقول بعضهم: هذا يبطل الصلاة، ويقول غيره: هذا لا يبطل الصلاة، وهكذا: هذا ينقض الوضوء، ويقول الآخر: هذا لا ينقض الوضوء، فالمصيب واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد إلى هذا في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد). فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم المجتهدين إلى قسمين: مصيب ومخطئ، والمصيب له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والمخطئ له أجر الاجتهاد، والخطأ مغفور.

والفقهاء من الصحابة ومن بعدهم كل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء كلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام فإنه لا كلام لأحد بعد ذلك.

ولهذا جاء عن الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله عليهم أن كل واحد منهم حث على اتباع الدليل والأخذ بالسنن، وأنه إذا وجد له قول قد جاء حديث صحيح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام بخلافه، فإنه يؤخذ بالحديث ويترك قوله.

وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان.

هذه كلمة تتعلق بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان وهو يطلب العلم من الجمع بين الفقه والحديث.

الأسئلة

حكم التقيد بالدليل دون التقليد لمذهب

السؤال: الذي يتمسك بالكتاب والسنة ولا يتقيد بمذهب معين هل يعد خارجياً؟

الجواب: معلوم أن الله تعالى بعث رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، وتلقاه عنه أصحابه رضي الله عنهم، ولم يوجد مذهب في القرن الأول الذي هو خير القرون، وإنما كان الناس يرجعون إلى أهل العلم ويقومون باستفتائهم والأخذ بما يفتون به وبما يدل عليه الدليل، ولاشك أن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه الناس دائماً وأبداً.

ومن المعلوم أنه وجد في القرن الثاني عدد كبير من الفقهاء من التابعين وأتباع التابعين اشتهروا بالفقه، وفيهم من حصل له تلاميذ اعتنوا بفقهه واعتنوا بأقواله وجمعها وترتيبها وتنظيمها، وكان هناك فقهاء في درجة هؤلاء ولكن لم يتهيأ لهم من التلاميذ الذين يعنون بفقه شيوخهم مثل عناية تلاميذ الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في علمهم وفقههم وتنظيمه وترتيبه، والكل من أهل الفقه.

وكما قلت: الذي كان عليه الناس في القرن الأول لاشك أنه خير، ولا يمكن أن يقال: إن الناس كانوا على غير خير، ثم جاءهم الخير بعد ذلك، بل ما كان عليه الناس في زمن القرن الأول ينبغي أن يكونوا عليه بعد القرن الأول، ولكن بعدما وجدت المذاهب الأربعة وهي من مذاهب علماء أهل السنة اتبعها الناس، وخدمت تلك المذاهب.

والذي ينبغي لطالب العلم أن يرجع إليها، والرجوع إليها شيء طيب، ولكن الذي يعاب ويذم هو التعصب لشخص من الناس سوى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرسول هو الذي يتبع في كل شيء، وهو الذي يلتزم بكل ما جاء به، وهو معصوم لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، أما غيره فإنه يخطئ ويصيب.

وكما قلت: الأئمة الأربعة أرشدوا إلى أنه إذا وجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولاً جاء عن واحد منهم فإنه يترك قوله ويصار إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكرت أثر الشافعي الذي قال فيه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائن من كان.

وعلى هذا فكيف يقال: إن الذي يأخذ بالكتاب والسنة ويحرص على معرفة الحق بدليله ولا يكون ملتزماً بقول واحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم يكون خارجياً؟ كيف كان القرن الأول وهو خير القرون؟

ولد أبو حنيفة سنة ثمانين، وهو أول الأئمة الأربعة ومات سنة خمسين ومائة، ومالك والشافعي وأحمد كلهم بعده في الزمن، ومعلوم أن القرن الأول هو خير القرون، وقد كان الناس فيه على هذه الطريقة، وهي الرجوع إلى أهل العلم، والأخذ مما يفتون به مما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو الواجب، ولا يجوز التعصب لأحد من الأئمة، ولكن الاستفادة من كتب الفقهاء الأربعة وغيرهم مطلوبة، ولا يستغني طالب العلم عن كتب الفقه، ولكن عندما يرجع الإنسان إلى كتب الفقه يرجع إليها باحثاً عن الحق بدليله، ولا يكون متعصباً لشخص بعينه بأن يقول: لو كان هناك شيء لعلمه فلان. وكيف يقال هذا؟

هل يقال في حق واحد من الناس إنه ما من شاردة ولا واردة إلا وهي عنده، وكل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عنده؟ هذا لا يقال في حق أحد، بل كل واحد منهم يقول قولاً ثم يأتيه الحديث فيترك قوله ويصير إليه.

والإمام الشافعي رحمة الله عليه كانت هناك مسائل عديدة وصل إليه الحديث فيها من طريق لا يصح، وأخذ بخلاف الحديث لأنه لم يصح عنده، ثم قال: وإن صح الحديث قلت به، وقد جاء بعض أصحاب الشافعي كـالبيهقي والنووي وذكروا بعض هذه المسائل على وفق الدليل الذي جاء على خلاف مذهب الشافعي وقالوا: وهذا هو مذهب الشافعي ؛ أي أن هذا مذهبه حكماً، بناء على قوله: (إن صح الحديث قلت به)، قالوا: وقد صح الحديث فهو مذهب الشافعي ؛ لأنه علق القول به على صحته.

والإنسان عندما يرجع إلى كتب الفقه يستفيد منها، ويكون قصده أن يصل إلى الحق بدليله، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب الروح مثلاً ضربه للرجوع إلى الفقهاء والاستفادة من علمهم وفقههم وعدم التعصب لهم، وأن الإنسان إنما يرجع إليهم ليستعين بهم في الوصول إلى الحق وإلى الدليل، قال: فهم كالنجوم في السماء يهتدى بها: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16] والناس إذا كانوا في الظلماء يستطيعون أن يعرفوا اتجاه القبلة وغير القبلة بالنظر إلى النجوم في السماء.

يقول ابن القيم رحمة الله عليه: إن الرجوع إلى كلام العلماء مع احترامهم وتوقيرهم أمر مطلوب، ولكن يستعين بهم في الوصول إلى الحق، وإذا وصل إلى الحق وعرف الدليل الثابت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ليس له أن يعول على شيء سواه، وقال: إن هذا مثل الإنسان الذي في الفلاة في الليل يستدل على جهة القبلة بالنجم، لكن إذا وصل الإنسان إلى الكعبة وصار تحتها فإنه لا يرفع نظره إلى السماء يبحث عن النجوم ليهتدي بها إلى القبلة.

قال: وكذلك العلماء يرجع إليهم حيث يخفى الحق، ويستعان بهم في الوصول إليه، فإذا عرف الدليل لم يعول على كلام أحد. وهذا مقتضى كلام الشافعي : (أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائن من كان).

أما الإنسان الذي ليس عنده أحد يفقهه، واحتاج إلى أن يتعلم مذهباً من المذاهب الأربعة؛ لأنه ما أمكنه سواه، فله أن يتعلم ذلك الفقه، وأن يعبد الله عز وجل وفقاً لذلك المذهب الذي تعلمه، ولكنه إذا وجد من يبصره بالدليل ومن يعلمه بالثابت من غير الثابت فإنه يرجع إلى الدليل، وليس لأحد كلام مع كلام رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

الضابط في خروج الإنسان من السنة

السؤال: ما هو الضابط في خروج الإنسان من السنة؛ أهو الاعتقاد أم العمل أم هما معاً؟

الجواب: يوجد خروج كلي وخروج جزئي، والخروج الكلي كالبدع التي يكفر أصحابها، وهناك بدع غير مكفرة ولكن أصحابها أهل بدع وإن كانوا داخلين في عداد المسلمين، كالفرق الثنتين والسبعين التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: الجماعة، وهم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي).

فاثنتان وسبعون فرقة من المسلمين هم أهل بدع وضلال ولكنهم ما وصلوا إلى حد الكفر، فهؤلاء يعتبرون مسلمين، ولكنهم أهل بدع، والذي على السنة هو من كان مثل ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , شرح سنن أبي داود [001] للشيخ : عبد المحسن العباد

https://audio.islamweb.net